alyatem
11-03-2013, 06:42 PM
القصة الكاملة لـ«فيلم الأيام الطويلة
حكاية صدام السينمائية!!
في فن التراجيديا الإغريقية "إن البطل المأساوي يصعد الأحداث حتى تودي به إلى حتفه" وهذا ينطبق إلى حد كبير على حياة صدام حسين ليس في واقع الحياة فحسب، بل في دراما فيلم الأيام الطويلة أيضا.
ولعل هذا الفيلم الذي نقل قصة حياة صدام حسين من الواقع إلى الدراما، يمثل تلخيصا لذلك الواقع الذي تتداخل فيه الحكاية الحياتية بالدراما، حتى وإن كانت دراما غير محكمة البناء، ومكتوبة بقلم مؤلف غير أمين وغير بارع الصياغة، لكن ما يميزها أن الواقع فيها متداخل مع البنية الدرامية وأحداثها ستودي بالنهاية إلى حتف البطل المأساوي، حيث لقي بطل فيلم الأيام الطويلة صدام كامل حتفه على أرض الواقع على يد بطل الواقع التراجيدي نفسه صدام حسين الذي ينتظر هو الآخر دوره بعد أن صعد الأحداث التي تودي به إلى حتفه حسب منطق التراجيديا الإغريقية!
متى وكيف كتبت حكاية فيلم الأيام الطويلة؟
عندما شعر رئيس النظام العراقي صدام حسين بألم في فقراته في عام 1975 وطلب إليه أطباؤه المكوث في السرير لفترة من الوقت، أستدعى عددا من كتاب الرواية العراقية لكي يروي لهم هو على سرير العلاج تاريخه السياسي ونضاله في وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق. وكان كتاب القصة والرواية يتسابقون للفوز برواية تحقق لهم الشهرة والمال. وكان أكثرهم حماسا وسرعة في الأداء الشاعر عبد الأمير معله وهو ليس كاتبا روائيا إنما كان يكتب الشعر ويشغل منصب مدير مؤسسة السينما العراقية. كان يكتب فصول الرواية يوما بيوم ويطبعها في الصباح لتكون بين يدي صدام حسين قبل عقد الجلسة التالية لفقرات الرئيس.
وهكذا فاز "معله" بمجد رواية أطلق عليها إسم "الأيام الطويلة" التي تم طبع ملايين النسخ منها، وبأكثر من لغة، وأتخذ القرار الإعلامي بتحويلها إلى فيلم سينمائي تقرر أن لا توضع له ميزانية محددة، بل أن تكون ميزانية إنتاج هذا الفيلم "ميزانية مفتوحة" وهو تعبير لم تستخدمه هوليوود حتى في أضخم أفلامها القديمة إنتاجا مثل "الوصايا العشر" و "ذهب مع الريح".
كيف تم إختيار مخرج الفيلم؟
كان المخرج المصري توفيق صالح يعيش في العراق في تلك الفترة، وهو مخرج يضعه السينمائيون المصريون في خانة اليسار المصري، وبالتحديد ما يطلق عليه "اليسار الماركسي" حيث أخرج فيلم "المتمردون" الفيلم الذي حدد مسار المخرج السياسي في خانة اليسار بعد فيلمه الأول "درب المهابيل" عن رواية نجيب محفوظ، ترك بعدها مصر ولجأ إلى سوريا، فأسندت له مهمة إخراج فيلم "المخدوعون" عن رواية رجال تحت الشمس للكاتب الفلسطيني "غسان كنفاني". وكان تصوير بعض مشاهد الفيلم تدور بين البصرة والكويت، فسافر المخرج توفيق صالح ليصور مشاهد فيلمه هناك. كانت تلك بداية علاقته بالعراق وأجواء السينما في العراق. وعندما أنجز الفيلم وضمن حملة العراق لإستقطاب السينمائيين المصريين، واليساريين منهم على وجه التحديد تم التعاقد مع توفيق صالح ليدرس مادة السينما في أكاديمية الفنون الجميلة.
في تلك الفترة كانت إغراءات الخزينة العراقية تسيل لعاب عدد من السينمائيين وتفتح شهيتهم للعمل على حساب كل شيء .. القيمة .. الرؤية الواعية للسينمائي .. الشرف، واليسار أيضا! فكانت تجربة فيلم "القادسية" للمخرج الراحل صلاح أبو سيف والتي أنتجت بهدف إثارة النعرات الطائفية في العراق، والميزانية التي وضعت للفيلم بلغت (32) مليون دولارا وهي أعلى ميزانية سينمائية عربية بعد ميزانية فيلم عمر المختار (45) مليون دولاراً في الجماهيرية الليبية. وبعدها حددت ميزانية فيلم "الأيام الطويلة" تحت عنوان "الميزانية المفتوحة" أي الميزانية التي لا تغلق!
لم يكن المخرج توفيق صالح في البداية يرغب في خوض تجربة سينمائية في العراق، وخاصة لحساب حزب البعث حيث يقف الحزب بفكرة القومي في النقيض تماما مع فكر المخرج الماركسي الإتجاه، الذي إكتفى بالدروس التي يقدمها لطلبة أكاديمية الفنون بإستثناء فيلم من إنتاج مؤسسة السينما العراقية أسند إليه لتكوين علاقة مع مؤسسة السينما العراقية، وكان فيلما بائسا قصيرا عن الآثار العراقية، لم يكن يليق بتجربة المخرج في فيلم "درب المهابيل" وفيلم "المتمردون" ولا حتى "المخدوعون".
كانت لتوفيق صالح علاقة عائلية مع ناصيف عواد عضو القيادة القومية لحزب البعث الحاكم في العراق، وقد كلف ناصيف عواد بمفاتحة توفيق صالح في إخراج رواية الأيام الطويلة للسينما في وقت رفض فيه إخراج فيلم روائي عن فترة الستينات في العراق والتي يريد الإعلام العراقي أن يثبت بأنها الفترة الهامة في تاريخ حزب البعث التي مهدت لتسلم السلطة في 17 تموز 1968 بعد فشل تجربة الثامن من شهر شباط 1963 التي لم تدم سوى 9 شهور، لكن تسمية "ميزانية مفتوحة"" للإنتاج قد فتح شهية المخرج اليساري توفيق صالح على ما يبدو وتمت موافقته، وبدأت الخطوة الأصعب وهي إختيار الشخص الشبيه لرئيس العراق. والجدير بتمثيل شخصيته بما يتناسب والعظمة المعلنة عنها للرئيس، بمعنى أن لا يكون للممثل تاريخ شخصي يلوث سمعته، وأن لا يكون قد مثل أدواراً لا تليق بأن يمثل بعدها دور الرئيس القائد، وأن يكون متمكنا من التمثيل ليؤدي شخصية "مركبة" بالمعنى الدرامي والسيكولوجي للكلمة.
يقول المخرج أو "يدّعي" بأنه ذهب إلى تكريت ليطلع على حياة الرئيس في مسقط رأسه، وأصطدم نظره "لاحظ كلمة إصطدم" بشخص يسير في الشارع يشبه كثيرا شخص الرئيس صدام في شبابه! ليكتشف لاحقا بأن هذا الشخص هو إبن عم الرئيس في القرابة، فأختير بطلا للفيلم. وكان على المخرج أن يدربه على التمثيل. إسم هذا البطل السينمائي هو "صدام كامل" وهو شقيق مرافق الرئيس ووزير التصنيع الحربي "حسين كامل" وإلتحق صدام كامل بحماية الرئيس، وتم تزويج الأخوين "صدام كامل وحسين كامل" من إبنتي الرئيس "رغد ورنا" من أجل حماية مصالح العائلة العليا. حقيقة الأمر أن صدام كامل هو مقترح مسبق ليلعب دور صدام في الفيلم لوجود شبه بين الإثنين، ولم يصطدم بنظر المخرج في تكريت بطريق الصدفة!
بدأت التحضيرات على أوسعها لتنفيذ إخراج الفيلم. وقد عانى المخرج والمصور كثيرا من التعامل مع صدام كامل بطل الفيلم لما يتمتع به من موقع أمني حيث كانت أجواء الخوف والحذر تهيمن على مواقع التصوير. حتى إذا ما أكتمل الفيلم وشاهده الرئيس منح المخرج فترة من الإستراحة في بحيرة الحبانية هو وعائلته.
اللقطة المشكلة
كنت في مدينة "بولونيا" في إيطاليا لحضور مهرجان الفيلم العربي حيث يعرض لي فيلم "الأهوار" وفيلم "بيوت في ذلك الزقاق" وكنت أعيش في اليونان يومها. وما أن وصلت المهرجان حتى إلتقيت المخرج توفيق صالح. وبدون كثير من الأسئلة مسكني الرجل من يدي وأخذني بعيدا عن صالة المهرجان ليبدأ في رواية الحكاية التالية لي دون أن أسأله عن الفيلم قال:
"عندما أنهيت إخراج الفيلم وطباعة عدد كبير من النسخ تم توزيعها على كل صالات السينما في العراق ليعرض الفيلم في ليلة واحدة. وفيما منحت فسحة للأستراحة في بحيرة الحبانية أنا وعائلتي، وفي اليوم الأول للإستراحة، وصل مدير مؤسسة السينما عبد الأمير معله واخبرني بضرورة الذهاب فوراً إلى القصر الجمهوري، فالرئيس يريد أن ألتقيه. وعندما سألته عن السبب رفض الحديث وقال لي لا أعرف شيئا. الرئيس يريد أن يراك. وصلت إلى القصر الجمهوري وأدخلت في صالة إنتظار. وكان في الصالة رجل لم أتعرف عليه ولم يقدم لي إسمه. وبقينا في صمت. ومع أن الذي يشاركني غرفة الإنتظار يعرفني بشكل مؤكد إلا أنه لم ينبس ببنت شفه. ثم دعينا للدخول. فوجدت نفسي في صالة عرض سينمائية داخل القصر. وكان الرئيس يجلس مع زوجته في الصف الأول - الجلوس الأفضل في صالة السينما يجب أن يكون في الصف الأخير! - وفي الصف التالي جلس طارق عزيز وناصيف عواد ووزير الإعلام لطيف نصيف جاسم وعزة الدوري وآخرون لم أعرفهم. وبدأ عرض فيلم الأيام الطويلة. وعندما وصل الفيلم إلى المشهد الذي صورت فيه شخصية صدام حسين والطبيب يخرج رصاصة من ساقه، تلك التي أصيب بها أثناء محاولة إغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، طلب الرئيس إيقاف عرض الفيلم. كانت اللقطة تصور وجه صدام حسين – الممثل صدام كامل – على الشاشة وهو يعبر عن ألم خفيف كردة فعل لإخراج رصاصة المسدس من ساقه لعملية جراحية بدون تخدير في بيت حزبي. هنا صاح صدام حسين مخاطبا الرجل الذي شاركني الإنتظار، وكان نفسه الطبيب الذي أخرج الرصاصة من ساق الرئيس عام 1959. قال، عندما أخرجت الرصاصة من ساقي، هل تأوهت أنا من الألم؟ فقال الطبيب أبداً يا سيدي، فقال له، قل ذلك لمخرج الفيلم. هنا حاول وزير الإعلام لطيف نصيف جاسم أن يتدخل قائلا، والله اللقطة حلوة سيدي. ولم يظهر المخرج سوى تألم بسيط، فصاح به الرئيس، أسكت أنت ما تفتهم شي. ثم قالوا لي نريد حلا الليلة وغدا يجب أن تتبدل كافة النسخ في صالات السينما عند الإفتتاح!
ماذا بوسع مخرج يحتاج إلى ممثل وماكيير ومسؤول إنارة ومصور ومهندس صوت وفيلم خام وطبع وتحميض ومونتاج لتغيير لقطة طولها بضع ثوان يتم إدخالها في الفيلم، بمعنى وضع توليف سالب لبكرة سينمائية طولها عشر دقائق وطبع عشرات النسخ منها حتى يصار إلى تعديل المشهد. يقول المخرج، فجأة طفرت إلى ذهني صورة لبطل الفيلم صدام كامل عندما كان ينتظر أداءء دوره يوما، وكان صامتا، فإلتقط له المصور لقطة سينمائية وهو في صمته ينتظر دوره. تذكرت اللقطة فهرعت إلى مؤسسة السينما، ومن بين ركام آلاف الأمتار المرمية في سلات المهملات، بدأنا نبحث عن لقطة البطل وهو صامت فعثرنا عليها وقمنا بطباعة آلاف الأمتار لفصل جديد وأستنفرت مؤسسة السينما لتطبع تلك البكرات وتنظلق السيارات في اليوم التالي إلى كل مدن العراق وإلى صالات السينما لإبدال بكرات الفيلم التي يظهر فيها الرئيس متألما قليلا من طلقة تخرج من ساقه بدون مخدر، فيظهر صامتا صامدا لا يعرف الألم!"
لا أدري لماذا روى لي المخرج هذا الفصل بالذات من حكاية طويلة لفيلم الأيام الطويلة!؟
لكن المخرج عندما سافر إلى مصر بعد إستراحته في بحيرة الحبانية في العراق أقيمت له أمسية سينمائية في ناد للسينما في القاهرة، وإشترط لحضور الندوة عدم نشر الحوار حيث كان موضوع الندوة فيلم الأيام الطويلة التي تحولت من نقاش إلى ما يشبه المحاكمة للمخرج وموقفه كيساري في مباركة دكتاتور في السينما. وكان أحد أعضاء النادي قد سجل الحوار كاملا ونشره بكل تفاصيله وأسراره في النشرة السينمائية للنادي. وجاء نشر هذه الندوة ليقطع حبل الوصل بين المخرج والعراق. كان المخرج توفيق صالح بهذا الإعتراف أول الخارجين من دراما الأيام الطويلة.
ذات يوم إنشغلت وكالات الأنباء بهروب حسين كامل وزير التصنيع العسكري العراقي وأخيه صدام كامل المرافق الحامي للرئيس وبطل فيلم الأيام الطويلة مع زوجتيهما بنات الرئيس العراقي "رغد ورنا" وحكاية هروبهما لا تزال قريبة من الأذهان حيث عادا إلى العراق بعد وعد من الرئيس بعدم المساس بهما، ولكن بعد عودتهما تم قتلهما وقطع رأسيهما. إذاً فقد مات الرئيس في الدراما. مات بطل الأيام الطويلة صدام كامل، وإعلن خائنا. وبذلك أصبح الفيلم غير مسموح بعرضه.
إنتهى إذاً بطل فيلم الأيام الطويلة واقعيا. لكن الرئيس يريد حكايته في السينما. تقرر إعادة إنتاج الفيلم وكلف المخرج محمد شكري جميل بإعادة إخراج الفيلم.
بطاقة شخصية موجزة للمخرج الثاني للأيام الطويلة
محمد شكري جميل عمل مونتيرا في قسم السينما في شركة نفط العراق أيام العهد الملكي. بعد ثورة 14 تموز 1958 إنتقل إلى مصلحة السينما العراقية. حذف مشهدا من فيلم "بيوت في ذلك الزقاق" للمخرج قاسم حول وصور مشهدا بديلا ووضعه داخل الفيلم بدل المشهد المحذوف في محاولة لتغيير مسار الفيلم الفكري. أخرج فيلم عن حياة الملك غازي ملك العراق الثاني لأن الوثائق تشير إلى مطالبة الملك غازي بضم الكويت للعراق. أخرج في اليوم التالي لإنقلاب شباط الأسود فيلما لم يدرج أسمه عليه بعنوان حمامات الدم. بث الفيلم من التلفزيون وأعقبه بيان 13 سيء الصيت الذي أعلنه رشيد مصلح وهو تخويل إعدام اليساريين في الشوارع بدون مساءلة قانونية. والفيلم يظهر الشيوعيين وهم يلوحون بالحبال ثم تبعت المشهد لقطات لناس مقتولين أتضح لاحقا أنها لقطات من شهداء الثورة الجزائرية. أخرج فيلم المسألة الكبرى التي حرفت تاريخ ثورة العشرين في العراق.
المشكلة الأولى التي واجهت المخرج هي إيجاد شخص جديد يشبه الرئيس وبالمواصفات السابقة المطلوية. في تلك الفترة كان مؤلف الأيام الطويلة عبد الأمير معله مشغولا بكتابة الجزء الثاني من رواية الأيام الطويلة والتي قام فيها بطل الرواية صدام حسين بحرب مع إيران. ومن ثم قيامه بغزو دولة الكويت. فجأة يعلن عن موت مؤلف قصة الأيام الطويلة الشاعر ومدير مؤسسة السينما العراقية سابقا عبد الأمير معله بجلطة في الدماغ أدت إلى وفاته. فما علاقة موت المؤلف بتوقف إنتاج الفيلم سوى أن يكون المؤلف غير مرغوب بظهور إسمه على شاشة تعرض فيلما عن حياة الرئيس.
في عام 2002 تسرب من العراق عبر أحد أصدقاء عبد الأمير معله خبر عن حقيقة موته. فقد أعتقل إبن المؤلف بسبب إنتمائه إلى تيار ديني في العراق مما أثار غضب الرئيس، كيف لمسؤول حزبي وشخصية إعلامية في الحزب والدولة لم يتمكن من أدلجة ولده في الحزب، بل الأكثر غرابة أن ينتمي إلى تيار ديني معارض ولم يبلغ عنه. فأستدعي إلى القصر لا ليقدم القسم الثاني من الأيام الطويلة بل لكي يضرب ضربا مبرحا كعملية تأديبية، ولكن اللكمات كانت مميتة حيث فارق الحياة في اليوم التالي في داره. وقد روى هو نفسه ما حدث له في القصر! إذاَ، فقد قتل المؤلف، مؤلف الأيام الطويلة.
دلالات الدراما والواقع
أن تداخل أحداث الحكاية بين القدرية الأغريقية التي أصبحت لها دلالات أبعدت عهنا صفة الخرافة ووضعتها في إطار الرؤية والتحليل. وبين سيكولوجية البطل التراجيدي وتاريخه الشخصي، ومفهوم البطل التراجيدي في الدراما الذي يصعد الأحداث حتى تودي به إلى حتفه، وتداخل الدراما بالواقع، تلخص هذه المكونات جميعها كل ما حصل في العراق منذ تسلم صدام حسين السلطة وحتى غيابه القادم. ودلالات تداخل الدراما بالواقع تتمثل في:
أولا – إن بطل القصة صدام كامل قد تقمص شخصية صدام حسين. وبذلك فإنه بزواجه من رنا إبنة الرئيس يكون بشكل أو بآخر قد تزوج من إبنته لأنه لعب شخصية الأب وتقمصها. ذلك يذكرنا بشخصية أوديب في مسرحية صفوكلس، عندما رسم القدر لأوديب أن يتزوج من أمه.
ثانيا – هروب بنات الرئيس يذكرنا بهروب بنات الملك التي تحول هروبهن إلى أول مسرحية مكتوبة في التاريخ الإنساني وهي مسرحية المتذرعات عام 490 قبل الميلاد في بلاد الأغريق. والفارق أن بنات الملك طلبن الإحتكام للشعب ووقف الشعب إلى جانبهن، وكانت تلك بداية ظهور الديمقراطية بمفهومها المألوف المعاصر. فيما عودة بنات الرئيس العراقي تسبب في مقتل أزواجهن دلالة على رسوخ الدكتاتورية في أبشع صورها في تخطيها أكثر الخطوط الحمراء بريقا. في مسرحية المتذرعات رفضن البنات الزواج من أبناء العم، فيما بنات صدام تزوجن من أبناء العم وهربن معهم.
ثالثا – إن الرئيس قد قتل نفسه لأنه قتل مثيله الذي تقمص شخصه.
لقد خرجت عناصر الفيلم الدرامية من الحياة بين مقتول وهارب. وبقي البطل التراجيدي يبحث عن مؤلف يكتب أحلامه وممثل يؤدي شخصه ومخرج ينفذ الحكاية على الشاشة البيضاء! بقي البطل التراجيدي على المنصة والساحة موحشة يلفها فراغ مخيف يقف وحده مرعوبا ومجنونا بالضرورة، وهو يريد أن يرى نفسه على الشاشة.
فهل بقي من الأيام الطويلة ما يكفي لإنتاج الفيلم؟
قاسم حول
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
الموضوع كتبه قاسم حول قبل سقوط الدكتاتورية ونشر في صحيفة القبس الكويتية، العدد 10434 يوم الخميس 4 يونيو 2002. لاحظ آخر جملة من المقال "فهل بقي من الأيام الطويلة ما يكفي لإنتاج الفيلم!؟" سقط الدكتاتور وسقط تمثاله في ساحة الفردوس ببغداد في 9 أبريل 2003
حكاية صدام السينمائية!!
في فن التراجيديا الإغريقية "إن البطل المأساوي يصعد الأحداث حتى تودي به إلى حتفه" وهذا ينطبق إلى حد كبير على حياة صدام حسين ليس في واقع الحياة فحسب، بل في دراما فيلم الأيام الطويلة أيضا.
ولعل هذا الفيلم الذي نقل قصة حياة صدام حسين من الواقع إلى الدراما، يمثل تلخيصا لذلك الواقع الذي تتداخل فيه الحكاية الحياتية بالدراما، حتى وإن كانت دراما غير محكمة البناء، ومكتوبة بقلم مؤلف غير أمين وغير بارع الصياغة، لكن ما يميزها أن الواقع فيها متداخل مع البنية الدرامية وأحداثها ستودي بالنهاية إلى حتف البطل المأساوي، حيث لقي بطل فيلم الأيام الطويلة صدام كامل حتفه على أرض الواقع على يد بطل الواقع التراجيدي نفسه صدام حسين الذي ينتظر هو الآخر دوره بعد أن صعد الأحداث التي تودي به إلى حتفه حسب منطق التراجيديا الإغريقية!
متى وكيف كتبت حكاية فيلم الأيام الطويلة؟
عندما شعر رئيس النظام العراقي صدام حسين بألم في فقراته في عام 1975 وطلب إليه أطباؤه المكوث في السرير لفترة من الوقت، أستدعى عددا من كتاب الرواية العراقية لكي يروي لهم هو على سرير العلاج تاريخه السياسي ونضاله في وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق. وكان كتاب القصة والرواية يتسابقون للفوز برواية تحقق لهم الشهرة والمال. وكان أكثرهم حماسا وسرعة في الأداء الشاعر عبد الأمير معله وهو ليس كاتبا روائيا إنما كان يكتب الشعر ويشغل منصب مدير مؤسسة السينما العراقية. كان يكتب فصول الرواية يوما بيوم ويطبعها في الصباح لتكون بين يدي صدام حسين قبل عقد الجلسة التالية لفقرات الرئيس.
وهكذا فاز "معله" بمجد رواية أطلق عليها إسم "الأيام الطويلة" التي تم طبع ملايين النسخ منها، وبأكثر من لغة، وأتخذ القرار الإعلامي بتحويلها إلى فيلم سينمائي تقرر أن لا توضع له ميزانية محددة، بل أن تكون ميزانية إنتاج هذا الفيلم "ميزانية مفتوحة" وهو تعبير لم تستخدمه هوليوود حتى في أضخم أفلامها القديمة إنتاجا مثل "الوصايا العشر" و "ذهب مع الريح".
كيف تم إختيار مخرج الفيلم؟
كان المخرج المصري توفيق صالح يعيش في العراق في تلك الفترة، وهو مخرج يضعه السينمائيون المصريون في خانة اليسار المصري، وبالتحديد ما يطلق عليه "اليسار الماركسي" حيث أخرج فيلم "المتمردون" الفيلم الذي حدد مسار المخرج السياسي في خانة اليسار بعد فيلمه الأول "درب المهابيل" عن رواية نجيب محفوظ، ترك بعدها مصر ولجأ إلى سوريا، فأسندت له مهمة إخراج فيلم "المخدوعون" عن رواية رجال تحت الشمس للكاتب الفلسطيني "غسان كنفاني". وكان تصوير بعض مشاهد الفيلم تدور بين البصرة والكويت، فسافر المخرج توفيق صالح ليصور مشاهد فيلمه هناك. كانت تلك بداية علاقته بالعراق وأجواء السينما في العراق. وعندما أنجز الفيلم وضمن حملة العراق لإستقطاب السينمائيين المصريين، واليساريين منهم على وجه التحديد تم التعاقد مع توفيق صالح ليدرس مادة السينما في أكاديمية الفنون الجميلة.
في تلك الفترة كانت إغراءات الخزينة العراقية تسيل لعاب عدد من السينمائيين وتفتح شهيتهم للعمل على حساب كل شيء .. القيمة .. الرؤية الواعية للسينمائي .. الشرف، واليسار أيضا! فكانت تجربة فيلم "القادسية" للمخرج الراحل صلاح أبو سيف والتي أنتجت بهدف إثارة النعرات الطائفية في العراق، والميزانية التي وضعت للفيلم بلغت (32) مليون دولارا وهي أعلى ميزانية سينمائية عربية بعد ميزانية فيلم عمر المختار (45) مليون دولاراً في الجماهيرية الليبية. وبعدها حددت ميزانية فيلم "الأيام الطويلة" تحت عنوان "الميزانية المفتوحة" أي الميزانية التي لا تغلق!
لم يكن المخرج توفيق صالح في البداية يرغب في خوض تجربة سينمائية في العراق، وخاصة لحساب حزب البعث حيث يقف الحزب بفكرة القومي في النقيض تماما مع فكر المخرج الماركسي الإتجاه، الذي إكتفى بالدروس التي يقدمها لطلبة أكاديمية الفنون بإستثناء فيلم من إنتاج مؤسسة السينما العراقية أسند إليه لتكوين علاقة مع مؤسسة السينما العراقية، وكان فيلما بائسا قصيرا عن الآثار العراقية، لم يكن يليق بتجربة المخرج في فيلم "درب المهابيل" وفيلم "المتمردون" ولا حتى "المخدوعون".
كانت لتوفيق صالح علاقة عائلية مع ناصيف عواد عضو القيادة القومية لحزب البعث الحاكم في العراق، وقد كلف ناصيف عواد بمفاتحة توفيق صالح في إخراج رواية الأيام الطويلة للسينما في وقت رفض فيه إخراج فيلم روائي عن فترة الستينات في العراق والتي يريد الإعلام العراقي أن يثبت بأنها الفترة الهامة في تاريخ حزب البعث التي مهدت لتسلم السلطة في 17 تموز 1968 بعد فشل تجربة الثامن من شهر شباط 1963 التي لم تدم سوى 9 شهور، لكن تسمية "ميزانية مفتوحة"" للإنتاج قد فتح شهية المخرج اليساري توفيق صالح على ما يبدو وتمت موافقته، وبدأت الخطوة الأصعب وهي إختيار الشخص الشبيه لرئيس العراق. والجدير بتمثيل شخصيته بما يتناسب والعظمة المعلنة عنها للرئيس، بمعنى أن لا يكون للممثل تاريخ شخصي يلوث سمعته، وأن لا يكون قد مثل أدواراً لا تليق بأن يمثل بعدها دور الرئيس القائد، وأن يكون متمكنا من التمثيل ليؤدي شخصية "مركبة" بالمعنى الدرامي والسيكولوجي للكلمة.
يقول المخرج أو "يدّعي" بأنه ذهب إلى تكريت ليطلع على حياة الرئيس في مسقط رأسه، وأصطدم نظره "لاحظ كلمة إصطدم" بشخص يسير في الشارع يشبه كثيرا شخص الرئيس صدام في شبابه! ليكتشف لاحقا بأن هذا الشخص هو إبن عم الرئيس في القرابة، فأختير بطلا للفيلم. وكان على المخرج أن يدربه على التمثيل. إسم هذا البطل السينمائي هو "صدام كامل" وهو شقيق مرافق الرئيس ووزير التصنيع الحربي "حسين كامل" وإلتحق صدام كامل بحماية الرئيس، وتم تزويج الأخوين "صدام كامل وحسين كامل" من إبنتي الرئيس "رغد ورنا" من أجل حماية مصالح العائلة العليا. حقيقة الأمر أن صدام كامل هو مقترح مسبق ليلعب دور صدام في الفيلم لوجود شبه بين الإثنين، ولم يصطدم بنظر المخرج في تكريت بطريق الصدفة!
بدأت التحضيرات على أوسعها لتنفيذ إخراج الفيلم. وقد عانى المخرج والمصور كثيرا من التعامل مع صدام كامل بطل الفيلم لما يتمتع به من موقع أمني حيث كانت أجواء الخوف والحذر تهيمن على مواقع التصوير. حتى إذا ما أكتمل الفيلم وشاهده الرئيس منح المخرج فترة من الإستراحة في بحيرة الحبانية هو وعائلته.
اللقطة المشكلة
كنت في مدينة "بولونيا" في إيطاليا لحضور مهرجان الفيلم العربي حيث يعرض لي فيلم "الأهوار" وفيلم "بيوت في ذلك الزقاق" وكنت أعيش في اليونان يومها. وما أن وصلت المهرجان حتى إلتقيت المخرج توفيق صالح. وبدون كثير من الأسئلة مسكني الرجل من يدي وأخذني بعيدا عن صالة المهرجان ليبدأ في رواية الحكاية التالية لي دون أن أسأله عن الفيلم قال:
"عندما أنهيت إخراج الفيلم وطباعة عدد كبير من النسخ تم توزيعها على كل صالات السينما في العراق ليعرض الفيلم في ليلة واحدة. وفيما منحت فسحة للأستراحة في بحيرة الحبانية أنا وعائلتي، وفي اليوم الأول للإستراحة، وصل مدير مؤسسة السينما عبد الأمير معله واخبرني بضرورة الذهاب فوراً إلى القصر الجمهوري، فالرئيس يريد أن ألتقيه. وعندما سألته عن السبب رفض الحديث وقال لي لا أعرف شيئا. الرئيس يريد أن يراك. وصلت إلى القصر الجمهوري وأدخلت في صالة إنتظار. وكان في الصالة رجل لم أتعرف عليه ولم يقدم لي إسمه. وبقينا في صمت. ومع أن الذي يشاركني غرفة الإنتظار يعرفني بشكل مؤكد إلا أنه لم ينبس ببنت شفه. ثم دعينا للدخول. فوجدت نفسي في صالة عرض سينمائية داخل القصر. وكان الرئيس يجلس مع زوجته في الصف الأول - الجلوس الأفضل في صالة السينما يجب أن يكون في الصف الأخير! - وفي الصف التالي جلس طارق عزيز وناصيف عواد ووزير الإعلام لطيف نصيف جاسم وعزة الدوري وآخرون لم أعرفهم. وبدأ عرض فيلم الأيام الطويلة. وعندما وصل الفيلم إلى المشهد الذي صورت فيه شخصية صدام حسين والطبيب يخرج رصاصة من ساقه، تلك التي أصيب بها أثناء محاولة إغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، طلب الرئيس إيقاف عرض الفيلم. كانت اللقطة تصور وجه صدام حسين – الممثل صدام كامل – على الشاشة وهو يعبر عن ألم خفيف كردة فعل لإخراج رصاصة المسدس من ساقه لعملية جراحية بدون تخدير في بيت حزبي. هنا صاح صدام حسين مخاطبا الرجل الذي شاركني الإنتظار، وكان نفسه الطبيب الذي أخرج الرصاصة من ساق الرئيس عام 1959. قال، عندما أخرجت الرصاصة من ساقي، هل تأوهت أنا من الألم؟ فقال الطبيب أبداً يا سيدي، فقال له، قل ذلك لمخرج الفيلم. هنا حاول وزير الإعلام لطيف نصيف جاسم أن يتدخل قائلا، والله اللقطة حلوة سيدي. ولم يظهر المخرج سوى تألم بسيط، فصاح به الرئيس، أسكت أنت ما تفتهم شي. ثم قالوا لي نريد حلا الليلة وغدا يجب أن تتبدل كافة النسخ في صالات السينما عند الإفتتاح!
ماذا بوسع مخرج يحتاج إلى ممثل وماكيير ومسؤول إنارة ومصور ومهندس صوت وفيلم خام وطبع وتحميض ومونتاج لتغيير لقطة طولها بضع ثوان يتم إدخالها في الفيلم، بمعنى وضع توليف سالب لبكرة سينمائية طولها عشر دقائق وطبع عشرات النسخ منها حتى يصار إلى تعديل المشهد. يقول المخرج، فجأة طفرت إلى ذهني صورة لبطل الفيلم صدام كامل عندما كان ينتظر أداءء دوره يوما، وكان صامتا، فإلتقط له المصور لقطة سينمائية وهو في صمته ينتظر دوره. تذكرت اللقطة فهرعت إلى مؤسسة السينما، ومن بين ركام آلاف الأمتار المرمية في سلات المهملات، بدأنا نبحث عن لقطة البطل وهو صامت فعثرنا عليها وقمنا بطباعة آلاف الأمتار لفصل جديد وأستنفرت مؤسسة السينما لتطبع تلك البكرات وتنظلق السيارات في اليوم التالي إلى كل مدن العراق وإلى صالات السينما لإبدال بكرات الفيلم التي يظهر فيها الرئيس متألما قليلا من طلقة تخرج من ساقه بدون مخدر، فيظهر صامتا صامدا لا يعرف الألم!"
لا أدري لماذا روى لي المخرج هذا الفصل بالذات من حكاية طويلة لفيلم الأيام الطويلة!؟
لكن المخرج عندما سافر إلى مصر بعد إستراحته في بحيرة الحبانية في العراق أقيمت له أمسية سينمائية في ناد للسينما في القاهرة، وإشترط لحضور الندوة عدم نشر الحوار حيث كان موضوع الندوة فيلم الأيام الطويلة التي تحولت من نقاش إلى ما يشبه المحاكمة للمخرج وموقفه كيساري في مباركة دكتاتور في السينما. وكان أحد أعضاء النادي قد سجل الحوار كاملا ونشره بكل تفاصيله وأسراره في النشرة السينمائية للنادي. وجاء نشر هذه الندوة ليقطع حبل الوصل بين المخرج والعراق. كان المخرج توفيق صالح بهذا الإعتراف أول الخارجين من دراما الأيام الطويلة.
ذات يوم إنشغلت وكالات الأنباء بهروب حسين كامل وزير التصنيع العسكري العراقي وأخيه صدام كامل المرافق الحامي للرئيس وبطل فيلم الأيام الطويلة مع زوجتيهما بنات الرئيس العراقي "رغد ورنا" وحكاية هروبهما لا تزال قريبة من الأذهان حيث عادا إلى العراق بعد وعد من الرئيس بعدم المساس بهما، ولكن بعد عودتهما تم قتلهما وقطع رأسيهما. إذاً فقد مات الرئيس في الدراما. مات بطل الأيام الطويلة صدام كامل، وإعلن خائنا. وبذلك أصبح الفيلم غير مسموح بعرضه.
إنتهى إذاً بطل فيلم الأيام الطويلة واقعيا. لكن الرئيس يريد حكايته في السينما. تقرر إعادة إنتاج الفيلم وكلف المخرج محمد شكري جميل بإعادة إخراج الفيلم.
بطاقة شخصية موجزة للمخرج الثاني للأيام الطويلة
محمد شكري جميل عمل مونتيرا في قسم السينما في شركة نفط العراق أيام العهد الملكي. بعد ثورة 14 تموز 1958 إنتقل إلى مصلحة السينما العراقية. حذف مشهدا من فيلم "بيوت في ذلك الزقاق" للمخرج قاسم حول وصور مشهدا بديلا ووضعه داخل الفيلم بدل المشهد المحذوف في محاولة لتغيير مسار الفيلم الفكري. أخرج فيلم عن حياة الملك غازي ملك العراق الثاني لأن الوثائق تشير إلى مطالبة الملك غازي بضم الكويت للعراق. أخرج في اليوم التالي لإنقلاب شباط الأسود فيلما لم يدرج أسمه عليه بعنوان حمامات الدم. بث الفيلم من التلفزيون وأعقبه بيان 13 سيء الصيت الذي أعلنه رشيد مصلح وهو تخويل إعدام اليساريين في الشوارع بدون مساءلة قانونية. والفيلم يظهر الشيوعيين وهم يلوحون بالحبال ثم تبعت المشهد لقطات لناس مقتولين أتضح لاحقا أنها لقطات من شهداء الثورة الجزائرية. أخرج فيلم المسألة الكبرى التي حرفت تاريخ ثورة العشرين في العراق.
المشكلة الأولى التي واجهت المخرج هي إيجاد شخص جديد يشبه الرئيس وبالمواصفات السابقة المطلوية. في تلك الفترة كان مؤلف الأيام الطويلة عبد الأمير معله مشغولا بكتابة الجزء الثاني من رواية الأيام الطويلة والتي قام فيها بطل الرواية صدام حسين بحرب مع إيران. ومن ثم قيامه بغزو دولة الكويت. فجأة يعلن عن موت مؤلف قصة الأيام الطويلة الشاعر ومدير مؤسسة السينما العراقية سابقا عبد الأمير معله بجلطة في الدماغ أدت إلى وفاته. فما علاقة موت المؤلف بتوقف إنتاج الفيلم سوى أن يكون المؤلف غير مرغوب بظهور إسمه على شاشة تعرض فيلما عن حياة الرئيس.
في عام 2002 تسرب من العراق عبر أحد أصدقاء عبد الأمير معله خبر عن حقيقة موته. فقد أعتقل إبن المؤلف بسبب إنتمائه إلى تيار ديني في العراق مما أثار غضب الرئيس، كيف لمسؤول حزبي وشخصية إعلامية في الحزب والدولة لم يتمكن من أدلجة ولده في الحزب، بل الأكثر غرابة أن ينتمي إلى تيار ديني معارض ولم يبلغ عنه. فأستدعي إلى القصر لا ليقدم القسم الثاني من الأيام الطويلة بل لكي يضرب ضربا مبرحا كعملية تأديبية، ولكن اللكمات كانت مميتة حيث فارق الحياة في اليوم التالي في داره. وقد روى هو نفسه ما حدث له في القصر! إذاَ، فقد قتل المؤلف، مؤلف الأيام الطويلة.
دلالات الدراما والواقع
أن تداخل أحداث الحكاية بين القدرية الأغريقية التي أصبحت لها دلالات أبعدت عهنا صفة الخرافة ووضعتها في إطار الرؤية والتحليل. وبين سيكولوجية البطل التراجيدي وتاريخه الشخصي، ومفهوم البطل التراجيدي في الدراما الذي يصعد الأحداث حتى تودي به إلى حتفه، وتداخل الدراما بالواقع، تلخص هذه المكونات جميعها كل ما حصل في العراق منذ تسلم صدام حسين السلطة وحتى غيابه القادم. ودلالات تداخل الدراما بالواقع تتمثل في:
أولا – إن بطل القصة صدام كامل قد تقمص شخصية صدام حسين. وبذلك فإنه بزواجه من رنا إبنة الرئيس يكون بشكل أو بآخر قد تزوج من إبنته لأنه لعب شخصية الأب وتقمصها. ذلك يذكرنا بشخصية أوديب في مسرحية صفوكلس، عندما رسم القدر لأوديب أن يتزوج من أمه.
ثانيا – هروب بنات الرئيس يذكرنا بهروب بنات الملك التي تحول هروبهن إلى أول مسرحية مكتوبة في التاريخ الإنساني وهي مسرحية المتذرعات عام 490 قبل الميلاد في بلاد الأغريق. والفارق أن بنات الملك طلبن الإحتكام للشعب ووقف الشعب إلى جانبهن، وكانت تلك بداية ظهور الديمقراطية بمفهومها المألوف المعاصر. فيما عودة بنات الرئيس العراقي تسبب في مقتل أزواجهن دلالة على رسوخ الدكتاتورية في أبشع صورها في تخطيها أكثر الخطوط الحمراء بريقا. في مسرحية المتذرعات رفضن البنات الزواج من أبناء العم، فيما بنات صدام تزوجن من أبناء العم وهربن معهم.
ثالثا – إن الرئيس قد قتل نفسه لأنه قتل مثيله الذي تقمص شخصه.
لقد خرجت عناصر الفيلم الدرامية من الحياة بين مقتول وهارب. وبقي البطل التراجيدي يبحث عن مؤلف يكتب أحلامه وممثل يؤدي شخصه ومخرج ينفذ الحكاية على الشاشة البيضاء! بقي البطل التراجيدي على المنصة والساحة موحشة يلفها فراغ مخيف يقف وحده مرعوبا ومجنونا بالضرورة، وهو يريد أن يرى نفسه على الشاشة.
فهل بقي من الأيام الطويلة ما يكفي لإنتاج الفيلم؟
قاسم حول
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
الموضوع كتبه قاسم حول قبل سقوط الدكتاتورية ونشر في صحيفة القبس الكويتية، العدد 10434 يوم الخميس 4 يونيو 2002. لاحظ آخر جملة من المقال "فهل بقي من الأيام الطويلة ما يكفي لإنتاج الفيلم!؟" سقط الدكتاتور وسقط تمثاله في ساحة الفردوس ببغداد في 9 أبريل 2003