لبيك
15-03-2013, 08:55 AM
من رسائل أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في سياسة البلاد
http://i74.servimg.com/u/f74/17/81/33/18/26_ima10.jpg (http://www.servimg.com/image_preview.php?i=170&u=17813318)
«فارفع إليّ حسابك واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس» (1).
رسائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) إلى ولاته وعماله وموظفيه خير وجه ناصع لسياسة الإسلام في كيفية إدارة البلاد والعباد.
فهي بوحدها جامعة للسياسة الإسلامية في كل أبعادها وفي مختلف شؤونها.
ولكي نعكس صورة عملية أخرى لسياسة الإسلام الحكيمة..
ولكي يعتبر القادة والساسة دروساً من القيادات والسياسات المادية التي لا تجر إلى البشر سوى الفتك والدمار والتحطيم..
ولكي يعرف الخلاص والنجاة فيم؟ وكيف؟ وعند من؟
لذلك كله: نضع هنا بعض رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) السياسية مما نقلها الشريف الرضي (رضي الله عنه) في (نهج البلاغة)، ونترك الشرح والتعليق إلى مقدرة القارئ وفطنته ومقدار استفادته منها في مختلف المستويات.
ولا يخفى إنا قد ضمنا بين ثنايا الكلمات الغامضة تفسيراتها بين معقوفتين هكذا [] للتسهيل على من ليس لهم الإلمام الكامل بمعاني اللغات.
لا.. لغلظة الوالي
من كتاب لـه (عليه السلام) إلى بعض عماله: «أما بعد، فإن دهاقين [الأكابر، الزعماء، أرباب الأملاك بالسواد] أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا [يقربوا] لشركهم، ولا أن يقصوا [يبعدوا] ويجفوا [يعاملوا بخشونة] لعهدهم، فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه [تخلطه] بطرف من الشدة، وداول [اسلك فيهم منهجاً متوسطاً] لهم بين القسوة والرأفة، وأمرج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله»(2).
لا.. للخيانة
ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة، وعبد الله عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز(3) وفارس وكرمان وغيرها.
«واني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين
[ مالهم من غنيمة أو خراج] شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام»(4).
لا.. للإسراف
ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى زياد أيضاً:
«فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك.
أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين، وأنت عنده من المتكبرين! وتطمع
ـ وأنت متمرغ في النعيم [متقلب في الترف] تمنعه الضعيف والأرملة ـ أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدم، والسلام»(5).
خلق الجباة
ومن وصية لـه (عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات(6):
«انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلماً، ولاتجتازن
[ المرور] عليه كارهاً، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم، فتسلم عليهم، ولا تخدج [لا تبخل] بالتحية لهم، ثم تقول:
عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه، فإن قال قائل: لا، فلاتراجعه.
وإن أنعم [قال: نعم] لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده، أو تعسفه [تأخذه بشدة] أو ترهقه [تكلفه ما يصعب عليه] فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان لـه ماشية أو إبل، فلا تدخلها إلا بإذنه فان أكثرها لـه، فإذا أتيتها، فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به».
وحقوق الحيوان
«ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوأن صاحبها فيها، وأصدع المال صدعين [قسمه قسمين] ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين، ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق الله في ماله.
ولا تأخذن عوراً، ولا هرمة، ولا مكسورة، ولا مهلوسة [العور ـ بفتح فسكون ـ المسنة من الإبل، الهرمة: أسن من العود، المهلوسة: الضعيفة] ولا ذات عوار [بفتح العين: العيب] ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين، حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحاً شفيقاً، وأميناً حفيظاً غير معنف، ولا مجحف ولا مغلب ولا متعب».
الرحمة بالنعم
«ثم احدر [سق سريعاً] ما اجتمع عندك، نصيّره حيث أمر الله به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر
[ حلب ما في الضرع جميعه] لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها.
وليرفه على اللاغب [أي ليرح ما ألغب أي ما أعياه التعب] وليستأن بالنقب والظالع [أي ليرفق بما نقب خفه وغمز في مشيته] وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق [وهي التي لا مرعى فيها] وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف [جمع نطفة: المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل] والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات
[ سمينات] غير متعبات ولا مجهودات [بلغ منها الجهد والعناء مبلغاً عظيماً] لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، إن شاء الله»(7).
تواضع الوالي
ومن عهد لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر، حين قلده مصر:
«فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وأبسط لهم وجهك، وآس
[ ساوي] بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم
[ ظلمك لأجلهم] ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسألكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم»(8).
سيرة المتقين
«واعلموا عباد الله: أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ، والمتجر الرابح.
أصابوا لذة زهدة الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من لذة»(9).
احذروا الموت
«فاحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدوا لـه عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها؟ ومن أقرب إلى النار من عاملها؟.
وأنتم طرداء الموت، إن أقمتم لـه أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم.
الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوي من خلفكم.
فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرج فيها كربة.
وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله، وأن يحسن ظنكم به، فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظناً بالله، أشدهم خوفاً لله.
واعلم ـ يا محمد بن أبي بكر ـ أني وقد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك [تخالف شهوة نفسك] وأن تنافح عن دينك [تدافع عنه] ولو لم يكن لك إلا ساعة من الدهر، ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فإن في الله خلقاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره»(10).
التأكيد على الصلاة
«صل الصلاة لوقتها المؤقت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولاتؤخرها عن وقتها لاشتغال، واعلم أن كل شيء من عملك تبع لصلاتك»(11).
لا سواء
«فإنه لا سواء، إمام الهدى وإمام الردى، وولي النبي، وعدو النبي.
ولقد قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه [يقهره] الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان [من أسر النفاق في قلبه] عالم اللسان [من لا يعرف أحكام الشريعة ويسهل عليه بيانها] يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون»(12).
ارفع إلي حسابك
من كتاب لـه (عليه السلام) إلى بعض عماله(13):
«أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك [ألصقت بأمانتك خزية ـ بالفتح ـ أي رزية أفسدتها وأهانتها] . بلغني أنك جردت الأرض [قشرتها، والمعنى أنه أنسبه إلى الخيانة في المال، وإلى إخراب الضياع] فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام».
وصايا إنسانية
ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى بعض عماله(14):
«أما بعد، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم
[ أكسر به كبر الأثيم الذي يفعل الخطايا والآثام] وأسد به لهاة الثغر المخوف
[ اللهاة: قطعة لحم مدلاة في آخر سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيهاً لـه بفم الإنسان، والثغر المخوف: المكان الذي يخشى طروق الأعداء لـه على الحدود] فاستعن بالله على ما أهمك، وأخلط الشدة بضغث [شيء] من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم
[ شارك بينهم واجعلهم سواء] في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتى لايطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام».
إلى الأشتر النخعي (رضي الله عنه)
من كتاب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) كتبه إلى الأشتر النخعي، لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهد كتبه، وأجمعه للمحاسن(15):
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها».
تقوى الله
«أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه، ويده ولسانه، فإنه جل اسمه، قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه.
وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات [يزعها: يكفها، والجمحات: منازعات النفس إلى شهواتها ومآربها] فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله».
يقولون فيك ما كنت تقول
«ثم اعلم يا مالك، إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح [أبخل] بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها، فيما أحبت أو كرهت».
أصناف الناس
«وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط [يسبق] منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم».
لا.. لحرب الله
«ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته [أي ليس لك قوة تدفع نقمته، يعني لا طاقة لك بها] ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن [لا تفرحن كبراً] بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة [البادرة: ما يبدر عن الغضب من قول أو فعل، والمندوحة: المخلص] ولا تقولن: إني مؤمر [مسلط] آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال [إدخال الفساد] في القلب، ومنهكة [مضعفة] للدين، وتقرب من الغير [بكسر ففتح: حادثات الدهر بتبدل الدول] وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة
[ الأبهة: العظمة والكبرياء، والمخيلة ـ بفتح فكسر ـ الخيلاء والعجب] فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك.
فإن ذلك يطامن [يخفض] إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك
[ طماح ككتاب: النشوز والجماح، والغَرب بفتح فسكون: الحدة] ويفيء إليك بما عزب [غاب] عنك من عقلك».
لا.. للتكبر
«إياك ومساماة [المباراة في السمو، أي العلو] الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى [لك إليه ميل خاص] من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض [أبطل] حجته، وكان لله حرباً، حتى ينزع، أو يتوب.
وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته، من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد».
أوسط الأمور في الحق
«وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة [يذهب برضاهم] ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة لـه في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف [الإلحاح والشدة في السؤال] وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة.
وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين [جماعتهم] والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك [بالكسر والفتح: التوجه] لهم، وميلك معهم».
لا تقرب النمامين
«وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم [أبغضهم] عندك، اطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك.
فاستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك.
أطلق عن الناس عقدة كل حقد [أحلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم] وأقطع عنك سبب كل وتر [بالكسر: العداوة] وتغاب
[ تغافل] عن كل ما لا يضح لك [ما لا يظهر لك] ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي [النمام بمعائب الناس] غاش، وإن تشبه بالناصحين».
سياسة المشورة
«ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً، يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر [يخوفك منه لو بذلت] ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره [الشره بالتحريك: أشد الحرص] بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله».
شر الوزراء
«إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلايكونن لك بطانة [بالكسر] فإنهم أعوان الأثمة [جمع آثم: وهو فاعل الإثم، أي الذنب] وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن لـه مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم [ذنوبهم] وأوزارهم [جمع وزر: أي الإثم] وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه.
أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً [صداقة].
فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك، مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هوالك حيث وقع».
الصق بأهل الروع
«والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم [عودهم] على ألا يطروك [يمدحوك] ولا يبجحوك [يفرحوك بنسبة عمل عظيم إليك] بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو [العجب] وتدني من العزة.
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه».
الإحسان للرعية
«واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس لـه قبلهم [بكسر ففتح: أي عندهم].
فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً [تعباً] طويلاً.
وإن أحق من حسن ظنك به، لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك [صنعك] عنده.
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها».
تأكيد على مدارسة العلماء
«وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض:
فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة.
وكل قد سمى الله لـه سهمه [نصيبه] ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً».
الجيش والجنود
«فالجنود بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج، الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم [يقضونها به] ».
القضاة والعدل
«ثم لا قوام لهذين الصنفين، إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد [العقود] ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها».
أهل الصناعات والتجار
«ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم [أي المنافع التي يجتمعون لأجلها] ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق [التكسب] بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم».
وأهل الحاجة
«ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم
[ صلتهم] ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك، إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل.
فول من جنودك أنصحهم من نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً
[ الصدر والقلب]، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو [يبتعد] على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف».
كرائم العائلات
«ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنهم جماع [أي مجموع] من الكرم، وشعب من العرف [المعروف].
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن
[ يتعاظمن] في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك.
ولا تدع تفقد لطيف أمورهم، اتكالاً على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه».
استقامة العدل
«وليكن آثر [أفضل وأعلى منزلة] رؤوس جندك عندك من واساهم
[ ساعدهم] في معونته، وأفضل عليهم من جدته [غناه] بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف أهليهم [من يبقى في الحي من النساء والعجزة بعد سفر الرجال] حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية.
وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم [صونهم] على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم.
فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذووا البلاء منهم [أهل الأعمال العظيمة] فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل [المتأخر القاعد] إن شاء الله».
ضع الناس مواضعهم
«ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء امرئ [صنيعة الذي أبلاه] إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً. وأردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب [أي ما يثقلك ويكاد يميلك من الأمور الجسام]، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول))(16).
فالرد إلى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة».
مواصفات الحكام
«ثم اختر للحكم بين الناس، أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه [تجعله ماحقاً لجوجاً] الخصوم، ولا يتمادى
[ يستمر ويسترسل] في الزلة ولا يحصر من الفيء [الرجوع] إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً [ضجراً ومللا] بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم [أقطعهم للخصومة وأمضاهم فيها] عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء [أي لا يستخفه زيادة الثناء عليه]، ولايستميله إغراء، وأولئك قليل.
ثم أكثر تعاهد [مراجعة] قضائه، وأفسح لـه في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس.
وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال لـه عندك.
فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا».
اختبر الموظفين
«ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً [أي ولّهم الأعمال بالامتحان] ولا تولهم محاباة وأثرة [محاباة: أي اختصاصاً وميلاً منك لمعاونتهم، وأثرة: أي استبداداً بلا مشورة] فإنهما جماع من شعب [أي يجمعان شعب وفروع الجور والخيانة] الجور والخيانة، وتوخ [أي أطلب وتحر] منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً.
ثم أسبغ [أكثر] عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك [أي نقضوا في أدائها أو خانوا] ».
تفقد سيرة الموظفين
«ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون [الرقباء] من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم [أي سوق لهم وحث] على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.
وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة». .......
http://i74.servimg.com/u/f74/17/81/33/18/26_ima10.jpg (http://www.servimg.com/image_preview.php?i=170&u=17813318)
«فارفع إليّ حسابك واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس» (1).
رسائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) إلى ولاته وعماله وموظفيه خير وجه ناصع لسياسة الإسلام في كيفية إدارة البلاد والعباد.
فهي بوحدها جامعة للسياسة الإسلامية في كل أبعادها وفي مختلف شؤونها.
ولكي نعكس صورة عملية أخرى لسياسة الإسلام الحكيمة..
ولكي يعتبر القادة والساسة دروساً من القيادات والسياسات المادية التي لا تجر إلى البشر سوى الفتك والدمار والتحطيم..
ولكي يعرف الخلاص والنجاة فيم؟ وكيف؟ وعند من؟
لذلك كله: نضع هنا بعض رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) السياسية مما نقلها الشريف الرضي (رضي الله عنه) في (نهج البلاغة)، ونترك الشرح والتعليق إلى مقدرة القارئ وفطنته ومقدار استفادته منها في مختلف المستويات.
ولا يخفى إنا قد ضمنا بين ثنايا الكلمات الغامضة تفسيراتها بين معقوفتين هكذا [] للتسهيل على من ليس لهم الإلمام الكامل بمعاني اللغات.
لا.. لغلظة الوالي
من كتاب لـه (عليه السلام) إلى بعض عماله: «أما بعد، فإن دهاقين [الأكابر، الزعماء، أرباب الأملاك بالسواد] أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا [يقربوا] لشركهم، ولا أن يقصوا [يبعدوا] ويجفوا [يعاملوا بخشونة] لعهدهم، فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه [تخلطه] بطرف من الشدة، وداول [اسلك فيهم منهجاً متوسطاً] لهم بين القسوة والرأفة، وأمرج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله»(2).
لا.. للخيانة
ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة، وعبد الله عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز(3) وفارس وكرمان وغيرها.
«واني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين
[ مالهم من غنيمة أو خراج] شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام»(4).
لا.. للإسراف
ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى زياد أيضاً:
«فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك.
أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين، وأنت عنده من المتكبرين! وتطمع
ـ وأنت متمرغ في النعيم [متقلب في الترف] تمنعه الضعيف والأرملة ـ أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدم، والسلام»(5).
خلق الجباة
ومن وصية لـه (عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات(6):
«انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلماً، ولاتجتازن
[ المرور] عليه كارهاً، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم، فتسلم عليهم، ولا تخدج [لا تبخل] بالتحية لهم، ثم تقول:
عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه، فإن قال قائل: لا، فلاتراجعه.
وإن أنعم [قال: نعم] لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده، أو تعسفه [تأخذه بشدة] أو ترهقه [تكلفه ما يصعب عليه] فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان لـه ماشية أو إبل، فلا تدخلها إلا بإذنه فان أكثرها لـه، فإذا أتيتها، فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به».
وحقوق الحيوان
«ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوأن صاحبها فيها، وأصدع المال صدعين [قسمه قسمين] ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين، ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق الله في ماله.
ولا تأخذن عوراً، ولا هرمة، ولا مكسورة، ولا مهلوسة [العور ـ بفتح فسكون ـ المسنة من الإبل، الهرمة: أسن من العود، المهلوسة: الضعيفة] ولا ذات عوار [بفتح العين: العيب] ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين، حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحاً شفيقاً، وأميناً حفيظاً غير معنف، ولا مجحف ولا مغلب ولا متعب».
الرحمة بالنعم
«ثم احدر [سق سريعاً] ما اجتمع عندك، نصيّره حيث أمر الله به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر
[ حلب ما في الضرع جميعه] لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها.
وليرفه على اللاغب [أي ليرح ما ألغب أي ما أعياه التعب] وليستأن بالنقب والظالع [أي ليرفق بما نقب خفه وغمز في مشيته] وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق [وهي التي لا مرعى فيها] وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف [جمع نطفة: المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل] والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات
[ سمينات] غير متعبات ولا مجهودات [بلغ منها الجهد والعناء مبلغاً عظيماً] لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، إن شاء الله»(7).
تواضع الوالي
ومن عهد لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر، حين قلده مصر:
«فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وأبسط لهم وجهك، وآس
[ ساوي] بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم
[ ظلمك لأجلهم] ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسألكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم»(8).
سيرة المتقين
«واعلموا عباد الله: أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ، والمتجر الرابح.
أصابوا لذة زهدة الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من لذة»(9).
احذروا الموت
«فاحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدوا لـه عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها؟ ومن أقرب إلى النار من عاملها؟.
وأنتم طرداء الموت، إن أقمتم لـه أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم.
الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوي من خلفكم.
فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرج فيها كربة.
وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله، وأن يحسن ظنكم به، فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظناً بالله، أشدهم خوفاً لله.
واعلم ـ يا محمد بن أبي بكر ـ أني وقد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك [تخالف شهوة نفسك] وأن تنافح عن دينك [تدافع عنه] ولو لم يكن لك إلا ساعة من الدهر، ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فإن في الله خلقاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره»(10).
التأكيد على الصلاة
«صل الصلاة لوقتها المؤقت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولاتؤخرها عن وقتها لاشتغال، واعلم أن كل شيء من عملك تبع لصلاتك»(11).
لا سواء
«فإنه لا سواء، إمام الهدى وإمام الردى، وولي النبي، وعدو النبي.
ولقد قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه [يقهره] الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان [من أسر النفاق في قلبه] عالم اللسان [من لا يعرف أحكام الشريعة ويسهل عليه بيانها] يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون»(12).
ارفع إلي حسابك
من كتاب لـه (عليه السلام) إلى بعض عماله(13):
«أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك [ألصقت بأمانتك خزية ـ بالفتح ـ أي رزية أفسدتها وأهانتها] . بلغني أنك جردت الأرض [قشرتها، والمعنى أنه أنسبه إلى الخيانة في المال، وإلى إخراب الضياع] فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام».
وصايا إنسانية
ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى بعض عماله(14):
«أما بعد، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم
[ أكسر به كبر الأثيم الذي يفعل الخطايا والآثام] وأسد به لهاة الثغر المخوف
[ اللهاة: قطعة لحم مدلاة في آخر سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيهاً لـه بفم الإنسان، والثغر المخوف: المكان الذي يخشى طروق الأعداء لـه على الحدود] فاستعن بالله على ما أهمك، وأخلط الشدة بضغث [شيء] من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم
[ شارك بينهم واجعلهم سواء] في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتى لايطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام».
إلى الأشتر النخعي (رضي الله عنه)
من كتاب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) كتبه إلى الأشتر النخعي، لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهد كتبه، وأجمعه للمحاسن(15):
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها».
تقوى الله
«أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه، ويده ولسانه، فإنه جل اسمه، قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه.
وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات [يزعها: يكفها، والجمحات: منازعات النفس إلى شهواتها ومآربها] فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله».
يقولون فيك ما كنت تقول
«ثم اعلم يا مالك، إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح [أبخل] بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها، فيما أحبت أو كرهت».
أصناف الناس
«وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط [يسبق] منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم».
لا.. لحرب الله
«ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته [أي ليس لك قوة تدفع نقمته، يعني لا طاقة لك بها] ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن [لا تفرحن كبراً] بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة [البادرة: ما يبدر عن الغضب من قول أو فعل، والمندوحة: المخلص] ولا تقولن: إني مؤمر [مسلط] آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال [إدخال الفساد] في القلب، ومنهكة [مضعفة] للدين، وتقرب من الغير [بكسر ففتح: حادثات الدهر بتبدل الدول] وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة
[ الأبهة: العظمة والكبرياء، والمخيلة ـ بفتح فكسر ـ الخيلاء والعجب] فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك.
فإن ذلك يطامن [يخفض] إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك
[ طماح ككتاب: النشوز والجماح، والغَرب بفتح فسكون: الحدة] ويفيء إليك بما عزب [غاب] عنك من عقلك».
لا.. للتكبر
«إياك ومساماة [المباراة في السمو، أي العلو] الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى [لك إليه ميل خاص] من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض [أبطل] حجته، وكان لله حرباً، حتى ينزع، أو يتوب.
وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته، من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد».
أوسط الأمور في الحق
«وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة [يذهب برضاهم] ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة لـه في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف [الإلحاح والشدة في السؤال] وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة.
وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين [جماعتهم] والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك [بالكسر والفتح: التوجه] لهم، وميلك معهم».
لا تقرب النمامين
«وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم [أبغضهم] عندك، اطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك.
فاستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك.
أطلق عن الناس عقدة كل حقد [أحلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم] وأقطع عنك سبب كل وتر [بالكسر: العداوة] وتغاب
[ تغافل] عن كل ما لا يضح لك [ما لا يظهر لك] ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي [النمام بمعائب الناس] غاش، وإن تشبه بالناصحين».
سياسة المشورة
«ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً، يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر [يخوفك منه لو بذلت] ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره [الشره بالتحريك: أشد الحرص] بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله».
شر الوزراء
«إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلايكونن لك بطانة [بالكسر] فإنهم أعوان الأثمة [جمع آثم: وهو فاعل الإثم، أي الذنب] وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن لـه مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم [ذنوبهم] وأوزارهم [جمع وزر: أي الإثم] وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه.
أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً [صداقة].
فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك، مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هوالك حيث وقع».
الصق بأهل الروع
«والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم [عودهم] على ألا يطروك [يمدحوك] ولا يبجحوك [يفرحوك بنسبة عمل عظيم إليك] بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو [العجب] وتدني من العزة.
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه».
الإحسان للرعية
«واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس لـه قبلهم [بكسر ففتح: أي عندهم].
فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً [تعباً] طويلاً.
وإن أحق من حسن ظنك به، لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك [صنعك] عنده.
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها».
تأكيد على مدارسة العلماء
«وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض:
فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة.
وكل قد سمى الله لـه سهمه [نصيبه] ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً».
الجيش والجنود
«فالجنود بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج، الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم [يقضونها به] ».
القضاة والعدل
«ثم لا قوام لهذين الصنفين، إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد [العقود] ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها».
أهل الصناعات والتجار
«ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم [أي المنافع التي يجتمعون لأجلها] ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق [التكسب] بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم».
وأهل الحاجة
«ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم
[ صلتهم] ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك، إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل.
فول من جنودك أنصحهم من نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً
[ الصدر والقلب]، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو [يبتعد] على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف».
كرائم العائلات
«ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنهم جماع [أي مجموع] من الكرم، وشعب من العرف [المعروف].
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن
[ يتعاظمن] في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك.
ولا تدع تفقد لطيف أمورهم، اتكالاً على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه».
استقامة العدل
«وليكن آثر [أفضل وأعلى منزلة] رؤوس جندك عندك من واساهم
[ ساعدهم] في معونته، وأفضل عليهم من جدته [غناه] بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف أهليهم [من يبقى في الحي من النساء والعجزة بعد سفر الرجال] حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية.
وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم [صونهم] على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم.
فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذووا البلاء منهم [أهل الأعمال العظيمة] فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل [المتأخر القاعد] إن شاء الله».
ضع الناس مواضعهم
«ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء امرئ [صنيعة الذي أبلاه] إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً. وأردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب [أي ما يثقلك ويكاد يميلك من الأمور الجسام]، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول))(16).
فالرد إلى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة».
مواصفات الحكام
«ثم اختر للحكم بين الناس، أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه [تجعله ماحقاً لجوجاً] الخصوم، ولا يتمادى
[ يستمر ويسترسل] في الزلة ولا يحصر من الفيء [الرجوع] إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً [ضجراً ومللا] بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم [أقطعهم للخصومة وأمضاهم فيها] عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء [أي لا يستخفه زيادة الثناء عليه]، ولايستميله إغراء، وأولئك قليل.
ثم أكثر تعاهد [مراجعة] قضائه، وأفسح لـه في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس.
وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال لـه عندك.
فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا».
اختبر الموظفين
«ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً [أي ولّهم الأعمال بالامتحان] ولا تولهم محاباة وأثرة [محاباة: أي اختصاصاً وميلاً منك لمعاونتهم، وأثرة: أي استبداداً بلا مشورة] فإنهما جماع من شعب [أي يجمعان شعب وفروع الجور والخيانة] الجور والخيانة، وتوخ [أي أطلب وتحر] منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً.
ثم أسبغ [أكثر] عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك [أي نقضوا في أدائها أو خانوا] ».
تفقد سيرة الموظفين
«ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون [الرقباء] من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم [أي سوق لهم وحث] على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.
وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة». .......