مولى أبي تراب
15-03-2013, 07:49 PM
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين ... وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين
--------------------
بينا كنت أطالع بعض الفتاوى وقفت على فتوى غريبة بحرمة قول بعضنا لبعض ( جمعة مباركة ) والفتوى لعدد من شيوخ السلفية وذلك بحجة أن ذلك بدعة وأنه لم يعهد عن الصحابة قول ذلك
وبعد زوال اندهاشي واستغرابي من هذه الفتوى خصوصاً بعد معرفة أصحابها والمفتين بها المعهود عنهم هذا النمط من الفتاوى ، إرتأيت التعليق عليها ببعض الأمور التي تنفع في هذا المورد وغيره من الموارد الكثيرة المشابهة ، وسأذكر إن شاء الله تعالى بعض الأسس التي تصلح للإجابة عن كثير من أمثال هذه الفتاوى ودفع كثير من الإشكالات والإشكاليات من هذا القبيل
فأقول والله المستعان وعليه التكلان بعد الحمد لخالق الإنسان ومعلّمه البيان والصلاة والسلام على محمد وآله سادة الإنس والجان
أولاً / عدم فعل الصحابة لا يلزم منه عدم المشروعية واتصاف الشيء بكونه بدعة لأن الصحابة ليسوا مصدراً للتشريع للاتفاق على عدم عصمتهم وإمكان صدور الخطأ عنهم بل وقوعه فعلاً منهم ، ومن جاز عليه الخطأ - فضلاً عن صدروه منه فعلاً - يقبح عقلاً أن يكون مشرّعاً ومن غير المقبول تنصيب الشارع له كمصدر للتشريع ، وعليه فليس كل ما فعله الصحابة فهو مشروع كما أنه ليس كل ما لم يفعله الصحابة فهو بدعة وغير مشروع ، اللهم الا أن تدّعى لهم العصمة وهو ما يكذّبه الوجدان والواقع .
ثانياً / لو تنزلنا وبنينا على أن الصحابة مرجعية تشريعية وأنهم مصدر من مصادر التشريع فغاية ما يلزم من ذلك أن كل ما فعلوه فهو مشروع ولا يلزم عدم مشروعية ما لم يفعلوه ، وفرق بين الأمرين ، فنحن الإمامية نطبّق هذه القاعدة حتى على المعصومين عليهم السلام فكل ما ثبت أن المعصوم فعله فلازم فعله له أنه فعل مشروع وجائز وغير محرّم إذ لو لم يكن كذلك لما فعله المعصوم لامتناع صدور الحرام عنه لفرض عصمته ، ولكن عدم إتيانه بأحد الأفعال لا يعني حرمة ذلك الفعل وعدم مشروعيته وأنه بدعة - الا مع القرينة - لأن عدم فعل المعصوم أعم من الحرمة وعدم المشروعية لاحتمال أنه لم يفعله لا لحرمته وعدم مشروعيته بل لإباحته ولا يجب عليه فعل المباح أو لكراهته مثلاً بل حتى لاستحبابه لعدم قبح ترك المعصوم للمستحب ولو في موارد خاصة ولعوارض طارئة ، ونفس الكلام يقال في الصحابة إذا بنينا على أنهم مصدر من مصادر التشريع فعدم فعلهم لشيء لا يعني أنه غير مشروع وحرام بالضرورة لاحتمال أنهم لم يفعلوه لإباحته أو حتى لاستحبابه ولا يجب عليهم فعل المباح والمستحب أو لأنه لم يكن معهوداً بينهم وليس كل ما لم يعهدوه فهو بدعة إذا صدر ممن بعدهم .
ثالثاً / إذا بنينا على هذه القاعدة وهي أن كل ما لم يفعله الصحابة فهو بدعة وغير مشروع لزم من ذلك حرمة كثير من الأفعال الصادرة عنا وهذا مما لا يمكن الالتزام به أبداً ، فالقاعدة عامة ولا وجه لتخصيصها بقول جمعة مباركة كما هو واضح بل تشمل كل ما لم يفعله الصحابة وعليه فيثبت أن كثيراً من صيغ التحايا وعبارات الترحيب المتداولة اليوم حرام وبدعة لعدم تداولها بين الصحابة ، والأمر لا يقتصر على عبارات الترحيب طبعاً بل يشمل كل ما لم يفعله الصحابة في شتى مجالات الحياة ولازم ذلك الحكم على الحياة بالتوقف مع أن أصحاب هذه الفتوى أنفسهم لا يلتزمون بذلك فهم يمارسون الكثير من الأفعال مما لم يفعله الصحابة فهل أنتم مبتدعون ؟ .
رابعاً / مما ينبغي الالتفات اليه أمران :
الأمر الأول : إن الأصل في الأشياء الإباحة والحلية ما لم يقم دليل على الحرمة وعدم المشروعية ، فأي شيء إذا كنّا بصدد استبيان حكمه الشرعي فالأصل أنه مباح وعلى الحلية ما لم يدل دليل على الحرمة ولا يكفي في الدليل على الحرمة عدم فعل الصحابة حتى مع البناء على أنهم سلطة تشريعية لما تقدم من أن عدم فعلهم لا يدل على عدم المشروعية بالضرورة ، وهذه قاعدة متفق عليها بين أغلب المسلمين فقد روت الإمامية عن الإمام الصادق عليه السلام قوله ( كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه ) الكافي 5 / 313 ، وهذا المعنى موجود عند غير الإمامية أيضاً كما يظهر من مصنفاتهم الفقهية حيث ينفون الحرمة عند عدم الدليل ويحكمون بالحلية بهذا الأصل وكمثال على ذلك ما ذكره ابن قدامة في المغني 4 / 127 في باب الربا قال ( وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد ففيه روايتان واختلف أهل العلم فيه والأولى إن شاء الله تعالى حله إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوي التمسك به وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا فوجب اطراحها أو الجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار ) . وقال ابن عابدين في حاشية رد المحتار 1 / 113 ( مطلب : المختار أن الأصل في الأشياء الإباحة أقول : وصرح في التحرير بأن المختار أن الأصل الإباحة عند الجمهور من الحنفية والشافعية ا ه . وتبعه تلميذه العلامة قاسم ، وجرى عليه في الهداية من فصل الحداد : وفي الخانية من أوائل الحظر والإباحة . وقال في شرح التحرير : وهو قول معتزلة البصرة وكثير من الشافعية وأكثر الحنفية لا سيما العراقيين ... ) وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لأحمد بن عبد الرزاق الدويش 5 / 373 ( الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، ولا يقال أن هذا محرم ونجس إلا بدليل ) . وفي فقه السنة للشيخ سيد سابق 3 / 288 قال في حكم المسكوت عنه ( ما سكت الشارع عنه ولم يرد نص بتحريمه فهو حلال تبعا للقاعدة المتفق عليها ، وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وهذه القاعدة أصل من أصول الاسلام وقد جاءت النصوص الكثيرة تقررها ، فمن ذلك قول الله سبحانه : 1 - " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " 2 - وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " ) فالقاعدة متفق عليها وهي أصل من أصول الإسلام ويدل عليها الكتاب والسنة وجاءت النصوص الكثيرة تقررها ، وغير ذلك كثير كما لا يخفى على المتتبع .
وما يظهر من بعضهم من المناقشة في القاعدة والنقض عليها ببعض الموارد التي يكون فيها الأصل المنع كالدماء والفروج ليس بشيء وليس هذا محل مناقشته ولكن يكفي أن نقول أن الدليل هنا دل على المنع وعدم الحلية وهو العلم باحتياط الشارع وحرصه في الدماء والفروج وتحفظه عليها وعدم تسامحه فيها وكلامنا في قاعدة الحل حيث لا دليل على المنع والحرمة .
الأمر الثاني : إذا أغفلنا الأمر الأول وقلنا لا بد من الدليل على الحلية كما هو مبنى بعضهم نقول حتى يكون الشيء مشروعاً وحلالاً لا يجب أن يدل على مشروعيته دليل خاص بل يكفي في حليته دخوله تحت أحد العمومات الدالة على الجواز ، بيان ذلك :
أن الدليل على نحوين : خاص وعام ، فالدليل الخاص هو الذي يتعرض فيه المشرّع الى حكم شيء بعينه ويذكره صراحة كما لو قال ( الخمر حرام ) فقد ذكر فيه الخمر بخصوصه والكلام مخصص لبيان حكم الخمر فهو دليل خاص لبيان حكم الخمر فيه بخصوصه ، وهذا بخلاف الدليل العام الذي يتطرق فيه المشرع الى ذكر قاعدة عامة تنطبق على جزئيات عديدة ومصاديق كثيرة ولا يتعرض الى حكم شيء بعينه كما لو قال ( كل مسكر حرام ) فهذا الدليل والكلام يشمل الخمر لكنه غير مختص به ولم يسقه المتكلم لبيان حكم الخمر خاصة بل الكلام يعم الخمر وغيره فيشمل كل ما يكون مسكراً سواء كان موجوداً أو سيوجد في المستقبل .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن قول جمعة مباركة وإن لم يدل دليل خاص على مشروعيته ومحبوبيته ورجحانه الا أنه داخل تحت الأدلة العامة فتشمله كثير من عمومات الحل بل الاستحباب من قبيل استحباب الدعاء للغير أو استحباب قول الخير أو استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن واستحباب التلطف للإخوان أو استحباب السلام وإالقاء التحية وكون السلام هو تحية الإسلام لايمنع من غيره ، الى ما شاء الله تعالى من العناوين والعمومات التي يمكن تطبيقها في المقام
فعدم فعل الصحابة - بناء على أنهم مصدر للتشريع - غاية ما يلزم منه عدم وجود دليل خاص على مشروعية هذا القول ولكن لا يجب في كون الشيء مشروعاً وجود دليل يدل عليه بالخصوص بل يكفي شمول عمومات الجواز والحلية له ، بل هذا هو الأصل والحالة الغالبة والطريقة المعهودة من الشارع فيذكر لنا عمومات وقواعد وأسس عامة وعلينا التطبيق ولا يُنتظر من الشارع أن يُقيم أدلة خاصة على حكم كل شيء بعينه إذ الأشياء والجزئيات من أفعال وأقوال كثيرة جداً يصعب حصرها مضافاً الى أنها متكثرة ومتجددة باستمرار .
خامساً / من الواضح أن المراد بالبدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين بمعنى أن يدعي شخص أن هذا الفعل أو ذاك هو مما أمر الشارع به أو ندب إليه بلا دليل له على ذلك ولا مستند فهو يدعي أن هذا الفعل من الدين لأنه يدعي وجوبه او استحبابه والحال هو ليس من الدين لأنه ليس كذلك حقيقة كما لو ادعى شخص استحباب صلاة معينة والحال أنه ابتدعها من عنده ولم يأخذها عن الشارع ، وبعبارة أخرى البدعة هي الافتراء على الله تعالى والشريعة المقدسة لأن الشخص عندما يقول أن هذا الفعل من المسنونات أو الواجبات فهو يدعي أن هذا هو حكم الله وحكم الشريعة في ذلك الفعل فإذا كانت دعواه بلا دليل فهو يفتري على الله بنسبة بعض الأحكام اليه مما لم تثبت بدليل ، وبعبارة ثالثة البدعة هي ما يصطلح عليه الفقهاء بالتشريع المحرم بمعنى أن ينسب شخص شيئاً الى الشريعة ويدعي تشريعه ومشروعيته مع أنه ليس كذلك وبتعبير القرآن الكريم البدعة هي ( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) يونس / 68
إذا عرفنا معنى البدعة حينئذٍ نقول لا يصح أن ننسب قول جمعة مباركة الى البدعة ونرمي صاحبها بالابتداع وذلك لأن الداعي لقول جمعة مباركة ليس التشريع والاستحباب الشرعي فعندما يقول أحدنا جمعة مباركة لا يقول ذلك بداعي التشريع وأن هذا من المستحبات ويريد إدخال ما ليس من الدين في الدين حتى يكون ذلك بدعة بل نقول ذلك من باب الدعاء مثلاً أي جعل الله جمعتك مباركة أو من باب التحية أو من باب ما جرى عليه العرف واقتضته العادة ونحو ذلك ، بل حتى لو قصد الاستحباب والتشريع لا يكون ذلك بدعة لما تقدم من أنه وإن لم يوجد دليل خاص يدل على تشريع هذا القول الا أنه مندرج تحت بعض العمومات وهذا كافٍ في تشريعه .
***
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
الحمد لله ربّ العالمين ... وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين
--------------------
بينا كنت أطالع بعض الفتاوى وقفت على فتوى غريبة بحرمة قول بعضنا لبعض ( جمعة مباركة ) والفتوى لعدد من شيوخ السلفية وذلك بحجة أن ذلك بدعة وأنه لم يعهد عن الصحابة قول ذلك
وبعد زوال اندهاشي واستغرابي من هذه الفتوى خصوصاً بعد معرفة أصحابها والمفتين بها المعهود عنهم هذا النمط من الفتاوى ، إرتأيت التعليق عليها ببعض الأمور التي تنفع في هذا المورد وغيره من الموارد الكثيرة المشابهة ، وسأذكر إن شاء الله تعالى بعض الأسس التي تصلح للإجابة عن كثير من أمثال هذه الفتاوى ودفع كثير من الإشكالات والإشكاليات من هذا القبيل
فأقول والله المستعان وعليه التكلان بعد الحمد لخالق الإنسان ومعلّمه البيان والصلاة والسلام على محمد وآله سادة الإنس والجان
أولاً / عدم فعل الصحابة لا يلزم منه عدم المشروعية واتصاف الشيء بكونه بدعة لأن الصحابة ليسوا مصدراً للتشريع للاتفاق على عدم عصمتهم وإمكان صدور الخطأ عنهم بل وقوعه فعلاً منهم ، ومن جاز عليه الخطأ - فضلاً عن صدروه منه فعلاً - يقبح عقلاً أن يكون مشرّعاً ومن غير المقبول تنصيب الشارع له كمصدر للتشريع ، وعليه فليس كل ما فعله الصحابة فهو مشروع كما أنه ليس كل ما لم يفعله الصحابة فهو بدعة وغير مشروع ، اللهم الا أن تدّعى لهم العصمة وهو ما يكذّبه الوجدان والواقع .
ثانياً / لو تنزلنا وبنينا على أن الصحابة مرجعية تشريعية وأنهم مصدر من مصادر التشريع فغاية ما يلزم من ذلك أن كل ما فعلوه فهو مشروع ولا يلزم عدم مشروعية ما لم يفعلوه ، وفرق بين الأمرين ، فنحن الإمامية نطبّق هذه القاعدة حتى على المعصومين عليهم السلام فكل ما ثبت أن المعصوم فعله فلازم فعله له أنه فعل مشروع وجائز وغير محرّم إذ لو لم يكن كذلك لما فعله المعصوم لامتناع صدور الحرام عنه لفرض عصمته ، ولكن عدم إتيانه بأحد الأفعال لا يعني حرمة ذلك الفعل وعدم مشروعيته وأنه بدعة - الا مع القرينة - لأن عدم فعل المعصوم أعم من الحرمة وعدم المشروعية لاحتمال أنه لم يفعله لا لحرمته وعدم مشروعيته بل لإباحته ولا يجب عليه فعل المباح أو لكراهته مثلاً بل حتى لاستحبابه لعدم قبح ترك المعصوم للمستحب ولو في موارد خاصة ولعوارض طارئة ، ونفس الكلام يقال في الصحابة إذا بنينا على أنهم مصدر من مصادر التشريع فعدم فعلهم لشيء لا يعني أنه غير مشروع وحرام بالضرورة لاحتمال أنهم لم يفعلوه لإباحته أو حتى لاستحبابه ولا يجب عليهم فعل المباح والمستحب أو لأنه لم يكن معهوداً بينهم وليس كل ما لم يعهدوه فهو بدعة إذا صدر ممن بعدهم .
ثالثاً / إذا بنينا على هذه القاعدة وهي أن كل ما لم يفعله الصحابة فهو بدعة وغير مشروع لزم من ذلك حرمة كثير من الأفعال الصادرة عنا وهذا مما لا يمكن الالتزام به أبداً ، فالقاعدة عامة ولا وجه لتخصيصها بقول جمعة مباركة كما هو واضح بل تشمل كل ما لم يفعله الصحابة وعليه فيثبت أن كثيراً من صيغ التحايا وعبارات الترحيب المتداولة اليوم حرام وبدعة لعدم تداولها بين الصحابة ، والأمر لا يقتصر على عبارات الترحيب طبعاً بل يشمل كل ما لم يفعله الصحابة في شتى مجالات الحياة ولازم ذلك الحكم على الحياة بالتوقف مع أن أصحاب هذه الفتوى أنفسهم لا يلتزمون بذلك فهم يمارسون الكثير من الأفعال مما لم يفعله الصحابة فهل أنتم مبتدعون ؟ .
رابعاً / مما ينبغي الالتفات اليه أمران :
الأمر الأول : إن الأصل في الأشياء الإباحة والحلية ما لم يقم دليل على الحرمة وعدم المشروعية ، فأي شيء إذا كنّا بصدد استبيان حكمه الشرعي فالأصل أنه مباح وعلى الحلية ما لم يدل دليل على الحرمة ولا يكفي في الدليل على الحرمة عدم فعل الصحابة حتى مع البناء على أنهم سلطة تشريعية لما تقدم من أن عدم فعلهم لا يدل على عدم المشروعية بالضرورة ، وهذه قاعدة متفق عليها بين أغلب المسلمين فقد روت الإمامية عن الإمام الصادق عليه السلام قوله ( كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه ) الكافي 5 / 313 ، وهذا المعنى موجود عند غير الإمامية أيضاً كما يظهر من مصنفاتهم الفقهية حيث ينفون الحرمة عند عدم الدليل ويحكمون بالحلية بهذا الأصل وكمثال على ذلك ما ذكره ابن قدامة في المغني 4 / 127 في باب الربا قال ( وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد ففيه روايتان واختلف أهل العلم فيه والأولى إن شاء الله تعالى حله إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوي التمسك به وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا فوجب اطراحها أو الجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار ) . وقال ابن عابدين في حاشية رد المحتار 1 / 113 ( مطلب : المختار أن الأصل في الأشياء الإباحة أقول : وصرح في التحرير بأن المختار أن الأصل الإباحة عند الجمهور من الحنفية والشافعية ا ه . وتبعه تلميذه العلامة قاسم ، وجرى عليه في الهداية من فصل الحداد : وفي الخانية من أوائل الحظر والإباحة . وقال في شرح التحرير : وهو قول معتزلة البصرة وكثير من الشافعية وأكثر الحنفية لا سيما العراقيين ... ) وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لأحمد بن عبد الرزاق الدويش 5 / 373 ( الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، ولا يقال أن هذا محرم ونجس إلا بدليل ) . وفي فقه السنة للشيخ سيد سابق 3 / 288 قال في حكم المسكوت عنه ( ما سكت الشارع عنه ولم يرد نص بتحريمه فهو حلال تبعا للقاعدة المتفق عليها ، وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وهذه القاعدة أصل من أصول الاسلام وقد جاءت النصوص الكثيرة تقررها ، فمن ذلك قول الله سبحانه : 1 - " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " 2 - وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " ) فالقاعدة متفق عليها وهي أصل من أصول الإسلام ويدل عليها الكتاب والسنة وجاءت النصوص الكثيرة تقررها ، وغير ذلك كثير كما لا يخفى على المتتبع .
وما يظهر من بعضهم من المناقشة في القاعدة والنقض عليها ببعض الموارد التي يكون فيها الأصل المنع كالدماء والفروج ليس بشيء وليس هذا محل مناقشته ولكن يكفي أن نقول أن الدليل هنا دل على المنع وعدم الحلية وهو العلم باحتياط الشارع وحرصه في الدماء والفروج وتحفظه عليها وعدم تسامحه فيها وكلامنا في قاعدة الحل حيث لا دليل على المنع والحرمة .
الأمر الثاني : إذا أغفلنا الأمر الأول وقلنا لا بد من الدليل على الحلية كما هو مبنى بعضهم نقول حتى يكون الشيء مشروعاً وحلالاً لا يجب أن يدل على مشروعيته دليل خاص بل يكفي في حليته دخوله تحت أحد العمومات الدالة على الجواز ، بيان ذلك :
أن الدليل على نحوين : خاص وعام ، فالدليل الخاص هو الذي يتعرض فيه المشرّع الى حكم شيء بعينه ويذكره صراحة كما لو قال ( الخمر حرام ) فقد ذكر فيه الخمر بخصوصه والكلام مخصص لبيان حكم الخمر فهو دليل خاص لبيان حكم الخمر فيه بخصوصه ، وهذا بخلاف الدليل العام الذي يتطرق فيه المشرع الى ذكر قاعدة عامة تنطبق على جزئيات عديدة ومصاديق كثيرة ولا يتعرض الى حكم شيء بعينه كما لو قال ( كل مسكر حرام ) فهذا الدليل والكلام يشمل الخمر لكنه غير مختص به ولم يسقه المتكلم لبيان حكم الخمر خاصة بل الكلام يعم الخمر وغيره فيشمل كل ما يكون مسكراً سواء كان موجوداً أو سيوجد في المستقبل .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن قول جمعة مباركة وإن لم يدل دليل خاص على مشروعيته ومحبوبيته ورجحانه الا أنه داخل تحت الأدلة العامة فتشمله كثير من عمومات الحل بل الاستحباب من قبيل استحباب الدعاء للغير أو استحباب قول الخير أو استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن واستحباب التلطف للإخوان أو استحباب السلام وإالقاء التحية وكون السلام هو تحية الإسلام لايمنع من غيره ، الى ما شاء الله تعالى من العناوين والعمومات التي يمكن تطبيقها في المقام
فعدم فعل الصحابة - بناء على أنهم مصدر للتشريع - غاية ما يلزم منه عدم وجود دليل خاص على مشروعية هذا القول ولكن لا يجب في كون الشيء مشروعاً وجود دليل يدل عليه بالخصوص بل يكفي شمول عمومات الجواز والحلية له ، بل هذا هو الأصل والحالة الغالبة والطريقة المعهودة من الشارع فيذكر لنا عمومات وقواعد وأسس عامة وعلينا التطبيق ولا يُنتظر من الشارع أن يُقيم أدلة خاصة على حكم كل شيء بعينه إذ الأشياء والجزئيات من أفعال وأقوال كثيرة جداً يصعب حصرها مضافاً الى أنها متكثرة ومتجددة باستمرار .
خامساً / من الواضح أن المراد بالبدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين بمعنى أن يدعي شخص أن هذا الفعل أو ذاك هو مما أمر الشارع به أو ندب إليه بلا دليل له على ذلك ولا مستند فهو يدعي أن هذا الفعل من الدين لأنه يدعي وجوبه او استحبابه والحال هو ليس من الدين لأنه ليس كذلك حقيقة كما لو ادعى شخص استحباب صلاة معينة والحال أنه ابتدعها من عنده ولم يأخذها عن الشارع ، وبعبارة أخرى البدعة هي الافتراء على الله تعالى والشريعة المقدسة لأن الشخص عندما يقول أن هذا الفعل من المسنونات أو الواجبات فهو يدعي أن هذا هو حكم الله وحكم الشريعة في ذلك الفعل فإذا كانت دعواه بلا دليل فهو يفتري على الله بنسبة بعض الأحكام اليه مما لم تثبت بدليل ، وبعبارة ثالثة البدعة هي ما يصطلح عليه الفقهاء بالتشريع المحرم بمعنى أن ينسب شخص شيئاً الى الشريعة ويدعي تشريعه ومشروعيته مع أنه ليس كذلك وبتعبير القرآن الكريم البدعة هي ( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) يونس / 68
إذا عرفنا معنى البدعة حينئذٍ نقول لا يصح أن ننسب قول جمعة مباركة الى البدعة ونرمي صاحبها بالابتداع وذلك لأن الداعي لقول جمعة مباركة ليس التشريع والاستحباب الشرعي فعندما يقول أحدنا جمعة مباركة لا يقول ذلك بداعي التشريع وأن هذا من المستحبات ويريد إدخال ما ليس من الدين في الدين حتى يكون ذلك بدعة بل نقول ذلك من باب الدعاء مثلاً أي جعل الله جمعتك مباركة أو من باب التحية أو من باب ما جرى عليه العرف واقتضته العادة ونحو ذلك ، بل حتى لو قصد الاستحباب والتشريع لا يكون ذلك بدعة لما تقدم من أنه وإن لم يوجد دليل خاص يدل على تشريع هذا القول الا أنه مندرج تحت بعض العمومات وهذا كافٍ في تشريعه .
***
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين