المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فضل قراءة سورة الكوثر .....


نرجس*
26-03-2013, 12:38 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ



فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ



إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾



ـــــ
تمهيد




فضل قراءة سورة الكوثر:



1ـعن أبي بصيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: من كانت قراءته «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ» في فرائضه، ونوافله سقاه الله من الكوثر يوم القيامة، وكان محدثه عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أصل طوبى(1).
2ـفي حديث أُبي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين(2).
3ـ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأها سقاه الله من نهر الكوثر، ومن كل نهر الكوثر، ومن كل نهر في الجنة.
ـــــــــــــــ
(1)تفسير البرهان ج4 ص511 وتفسير نور الثقلين ج5 ص680 عن ثواب الأعمال للشيخ الصدوق.
(2)تفسير نور الثقلين ج5 ص680 عن مجمع البيان.

/صفحة 16/
ومن قرأها ليلة الجمعة مئة مرة مكملة، رأى النبي في منامه بإذن الله تعالى.
4ـ وقال الصادق (عليه السلام): من قرأها بعد صلاة يصليها نصف الليل سراً من ليلة الجمعة ألف مرة مكملة رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في منامه بإذن الله تعالى.
5ـ روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من قرأ هذه السورة سقاه الله تعالى من نهر الكوثر، ومن كل نهر في الجنة، وكتب له عشر حسنات بعدد كل من قرب قرباناً من الناس يوم النحر، ومن قرأها ليلة الجمعة مئة مرة رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في منامه رأي العين، لا يتمثل بغيره من الناس إلا كما يراه(1).
سبب نزول سورة الكوثر:




قد ذكرت كتب الحديث والتفسير: أن سبب نزول سورة الكوثر هو: أن عمرو بن العاص قد وصف
ـــــــــــــــ
(1) راجع الأحاديث السابقة في كتاب : البرهان في تفسير القرآن ج4 ص512.

/صفحة 17/
النبي (صلى الله عليه وآله) بالأبتر، فأنزل الله سورة الكوثر على نبيه في هذه المناسبة(1).
وقيل: إن العاص بن وائل السهمي هو الذي قال ذلك، فنزلت السورة.
وفي رواية أخرى: أن النبي (صلى الله عليه وآله) مر ـ وهو آتٍ من جنازة ولده القاسم ـ على العاص بن وائل، وابنه عمرو، فقال حين رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني لأشنؤه.
فقال العاص بن وائل: لا جَرَمَ لقد اصبح أبتر، فأنزل الله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾(2).
هذا هو المعروف في سبب نزول هذه السورة، وفيما ذكرناه كفاية، ولا يهمنا تقصي الروايات.
الإخبارات الغيبية في سورة الكوثر:




إن من جملة دلائل إعجاز سورة الكوثر هو الإخبارات الغيبية التي تضمنتها حيث جاء فيها:
1ـأنها أخبرت عن أن الله سبحانه، قد أعطى نبيه
ـــــــــــــــ
(1) تفسير البرهان، ج4 في تفسير سورة الكوثر.
(2) تفسير الميزان، ج20 ص372.

/صفحة 18/
كوثراً من النسل من خلال فاطمة الزهراء (عليها السلام).. نعم، أعطاه تعالى كوثراً من الخير، والبركات، وامتداد الدعوة.
وقد جاء هذا الإخبار الصادق في بدء الدعوة، حينما مات أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان أمر الدعوة ضعيفاً، وموهوناً، وحيث لم يكن ثمة أي بارقة أمل بتبدل الأوضاع والأحوال، إلا من خلال الإيمان بصدق وعد الله سبحانه.
2ـ ثم أخبرت عن أن كل شانئ لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لسوف يكون أبتر. بما فيهم ذلك الذي فعل ذلك أوائل بعثته (صلى الله عليه وآله). رغم أنه كان له أولاد يأمل بامتداد حياته من خلالهم.
وقد ذكر الله كلا الخبرين عن الغيب مع مزيد من التأكيد والإصرار كما يظهر لمن تأمل الآيات الكريمة الواردة في السورة.
سورة الكوثر مكية:




وقد اختلفوا في هذه السورة، هل هي مكية أم مدنية؟

/صفحة 19/
والأرجح أنها نزلت في مكة؛ لأنها نزلت رداً على ذلك الذي آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتلك الطريقة الوقحة، حينما مات أبناؤه، حيث شمت به عمرو بن العاص أو العاص بن وائل، وتنقّصه، ووصفه بالأبتر، أي الذي لا عقب له.
ربط القيم بالأمور الواقعية:




ويرد هنا سؤال، وهو أن وصف النبي بالأبتر، وتعييره بانقطاع نسله، لا يعدو أن يكون أمراً شخصياً، فهل أن هذه المسألة الشخصية هي من الأهمية بحيث أن الله سبحانه وتعالى ينزل سورة يخلد فيها هذا الأمر، ويفرض قراءتها على العالمين؟
وما هي الحكمة التي اقتضت ذلك؟!
ونقول في الجواب: إن السورة وإن كانت قد عالجت ـ بحسب الظاهر ـ أمراً شخصياً وخاصاً، هو الذي اقتضى نزولها. ولكنها على أي حال قد تضمنت بيان قواعد وضوابط، وسنناً إلهية مهمة في حياة البشر هي التي اقتضت إفراد صورة خاصة.
ــــــــ ــــــــــ
/صفحة 20/
وفي القرآن نظائر كثيرة لهذا الأمر، حيث نجد أن الله سبحانه قد ربط قضايا كثيرة بأحداث واقعية، يستجيب لها هذا الإنسان في أحاسيسه، وفي مشاعره، وفي وعيه..
وليكن من جملة ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله﴾(1)، فإنها وإن كانت أيضاً قضية شخصية، بحسب الظاهر، ولكنها تتحرك في نطاق الوعي الإسلامي العام، وفي دائرة ضوابطه ومنطلقاته، ومُثُلِه، وقِيَمِه.
وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾(2). حيث بينت الآية أن المال ليس هو الذي يقرّر مصير الإنسان، وليس هو الذي يتحكّم بمستقبل الحياة.
فالمقصود إذن هو إعطاء الضابطة الحياتية الحاسمة في أمرٍ هو أهمّ شيء يمسّ الإنسان في مجال الإغراء،
ـــــــــــــــ
(1)سورة المجادلة، أية رقم1.
(2) سورة المسد، آية رقم1ـ2.

/صفحة 21/
وفي مجال إبعاده عن الله، وعن القيم، ألا وهو المال الذي هو أشد تأثيراً في حياة الإنسان من أي شيء آخر، حتى من الغريزة الجنسية، فإن الجنس حالة غريزية، يمكن أن يجد الإنسان الطريقة المشروعة لتنفيسها والتخفيف من حدة ضوابطها، وينتهي الأمر. أما المال فهو يمس مجموعة كبيرة من القيم في حياة الإنسان، ويؤثر فيها، فهو يمس صدق الإنسان، ووفاءه وحبه للدنيا، وكرم نفسه، وسخاءه، وشحه، وكثيراً من القيم الحياتية، التي يريد أن يتعامل بها في حياته مع مختلف الموجودات: من جماد، وحيوان، وإنسان، ومن غيب وشهود، وغير ذلك.
إن هذا المال يلامس هذه القيم، ويؤثر فيها، ويحدث فيها الخلل، ويدمّر فيها الكثير من الخلايا النابضة بالحياة.
فله إذن دور خطير جداً في حياة الإنسان، وفي مستقبله: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾(1).
ـــــــــــــــ
(1) سورة المسد، أية رقم2ـ3.
/صفحة 22/
فالقضية إذن ليست قضية شخصية، تتعلق بشخص أبي لهب، ولا هي في سورة الكوثر مجرد قضية إنسان عاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه لم يكن له أولاد، ولا هي هناك مجرد قضية امرأة شكت زوجها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما هي قضية حساسة وخطيرة من خلال ما ينتج عنها من ضوابط ومعايير، وما تشير إليه من سنن إلهية، وما توحي به من ارتباطات روحية، ومشاعرية، وغيرها، مع قضايا الحياة، ومع الله، ومع النبوات، وغير ذلك مما يراد لنا أن نفهمه من خلال هذه الآيات التي تعرضت لها.
وقد ذكرنا سابقاً أن آيات القرآن تربط قضايا الإيمان والمثل، والقيم، بأمور محسوسة، وبقضايا جزئية، يعيشها الإنسان، ويحس بها.
وهذه سياسة إلهية في مجال التعليم، باعتماد أسلوب تجسيد الفكرة التي يراد تعليمها أو الإيحاء بها للإنسان، فهو لا يريد أن يحدثه عن غيب لا يرتبط بالواقع، أو يريد أن يحدثه عن الغيب الذي تجسد في الواقع، وتحول إلى

/صفحة 23/
أمرٍ يلمسه، ويحس ويشعر به.
وهذا كما جسد الله سبحانه للناس الغيب بالكعبة، وبالقرآن، وبالمسجد الأقصى، وبالحجر الأسود.
أي أنه سبحانه يريد أن يجعلك أيها الإنسان تلمس الغيب، وتتعامل معه، من موقع الإحساس، والاتصال المباشر به، ولا يقتصر هذا الاتصال على الاتصال الحسي المادي، بل يتعداه إلى الاتصال الوجداني والمشاعري، والقلبي والروحي، لينعكس على الحركة والسلوك ليتجسد تصرفاً ومنطقاً وتعاملاً، ولا يبقى حالة غيبية ذهنية، تعيشها في تصوراتك، ثم قد تمحى هذه الصورة وتنتهي.
إنه يريد للغيب المتجسد في الحجر الأسود أن تلمسه، وأن تقبله، وتتبرك به، وأن يؤثر في جسدك، وفي كيانك، وروحك، ومشاعرك، من خلال ملامسة خدك أو شفتيك له، وأنتتقبله.
إنه يريد أن يتحول الغيب إلى بركات، وإلى حالات شعورية، وإلى أحاسيس.

/صفحة 24/
ولا يريد للغيب أن يبقى أمراً مجهولاً، يخاف منه الإنسان، لأنه لا يعرفه، ولا يتلمسه. بل يريده أمراً حاضراً، وأن يحوله إلى شهود، يتعامل معه بالحس وبالمشاعر القريبة. لا بالمشاعر الناشئة عن التخيُّل، وعن الالتذاذ بالأحلام، على طريقة أحلام اليقظة، حيث يتخيل الإنسان نفسه أن له قصوراً، وجبالاً، وبساتين، وأنه يطير في الهواء، وغير ذلك.
إن الإسلام يريد أن يجسد للإنسان المثل والقيم، والمعاني الإنسانية، وأضدادها، فيجسد له الصدق، كما يجسد له الكذب، ويجسد له الإيمان، كما يجسد له النفاق في حركة هذا وفي كلمة ذاك، وفي موقف هنا، وموقف هناك.. فتقرأ قصة إبراهيم (عليه السلام) في ذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، وتقرأ أيضاً قصة عبد الله بن أبي حينما انخذل بالمنافقين في حرب أحد، وغير ذلك.
ومن كل ما تقدم يتضح: أن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يريد أن يجسد لنا جملة من المعاني، والقيم، والمعايير العامة، ويربطها في هذا الحدث

/صفحة 25/
الخاص، فإننا إذا ارتبطنا بها من خلال الحدث، فإن ذلك يقربها إلى الواقع، ويخرجها من عالم التخيُّل والتصور الذهني، أو الأحلام التي قد تتلاشى وتتبخر، حينما تضغط علينا الحياة، وتواجهنا فيها المشكلات.
ولأجل أن القيمة تحولت إلى حقيقة واقعية، وتجسدت، فإن هذه الضغوط كلما زادت فسنجد أنفسنا أكثر إحساساً بالحاجة إلى اللجوء إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وإلى أماكن القرب من الله، وسنشعر أننا بحاجة إلى أن نقبِّل قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر الإمام (عليه السلام).
فاتضح أن الحديث عن المسألة ليس عن جانبها الشخصي حين عيَّر العاص بن وائل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل عن الجانب القيمي والمعياري المرتبط بالمثل العليا، والمنطلقات الإنسانية والإيمانية أيضاً.

/صفحة 26/

/صفحة 27/
تفسير قوله تعالى:




﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾




/صفحة 28/

/صفحة 29/
ولنبدأ الآن بتفسير الآيات فنقول: قد ذكرنا في تفسير سورة الفاتحة بعض ما يرتبط بتفسير البسملة، فمن أراد الوقوف على ذلك، فليرجع إلى ذلك الكتاب.
وأما بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ..﴾، فالحديث عنه يحتاج إلى بعض التفصيل فنقول:
الحديث عن المتكلم بصيغة الجمع:




أما لماذا قال «إنّا» «أعطينا» بصيغة الجمع، ولم يقل: إني أعطيتك، مع أن المتكلم هو الله الواحد الأحد؟
فالجواب: أن هذا الأمر قد تكرر كثيراً في القرآن الكريم، في مقامات تختلف وتتفاوت فيما بينها، ونحن نوضح ذلك فيما يلي: إنه تارة يلاحظ مقام الألوهية، الذي يعني الهيمنة، والجبارية، والقدرة والغنى، والقهارية، والتفرد، واستحقاق العبادة، وما إلى ذلك،

/صفحة 30/
وأخرى يلاحظ مقام الربوبية، الذي يعني التدبير والخلق والرزق، والشفاء، والرحمانية والرحيمية، وما إلى ذلك.
ونلاحظ هنا: أنه حين يكون المراد التأكيد على انحصار صفة الألوهية، أو الربوبية الحقيقية بالله سبحانه وتعالى، فالحديث يكون بصفة المفرد، ولا يكون بصيغة الجمع، فهو تعالى يقول: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ..﴾ و ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(1) و ﴿وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾(2).. الخ؛ لأن المقام يتقضي التنصيص على الوحدة، وعلى انحصار الألوهية والربوبية فيه سبحانه وتعالى.
أما حين يتحدث بصيغة الجمع، فقد يكون المراد إظهار العزة والعظمة المناسب للألوهية، لأن الإيحاء بذلك إلى المخاطب من شأنه أن يعمق إيمانه، ويطمئن قلبه، ويشعره بالسكينة مع مقام الألوهية من حيث أن
ـــــــــــــــ
(1) سورة الأنبياء، آية رقم92.
(2) سورة المؤمنون، آية رقم25.
ــ
/صفحة 31/
الألوهية مشعرة بالهيبة والقهر والتوحد، وقد يكون المراد الإشارة إلى مقام الربوبية، فيتحدث بصيغة الجمع حين يكون المراد الإشارة مثلاً إلى الوسائط في الخلق، أو الرزق، ونحوه مما يأتي في مراحل، أو عبر وسائط تقع في سلسلة العلل، وإن كان مصدره الأول هو الله سبحانه وتعالى، فالنبات والشجر مثلاً يحتاج إلى الماء، وإلى التربة الصالحة، وغير ذلك، مما يقع في سلسلة الأسباب التي تنتهي هي الأخرى إلى الله سبحانه، وكذلك الحال بالنسبة لخلق الإنسان.
وفيما نحن فيه نقول: إن الله سبحانه أراد أن يشير إلى هذين الأمرين معاً، ولأجل ذلك قال: «إنّا» و «أعطينا» لأن المقام هنا هو مقام العزة والعظمة والغنى من جهة المشيرة إلى الألوهية بكلمة «إنّا»، ولأن هذا العطاء إنما يتم بوسائطه وبوسائله من جهة أخرى وهي المشيرة إلى الربوبية بكلمة «أعطيناك» فإن إعطاء الأبناء يحتاج إلى استقرار نطفةونشؤها في عالم الأرحام، ثم إلى تربية، وإلى مساهمة كثير من الأسباب في الحفاظ على هذا
ـ
/صفحة 32/
الموجود، وفي تنميته، وتكامله، في جميع جهات وجوده: في علمه ومعرفته، ووعيه، وإدراكه، ومشاعره، وفي سائر خصوصياته.
نعم إن هذا يحتاج إلى وسائط، ووسائل وأسباب مختلفة، قد جعل الله السببية فيها لمصلحة اقتضاها الخلق والتكوين، وليست سببيتها ذاتية.
ولأجل ذلك كان المناسب في إعطاء الكوثر للنبي (صلى الله عليه وآله)، هو أن يعبر بـ «إنّا» وبـ «أعطينا» بصيغة جمع المتكلم. وذلك ليشير لنا إلى هذين الأمرين: وهما: جانب العزة والعظمة، «الألوهية» وللإشارة أيضاً إلى أن ذلك يقع في سلسلة الوسائط والأسباب والعلل«وهو جانب الربوبية» حسبما ألمحنا إليه.
لماذا التأكيد على حصول أمرٍ لم يحصل؟




ويرد هنا سؤالان:
الأول: لماذا جاء بكلمة «إنّ» التي هي أداة تأكيد، فقال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ..﴾؟.
الثاني: إن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ..﴾
/صفحة 33/
إخبارٌ عن أمرٍ قد تحقق ومضى، مع أن القضية إنما حصلت بعد أن مات أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذكور، والعطاء بمعنى التعويض بالأولاد لم يحصل بعد، فإن الزهراء (عليه السلام) التي تكاثر منها نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن حين نزول هذه السورة قد ولدت، لأن ولادتها كانت في الخامسة من البعثة، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله): ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾. ثم يطلب منه أن يشكره على هذا الإعطاء والعطاء، وأن يتعبد له، فيقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾.
ونقول في الجواب: إن الحديث قد كان مع ذلك الإنسان الحاقد والسيء العاص بن وائل أو ولده عمرو لعنهما الله، الذي كان يريد أن يتنقَّص من مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويعيّره بأنه أبتر لا عقب له.
والسورة كلها قد جاءت لتخبر عن وعد إلهي، وأمر غيبي، بصورة جازمة ومؤكدة، فكلمة «إنّ» قد جيىء بها لإفادة هذا التأكيد. ثم ترقى في تأكيده هذا إلى درجة اعتبر فيها أن هذاالأمر قد تحقق بالفعل، وأصبح واقعاً،

/صفحة 34/
وصار من الماضي الذي يصح الإخبار عنه، لأنه قد تجاوز الموانع، واستجمع المقتضيات، والشرائط المعتبرة في تحقق الوجود رغم أن أبناءه (صلى الله عليه وآله) قد ماتوا ولم تكن فاطمة قد ولدت بعد.
والذي يزيد هذا التأكيد قوة وشدة، هذا الإلماح إلى إظهار مقام العزة والعظمة الإلهية، الأمر الذي يقتضي أن لا يخلف الله وعده(1)، والله لا يخبر عن أمر ثم لا يتحقق، فإن هذا مما لا يستساغ ولا يرضاه حتى الإنسان العادي لنفسه، فكيف بمقام العزة الإلهية.
اختيار التعبير بـ «أعطينا» دون سواها:




وأما السبب في أنه تعالى قال: ﴿..أَعْطَيْنَاكَ..﴾ ولم يقل: سيكون أو سيوجد لك الكوثر، أو نحو ذلك، فلعله هو أن كلمة: «أعطيناك» تفيد أن هذا المعطي يتصرف من موقع المالكية والوجدانية بالذات، فه
ـــــــ
(1) لاسيما وأنه قد أخبر عن حتمية حصوله بصيغة الماضي الدال على الحصول بالفعل، ولم يورده بصيغة الوعد.

/صفحة 35/
يعطيه لأنه يملك أن يعطيه، من حيث أنه واجد لما يعطي.
وفيها أيضاً إلماح إلى أن هذا العطاء عطاء حقيقي، من حيث أن العطاء يشير للتمليك أيضاً، والشعور بالتملك من شأنه أن يمنح الإنسان الإحساس بالرضا والطمأنينة، ولو أنه استبدل كلمة: «أعطيناك» بغيرها مما يشير إلى ذلك لحرم من هذا الإحساس.
فظهر أن التعبير بكلمة: «أعطيناك» فيه إلماح إلى المستوى الذي بلغ إليه تشبثه بما يُعطى له، وأنه في مستوى المالكية، التي هي أعمق من مجرد التنعم أو الاستفادة العابرة مما هو موجود.

العطاء الإلهي:


وإذا كان العطاء من موقع الغنى بالذات والواجدية التي هي من مظاهر العظمة، ومقام الألوهية، ثم هو من موقع الربوبية التي تعني التدبير في نطاق الرأفة والمحبة والرعاية، فهذا يعني أنه عطاء لا يسترد، وليس فيه ضعف، أو انقطاع، أو أي نوع من أنواع المنة، بمعنى

/صفحة 36/
إرادة الانتقاص، بل هي منة إلهية، تعني إرادة تكامل الإنسان، وترسيخ قدمه ومنحه المزيد من القدرة على الثبات، والمزيد من القوة إضافة إلى مزيد من الارتباط بهذا المعطي.
وبذلك يفترق الامتنان الإلهي الذي هو نعمة ولطف، عن الامتنان البشري الذي يمثل الذلة والانتقاص، لأن الله يعطي من موقع عزته، وكرامته وربوبيته، وألوهيته، التي تستتبع الغنى، غنى المربوب بغنى الرب، وغنى السائل بغنى المعطي، فلأجل ذلك لا يحتاج سبحانه وتعالى إلى أن ينقص من مقام أحد في مقابل ما يعطيه.
الكوثر يعني الخلاقية:




ثم إن ما يعطى قد يكون أمراً مادياً، كبيت، أو قلم، وهذا يعني أن خصوصيته المادية لابد أن تفرض عليه أن يستقبل كل عوارضها وآثارها.
وقد يكون معنىً يختزن الخلاقية والاستحداث

/صفحة 37/
المستمر للكثرات، المشعر بكونه في حالة تجدد وعطاء وفيض دائم..
وهذا من قبيل إعطاء نعمة العقل، أو القدرة، فإن ذلك يختزن معنى إيجابياً له عطاءاته المستمرة.
فلو أن الذي أعطاه الله لنبيه كان أمراً مادياً ثابتاً، فإنه يتحدد بحدود المادة، ويتقيد بقيودها. ولن يكون فيه خلاقية، ولا يختزن حالة تجدد أو استزادة.
ولكن الله قد أعطى نبيه ما هو أعلى، وأغلى، وأسمى، من الأمور المادية المحدودة.
لقد أعطاه «الكوثر» الذي هو عين الخلاقية، والتجدد، والاستزادة المستمرة. وهو طاقة لا تزال ولسوف تبقى تعطي المزيد، والشيء الجديد..
ومن الواضح: أن هذا النوع من العطاء يحتاج إلى استمرار الصلة مع مصدر الفيض والمدد، واستمرار الرعاية الإلهية، فلا انقطاع له عن الله سبحانه وتعالى على مر الأحقاب والآباد في الدنيا، وفي رحاب الرحمة

/صفحة 38/
الإلهية المتمثلة في الخلود في مواقع القرب والرضى في الآخرة.
لا تحديد ولا حصر في الكوثر:




فاتضح أن «الكوثر»: إنما يعني ما تصدر عنه الكثرات، وما يصدر عنه التعدد. وهو وصف عام لم يحدد فيه نوع أو جنس ما يتجسد فيه الكوثر أو الكثرات.بل أوكل تحديد نوعها إلى خيال الإنسان، ليذهب في تصوراته إلى أي مدى شاء.
وبتعبير أوضح إنه تعالى لم يقل: إنا أعطيناك جنة، مالاً، مقاماً، جاهاً، بستاناً، علماً، أو أي شيء آخر، وإنما تحدث عن الكوثر، الذي هو مصدر الكثرة وسبب الإزدياد في أي نوع تجسد هذا الكوثر فيه.
بل إننا حتى حينما نريد أن نفسر الكوثر ببعض التحديد، فنقول: ـ كما ورد في الروايات ـ إنه الخير الكثير، الذي من جملته كثرة ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن الأمر في طبيعة هذا الخير الكثير، وفي سنخه، وفي مواصفاته يبقى بلا تحديد.

/صفحة 39/
فالله سبحانه وتعالى يريد أن لا يحد من خيال الإنسان في تصوراته لنوع وسنخ وحقيقة ما يراد تكثيره، وأن لا يحده في تصور مواصفات الخير، والنعمة، والتفضل فيه. وهذا غاية المبالغة في إظهار عظمة هذه النعمة، وأهميتها، واستجماعها لحقيقة الخبر، ولمواصفاته، بصورة لا يحدها خيال، ولا يقف في وجهها تصور.
«أل» الحقيقية:




وعلى هذا الأساس نقول: إن الألف واللام في كلمة: «الكوثر» هي التي يشار بها إلى طبيعة وحقيقة ذلك الذي دخلت عليه، مثل «أل» في قولك: الذهب أفضل من الفضة.
إذن فيراد بالألف واللام هنا الإشارة إلى أن صدور الكثرات عن هذا الشيء أي «الكوثر»إنما هو من خلال طبيعته وحقيقته. وليست الكثرة عارضة له بالاكتساب، حتى إذا انقطع عنه هذا الاكتساب انقطعت الكثرة منه.
الكوثر هو الرد المناسب:




ثم إن هناك تناسباً فيما بين قول ذلك الرجل اللئيم،

..... يتبع .....

نرجس*
26-03-2013, 12:45 AM
/صفحة 40/
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه أبتر لا عقب له، فيما يفهمه هذا الرجل، من أن الامتداد في وجود هذا الإنسان يتمثل بوجود ذرية له، وبين التعميم الذي لاحظناه في كلمة: «الكوثر»، التي جاءت مطلقة، صالحة لشمول كل ما هو قابل للتكثير من أمور الخير، ولم تقتصر على أمر النسل؛ وإن كان النسل هو أعز مصاديقه وأسماها مادام أنه سيتجلى بأئمة الهدى الذين هم خيرة الله وصفوته من خلقه. وذلك ليكون إعطاؤه «الكوثر» غير المحدود هو الرد القوي والحاسم على النظرة الضيقة لأمثال ذلك الحاقد والشانىء، ليفهم هو وأمثاله أن مجرد وجود ذرية للإنسان، لا يصلح لأن يعتبر ذلك امتداداً وبقاءً له عبر الأعصار والأزمان. بل قد يكون سبباً للتراجع، والخسران، والفناء، حينما يكونون يعملون على هدم ما بناه، فكيف إذا كانت ذرية تعيث في الأرض فساداً، وتملؤها ظلماً وتكون وبالاً حقيقياً في الدنيا والآخرة على من تنسب إليه تلك الذرية. الأمر الذي يعني أن يكون عطاء الذرية له، لا من موقع الكرامة، ولا عن
/صفحة 41/
حقيقة الجدارة، وأنما على سبيل الإملاء والاستدراج الموجب للهلاك.
وذلك كله يعطينا:أن الميزان في الخلود ليس هو الأبناء والذرية، وإنما الميزان للخلود، والامتداد، والبقاء شيء آخر، وهو: أن يكون عنده الكوثر المتنامي في نفسه، وفي حقيقته، بل إنه هو نفس التنامي، وحقيقة الازدياد في الخير، والذرية الصالحة تكون بعض تجلياته.
وقلنا الازدياد في الخير، وفي الأمور الصالحة ومنها الذرية، لأن ما عدا ذلك يحمل في داخله الخُسر والبوار، والتراجع والقلة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا..﴾ وقال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..﴾.
الحاجة إلى عنصر الازدياد والاستحقاق:

وبعد أن يملك الإنسان عنصر التنامي والازدياد، فإن شكره لهذه النعمة بالعمل بقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ
ــــــــ
/صفحة 42/
وَانْحَرْ﴾ يكون بمثابة توفير عنصر الاستمرار لهذا الازدياد، والاستحقاق له. ويكون الحاصل على هذا التنامي بواسطة العمل والجهد.
وهذا هو العمل الصالح الذي أشارت إليه سورة «العصر»، وسورة «التين»، والذي لولاه لكانت النتيجة هي الخسر والتراجع: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..﴾(1).
وبذلك يتضح: أن إعطاء الكوثر يمثل المبرر المقبول والمعقول للطلب إليه بأن يصلي لربه، وينحر، لأنه نعمة عظيمة توجب الشكر وإخلاص العبودية والعبادة لله سبحانه، لأنه عطاء كرامة، وإعزاز، ومحبة، وتشريف، وخير، وصلاح، لا عطاء إملاء وهلاك، كما قلنا.
قال تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾(2).
ـــــــــــــــ
(1) سورة العصر، آية رقم3.
(2) سورة التوبة، آية رقم55.
ـــــــــــ
/صفحة 43/
كما أن قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ رد على أهل الشرك والكفر، الذين كانوا يعبدون غير الله، ليقربوهم إلى الله زلفى، رغم معرفتهم بأن الله هو الذي يخلقهم ويرزقهم، وينعم عليهم!!.
التشريف والتكريم:

ومن الواضح: أن هذا العطاء لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جاء على سبيل الكرامة والإعزاز، والتشريف له، وليربط على قلبه، وليقويه بهذا العطاء، مع العلم أن الكثرة لا تعني لرسول الله (صلى الله عليه وآله) سوى الاستزادة في الخير، ونيل درجات الرضى الإلهي، ولم يكن ليلهيه (صلى الله عليه وآله) التكاثر كما كان يلهي غيره من الناس، الذين يرون وجودهم، وحياتهم، ومقامهم، هو بما يملكون من أموال، وعشيرة، وذرية، تمتد عبر الأزمان والأحقاب.
القيمة بين الحقيقة والتزييف:

وقد أراد الله عز وجل أن يقول لهم: إن هذه الكثرات ليست هي القيمة الحقيقية، فليست القيمة للنسل لمجرد أنه نسل، وإنما القيمة للنسل الذي يكون هبة حقيقية من
ـــــ
/صفحة 44/
الله، وتشريفاً وتكريماً منه، حين يكون فيه تقوية حقيقية للوجود الإنساني والإيماني الذي يريد الله له أن يبقى، وأن يتقوى بهذا التنامي المطرد، الذي يرفده مصدر الكثرات الصالحة، والميمونة، والمباركة.
وهذا هو الميزان في الصلاح وفي الفساد، وفي القيمة واللاقيمة، من حيث هو امتداد لشخصيته الإنسانية، والإيمانية، والرسالية، في مختلف معاني الخير، ومن جملتها النسل الصالح.
وبذلك نعرف لماذا جاء في الروايات: أن «الكوثر» هو فاطمة (عليها السلام) والتي ولدت الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والصالحين من ذريتها، الذين ملأوا الدنيا، رغم كل ما حاق بهم من قتل واضطهاد؟ وكذا ما ورد من أن المقصود بالكوثر نهر في الجنة، أو علم النبوة والرسالة التي نشرها الأئمة الطاهرون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم العلماء من بعدهم؟ أو أن المقصود هو الخير الكثير الذي نالته الإنسانية بواسطة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو الحوض؟ أو غير ذلك من مصاديق للكوثر ذكرت

/صفحة 45/
الروايات، أو أشار إليها العلماء. وقد ذكر العلماء الطباطبائي: أنها بلغت ستة وعشرين قولاً.
فظهر الفرق الواضح، والتقابل الصريح، بين نظرة الإنسان الإلهي المؤمن، وبين نظرة غيره، فيما يرتبط بما به بقاء الشخصية الإنسانية ودوامها وامتدادها عبر الأزمان والأحقاب.
الوعد والإخبار بالصادق:

ونشير هنا إلى أن هذه السورة قد تضمنت إخبارات غيبية من نوع معين، منها ما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ حيث أخبر الله رسوله (صلى الله عليه وآله) في بدء الدعوة، وحيث لم يكن (صلى الله عليه وآله) يملك شيئاً بأن الله قد أعطاه كوثراً، وهذا تطمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وربط على قلبه بالوعد الإلهي المحقق جزماً وحقاً، بأنه سيأتي زمن تتغير فيه الحال من حالة الفاقدية ـ بنظر المشركين ـ إلى حالة الواجدية، والتنامي، والازدياد المستمر في كل عناصر الخير، وقد أخبر تعالى عن ذلك بصيغة الماضي، ليفيد أنه أمر محقق جزماً.
ــــــــــ
/صفحة 46/
وإن نفس الوعد الإلهي من شأنه أن يبعث حالة الأنس في نفسه (صلى الله عليه وآله)، فضلاً عن أنه يقويه، ويزيده صلابة على صلابة في مواجهة التحدي. وذلك نظير قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا..﴾(1)، حيث أراد الله سبحانه وتعالى أن يُرِيَ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بعض الآيات ليزيده ذلك قوة وعزيمة وصموداً وصلابة في مواجهة المشكلات والتحديات الكبيرة والخطيرة، وفي مواجهة الطواغيت والجبارين، لأن رؤية الآيات تزيده معرفة بالله سبحانه، وهذا بالذات هو ما يميز أولي العزم عن غيرهم..
يأس حاقد:

ومن جهة أخرى فإن إعطاء هذا الكوثر لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، حين تنقّص ذلك الحاقد له، وشماتته به، من شأنه أن يزرع اليأس في قلوب المشركين، وأن تهيمن عليهم مشاعر الإحباط، خصوصاً وأن الوعد
ـــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء، آية
ـــــــــ
/صفحة 47/
الإلهي قد جاء بهذه القاطعية، والجزم، واليقين، حسبما أوضحناه.
كماأن ذلك، ربما دفع جماعة الحاقدين إلى مراجعة حساباتهم، وهم يواجهون هذا اليقين، وهذه الصلابة، وهذه القناعة المطلقة، لدى النبي (صلى الله عليه وآله)، الذي لم يكن آنئذٍ يملك شيئاً من عناصر القوة التي يفكرون فيها.. فإن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه (صلى الله عليه وآله) يجد شيئاً لا يجدونه، ويشعر بما لا يشعرون به، ويعلم ويرى أموراً لا يعلمون بها، ولا يرونها.
والأشد من ذلك عليهم أنه تعالى يخبره في هذه الآيات عن المستقبل والمصير للفريقين معاً.. إنه يخبرهم على لسان نبيه، وهو الصادق الأمين بما لا يتوقعونه ولا يخطر لهم على بال، ويعاكس كل حساباتهم الظاهرية، ومشاهداتهم..
فها هم يرون النبي (صلى الله عليه وآله) ـ وفق حساباتهم ـ ليس له نسل، وليس له امتداد، أو عقب، وليس لديه قوة يستطيع أن يعتمد عليها، ولا يملك شيئاً من الوسائل
ــــــ
/صفحة 48/
التي تهيء له الامتداد في أعماق المستقبل.
ويرون أنفسهم في المقابل يملكون كل ذلك، فلديهم أموال، وأبناء، وعلاقات، وموقع، وهيمنة، وسلطة، وقدرات مادية، تمكنهم من الامتداد في المستقبل، ثم هم يواجهون قول الله سبحانه وتعالى لرسوله أولاً: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ أي مصدر الكثرات، فليست الكثرات تصل إليك من جهة الغير، ليمكنهم قطعها عنك، ثم يواجهون قول الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله)، ثانياً: عنهم أنهم ستنقطع الكثرات التي لديهم، وسينتهون إلى البوار، وإلى الانقطاع.
فما عليهم إذن إلا أن يعيدوا حساباتهم، وأن يقولوا لأنفسهم هل هناك شيء لم نفهمه، ولم نعقله، ولم نلتفت إليه؟!
فهذه الإخبارات من شأنها تثبيت وتقوية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتضعيف وتوهين أمر أهل الشرك، وهي بمثابة دعوة لهم لإعادة حساباتهم، فإن الإنسان الذي لا يرتبط بالله، ولم تكتمل معرفته به، ولا هو
ـــــــــ
/صفحة 49/
من العارفين ولا المتوكلين، أضعف ما يكون أمام المجهول خصوصاً إذا كان له مساس بمستقبله، حيث يرى نفسه عاجزاً حياله، لا يملك تجاهه أية حيلة أو وسيلة، فينهار ويضيع، ولذلك تجده يستسلم للمشعوذين الذين يعرف أنهم يكذبون عليه، ويخترعون له الأباطيل، وهم يتكلمون عن مستقبله المجهول، ويحاول أن يطبق كلامهم على واقعه، فإن قال له المشعوذ: ستأتيك رسالة، فسيقول: من قريبي، أو من صديقي فلان، وإذا قال له: لك عدو يكيد لك، فسينتقل ذهنه تلقائياً إلى فلان من الناس، الذي لا يرتاح إليه، ويقول: لعله هو.. وهكذا.
ولأجل ذلك نجد: أن الذين يريدون تضليل الناس يعتمدون على أمور من هذا القبيل، فقد يزعم لك أنه رأى مناماً يرتبط بك، وبمستقبلك، ثم يحدثك عن إلهامات وكشوفات حصلت له، ويستمر على هذا المنوال حتى تعلق في حبائله، ويصير يتلاعب بك كيفماشاء..
ـــــــــــــ
/صفحة 50/
ولكن عندما تتوجه لنور الدليل والبرهان، وتقول له: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، فإنه سيلتمس المسارب والمهارب للفرار، ثم هو يتركك إلى غير رجعة.
فضل قراءة سورة الكوثر: 2

لماذا خصصنا الكوثر بأمور الخير:

والمقصود بالكوثر ليس أية كثرة كانت، ولو لأمر عادي، فإن الرمل ـ مثلاً ـ كثير، لكنه ليس مقصوداً قطعاً، لأنه تعالى في مقام الامتنان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا العطاء، بهدف إظهار الكرامة له، وذلك يتقضي أن يكون ما يعطيه له أمراً محبوباً ومرغوباً فيه، ويسعى إليه الإنسان وينسجم مع رغباته، وطموحاته، وآماله؛ كما أن المقصود ليس هو كثرة المال ولا غيره مما هو زينة الحياة الدنيا، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يحب المال أو المقام الزائل؟ بل كان يحب ما هو أغلى، وأعلى، وأسمى، وأهم من هذه الدنيا، وأشرف منها..
وإذا كان علي (عليه السلام) ـ وهو تلميذ النبي (صلى الله عليه وآله) ـ يقول: «إن دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز»، فهل يعقل أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) ـ وهو مربى علي (عليه السلام) ـ محباً لها،
ـ/صفحة 51/
ومتعلقاً بها، وهل يمكن أن يكون (صلى الله عليه وآله) على خلاف سائر الأولياء فضلاً عن الأنبياء، فيما عرفناه من حياتهم وسيرتهم، وأهدافهم، وتعاليمهم. هذا ونبينا الأكرم هو الأفضل، والأعظم من بينهم.
إن المراد بالكوثر لابد أن يكون أمراً ينسجم مع أهداف النبي (صلى الله عليه وآله)، ومع ما كان يهتم به، ويفكر فيه، ويطمح له، كسائر الأنبياء، والأولياء، وهو الخير كل الخير في الآخرة، والخير في الدنيا إذا كان يؤدي ويوصل إلى خير الآخرة. وقد أعطاه الله ذلك. وليس هو زينة الحياة الدنيا قطعاً.
فالكوثر إذن يراد به: مصدر الكثرات التي هي من هذا السنخ، وهذا النوع، دون سواها.

/صفحة 52/

/صفحة 53/
تفسير قوله تعالى:

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾


/صفحة 54/
ـــــــ
/صفحة 55/
صفات الألوهية في من يعطي الكوثر:

بما أن الذي يعطي هذا النوع من الكثرات، لا يمكن أن يكون عاجزاً، ولا ناقصاً، ولا محتاجاً إلى غيره، ليدبر أمره وشؤونه، وليعطيه القدرة، وليمنحه الحياة، وليرفع نقصه وعجزه بل لا يمكن إلا أن يكون إلهاً مستحقاً للعبادة.
كما أنه لابد أن يكون حكيماً عالماً، مدبراً رحيماً، خالقاً رازقاً، جامعاً لكل شؤون الربوبية يستحق الشكر على هذا العطاء العظيم، وهذا يعني أن هذا الخطاب لابد أن يعتبر رداً قوياً على الذين يتشبثون بهذه الأصنام العاجزة، والفاقدة للعقل، وللقدرة، وللتدبير، وللحياة، وللعلم، ولكل شيء. ولا يمكن أن تجد فيها أي خير، أو أي كمال، بل هي محض النقص، والفاقدية في الدنيا، فكيف تكون مصدراً للخير وللواجدية في الدنيا والآخرة معاً.
فآية الكوثر إذن تستبطن الاستدلال على واجدية

/صفحة 56/
المعطي لكل الصفات التي تؤهله للعطاء، ولكنها ليست كسائر صفات الذين يُعطون، هذا الذي يعطي مصدر الكثرات لابد أن يملك صفات الألوهية والربوبية معاً، لأن الرب الذي يعطي، لاسيما إذا كان هذا العطاء هو الكوثر «أي مصدر الكثرات» لابد أن يكون غنياً بذاته، والغني لابد أن يكون عزيزاً، والعزيز يكون قوياً، والقوي حكيماً، والحكيم عادلاً، وهكذا ولابد أيضاً أن يكون منزهاً عن النقائص مثل الضعف والظلم «وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف»، ومن هنا قلنا إن الرب الذي يعطي هذا النوع من العطاء لابد أن يكون هو الإله المستجمع لكل صفات الكمال: ككونه خالقاً، رازقاً، قادراً، قدرة شاملة، في الدنيا والآخرة، حياً، قيوماً، عالماً، مدبراً، حكيماً.. إلى آخر ما هنالك.
فعلام إذن يتشبثون بعبادة الأصنام، ويكيدون لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويحقدون عليه، ويتنقصونه، ويشنأونه من أجلها، ومن أجل تأكيد دورها في حياة الإنسان؟!!

/صفحة 57/
فإذا اتضح ذلك نفهم لماذا جاء الأمر له بالصلاة بالخصوص، فإن الصلاةة هي أبرز مظاهر العبودية والعبادة والشكر الأتم الله سبحانه، لأن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ دليل على استحقاق المعطي للعبادة، ويكون قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ..﴾ بمثابة النتيجة لتلك المقدمات..
لماذا لم يقل: فاعبد الله؟

وقد يقال: لماذا قال: ﴿فَصَلِّ..﴾، ولم يقل فاعبدني، فإن الصلاة من جملة العبادة؟
ونقول: إن العبادة قد تكون عن خوف، وقد تكون عن طمع، وقد تكون عن شكر وامتنان، أو عن إحساس بالاستحقاق.
فلو قال هنا: فاعبد، لم يعرف جهة هذه العبادة، فهل هي لأجل استحقاق المعبود لها؟ أم هي لأجل الشعور بالامتنان؟ أم هي لأجل شكر نعم أنعمها؟ بل ليس في كلمة العبادة إشارة إلى النعم أصلاً، وإنما هي تشير إلى الألوهية فقط.

/صفحة 58/
لكنه حين قال: ﴿فَصَلِّ..﴾. فإن الصلاة تستبطن العبادة، وتستبطن أيضاً الشكر في ثلاثة اتجاهات:
1ـ الشكر في القلب، بمعنى الشعور بالامتنان وبالعرفان بأنك مدين لهذا الإله الذي تفضل عليك، وغمرك بنعمه.
2ـ الشكر باللسان، بمعنى الثناء على المنعم، لأجل تلك النعم.
3ـ الشكر بالجوارح، وهو العبودية، والخضوع، والخدمة وما أشبه ذلك من مظهرات الانقياد، والاستسلام أمام المعبود والمبادرة إلى مواقع رضاه سبحانه وتعالى.
فإذا كان المقام مقام إعطاء لمصدر الكثرات لكل ما هو من سنخ الخير والخيرات، مما ينسجم مع أهداف رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي هي أسمى من الحياة الدنيا، فإن المناسب أن يكون الشكر شاملاً أيضاً لجميع مظاهره: للشكر في القلب، واللسان، والجوارح.
إذن، فالمناسب في مثل هذا المقام هو التعبير

/صفحة 59/
بـ «صَلِ» لأن مسارها الطبيعي هو قضاء حق الربوبية لأنها العبادة الشاكرة، التي هي أسمى من عبادة الخائف من العقاب والطامع في الثواب. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1).
وعنه (عليه السلام): «إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار»(2).
العبادة الشاكرة:

إن الله تعالى بعد أن تحدث عن إعطاء رسوله (صلى الله عليه وآله) أتم النعم، وأكملها، وأشملها، فرّع الأمر بالصلاة على هذا الإعطاء، وهو ترتب طبيعي، يدركه الإنسان العاقل الحكيم، المتوازن في تفكيره، وفي تصرفاته، وفي
ـــــــــــــــ
(1) البحار ج67 ص186و197و234 وج69 ص278 وج38 ص14.
(2) نهج البلاغة ج3 ص205و206، فصل قصار الجمل رقم237، مطبعة الاستقامة. والبحار ج67 ص196و2121 وراجع ص236و255 وج38 ص14 وج75 ص69و117و1ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
/صفحة 60/
وعيه، وفهمه للأمور، حيث يجد نفسه منساقاً لأن يقف موقف العابد لهذا الإله المتصف بالعزة والعظمة والهيمنة والغنى، والقهارية، ثم أن يقف موقف الشاكر لمقام الربوبية على هذا العطاء العظيم، وبما أن الصلاة هي التي تعطي مفهوم العبادة للإله ومفهوم الشكر له في تجلياته العبادية، فقد جاء التعبير بكلمة: «فَصَلِ» منسجماً مع السياق، ومع حدود وآفاق المعنى المراد.
فظهر أن مضمون الآية الأولى الذي هو من تجليات الألوهية المستبطنة في الربوبية التي ظهرت بهذا العطاء قد تبلور في الآية الثانية، وعمَّق مضمونها في وعي الإنسان؛ من حيث كون الصلاة تجسيداً للعبادة في معنى الألوهية. وكانت هذه العبادة هي الشاكرة في أجلى مظاهر الشكر للعطاء الربوبي.
وقد أكّد ذلك أن النعمة الشاملة المعطاة بذاتها تؤكّد هذا الاستحقاق للشكر.
وقد جاء هذا الأمر بالصلاة منسجماً كل الانسجام مع مقتضيات هذين المعنيين، مادام أن الصلاة للربّ

/صفحة 61/
تستبطن إخلاص الشعور القلبي بالامتنان له سبحانه وتعالى، من دون أن يكون هناك أي شرك في هذه العبادة، المشتملة على الثناء على الله من أول كلمة فيها: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ..﴾.
فإن كل هذا وسواه إضافة إلى ما في الصلاة من تعظيم له سبحانه، في مثل: «الله أكبر»، ومن تنزيله في مثل: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وبِحَمْدِهِ.. سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى وبِحَمْدِهِ.. وغير ذلك من مظاهر الشكر لله سبحانه، بالثناء عليه بما يستحقه، في نصوص إلهية خالصة في معانيها ومراميها.. لا تشوبها أية شائبة، ولا تعاني من أيّ إخلال بحقيقة الصفات، التي يصحُّ نسبتها إليه تعالى، وينبغي أن تطلق عليه بما لها من معنى حقيقي دقيق وعميق.
عبادة الخائفين والطامعين:

أضف إلى ما تقدّم أنّ الصلاة تعني الخضوع العملي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
/صفحة 62/
الجوارحي، بما فيها من سجود وركوع، ووقفة، وجلسة العبد الذليل.
وهذا بالذات هو الذي يناسب هذا المقام؛ لأنّ عبادة الطامعين بالثواب، وكذلك عبادة الخوف من العقاب، لا تناسب هذه النعم، ولا تشير إليها، ولا إلى استحقاق العبادة، بل النعم هي التي تشير إلى استحقاق العبادة لمن يعطيها، من حيث استجماعه لصفات الألوهية الظاهرة من خلال الربوبية.
بالإضافة إلى أن صلاة الخائف وعبادته، لا تناسب هذا العطاء العظيم، مادام أن الإنسان قد يخاف من غير الله.
كما أن عبادة الطامع تعني أن العابد يرى أن الله لم يتم نعمته عليه، وذلك يمثل نوعاً من الابتعاد عن الموقع الرضي والحفي منه تعالى.
ولأجل ذلك استبعد أمير المؤمنين (عليه السلام)، هذين النوعين فقال: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».
/صفحة 63/
وهذه هي العبادة الحقيقية السامية..
كما أن عبادة الطامعين، وعبادة الخائفين، لا تستبطن الإشارة إلى استجماع الذات الإلهية للكمالات: وأقصد بها صفات الجمال والجلال. مثل: القادر، والخالق، والرازق، والعالم والحكيم، والرحمن والرحيم، والحي والقيوم.. الخ، ومثل كونه تعالى منزهاً عن أي نقصٍ، أو ظلمٍ، أو جهلٍ، أو عجزٍ، أو ضعفٍ وما إلى ذلك.
أما الصلاة فهي التي تذكر الإنسان بالأمور الأساسية في العقيدة، والتي من شأنها أن تمنحه الثبات والاستمرار في خط الاستقامة، وفق ما يرضي الله، لأنها فضلاً عن تذكيرها إياه بالدار الآخرة، فإنها تذكره أيضاً بالله، وبصفات ذاته، أعني به صفات الجمال والجلال، حسبما ألمحنا إليه آنفاً. وما عليك إلا أن تراجع نصوص الصلاة؛ فإنك ستجدها صريحة في ذلك كله..
وكفى دلالة على التَّنزيه المطلق للذات الإلهية عن

/صفحة 64/
كل نقص، وظلم، وجهل، وغير ذلك أنك تقول في كل ركوع وسجود: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى وبِحَمْدِهِ، وسُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وبِحَمْدِهِ.
وليس من قبيل المصادفة، أن تكون سورة الفاتحة، هي السورة التي تجب قراءتها في كل صلاة، أكثر من مرّة، حتى إنه لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، لأنّها قد اشتملت على كلّ العناصر الأساسية التي تدفع الإنسان للاستمرار بالإحساس بألوهيّته تعالى، وبرقابته، وهيمنته، وتفضّله.
لماذا قال: لربّك؟

وأما لماذا قال: «لِرَبِكَ»، ولم يقل: الله سبحانه وتعالى؟
فلعلَّه لأجل: أن الربوبية تعني استمرار الرعاية الإلهية وتعاهد المخلوقين، وحفظهم، وتدبير أمورهم، من موقع الحكمة، والعلم، والمحبة.
كما أن هذا الرب المدبِّر لأمورهم، يدفع العوادي

/صفحة 65/
عنهم، ويحبوهم بكل خير، ويدفعهم إلى كل صلاح، ويحرص على تكاملهم وتناميهم بطريقة سليمة وحكيمة.
والاستمرارية داخلة أيضاً في موضوع هذه الرعاية، إذ بدونها لا يكون هناك تربية ولا تكامل.. ولا معنى لأن تطلق كلمة: «رب» على من يتصدى إلى عمل ما كحفظ ورعاية مخلوق بعينه للحظات قصيرة، فإن من يرعى عائلة لمدة يوم واحد في حياته؛ مثلاً، لا يصبح رباً لها، وإنما يقال له: «رب»؛ إذا كان هناك استمرار لهذه الرعاية، التي تفيد في التكامل، والتنامي التدريجي لهم.
فقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ تستبطن هذه الاستمرارية من جهة، وتستبطن أيضاً: أن ثمة رعاية حانية، من موقع المحبة والرحمة، وترتبط بالناحية المشاعرية، إن صح التعبير، من جهة أخرى.
فمن يغرس شجرة، مثلاً، أو يزرع بعض النبات والأزاهير، فإنه لا يزرعه من موقع الرحمة له، بل

/صفحة 66/
يزرعه، ويحافظ عليه، ويريد له أن يتنامى ويصل إلى درجة النُضج، لإحساسه بحاجته إليه لطعامه، او إلى ظل الشجرة، أو ثمرتها، أو جمالها الطبيعي، وليس للرحمة، والحنو، والمحبة أي أثر في ذلك.
وحتى حينما يربِّي الإنسان الدابة؛ فيقال له: «رب الدابة»، فإن هذا الإطلاق فيه نوع من التجوز، لأنه لا يريد لها أن تتكامل، بل هو يربيها ويحفظها من أجل نفسه، ولكي تقضي حاجته، وتزيد من قدراته هو، لا أكثر ولا أقل، فهي أشبه بالسيارة التي يقتنيها.
أما التربية الإلهية للبشرية، فهي تبدأ بالرحمة، وتنتهي بها ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
إن التربية الإلهية الحقيقية تستبطن الحرص على أن يتكامل الطرف الآخر ليصبح غنياً، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى غيره، بل كل شيء محتاج إليه..
وهكذا حالنا حين نهتم بتربية أولادنا، فإننا نريد لهم

/صفحة 67/
أن تغنى أنفسهم بالكمالات، وأن تبتعد عنهم النقائص والعثرات والمشكلات، وبذلك يتضح أنه تعالى لو كان قال: «فَصَّلِ لله..» فذلك وإن كان يشير إلى صفات الجمال والجلال في الذات المقدسة، ولكنه لا يشير إلى نوع الصلة والعلاقة به سبحانه، وأنها صلة المربي الرحيم، الذي يحب لنا أن نتكامل ونتنامي باستمرار، لتغني أنفسنا بالكمالات، لا لحاجة منه سبحانه إلى ذلك.
فالنعمة المعطاة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وهي: «الكوثر» ليست أمراً عارضاً، منحه الله إياه مرة واحدة، وانتهى الأمر وإنما هي في سياق تربيته ورعايته له، والحفاظ عليه، وتناميه، وتكامله..
لربك مع كاف خطاب المفرد:

وعن كاف الخطاب في قوله تعالى: ﴿.. لِرَبِكَ..﴾ نقول: إنه تعالى قد جاء بكاف الخطاب للمفرد، ولم يقل: للرب أو لربكم، لأن الأمر يرتبط بشخص هذا الإنسان، بما له من فردية وتعيُن، تتجسد فيه المحبة،
/صفحة 68/
والارتباط الحقيقي والمباشر، وليس الأمر قد جرى على وفق السنن الإلهية العامة، التي لا تعني الأفراد في خصوصياتهم.
بدأ بالألوهية وانتهى بالربوبية:

ويرد هنا سؤال، وهو: أنّ من يكون مصدر الكثرات، فلابد من أن يكون مستجمعاً لصفات الألوهية، فيستحق العبادة. هذا بالإضافة إلى أن ثمة إلماحاً إلى مقام العزة والعظمة، من خلال التعبير بـ «إنّا» و «أعطينا»، بصيغة الجمع. فكان من المناسب أن يقول: «صَلِّ لله» أو «فَصَلِّ لنا»؛ فلماذا انتقل من الحديث عن الألوهية إلى الحديث عن الربوبية، وقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ..﴾؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول: أشرنا في السابق، إلى أن الإلماح إلى الألوهية قد جاء في سياق الحديث عن الربوبية المتسجدة بهذا العطاء الذي هو تجسيد للحكمة والرحمة، والنعمة والتدبير وما إلى ذلك.. فاحتاج ذلك إلى تجسيد الشكر بأجلى مظاهره وأتمها في الفعل العبادي لمستحق العبادة من حيث أن الصلاة

/صفحة 69/
تمثل شكراً لله في مظاهره الثلاث المتقدم ذكرها على هذا العطاء.
وحيث إن التأكيد على ناحية الألوهية قد جاء بطريقة إعطاء نعمة جلَّى، لا يعطيها إلا الله سبحانه، بما له من صفات.
وبما أن العطاء الذي قصد به إغناء المعطى قد نشأ من موقع ربوبيته تعالى له، وبما هو يرعاه رعاية فعلية.
فإن ذلك يُبطل ما يتخيله الذين يعبدون غير الله من الأصنام أو غيرها، حيث يرون أنها هي التي ترعاهم رعاية مباشرة، وتقضي لهم حاجاتهم، وتشفي مرضاهم، وتحل مشكلاتهم، وتقضي ديونهم، وتواكب حركتهم العملية، وتقربهم إلى الله زلفى، كما جاء في القرآن الكريم.
فالله سبحانه يرد هنا إلى من يعتقد هذا الاعتقاد، ويوجههم إلى الربوبية الحقيقية التي ترعى الإنسان، وتدبر أموره، وتحل مشاكله.

/صفحة 70/
والخلاصة:
إن هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه، سواء فسرناه بالخير الكثير، أو بمصدر الكثرات، أو بغير ذلك مما يعد نعمة يصلح الامتنان بها؛ فإنه مظهر ربوبي وينفي بصورة واقعية وملموسة أن يكون سواه ـ مما زعموا ـ أرباباً صالحة للتأثير في الحياة، وفي حل المشكلات.
النعم تصل الإنسان بالله:

ومن الواضح: أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقرب هذا الإنسان إليه، ويصله به، ليتعامل معه من مواقع القرب هذه تعاملاً حضورياً أما هذه النعم التي يتكرم ويتفضل الله بها عليه، وهذه الرعاية له، فهي صلة الوصل الأولى التي تقربه إلى الله، وتجعله يشعر بوجوده، وحضوره وبرعايته، وبحاجته إليه سبحانه. وعليه أن يصلح علاقته به، ومعه.
ومن الناحية الفكرية والتصورية، فإن هذا الإنسان مهما حاول أن يتصور مقام الألوهية، فسيبقى عاجزاً عن ذلك، وستكون محاولاته غير واقعية، وغير مجدية،

/صفحة 71/
فإن كل ما سيصوره في وهمه، فهو مخلوق له، مردود عليه، والله غيره. وسيكون تأثيره في تحريكه، وإثارة كوامنه الإيمانية محدوداً، يحتاج لإعطائه المزيد من القوة، والإندفاع إلى التماس أنحاء أخرى من المعرفة، تشارك فيها الأحاسيس والمشاعر، وهي تلك التي تتكون من خلال مظاهر ربوبيته سبحانه، ورعايته، وألطافه القريبة التي يتلمس آثارها في مختلف جهات حياته ووجوده، فتكون معرفة الربوبية هي الوسيلة التي يستطيع من خلالها أن يدرك عظمة الألوهية ولو إدراكاً ناقصاً بحسب استعداداته وقابلياته.
وهذه المعرفة ـ معرفة الألوهية عن طريق الربوبية ـ هي الأعظم والأقوى في تحريك كوامن وجوده، والأشد تأثيراً باتجاه الانسجام والتناغم مع حركة أهدافه في الحياة الدنيا والآخرة على حد سواء.
وكمثال على ذلك نقول: إننا إذا نظرنا إلى أمر الموت والآخرة فإنهما إذا تيقن هذا الإنسان بوجودهما، استناداً إلى دليل العقل أو النقل عن الصادق المصدق، فإن يقيناً

/صفحة 72/
كهذا، لا يعدو أن يكون مجرد صورة تبقى في نفسه، لا يكون لها ذلك التأثير القوي في حياته، موقفاً وممارسة، واندفاعاً نحو العمل من أجل الحصول على الأمن في الدار الآخرة، أو على الخير الموعود به.
أما لو تلمس الموت أو الحياة الآخرة في الأشياء التي يراها، ويتعامل معها، ويباشرها بأحاسيسه. فإن تأثيره سيكون أقوى وأعمق، والتزامه أشد.
وهذا كما لو رأى من يموت، أو ذهب إلى المقابر ليرى ما انتهى إليه أمر الذين من قبله، وحيث يتذكر أصدقاءه الذين فقدهم، وكذلك الحال لو وقع في أخطار تهدد حياته، أو أمراض تخيفه من الموت والآخرة، فإن ذلك يدفعه إلى إعادة حساباته، لتكون منسجمة مع هذا الواقع الذي عاشه، وتلمسه وأحس به.
إننا حين نصدق أن هناك موتاً وبعده حساب، وعقاب، فإننا نرتدع عن أمور كثيرة في حياتنا، وفي ممارساتنا. ونكون مصداقاً لقول الإمام الصادق (عليه السلام)

/صفحة 73/
لإسحاق بن عمار: «يا اسحاق خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك»(1).
وبذلك يتضح السبب فيما ورد من التاكيد على حضور جنائز المؤمنين، وزيارة قبورهم، وزيارة المرضى حيث إن ذلك يجعلنا نشعر بضعفنا. وبأن هناك أخطاراً تواجهنا، لابد أن نحسب لها حساباتها، وأن ننظر إلى ما هو أبعد من حياتنا الحاضرة هذه.
وبعدما تقدم، فإننا نفهم بعمق معنى قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾(2). مادام أن الغفلة تستتبع الشعور بالإستغناء عن النصير والمعين، والأمن من الخطر، فكيف إذا كان لا يعتقد بالآخرة من الأساس، فإن الأمر حينئذٍ أشد خطراً وأعظم ضرراًَ.
وخلاصة الأمر: إننا بحاجة دائماً إلى الحديث عن
ـــــــــــــــ
(1) الكافي، ج2، ص68، والبحار ج67، ص355، عنه راجع ص386و390 وج5، ص324 عن ثواب الأعمال ص13 وعن فقه الرضا(عليه السلام).
(2) سورة الأنبياء، آية رقم1.

/صفحة 74/
الزواجر الرادعة عن التواجد في واقع غضب الله الذي هو شديد العقاب. وعن الحوافز التي تجعلنا نعيش الرغبة والاندفاع إلى مواقع الرضا للرب المنعم، والرازق، والشافي، والقادر على حل مشكلاتنا، ورفع نقائصنا، وفي تقوية ضعفنا، فإن ذلك يسهل علينا الانقياد والطاعة لله، والالتزام بأوامره، وزواجره. وتكون صلاتنا له حينئذٍ أكثر إخلاصاً وأشد صفاءً؛ لأن تعلقنا به سبحانه يكون أعظم. وبذلك نستحضر المعاني الصلاتية في قلوبنا، فتخرج صلاتنا عن أن تكون مجرد إسقاط واجب، ولقلقة لسان، وركون، وسجود، وقيام..
عطاء الإعزاز والتكريم:

ثم إن هذا العطاء من الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) يستحيل أن يكون لأجل الإملاء له، لأنه النبي الكريم، وموضع كرامة الله، ولأن سياق الآيات نفسه، يشهد بذلك، لأنه تعالى في مقام الامتنان على نبيه (صلى الله عليه وآله) بعطاء يستحق الشكر عليه، وقد جاء على سبيل المحبة، والرعاية، ومن موقع الربوبية. وذلك لعدة جهات:

/صفحة 75/
ـ جهة الإعزاز.
ـ جهة التكريم.
ـ جهة التربية، والتنامي، والتكامل، وإعطاء ما يدخل في نطاق نصرته، وتوفير عناصر القوة في حركته، وامتداده في الحياة، وفي المجتمع الإنساني، وذلك: بإعطائه مصدر الكثرات؛ بحيث يصير عبر حصوله على هذا الكوثر منشأ كل خير، في الدنيا وفي الآخرة..
لربك! لماذا؟:
ثم إنه تعالى قد صرح بأن الصلاة لابد أن تكون: ﴿.. لِرَبِّكَ..﴾ وقد كان يمكن أن يقول: ﴿فَصَلِّ.. وَانْحَرْ﴾.
ولعل هذا التنصيص قد جاء ليؤكد على لزوم الإخلاص في الصلاة، وخُلوصها عن أي نوع من أنواع الشرك، مهما كان خفياً؛ فإن الشرك أخفى من دبيب النمل، وإن الرياء عبادة لغير الله سبحانه.
أما العُجُب فهو عبادة للذات حين يرى الإنسان نفسه فوق مستواها الحقيقي.

شكرا لكم