المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محمد باقر الصدر..السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق-تأليف احمد عبدالله ابو زيد العاملي


alyatem
31-03-2013, 10:35 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

محمد باقر الصدر
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9947&stc=1&d=1313664954

تأليف

احمد عبدالله ابو زيد العاملي

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9948&stc=1&d=1313664954

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9949&stc=1&d=1313664954

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9950&stc=1&d=1313664954

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9951&stc=1&d=1313664954


موضوع مرتبط قبل استعراض الكتاب
حوار مع مؤلف كتاب محمد باقر الصدر..السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق

http://www.imshiaa.com/vb/showthread.php?t=174076



الكتاب تجده هنا
دائرة معارف الشهيد السيد محمد باقر الصدر : كتب وتسجيلات صوتية وصور
http://www.imshiaa.com/vb/showthread.php?t=172799

alyatem
31-03-2013, 10:36 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 9


http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9952&stc=1&d=1313670468

***
«بسم الله الرحمن الرحيم‏

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد سرّني بصورة خاصّة بحثكم القيّم عن تاريخ العراق الجهادي وموقف العلماء فيه، فلعمري إنّ من الضروري لنا اليوم إبراز هذه الجوانب التاريخيّة من حياتنا، التي تبرهن على المواقف الجبّارة التي لعبها الإسلام ضدّ الاستعمار والمستعمرين، متمثّلًا في علمائه وقادته الفكريّين ..»
«إنّ هذا الشريط بكلّ سرّائه وضرّائه، بكلّ يسره وعسره، بكلّ آماله وآلامه، قصّة فريدة فيها كلّ ما يشرّف الإنسان من معانٍ وقِيَم ومُثُل.
لا أدري كيف جرفني الماضي وأنا أريد أن أكتب عن الحاضر والمستقبل، بل أدري؛ لأنّ الماضي حاضرٌ دائماً وليس منفصلًا عن المستقبل بحال من الأحوال».

«مخلصكم محمّد باقر الصدر» «1»

***
__________________________________________________
(1) المقطع الأوّل والسطر الأخير من رسالة للسيّد الصدر (رحمه الله) إلى السيّد هادي خسروشاهي، والمقطعان الثاني والثالث من رسالةٍ له إلى السيّد عبد الغني الأردبيلي (رحمه الله).

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 10


http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9953&stc=1&d=1313670786
____________
(1) المقطع الأوّل من مخطوطة كرّاس (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) ، والثاني من رسالة له رحمه الله إلى طلاّبه سنة 1399 هـ [1978].


السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 11


«أي بنيّ! ... إنّما قلبُ الحَدَث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شي‏ءٍ قبلَته، فبادرتُك بالأدب قبل أن يقسوَ قلبُك ويشتغلَ لبُّك، لتستقبلَ بجدِّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهلُ التّجارب بغيتَه وتجربتَه، فتكون قد كفيتَ مؤونةَ الطّلب، وعوفيتَ من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه.
أي بنيّ! إنّي وإن لم أكن عُمّرتُ عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكّرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفتُ صفوَ ذلك من كدره، ونفعَه من ضرَرِه، فاستخلصتُ لك من كلّ أمرٍ جليلَه، وتوخّيتُ لك جميله، وصرفتُ عنك مجهولَه» «1».

الإمام علي عليه السلام
***

«إنّي لمّا تصفّحت أخبار الأمم وسِيَرَ الملوك وقرأت أخبار البلدان وكتب التواريخ، وجدتُ فيها ما تستفاد منه تجربةٌ في أمور لا تزال يتكرّر مثلها ويُنتظر حدوث شبهها وشكلها ... ورأيتُ هذا الضرب من الأحداث إذا عرف له مثالٌ ممّا تقدّم وتجربةٌ لمن سلف، فاتّخذ إماماً يقتدى به، حذر ممّا ابتلى به قومٌ، وتمسّك بما سعد به قومٌ؛ فإنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة، وصار جميع ما يحفظه الإنسان من هذا الضرب كأنّه تجارب له، وقد دفع إليها واحتنك بها، وكأنّه قد عاش ذلك الزمان كلّه، وباشر تلك الأحوال بنفسه، واستقبل أموره استقبال الخَبِر، وعرفها قبل وقوعها، فجعلها نصب عينه وقبالة لَحظِه، فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها. وشتّان بين من كان بهذه الصورة وبين من كان غِرّاً غُمْراً لا يتبيّن الأمر إلّا بعد وقوعه، ولا يلاحظه إلّا بعين الغريب منه، يحيّره كلُّ خطبٍ يستقبله، ويدهشه كلّ أمر يتجدّد له» «2».

أبو علي مسكويه الرازي (ت: 421 هـ)

***


__________________________________________________
(1) تحف العقول: 70؛ بحار الأنوار 218: 77- 219
(2) تجارب الأمم 1: 1- 2.


السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 12

«عليكم أن تحملوا أنفسكم وتعوّدوها على وضع الحبّ والبغض جانباً لدى كتابة التاريخ. وعليكم أن تكتبوا الحقائق، وإن لزم من ذلك تضرّركم أو تضرّر من تربطكم بهم علاقة.
أنا أيضاً من الممكن أن أقع في الخطأ، ولا ينبغي أن تمرّوا من جانب أخطائي أو ما تعتقدونه كذلك من دون أن تحرّكوا ساكناً، ولا ينبغي أن تحاولوا إخفاء ذلك، فهذا لا ينسجم مع المهمّة التي أخذتموها على عاتقكم، والمؤرّخ الذي يمتشق قلمه لله لا يلغو ولا يكتم الحقائق.
إذا أردتم أن يكون التاريخ الذي تكتبونه مفيداً للإسلام والمسلمين، فعليكم أن تكتبوه بعيداً عن أيّة أغراض، حاولوا أن تكونوا مؤرّخين بهذا النحو. وعليكم أن تبيّنوا المسائل والحوادث كما وقعت، ولا يكونّن في ما تكتبونه مبالغة أو سترٌ للأمور ..» «1».

الإمام الخميني (ره)

***

«إنّ عدم الاعتراف بالنقص يعني عدم إمكانيّة معالجته، إنّ هذه المهمّة مناطة بكم، لا سيما الفضلاء الشباب: اطرحوا هذا الموضوع وكرّروا طرحه، اكتبوا واستدلّوا عليه، ناقشوا الذين يعارضون هذا المنحى، جادلوهم بالحق، وأثبتوا لهم أنّ هذا المريض مريضٌ حقّاً، وأنّ هذا الجسم الحي يعاني الألم، وما لم يفهموا ألمه، سيبقى مريضاً دائماً» «2».

الإمام الخامنئي‏

***


__________________________________________________
(1) نهضت امام خمينى (فارسي)، ط 15، 1 : 11ـ 12.
(2) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 166.

alyatem
31-03-2013, 10:38 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 13 ـ 14

* لا بدّ لكلّ عمليّة إصلاح أن تتبنّى مفاهيم عامّة وتصوّرات عامّة- تتحدّد بالتدريج- عن وضع الحوزة في الأمّة، وماذا يُراد من الحوزة للأمّة، وما هو الدور الذي يجب أن تؤدّيه للأمّة. يجب أن نبدأ من مفهوم يشخّص رسالة الحوزة في الأمّة، ثمّ على ضوء هذا المفهوم نضع نظامها الإداري وسياستها الماليّة، ونضع مناهجها الدراسيّة. على أساس هذا المفهوم نبني هذه الحوزة، لا أنّه نبني الحوزة وبعد هذا نفكّر في جانبها الوظيفي.
* قد يكون الإنسان عادلًا بالنسبة إلى سلوكه الذاتي الشخصي، ولكنّه لا يكون عادلًا بالنسبة إلى سلوكه الوظيفي بتلك الدرجة، ولذلك يحتاج إلى درجة من التوعية وتنمية هذا الجانب الوظيفي، ولذلك لو لم يوعِّ ويثقِّف ويمرِّن هذا الوجود الوظيفي، فسوف يحصل اختلال في مستوى التديّن.
* هل تصدّقون أنّه في النجف الأشرف نفسه، في مركز الحوزة العلميّة في النجف، الذي من المفروض أن يموّن بإشعاعه الفكري والعلمي والروحي والديني كلّ العالم، أو على الأقلّ كلّ العالم الإسلامي، أو على الأقلّ كلّ العالم الشيعي، يوجد آلافٌ من الناس لا يعرفون أحكام رسالتهم، غير منفتحين على رسالة مكّة ولا على مبادئ مكّة، منجرفون مع تيّارات أخرى أو جاهلون أو مقصّرون .. من الذي يسأل عن هؤلاء أمام الله؟ نحن نسأل أمام الله عن منحرف انحرف عن دينه، وعن منحرف انحرف في آخر نقاط العالم الإسلامي في وجود إمكانيّات، فكيف لا نسأل عن منحرف انحرف في أوطاننا، في أهلنا، في بلدنا؟! كيف ندّعي أنّنا من الدعاة إلى الله ويوجد في بلدنا من لا يعرف من الإسلام شيئاً ونحن لا نفكّر فيه؟
* لماذا تعيش الحوزة في هذا البلد مئات السنين، ثمَّ بعد هذا يظهر إفلاسها في نفس هذا البلد الذي تعيش فيه؟! .. وإذا بأبناء هذا البلد أو ببعض أبناء هذا البلد، يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين والحاسدين والمتربّصين بهذه الحوزة .. ألا تفكّرون في أنَّ هذه جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم؟ في أنّ هذه هي مسؤوليّتنا قبل أن تكون مسؤوليّتهم؟ لأنّنا لم نتعامل معهم، نحن تعاملنا مع أجدادهم ولم نتعامل معهم!
هذه الأجيال التي تحقد علينا، التي تتربّص بنا اليوم، تشعر بأنّنا نتعامل مع الموتى، لا نتعامل مع الأحياء، ولهذا يحقدون علينا، ولهذا يتربّصون بنا؛ لأنّنا لم نقدّم لهم شيئاً، لأنّنا لم نتفاعل معهم.
* اليوم أمام كلّ واحد منّا صار واضحاً أنّ أيّ انحراف عن خطّ الإسلام في سلوكنا، في وضعنا، في أخلاقنا، في عواطفنا، هذا الانحراف، هذا التكاسل، هذه النزعة التحطيميّة التحريميّة لأيّ نوع من العمل الصالح في الحوزة، هذا الذي يؤدّي بنا إلى ما أدّى، وسوف يؤدّي إلى الدمار حتماً إذا لم يتغيّر الوضع الداخلي في الحوزة. لا يكفي أن يتغيّر الوضع الخارجي، يحتاج الوضع الداخلي إلى التغيير، تحتاج ضمائرنا إلى تطهير، تحتاج نفوسنا إلى تطهير، نحتاج أن نشعر بمسؤوليّتنا اليوم ..
* إنّ الإسلام الذي قام بإعالتك، قام بالإنفاق عليك أو عليّ، قام بإعالتنا والإنفاق علينا .. هذا الإسلام نحن مدينون له بوجودنا، مدينون له بأموالنا، مدينون له بكرامتنا، بعزّتنا، بكلّ ما نملك من اعتبار، هذا الإسلام إذا كلّفنا أن نقيم على الضيم أسبوعاً، أو أسبوعين، شهراً أو شهرين، أن نتحمّل الأذى في سبيل الله، أن نصمد، أن نصبر في سبيل أن لا يتفتّت، في سبيل أن يواصل وجوده حتّى تنكشف هذه الأزمة عن الإسلام والمسلمين .. إذا كلّفنا ذلك فليس هذا التكليف بالنسبة إلينا تكليفاً غير طبيعي؛ لأنّه هو المحسن الذي كان دائماً يقدّم ونحن نأخذ، الذي كان دائماً يتفضّل ونحن نستفيد، الذي كان دائماً يسدّد ونحن نتمتّع بكلِّ ما يقدّم لنا من خيرات ومكاسب وجاه عريض .. ما هو جاهنا؟! ما هو اعتبارنا لولا الإسلام؟! (1)
* إذن لا بدّ من حسين جديد لهذه الحركة ولا بدّ من زينب، ولا بدّ من رجال كأصحاب الحسين (ع)، وهذا أمر مستحيل، فلا يمكن لأيّ إنسان أن يمتلك كلّ هذه المواصفات التي يمتلكها الحسين (ع)، ولا مقوّمات ثورته بالكامل. وإذا كان الأمر مستحيلًا، فلا بدّ من قطارٍ من الدماء ورتلٍ ضخمٍ من التضحيات تشكّل بمجموعها جزءاً من مقوّمات مأساة الطف، لتحرّك ضمير هذه الأمّة الميتة وتوقظ مشاعرها وأحاسيسها، وعلى المسلمين أن يكونوا دائماً على أهبّة الاستعداد لتلبية نداء الإسلام متى استصرخهم لنصرته، لعلّ في قطار الدم عودةً إلى الواقع الرسالي الكريم (2)
* [و] أنتم معي على الرغم من الزّمان، وعلى الرغم من المكان، ولتكن هذه المعيّة في اللّه، ومن أجل اللّه، تعبيراً حيّاً عن لقائنا باستمرار، إلى أن يجتمع الشمل وتعود الأغصان إلى الشجرة الأمّ.
والسّلام عليكم من قلب لا يملّ الحديث معكم ورحمة اللّه وبركاته (3)

__________________________________________________
(1) مقاطع من محاضرات للسيّد الصدر (رحمه الله) خلال السنوات 1385، 1387 و 1389 هـ، تراجع في محلّها من الكتاب‏
(2) المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد محمّد باقر الصدر 13: 95، محاضرة حول ثورة الإمام الحسين‏
(3) من رسالة صوتيّة مسجّلة للسيّد الصدر (رحمه الله)، تجد نصّها كاملًا ضمن أحداث سنة 1394 هـ.


السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 15


- 1-

«العلاقات في داخل كلّ أمّة قد تكون غير قائمة على أساسٍ حق، قد يكون الإنسان المستضعف فيها جديراً بأن يكون في أعلى الأمّة ..
هذه الأمّة، تعاد فيها العلاقات إلى نصابها الحق. هذا هو الشي‏ء الذي سمّاه القرآن الكريم بيوم التغابن. يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة، ثمّ كلّ إنسان كان مغبوناً في موقعه في الأمّة، في وجوده في الأمّة، بقدر ما كان مغبوناً في موقعه في الأمّة يأخذ حقّه، يأخذ حقّه، يوم لا كلمة إلّا للحق».

محمّد باقر الصدر
2 / 5 / 1979 م‏

- 2-

«... السيّد محمّد باقر الصدر الذي كان عقلًا إسلاميّاً مفكّراً، وكان مرجوّاً أن ينتفع منه الإسلام بشكل أوسع، وأنا أرجو أن يُقبِلَ المسلمون على مطالعة كتب هذا الرجل العظيم، حشره الله تعالى مع أجداده العظام، وحشر أخته المظلومة مع جدّتها» «1».

روح الله الموسوي الخميني‏

- 3-

السيّد الصدر مظلومٌ لأنّه ولد في الشرق، ولو كان مولوداً في الغرب لعلمتم ماذا يقول الغرب فيه ... هذا الرجل فلتة، هذا الرجل عجيبٌ في ما يتوصّل إليه وفي ما يطرحه من نظريّات وأفكار «2».

أبو القاسم الموسوي الخوئي‏

- 4-

على الزعيم السياسي أن يرى لليوم وللغد ولما بعد الغد، وهذا متوفّرٌ في السيّد محمّد باقر الصدر، وحسبه أنّه استطاع أن يضع حلولًا لأمور بقيت عالقة مائةً وخمسين عاماً تهيّب الفقهاء من الدنوّ منها «3».

موسى الصدر

- 5-

هذا الرجل أخرج النجف من الكتب الصفراء إلى الكتب البيضاء، هذا الرجل عرّف العالم على النجف الأشرف بعد أن كانت مطمورة .. «4»

محمّد جواد مغنيّة


__________________________________________________
(1) صحيفه نور (فارسي) 14 : 280 .
(2) قولان للسيّد الخوئي (رحمه الله) (انظر أحداث سنة 1369 هـ) [في الكتاب].
(3) الإمام السيّد موسى الصدر .. محطّات تاريخيّة [السيد حسين شرف الدين ، دار الارقم ، بيروت، 1996] : 49
(4) انظر أحداث سنة 1395 هـ.


السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 16


- 6-

«يحقّ لكلّ مجمع علمي أن يرفع رأسه فخوراً بما قدّمه إنسانٌ كبيرٌ كهذا العالم الجليل. كان دونما ترديد نابغةً وكوكباً ساطعاً؛ فهو من الناحية العلميّة جمع في رجل واحد الشمول والعمق والإبداع والشجاعة العلميّة، ويعدُّ مؤسّساً وصاحب مدرسة في علم أصول الفقه، وفي الفقه والفلسفة، وما يرتبط بهذه العلوم.
ما كان يمتلكه من كفاءة غير عاديّة، ودأب قلّ له نظير، جعل منه عالماً متعمّقاً في ألوان الفنون، ولم ينحصر ذهنه البحّاث ورؤيته الثاقبة في آفاق علوم الحوزة المتداولة، بل أحاط بالبحث والتحقيق كلّ موضوع يليق بمرجع ديني كبير في عالمنا المتنوّع المعاش، خالقاً من ذلك الموضوع خطاباً جديداً، وفكراً بكراً، وأثراً خالداً.
درّة علم وبحث، وكنزٌ إنسانيٌّ لا نفاذ له، لو بقي ولم تتطاول إليه اليد المجرمة لتخطفه من الحوزة العلميّة، لشهد المجتمع الشيعي خاصّة، والإسلامي عامّة، في المستقبل القريب، تحليقاً آخر في سماء المرجعيّة والزعامة العلميّة والدينيّة.
الشهيد آية الله الصدر هو دونما شكّ أسوة وقدوة للطلّاب والفضلاء الشباب؛ دروسه في بناء الإنسان لم تنته بشهادته المفجعة، ومنهجه في البحث ماثل أمام الفضلاء الشباب في الحوزة العلميّة، وإشارة إصبعه توجّههم إلى طريق العظمة والمجد العلمي، مقروناً بالتفتّح والرؤية العلميّة.
الحوزات العلميّة اليوم بحاجة أيضاً إلى الشهيد الصدر، وإلى كلّ عنصر فيه من الهمّة والطاقة، ما يساعدهم على متابعة طريقه العلمي، ورؤيته الإسلاميّة، ونظرته العالميّة.
صلاةً وتحيّةً من الأعماق أبعثها إلى تلك الروح الطاهرة، وإلى أخته الشهيدة المظلومة بنت الهدى، سائلًا الله سبحانه وتعالى الرحمة وعلوّ المنزلة لهما، وتوفيق نموّ الفضلاء الشباب في الحوزات وتربيتهم على هذا النحو.

السيّد علي الخامنئي‏
21 شوّال 1421 هـ» «1».

- 7-

«كان أحد أصدقائنا يقول: ... عندما كنتُ صغيراً .. كنتُ أرى الأطفال يتجمّعون حول القطار عندما يتوقّف، وكانوا ينظرون إليه ولسانُ حالهم يقول: ما هذا المخلوق العجيب؟! وكان واضحاً أنّه يحتلُّ في قلوبهم مكانةً ومنزلة، وما دام متوقّفاً فقد كانوا ينظرون إليه بعين التعظيم والتكريم والاحترام والإعجاب. ولكن عندما تحين ساعة الانطلاق، يأخذون بالهرولة إلى جانبه ليرشقوه بالحجارة. وكنتُ أعجب لهذا الأمر وأتساءل: إذا كان لا بدّ من رميه بالحجارة، فلماذا لا يُرمى وهو ساكن؟! وإذا كان جديراً بالاحترام، فلماذا لا يكون له ذلك وهو يتحرّك؟!
لقد بقي هذا الأمر بمثابة اللغز بالنسبة لي، إلى أن كبرت ودخلت المجتمع، حيث وجدت أنّ حياتنا [ ] تخضع لهذا القانون المطّرد؛ فإنّ أيّ شخص وأيّ شي‏ء، طالما هو ساكن فهو محترم، طالما هو صامت فهو معظّم ومبجّل، ولكن بمجرّد أن يتحرّك يصبح بلا مُعين، بل يصبح مرمىً للحجارة ..» «2».

مرتضى المطهّري.

***
__________________________________________________
(1) من نداء الإمام الخامنئي إلى (المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره))
(2) احياى تفكّر اسلامى (فارسي) : 22- 23، وما بين [ ] : «نحن الإيرانيّين».

alyatem
31-03-2013, 10:51 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 17 - 18


كلمة شكر


لأشكرنّك إنّ الشكر من أممٍ حقٌّ على حامل المعروف مفروضُ «1»
البحتري‏

أيّ شكرٍ به أقوم لقومٍ حمّلوني من الجميل جبالا «2»
ناصيف اليازجي‏
__________________________________________________
(1) ديوان البحتري‏
(2) ديوان ناصيف اليازجي.



السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ج‏1، ص: 19

إنّ أخلاقيّة البحث العلمي تستدعي الإشارة إلى أنّ الكتاب لم يكن ليصدر بصيغته الحاليّة لولا مساعدة العديد من الأشخاص وتواتر خدماتهم. وقبل سرد أسمائهم، أرغبُ في التوجّه بالشكر الخاص إلى من كان له ارتباطٌ خاصٌّ بهذا المشروع، وأتقدّم بالشكر أوّلًا إلى:


http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9954&stc=1&d=1313673605

ممثَّلًا بمديره العام السيّد نور الدين الإشكوري الذي بسط لي يد جوده، وأطلق عنان عونه، ومنحني وافر ثقته، واضعاً تحت تصرّفي الكامل أرشيفاً معلوماتيّاً ضخماً.
* وأشكر إلى جانبه السيّد حامد علي الحسيني الذي بذل على مدى سنين متمادية جهوداً جبّارة في سبيل جمع هذا الأرشيف، فيسّر لي بذلك الاطّلاع على ما أفادني في الكتاب أيّما إفادة.
* كما أتوجّه بالشكر الخاص إلى أسرة الشهيد الصدر على حسن استقبالها وعظيم لطفها، وبذلها ما أمكن من مساعدةٍ وإرشاد: زوجته السيّدة أم جعفر الصدر، ونجله السيّد محمّد جعفر، وكريمتيه أم أحمد وأم علي، وقد تفضّلت السيّدات بقسطٍ من وقتهنّ صرفنه في مطالعة الكتاب في مسودّته قبل الأخيرة، متفضّلات بالإضافة والتصحيح بالقدر الذي سمح به الوقت.
* ولا يفوتني استنزال الرحمة على روح السيّد عبد الغني الأردبيلي (ره)، الذي أثمرت مثابرته وجهوده مجموعة نفيسة من الوثائق والمعلومات والمحاضرات والتقريرات، والتي كان لها دور بارز في إثراء مواد الكتاب.
* وإلى جانب من ذكرت، أتقدّم بالشكر الخاص إلى كلّ من كانت له علاقة خاصّة بهذا المشروع بالذات، دون الأعمال الأخرى المرتبطة بالسيّد الصدر، وأذكر منهم «1»:
الدكتور جودت القزويني.
السيّد حسين شرف الدين.
الشيخ عبد الحليم الزهيري.
السيّد علي أكبر الحائري.
الشيخ محمّد رضا النعماني.
السيّد محمّد الغروي.
السيّد محمود الخطيب.
وذلك على تفاعلهم الخاص مع المشروع وبذلهم ما أمكنهم في سبيل تطويره وإنجاحه.
* ثمّ أتوجّه بالشكر إلى كلّ من أفادني ممّن عاصر الشهيد الصدر (ره) وعايشه، وجاد عليّ بما لديه أو بشي‏ءٍ منه، إضافةً إلى كلّ من أفادني في هذا العمل بنحو أو بآخر، بإعارة كتابٍ أو نقل معلومةٍ أو الإجابة عن استفسار أو تقديم خدمة، أو غير ذلك ممّا ساعد في اكتمال هذا العمل ..

__________________________________________________
(1) سأعمد إلى سرد أسماء الأشخاص بحسب التسلسل الأبجدي.


http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9955&stc=1&d=1313673605

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9956&stc=1&d=1313673605

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9957&stc=1&d=1313673605

http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9958&stc=1&d=1313673605

alyatem
31-03-2013, 10:51 AM
اللهم صل على محمد وآل محمد

قمت بتقسيم الكتاب الى عدة اقسام يسهل تحميلها

وها هو القسم الاول
من الجزء الاول / القسم الاول

http://www.hajr-up.info/download.php?id=8699


الصفحات من 1 ـ 24
ويحتوى على المواضيع التالية

الاهداء
ايها القاري الكريم
كلمة شكر

مع وجود الملف بصيغة وورد (هنا (http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=9959&d=1313677056))

نسألكم الدعاء

alyatem
31-03-2013, 10:52 AM
اللهم صل على محمد وآل محمد

المصادر والمراجع

هناك مصادر الكتاب يجب وضعها قبل التسلسل في عرض نص الكتاب
لأن المؤلف يرجع إليها كثيرا في الهامش
دون ذكر اسم المؤلف أحيانا أو ذكر الطبعة والمطبعة وتاريخ الطباعة
ولذلك يتوجب الرجوع إليها للتوثيق
وقد ذكرها في الجزء الرابع من الكتاب

http://www.hajr-up.info/download.php?id=8799

وكذلك هناك ملحقات تصب في نفس الغاية

الملحقات

آثار السيد الشهيد الصدر قدس سره
ابرز طبعات كتبه
موسوعة تراث الشهيد الصدر
ما كتب عن السيد الصدر
تواريخ دروسه الاصولية
تلامذة السيد الصدر قدس سره

http://www.hajr-up.info/download.php?id=8800

ملحق الصور

وهناك ملحق الصور
منها صور ملونة للسيد الشهيد
وصور اخرى للعلماء رحمهم الله تعالى
جاءت في الجزء الخامس من الكتاب


http://www.hajr-up.info/download.php?id=8801

وفقكم الله تعالى ونسألكم الدعاء
وبانتظار الباقي ان شاء الله تعالى

alyatem
31-03-2013, 10:53 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 25


مقدمة المؤلف‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 26


«إنّي رأيت أن لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه إلّا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أجمل، ولو ترك هذا لكان أفضل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص في جملة البشر».

العماد الإصفهاني‏
«لو كنت لأنتظر الكمال لما فرغت من كتابي إلى الأبد».

تاي تنج «1»

________________
(1) قصّة الحضارة 1: ك.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 27

لا زلتُ أذكر جيّداً إحدى سهراتنا مطلع التسعينات في ليلة من ليالي صيف عاملة، حيث البحر يلوح نهاراً لمن أمعن النظر في الأفق، ومن خلفنا وعلى مقربة منّا الجبل الرفيع، الذي سقت تربتَه دماءُ الشهداء الذين قضوا فيه ذوداً عن حمى الدين.
كان المتسامرون يتجاذبون أطراف الحديث حول بعض الفتاوى الفقهيّة، والتي كانت بنظر بعضهم مطّاطيّة يحار فيها المكلّف. وكان كلُّ شي‏ءٍ طبيعيّاً قبل أن يختم والدي الحديث معزّزاً يأس المتسامرين بقوله: «لو كان السيّد محمّد باقر الصدر حيّاً لعالج المسألة بطريقة مختلفة».
ربّما لم أكن يومها أعرف شيئاً عن السيّد محمّد باقر الصدر سوى أنّ له في مكتبة والدي كتاباً فلسفيّاً كان قد أثار فضولي ضميرُ الجمع المتّصل (نا) المثبت في عنوانه، وقد حفّته في مخيّلتي أحاديث المهابة والتقدير التي كنتُ أسمعها من والدي حول وزن الكتاب العلمي، فكنتُ أكتفي بنقله من مكانٍ إلى آخر داخل المكتبة التي كنتُ ملتزماً بترتيبها كلّما سنحت لي الفرصة.
لقد تساءلتُ في تلك الليلة عن السبب الذي قد يجعل هذا السيّد يعالج المسألة بطريقة مختلفة، وما هو السبب الذي يجعله متميّزاً؟! ومع أنّي لم أحاول يومها التثبّت من إمكان المصادقة على هذه المقولة، ولم أحاول البحث عن جواب تساؤلي، إلّا أنّني أودعتُه صفحة من صفحات الذاكرة، علّي أجد له يوماً جواباً.
وبعد عدّة سنوات، تيسّر أمر سفري إلى الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران من أجل متابعة الدراسة، حيث رحت ألتقي بمحمّد باقر الصدر متألّقاً في منتديات العلم والمعرفة، فضلًا عن حضوره البارز نقطةَ حسمٍ وفاصلةَ نزاعٍ في أسطر الخطاب السياسي لمختلف شرائح المعارضة العراقيّة، حيث لعب بوضوح دور (ليلى) التي يسعى إلى وصلها الجميع. ولا ينبغي لي أن أُغفل عظيم الحفاوة التي يحظى بها عند طبقة الكسبة والمعوزين من العراقيّين المهاجرين، الذين لا يضنّون عليه بعبارات الترحّم والتحسّر، وقد أسكنته تلك المنزلةَ الرفيعة ترابيّتُه العجيبة التي عاش بها معهم ..
في هذه المنتديات عثرتُ على جواب تساؤلي القديم الذي سبقني إليه والدي بسنوات، فقد أدركتُ- وبوضوحٍ لا يساوره شكّ- أنّ الحديث عن الصدر حديثٌ عمّا هو (مختلف)، إلّا أنّ اختلافه هذا وخروجه عن كثيرٍ من مسلّمات بيئته لم يكن خروج المتهوّر، بل خروج الثمر اليانع عن جذع أمّه. وفي هذه المنتديات أيضاً، عرفت معنى (نا) التي رفعها الصدر شعاراً، بل وجدته هو بنفسه (نا) أخرى، إذ كان بحق- طيّب الله رمسه- ضميراً فاعلًا لرفع الجمع المتّصل ..
لقد شكّلت محطّتي الجديدة هذه سبباً دعاني إلى محاولة التعرّف على شخص محمّد باقر الصدر بشكل أعمق، ثمّ على مواقفه في ميادين المعرفة وحقول العمل السياسي والاجتماعي، وقد شدّني إليه محاضرةٌ بصوته سمعت كلماتها مرّات عديدة، وقد أكّدت لي إخلاص الرجل وتمحضّه .. إلّا أنّ هذه المحاولة جرّتني- من حيث لا أدري- إلى التأريخ للحوزة العلميّة في‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 28

النجف عموماً خلال نصف القرن- أو يقل- الذي عاشه محمّد باقر الصدر.
وبعد رحلة طويلة نسبيّاً مع الصدر- لا أجدني الآن مهيّئاً من الناحية النفسيّة للحديث عنها وعمّا اكتنف بعض محطّاتها- تأكّد لي أنّه شكّل مفصلًا ومنعطفاً رئيساً ومهمّاً في سير الفكر والمعرفة والتصوّرات السياسيّة والاجتماعيّة خلال نصف القرن الأخير في بيئتنا التي نعيش فيها، ورسم للحوزة العلميّة في النجف الأشرف خطّاً أوشك أن يكون في كثيرٍ من معالمه غريباً عليها. وهذه القفزة التي جاد بها الصدر امتازت- أفقيّاً وعموديّاً- عن قفزات كثيرة مشكورة اتّجهت في الخط نفسه، فاستحقّت شيئاً من الوقوف عندها للتأمّل والاستزادة، الأمر الذي جعل من المفيد- إن لم نقل من الضروري- للمتحرّكين والنامين مراجعة سيرته الذاتيّة والفكريّة، من أجل إكمالها أو تصحيح ثغراتها ..
ومن هنا، فقد حاولت- وبالقدر الذي سمحت به أوقات الفراغ والعطل المتقطّعة- أن أفي السيّد الصدر (ره) بعض حقّه على هذه الأمّة وعليّ شخصيّاً، فإنّي وإن لم ألتقِ به ولم أعاصره- إذ كنتُ يوم شهادته أحرق شهري الحادي والعشرين- إلّا أنّي أعتبره المعلّم والمربّي والأستاذ، وأنا في الواقع إنما أفي رسالته بعض حقّها. ومن هذا المنطلق سعيتُ إلى إنجاز بضعة خطوات تمثّلت في الأمور التالية:
1- توثيق سيرته ومسيرة الحركة الإسلاميّة في النجف بالنحو الموجود في الكتاب، والذي كنتُ أفكّر في تقديمه أطروحةً جامعيّة، إلّا أنّي وجدتُ أنّ الفائدة التي تُرجى منه أكبر من أن تعلّق على حاجة شخصيّة، فصرفتُ النظر عمّا جال في البال، لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً. وقد شكّل هذا الكتاب نواة الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة (المنار) بعنوان (شهيد العراق .. الصدر الأوّل)، وذلك بعد أن ضمّت إليه الجهود المشكورة التي بذلها الأخ أيمن زغيب في فترة زمنيّة قياسيّة، حيث أخرج الفيلم خلال أيّامٍ معدودات.
2- إكمال ما بدأه السيّد حامد علي الحسيني، الذي كان قد جمع مختلف المقالات التي نشرت سابقاً باسم السيّد الصدر (ره) وبغير اسمه، إضافةً إلى مجموعة من المحاضرات غير المنشورة التي كان قد دوّنها دون تصرّف السيّد عبد الغني الأردبيلي (ره) .. فأضفت إليها كثيراً ممّا تحصّل لديّ أثناء البحث، ثمّ قمتُ بتصحيح المجموع وتوثيق مصادره لـ (مركز الأبحاث والدراسات التخصصيّة للشهيد الصدر (قدس سره)) المنبثق عن (المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره)) الذي اختار لها عنوان (ومضات). ويفترض بهذا المجلّد أن يصدر قبل صدور هذا الكتاب.
3- التوسّط لنشر مجموعة من الدروس المتفرّقة التي كان السيّد الصدر (ره) قد ألقاها في سالف السنين، وذلك في مجلّات مختلفة، وكانت هذه الدروس قد بقيت- لأسباب عديدة- حبيسة الرفوف، وتبدأ بالظهور تباعاً بإذن الله تعالى.
4- جمع عدّة مئات من الدراسات العلميّة التي كتبت حول السيّد الصدر (ره) لنشرها في عشرة

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 29

مجلّدات. وكنتُ- قبل هذا الكتاب- قد انتهزت إحدى العطل الدراسيّة لإعداد وتحقيق مجلّدين ضمّا مجموعة من الدراسات المنطقيّة والفلسفيّة التي كتبت حول الفكر المنطقي والفلسفي للسيّد الصدر (ره)، وقد حالت بعض الظروف دون طباعتهما. وبقي الأمل في أن أوفّر بعض الوقت لإنجاز مجلّدين آخرين كنتُ قد أعددت خطّتهما ليضمّا خيرة الدراسات في حقل أصول الفقه.
وبهذه الأمور أكون قد شارفتُ على طي مرحلة من مراحل حياتي أفدتُ منها الكثير، على الرغم ممّا جرّته عليّ من إرهاق نفسي وجسدي ومادي، وما تخلّلته من لحظات الضعف الكامل والانهيار، حتّى عقدت العزم لمرّات عديدة على اعتزال العمل وإتلافه من رأس، بسبب النكسات التي كنتُ أمنى بها، ولكنّ السيّد الصدر (ره) كثيراً ما كان يتراءى لي ببسمته المعذّبة، مستمطراً ما تبقّى من عيون القلب، موشكاً أن يخاطبني بصمته الناطق معاتباً، فأمتثل وأمضي، داعياً المولى تبارك وتعالى أن يكتب لي في ما قمت به الخير، وأن يعزل عنه ما يشوبه من عيوب قد تلصق به ..
وقد شجّعني على القيام بهذه الأعمال- إضافةً إلى ما مرّ- الحاجة الماسّة التي عكسها لي العديد من الشخصيّات الثقافيّة العراقيّة حول حاجة الباحثين والدارسين في العراق إلى ما يعينهم في أطروحاتهم ودراساتهم، خاصّةً أنّ ذكر اسم محمّد باقر الصدر في العراق كان يكلّف الشخص حياته، إذ تمّ تغييبه وتغييب مدرسته في العراق تغييباً يكاد يكون مطبقاً «1»، في حين احتلّ في تونس- مثلًا- الدرجة الأولى لدى المثقّفين الإسلاميّين الذين يبحثون عن قيادة أيديولوجيّة، وقد جاء- من حيث الإقبال على قراءة كتبه- بعد القرآن الكريم «2».
وأنا في الوقت الذي أشعر فيه- بحمد الله تعالى- بالطمأنينة والغبطة لأدائي بعض الواجب، أشعر بشي‏ءٍ من الاستياء إزاء الآثار السلبيّة التي قد تخلّفها أعمال من هذا القبيل، من قبيل الانشداد- ولو الباطني- إلى الأشخاص بما هم أشخاص، مع أنّ الرسالة لا تتوقّف عند أحد. وإذا قدّر للواحد منّا اجتياز هذه العقبة، فإنّه لن ينجح في الحؤول دون اقترانه في أذهان الناس بهذا الشخص.

__________________________________________________
(1) حتّى أنّ السيّد الصدر وأخته بنت الهدى لم يرد لهما ذكرٌ في كتاب (المنتخب من أعلام الفكر والأدب) الذي دوّنه مؤلّفه في النجف الأشرف في ظلّ حكومة البعث، وهذا يعكس مدى القمع الإعلامي الذي مورس في سبيل تغييب هذا الرجل.
(2) الحركات الإسلاميّة المعاصرة في الوطن العربي، الإسلام الاحتجاجي في تونس: 257.

alyatem
31-03-2013, 10:54 AM
- 1-
حول منهج الكتب‏


لم يكن في نيّتي عندما شرعت في تصنيف الكتاب أن أدوّن أكثر من مائة صفحة، فلم أضع خطّة عمل علميّة أستظلُّ بمعالمها، بل كانت مجموعة من الضوابط التي احتفظتُ بها في الذهن.
ولمّا أخذ العمل بالتوسّع شيئاً فشيئاً، وجدتني بحاجة إلى إرساء مجموعة من الضوابط التي ينبغي أن يسير تصنيف الكتاب على أساسها، فكنتُ أقتنص- من خلال أهم المفردات التي أواجهها

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 30

- مجموعةً من القواعد، ثمّ أحاول تطبيقها على موارد الكتاب الأخرى. ولكنّ هذه العمليّة تزامنت مع تصنيف الكتاب، ولم تسبقه ليكون التصنيف من رأس قائماً على أساسها، الأمر الذي ربّما أدّى إلى بروز بعض- أو كثيرٍ من- الاستثناءات، والتي لا يسمح لي الوقت فعلًا بتداركها.
ومن هنا، فإنّنا إذا تحدّثنا عن بعض الخصائص المتعلّقة بمنهج الكتاب، فإنّنا لا نتحدّث عن موجبات أو سالبات كليّة- بالاصطلاح المنطقي- خاصّةً أنّ هناك بعض الموارد التي تأبى طبيعتها أن تخضع للمنهج المذكور. وفي ما يلي بعض هذه المعالم:

اعتماد السرد الحولي غير الموضوعي‏

من المعلوم لدى متابعي نتاجات الشهيد الصدر (ره) أنّه نعى في أواخر حياته على التفسير التجزيئي للقرآن الكريم عدم وفائه بمتطلبّات الحياة، فدعا إلى اتّباع التفسير الموضوعي بوصفه خطوة متأخّرة زماناً ومتقدّمة درجةً على التفسير التجزيئي، منوّهاً في الوقت نفسه بأهميّة التفسير التجزيئي بوصفه خطوة ضروريّة لا يمكن من دونها الحديث عن تفسير موضوعي- خلافاً لما هو مرتسمٌ في ذهن الكثيرين- وهو الأمر نفسه الذي نواجهه لدى الحديث عن الدراسة التكامليّة لحياة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بوصفها دراسة متأخّرة زماناً عن الدراسة التجزيئيّة التفصيليّة.
لسنا هنا بصدد الحديث عن نظرة الشهيد الصدر (ره) إلى تفسير القرآن الكريم أو دراسة حياة الأئمّة (عليهم السلام)، بل بصدد الإشارة إلى أنّ الدراسات الموضوعيّة- الأعمّ من القرآنيّة وغيرها- تكون بطبيعتها متأخّرة زماناً عن الدراسات التجزيئيّة، هذا بعيداً عن معنى (الموضوعيّة) التي مارسها السيّد الصدر (ره) بالذات في تفسير القرآن الكريم.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يُصار إلى الكتابة عن سيرة الشهيد الصدر (ره) وتاريخ الحركة الإسلاميّة في زمانه بالطريقة التجزيئيّة، لتتاح الفرصة أمام الدارسين للكتابة موضوعيّاً؟!
ونحن لا نريد التعريض بالأسلوب الذي أطبق على اتّباعه من كتب حول سيرة الشهيد الصدر (ره)، والذي اتّبعناه نحن أيضاً في بعض ثنايا هذا الكتاب، وذلك لعلمنا بأنّ الدافع الذي أدّى بهم إلى الكتابة على النحو المذكور هو أنّهم افترضوا إلمام القرّاء مسبقاً بالكثير من تفاصيل حياته (ره) والظروف الذي عاش فيها، أو أنّ أوقاتهم وظروفهم لم تكن تسمح لهم بأكثر من هذا، إضافةً إلى أنّ كثيراً من الكتابات جاء تدويناً لمجموعة من الخواطر المختزنة، وأصحاب هذه المصنّفات مشكورون على أيّة حال.
وفي ما يلي نستعرض مؤاخذتين على الكتابة الموضوعيّة غير المسبوقة بكتابة تجزيئيّة:
الأولى: أنّ الاعتماد على خلفيّات القارئ في مدى اختزانه للمعلومات لا يصلح أن يكون مبرّراً كافياً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ نسبة هذا الصنف من القرّاء نسبة ضئيلة جدّاً، خاصّةً وأنّ الحقبة التي أعقبت شهادته قد شهدت تعتيماً إعلاميّاً شرساً داخل العراق على وجه الخصوص.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 31

ومن هنا رأينا أن نضيف إلى الحديث عن سيرة الشهيد الصدر (ره) الحديثَ عن المسيرة بشكل عام، لكن بالمقدار الذي يتيح للقارئ فهم واستيعاب الجوّ الاجتماعي والسياسي العام الذي تحرّك فيه، خاصّةً وأنّي على اعتقاد بأنّ قيمة ما أنجزه (ره) لا تظهر بشكل واضح إلّا إذا وضع ضمن معادلة متعدّدة الأطراف. ومن هنا فقد جاء الكتاب يحمل عنوان «1» :


محمد باقر الصدر السيرة و المسيرة في حقائق ووئائق‏

ولعلّنا استطردنا في سرد ما يتعلّق بتحرّكات السيّد محسن الحكيم (ره)، حتّى ربّما اشتمل الكتاب على تأريخ سيرته هو أيضاً، وقد كانت هذه النتيجة تراكميّة غير متعمّدة، وقد احتفظتُ بها لما فيها من فائدة في التأريخ لتلك المرحلة التي ربّما رغب الكثيرون في الاطّلاع عليها.
وقد عثرت على مواد نافعة تؤرّخ لتاريخ المرجعيّة بشكل عام، إلّا أنّ خروجها عن غرض الكتاب الرئيس أعفانا من إدراجها، وهي في العمدة موجودة في كتاب (اسناد انقلاب اسلامى)، أي (وثائق الثورة الإسلاميّة)، وغيره من الكتب.
الثانية: أنّ عدم الإلمام بالتفاصيل الجزئيّة يفضي إلى ارتسام صورة مشوّهة غير متكاملة في المرحلة الموضوعيّة، وهو بالضبط ما سيعاني منه التفسير الموضوعي للقرآن الكريم إذا لم تسبقه تجربة تجزيئيّة مشبعة.
وفي هذا الصدد تحلو لي الإشارة إلى ما منيت به شخصيّاً لدى اطّلاعي على مقطعٍ من الرسالة التي كان قد وجّهها السيّد أبو الحسن الإصفهاني (ره) إلى الملك فيصل الأوّل عام 1924 م، والتي جاء فيها: «.. قد أخذنا على عاتقنا عدم المداخلة في الأمور السياسيّة والاعتزال عن كلّ ما يطلبه العراقيّون، ولسنا بمسؤولين عن ذلك، وإنّما المسؤول عن مقتضيات الشعب وسياساته جلالتكم‏». وكنتُ قد قرأت هذا المقطع أوّل الأمر في صحيفة (الجهاد) «2»، وارتسمت في ذهني انطباعات معيّنة حول السيّد الإصفهاني (ره) وقناعاته، ولم أتساءل عن مكان وتاريخ ورود هذا المقطع، وعن نصّه الكامل، كما لم تكن لديّ معلومات كافية حول سيرة السيّد الإصفهاني (ره). وبعد ذلك قرأت في كتاب (المرجعيّة العاملة) أنّ السيّد الإصفهاني (ره) كان معارضاً لتنصيب فيصل ملكاً «3»، كما قرأت في الكتاب المذكور بعض ما يرتبط بظروف إبعاده إلى إيران، ثمّ حول ظروف عودته المشروطة بعدم التدخّل في السياسة. عندها احتملتُ أن يكون المقطع الذي كنتُ قد قرأته محكوماً لهذا الشرط، أعني شرط

__________________________________________________
(1) أمّا العنوان الفرعي: (عرض تفصيلي موثّق لسيرة الشهيد الصدر من الولادة حتّى الشهادة) ففيه بعض التسامح من جهة أنّ الكتاب يشتمل على ما يرتبط به قبل ولادته وبعد شهادته‏
(2) صحيفة الجهاد، العدد (363)، 24 / 10 / 1988 م، ولمّا لم يتسنَّ لي الرجوع إلى الصحيفة لدى تدوين هذا النص، نقلته عن (العلّامة العسكري بين الأصالة والتجديد: 141- 142)، نقلًا عن الصحيفة، وفيه (سياساته) بدل (سياسته)
(3) المرجعيّة العاملة: 50.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 32

عدم التدخّل في السياسة، فبدأت انطباعاتي تتبدّل؛ لأنّ القائد قد يجد المصلحة في الصمت لفترة ريثما تصبح الفرصة مناسبة للعمل. ولم يطل تفكيري، لأنّي تأكّدت من صحّة هذا الاحتمال من خلال ما قرأته في كتاب (العلّامة العسكري بين الأصالة والتجديد) «1»، وقد وجدتُ تفصيل الأمور في كتاب (حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل) الذي أورد مفصّلًا مواقف السيّد الإصفهاني (ره) من الانتخابات عام 1341 هـ، وإليك هذه المواقف الثلاثة:

«
بسم الله الرحمن الرحيم‏
نعم، قد صدر منّا تحريم الانتخابات في الوقت الحاضر، لما هو غير خفي على كلّ باد وحاضر. فمن دخل فيه أو ساعد عليه، فهو كمن حارب الله ورسوله وأولياءه صلوات الله عليهم أجمعين.

الأحقر أبو الحسن الموسوي الإصفهاني«2»

»


«
بسم الله الرحمن الرحيم‏

إلى إخواننا المسلمين! إنّ هذا الانتخاب يميت الأمّة الإسلاميّة، فمن انتخب بعد علمٍ بحرمة الانتخابات حرمت عليه زوجته وزيارته، ولا يجوز ردّ السلام عليه، ولا يدخل حمّام المسلمين. هذا ما أدّى إليه رأينا، والله العالم بالصواب.

الأحقر أبو الحسن الموسوي الإصفهاني «3»

»

«إنّنا قد حكمنا سابقاً بحرمة الدخول في الانتخابات، ولم يتغيّر الحكم ولم يتبدّل، والأمر كما كان.

الأحقر أبو الحسن الموسوي الإصفهاني «4»

»

وبعد نفي السيّد الإصفهاني والميرزا النائيني (ره) بتاريخ 8 / ذي القعدة / 1341 هـ إلى إيران، وغيرهما من العلماء، تمّ التوصّل إلى حلٍّ للمشكلة عبر التعهّد بعدم التدخّل في أمور السياسة، فحرّر السيّد الإصفهاني (ره) الرسالة التالية إلى الملك فيصل، قبل أن يرجع إلى العراق بتاريخ 18 / رمضان / 1342 هـ. وقد جاء في الرسالة- التي تشتمل على المقطع المذكور في أوّل الكلام- ما يلي:

«
بسم الله الرحمن الرحيم‏
حضرة جلالة ملك العراق أيّد الله ملكه وسلطانه.
بعد السلام عليكم والسؤال عن أحوالكم ورحمة الله وبركاته.
نعرض أنّ كتابكم المؤرّخ 26 رجب، المرسل مع حجّتي الإسلام جناب الشيخ جواد صاحب الجواهر وجناب ميرزا مهدي آية الله زاده دامت بركاتهما، أخذته بكمال الاحترام. وكما ذكرتموه فيه وأودعتموه في مطاويه، صار [معلوماً] لدينا، ولقد أفاد بما دار بينكم من الشؤون وبيان الأسباب الموجبة إلى تأخير حركتنا، وطلب جلالتكم المؤازرة، وكذلك المحروس السيّد باقر سركشيك قام بواجبه، وأبلغ خطاباته الشفاهيّة. هذا وإن كنّا قد أخذنا على عاتقنا عدم المداخلة في الأمور السياسيّة، والاعتزال عن كلّ ما يطلبه العراقيّون، ولسنا بمسؤولين عن ذلك، وإنّما المسؤول عن مقتضيات الشعب وسياسته جلالتكم، ولكنّ المؤازرة للملوكيّة حسبما تقتضيه الديانة الإسلاميّة، ذلك من مبدئنا الإسلامي. وأمّا ما أمرتم من توحيد الكلمة وتوطيد عرى الصداقة بين إيران والعراق، فذلك من وظائفنا الدينيّة. وحينما دخلنا إيران [لم‏] نزل نبذل الجهد في ذلك، وسوف تظهر نتيجة أعمالنا المبرورة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأحقر أبو الحسن الموسوي الإصفهاني‏
[الختم‏]
21 شعبان 1342» «1»


__________________________________________________
(1) العلّامة العسكري بين الأصالة والتجديد: 141
(2) حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل: 123
(3) حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل: 125
(4) حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل: 128.
(1) حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل: 135

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 33

ولكنّه عاد إلى ممارسة نشاطاته السياسيّة سنة 1360 هـ أثناء حركة رشيد عالي الكيلاني كما سيأتي معك بإذن الله تعالى ضمن أحداث تلك السنة.
وهناك موارد كثيرة من هذا القبيل سيقف عليها القارئ الكريم في هذا الكتاب. فالكثير من الأحداث المتداولة والمعروفة، لا يُعلم (سبب نزولها)، من قبيل الرسالة التي حرّرها السيّد الصدر (ره) متحدّثاً عن حقيقة علاقته بأستاذه «2»، فإنّ وراء (نزولها) أسباباً ستجدها إن شاء الله تعالى موثّقة بخطّ السيّد الصدر (ره) «3»، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يتّسع المقام لسردها.

__________________________________________________
(2) انظر: موسوعة الإمام الخوئي 1: 27 (المقدّمة)
(3) انظر أحداث سنة 1396 هـ.

ملاحظة: كل ما يقوله المؤلف المحترم (انظر أحداث سنة) فهو يقصد الاحداث التي جاءت في كتابه الذي تم ترتيبه على اساس سنوات عمر السيد الشهيد قدس الله روحه الطاهرة! فتنبه.

alyatem
31-03-2013, 10:56 AM
شموليّة العرض‏

1- لقد سعيتُ أن يكون هذا الكتاب مصدراً جامعاً حول (محمّد باقر الصدر)، ومن هنا فقد مررت على جميع ما عثرت عليه حول الموضوع، ابتداءً ممّا كتب في حياته (ره)، وصولًا إلى آخر ما صدر في الأسواق ووصلني. ومن أحدث ما صدر وأخذته بعين الاعتبار:
* كتاب (محمّد باقر الصدر .. حياة حافلة .. فكرٌ خلّاق) للسيّد محمّد الحسيني، الذي حوى الكثير ممّا لم تحوه كتابات السيّد الحسيني السابقة.
* كتاب (الصدر في ذاكرة الحكيم) للسيّد محمّد محمّد الحيدري، وهو في الحقيقة تجميعٌ لبحوث السيّد محمّد باقر الحكيم (ره) والتي كنّا قد أخذناها بعين الاعتبار في التصنيف، وقد بدأتُ بالإرجاع إلى فصوله الأولى، ولمّا ضاق الوقت أعرضت عن ذلك لوجود المعلومات مسبقاً، واكتفيتُ يإثبات ما أضافه السيّد الحيدري باسم (المحقّق).
* ثمّ صدرت الطبعة الجديدة من (مقدّمة مباحث الأصول) للسيّد كاظم الحائري، ولكنّ ضيق الوقت من ناحية وعدم اشتمالها على أيّة إضافات خلت منها الطبعة السابقة، حالا دون أخذها بعين الاعتبار.
* وبعدها صدر كتاب (وجع الصدر .. ومن وراء الصدر أم جعفر)، للكاتبة الأمل البقشي، وقد

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 34

اعتمدنا على النسخة التي تفضّلت بها أسرة السيّد الصدر (ره)، والتي عيّنت فيها الموارد التي تحفّظت على نشرها.
* ثمّ وقع تحت نظري الطبعة الجديدة من كتاب (بغية الراغبين) للسيّد عبد الحسين شرف الدين (ره) وملحقاتها لنجله السيّد عبد الله، حيث طبعت ضمن (موسوعة الإمام شرف الدين) الصادرة مؤخّراً عن دار المؤرّخ العربي، بعد أن تمّ تحقيقها في مكتب الإعلام الإسلامي في قم، ولكنّها على أيّة حال لا تشتمل على إضافات أو معلومات لم نوردها في الكتاب، ولكنّنا استفدنا من الجزء التاسع من الموسوعة لتوثيق بعض الإحالات التي كنّا قد اعتمدنا على نسخها الخطيّة قبل طباعة الموسوعة المذكورة.
* وآخر ما وجدته إلى حين كتابة هذه السطور كتيّب (الشهيد الصدر .. سموّ الذات وسموّ الموقف) للسيّد كاظم الحائري، وهو عبارة عن مقدّمته على كتاب (مباحث الأصول) طبعها مستقلّة، وهي لا تحوي بدورها أيّة معلومات إضافيّة، سوى ما جاء في هامش الصفحة (199)، والذي كنّا قد سمعناه من السيّد الحائري مباشرةً ونقلناه عنه.
* وهناك كتاب تحت الطبع في مجلّدين للسيّد حسن شبّر تحت عنوان (تاريخ العراق السياسي المعاصر .. بحث وثائقي في سيرة الدعوة .. 1957- 1980 م)، أتوقّع أن يكون فيه ما يفيدني، ولكنّني قرّرت عدم الاطلاع عليه قبل صدوره خوفاً من تأخير طبع هذا الكتاب.
2- لم أجد بأساً في ذكر مختلف الأقوال وتعدادها ومحاكمتها لاختيار ما أراه صحيحاً منها، ولم أكتفِ بالتحقيق خارج الكتاب وإثبات المختار فيه، وذلك هرباً من تهمة الاستبداد بالرأي.
3- إنّ كثيراً من مفردات النزاع الواقعة في حياة الشهيد الصدر (ره) قد تبدو غير مهمّة في كثير من الأحيان، غير أنّ طرفي النزاع كانا في بعض الأحيان يجدان ثمرةً مترتّبة على تبنّي قول دون آخر. وكان كاتب السطور مجبراً- بحكم كونه في مقام التأريخ- على التعرّض إلى موارد النزاع كافّة.
4- سيتّضح للقارئ الكريم إن شاء الله تعالى أنّ عمدة هذه المحاولة تكمن في أنّها تسعى إلى جمع أكبر عددٍ ممكنٍ من المعلومات من أجل رسمِ قصّةٍ متكاملة. ومع أنّ المصادر التي أثبتُّها للحدث الواحد قد بلغت في بعض الأحيان حدّاً قد يبدو مزعجاً، إلّا أنّني لم آخذ ذلك حاليّاً بعين الاعتبار نظراً إلى الفائدة الأهمّ التي رجوتُها، وهي توثيق الحدث والتثبّت من صحّة الصورة المرسومة، وهو أمرٌ أعتقدُ بضرورته في خطوتنا الأولى هذه. ولعلّ الفرصة تسمح لاحقاً بحذف مصادر ما يكون قد دخل في دائرة الثبوت التاريخي، أو ما نحسبه كذلك.

العرض المجرّد غير المعياري‏

إنّ البحث الموضوعي لا يعني بالضرورة المحايدة في مقام النتائج- بمعنى عدم ميل الباحث في نهاية بحثه إلى اتجاه دون آخر- بل يعني أن يكون موضوعيّاً في ميله، أو قل محايداً أثناء استعراض الأدلّة والأقوال وقبل الوصول إلى النتائج. وليس متوقّعاً لأي بحثٍ أن يحظى بصفة الموضوعيّة

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 35

التامّة، لعوامل مرتبطة بالطبع البشري. أمّا في ما يتعلّق بهذا الكتاب، فإنّ نفس اختيار محمّد باقر الصدر موضوعاً لدراسة تأريخيّة من هذا القبيل، كفيلٌ بأن ينأى بالبحث عن الموضوعيّة التي يتوقّعها القارئ المثالي، والتي لن يجدها في أيّ كتاب على الإطلاق؛ لأنّ العواطف والمتبنّيات والنشأة البيئيّة والفكريّة و ... كلّها تدخل في آليات التعامل مع الموضوعات محلّ البحث. بل حتّى عمليّة الاجتهاد الفقهي التي يمارسها الفقهاء لا يُمكن أن توصف بالموضوعيّة المطلقة، ولا يُمكن أن تسلم من الذاتيّة التي يمارسها الفقيه انطلاقاً من ظروفه الخاصّة، وهو ما يصرّح به الشهيد الصدر (ره) نفسه في (اقتصادنا)، وما ألمح إليه الشهيد مرتضى المطهّري (ره) في بعض محاضراته «1». فما ينبغي أن يكون واضحاً بادئ الأمر أنّ الحديث عن الموضوعيّة حديثٌ نسبي.
وبعد هذا أشير إلى أنّني تجنّبتُ في هذا الكتاب التعليق معياريّاً على ما جاء فيه من تأريخٍ للوقائع والأحداث، وأقصد من التعليق المعياري الحكم بالسلب والإيجاب، بمعنى أنّ هذا مصيب وذاك مخطئ، اللهمّ شذرات لا ربط لي بها ممّا نقلته عن الآخرين ضمن نصوص لم أستطع فيها عزل الجانب المعلوماتي والاكتفاء به. ولستُ أذكرُ الآن مورداً واحداً عكستُ فيه انطباعاتي الشخصيّة حول مجريات التاريخ، سوى ما قد يستشفُّ من بعض العناوين وأبيات الشعر. أمّا تحقيق الحدث تاريخيّاً وقبول شهادة وردّ أخرى، فليس من الحديث المعياري الذي نحن بصدد الإشارة إليه.
إذن، لقد اكتفيتُ بعرض الحدث دون جعله موضوعاً لدراسة معياريّة. وما قد يحسبه القارئ كذلك ممّا ورد مفصّلًا في بعض هوامش الكتاب هو في الحقيقة تحليليٌّ توصيفيٌّ غيرُ معياري، بمعنى أنّ الجهد قد انصبّ فيه على تحليل بعض الظواهر ومحاولة اكتشاف مناشئها التاريخيّة وفهم طبيعتها، وهذا في نفسه أجنبيٌّ عن الدراسات المعياريّة التي فيها حكمٌ بالسلب أو الإيجاب، أعني بالخطأ أو الصواب.
وبتعبير علمي يلامس كتابات الشهيد الصدر الأصوليّة، فإنّ التفريق بين الكتابة التحليليّة وبين الكتابة المعياريّة يشابه إلى حدٍّ كبير تفريق السيّد الصدر بين القضايا التحليليّة وبين القضايا التركيبيّة في الدليل العقلي من حلقتيه الأصوليّتين الثانية والثالثة.

التدقيق في النقل‏

لقد بذلت جهدي في نقل المعلومات من مصادرها بشكل دقيق. وقد بالغتُ في التدقيق في ما نقلته مشافهةً أيّما مبالغة- خاصّةً وأنّي كنتُ أسجّل أكثر ذلك صوتيّاً وبإذن المعنيّين- ولم أتصرّف فيه إلّا بحدود تعديل بعض الكلمات حفاظاً على سلامة العبارة نفسها، وهذا نادرٌ جدّاً ولا يطال أصل المعلومة على الإطلاق. ومن هذا المنطلق فأنا لا أحبُّ لأحدٍ نقلتُ عنه مشافهةً في الكتاب أن‏

__________________________________________________
(1) اقتصادنا (ط. المؤتمر) : 448 وما بعد؛ اصل اجتهاد در اسلام (فارسي)، مجموعه آثار 20: 181.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 36

يشكّك في دقّة النقل، ويشيع أنّي تلاعبتُ بالمضمون. وبطريق أولى فأنا لا أحبُّ لأحدٍ أن يكذّبني في شي‏ءٍ نقلته عنه. نعم؛ لقائلٍ أن ينفي صحّة معلومةٍ نقلتها عنه من جهة أنّه نقل لي ما هو غير صحيح.
وحول الحديث عن الدقّة، تجدر الإشارة إلى أنّني ربّما أورد الرسالة المؤرّخة بتاريخ معيّن، فأعبّر بأنّها أرسلت بالتاريخ المذكور، مع أنّ غاية ما يمكن استفادته هو أنّها حرّرت بذلك التاريخ، وهذا من التسامح الذي التفتُّ له في آخر مراحل العمل، فلم أتداركه.

نقد متون الروايات ومضامينها

1- التزمت في الكتاب- حيث أمكن- بممارسة عمليّة تقويم ونقد للمتون المرويّة، واكتفيتُ بتسجيل ذلك في الهوامش. وهذا الأسلوب بات معروفاً في الأبحاث التاريخيّة، ويُمكن مشاهدته كذلك في ما كتبه المتقدّمون حول ما يعرف بـ (موضوعات الأخبار)، وهو ما أكّد عليه ابن خلدون في (مقدّمته) حيث قال:

«اعلم أنّ فن التاريخ فنٌّ عزيز المذهب، جمُّ الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة، ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلّات والمغالط؛ لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النقل ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر، ولابدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد ..» «1».

ولا يخفى على أحد أنّه لا ملازمة بين إسناد المعلومة وبين الاعتماد عليها، ولذلك لم أتردّد في ممارسة هذه العمليّة، حيث قمت بمناقشة ومحاكمة بعض الأمور التي ظهر لي عدمُ دقّتها في نقل بعض الأخبار أو ما اكتنفها على الأقلّ، فقمتُ بتشذيبها دون أن أهمل ذكرها، إذ ربّما أفادت غيري. وإذا وقع تعارضٌ بين مجموعة من الأقوال، كنتُ أعمدُ إلى ترجيح بعضها على البعض الآخر وفق القرائن والمعطيات المتوفّرة.
وقد سهّل الخطب أنّ مجال البحث التاريخي أجنبيٌّ عن مسألة الحجيّة بمعناها المطروح في أبحاث علم الأصول، إذ لا معنى هنا للتعبّد بمؤدّى الأمارات. ولذا كانت أخبار الثقات أدوات كاشفة

__________________________________________________
(1) تاريخ ابن خلدون، القسم الأول من المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه ..

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 37

لا تنفرد في تحديد المتبنيّات التاريخيّة. وما أكثر القضايا التي نقلها الثقات وقطعنا بخطئها في هذه الدراسة، أو عدم دقّتها على أقلّ تقدير. بل أستطيع أن أقول: إنّ تحقيق جملة من القضايا أخرج بعض الأشخاص من ميقات الوثاقة بالمعنى المطروح في البحوث الرجاليّة، حيث ثبت لي بشكل يشارف أبواب اليقين أنّهم يلوون عنق الحقيقة مع سبق الإصرار والترصّد، إلّا أنّني لم أسجّل هذه الانطباعات لخروجها عن مهمّة الكتاب، ولكن بوسع القارئ الكريم أن يتتبّعها ليقف بنفسه على قيمة ما ينقله هؤلاء في مجالات أخرى.
أمّا الحد الذي يحصل عنده الاطمئنان إلى صحّة الخبر فيختلف من شخصٍ إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى «1». وعادةً ما يكون الأشخاص من ذوي الخبرات الاجتماعيّة المحدودة الذين لم يخالطوا الناس في حياتهم اليوميّة ولم يخبروا ما تقوم عليه وما يلفُّ غوامضها ممّن يحصل لديهم الاطمئنان بشكل سريع؛ لأنّ الأمور لديهم أبسط بكثيرٍ ممّا هي عليه في الواقع.
وحول هذا السجال لا بأس بإثبات نصٍّ للسيّد الصدر (ره) ينشر قريباً بإذن الله تعالى، وقد جاء في محاضراته حول التأسيس للمنطق الذاتي التي ألقاها في شهر رمضان / 1384 هـ حيث قال:

«إنّ هذه المسألة واضحة من خلال حياتنا الاعتياديّة. ففي القضيّة المتواترة مثلًا، لو أنّ شخصاً سليم القلب وغير مطّلع على دواعي الكذب دخل مجتمعاً مغموراً بهذه الدواعي، ثمّ أخبره شخصٌ واثنان وثلاثة بقضيّة معيّنة، فقد يحصل لديه القطع من خلال إخبار هؤلاء. ولكنّه لو التفت بعد ذلك إلى أنّ خمسة أو ستّة أشخاص أخبروه بقضيّة وتبيّن له كذبهم، فهذا الشخص ستضيق لديه دائرة اليقين، وسيصبح العدد اللازم لحصول القطع لديه ثمانية مثلًا بعد أن كان أربعة.
ثمّ لو فرضنا أنّ هذا الشخص دخل معترك الحياة وابتلي مع الناس بكثيرٍ من القضايا، بحيث تجلّت لديه الكثير من الأمور المخفيّة، وبان له وجود استعداد لدى أناسٍ للكذب لأتفه الأسباب، وأنّهم قد يتّفقون على الكذب، وبان له أنّ اتفاق عشرة أشخاص على الكذب ليس بالأمر الغريب، فبعد هذا لن يحصل لديه القطع من خلال إخبار عشرة أشخاص، وهكذا ..» «2».

عوداً إلى ما بدأناه، فإنّنا إذا عبّرنا أحياناً بـ (التعارض) بين خبرين أو أكثر، فإنّما نعني به المعنى العرفي الذي يتلاءم مع البحث التاريخي، لا تعارض الحجّة مع الحجّة بالمعنى الأصولي للحجيّة. وعلى أيّة حال فما أثبتّه في الكتاب لا يعني أكثر من أنّي أرويه، ولا يعني على الإطلاق أنّني آخذ به وأبني عليه، إلّا حيث أنصُّ على ذلك.
وهنا عليّ الإشارة إلى قناعتي بوجود شي‏ءٍ من المبالغة التي اكتنفت بعض الأخبار، وهو ما يعتري البحث التاريخي على الدوام، وحول هذا يقول أبو علي مسكويه الرازي:
__________________________________________________
(1) راجع على سبيل المثال ما يسجّله السيّد الصدر (رحمه الله) تحت عنوان (الضابط للتواتر) من عوامل موضوعيّة وأخرى ذاتيّة في حصول التواتر (دروس في علم الأصول، ط. المؤتمر 2: 153- 154)
(2) محاضرات في التأسيس للمنطق الذاتي، القسم الثالث، ينشر بإذن الله تعالى في مجلّة المنهاج، العدد (43).

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 38

«ووجدتُ هذا النمط من الأخبار مغموراً بالأخبار التي تجري مجرى الأسمار والخرافات التي لا فائدة فيها غير استجلاب النوم بها، والاستمتاع بأنس المستطرف منها، حتّى ضاع بينها وتبدّد في أثنائها، فبطل الانتفاع به ولم يتّصل لسامعه وقارئه اتصالًا يربط بعضه بعضاً، بل تنسى النكتة منها قبل أن تجي‏ء أختها، وتتفلّت من الذهن قبل أن تقيّدها نظيرتها، ويشتغل الفكر بسياقة خبرها دون تحصيل فائدتها» «1».

وبحسب تعبير السيّد محسن الأمين (ره) في ترجمة الشيخ حسن صاحب (المعالم) :

«.. الناس اعتادوا المبالغة في الفضائل بما يغيّر حقائقها ..» «2»
، وقد علّقنا على بعضها بما يقتضيه الحال كما سيظهر لك في ذيل بعض الأخبار:
من قبيل أنّ السيّد الصدر (ره) قرأ (قصّة الحضارة) بمجلّداتها الثلاثة والأربعين خلال أسبوع عند تأليفه (اقتصادنا)، في حين لم يكن الكتاب قد اكتمل بلغته الأم سنة تأليف السيّد الصدر (ره) (اقتصادنا)، ويفترض أن يكون قد صدر من طبعته العربيّة إلى هذه الفترة ستّة أجزاء فحسب «3».
أو أنّه ألّف (الحلقات) اعتماداً على الذاكرة وبدون الاستعانة بشي‏ء، في حين صرّح أحد مقرّري أبحاثه الأصوليّة المطبوعة أنّه استعان بتقريرات بعض زملائه؛ لأنّ تقريرات الاستصحاب كانت لا تزال عند أستاذه السيّد الصدر (ره)، حيث أخذها منه للاستعانة بها على تأليف (الحلقات) «4».
إلى غير ذلك من الموارد التي ستظهر لك في ثنايا الكتاب. وهناك بعض الأخبار التي لا يسعنا سوى التحفّظ عليها على الصعيد الشخصي أو على طريقة تصويرها، ولا نملك شيئاً موضوعيّاً يدفعنا إلى ردّها.
ومثالٌ على ما لا نميل إليه ما يتعلّق بكتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء) : فقد أورد بعض تلامذة السيّد الصدر (ره)- نقلًا عنه- أنّه على الرغم من عدم دراسته الرياضيّات في المدرسة، إلّا أنّه كان يجلس في الليل و (يشخبط)، فينتج مطلبٌ رياضيٌّ، وهو ما أودعه في (الأسس). بينما يقابل هذا النقل نقلٌ آخر، وهو أنّه اتّفق مع أحد أساتذة الرياضيّات في بغداد، فكان يقصده في أيّام الخميس والجمعة والعطل ليدرس لديه الرياضيّات «5».
ونحن في موارد من هذا القبيل نميل إلى التصوير الثاني لا الأوّل، بل ربّما أمكن الجمع بينهما إذا أخذنا بعين الاعتبار ما قد يصيب الخبر من تحريف لدى تناقله، فقد يكون جواب السيّد الصدر (ره) عن سؤال تلميذه الذي سأله أنّه من أين جاء بالرياضيّات في كتاب (الأسس) مع أنّه لم يدرسها في المدرسة، بأنّه كان يجلس في الليل ويعمل على حلّ تمارين الرياضيّات والتمرّس فيها، وهو ما يمكننا أن نعتبره منسجماً مع دراسته لدى أساتذة الرياضيّات في بغداد؛ لأنّه كان يدرس لديهم المبادئ فحسب، وكان عليه أن يمرّن نفسه بنفسه في البيت. ولكن لمّا أراد هذا الطالب‏

__________________________________________________
(1) تجارب الأمم 1: 2
(2) أعيان الشيعة (ط. ق) 5 : 95
(3) انظر: قصّة الحضارة 1: ك؛ وانظر: أحداث سنة 1379 هـ
(4) انظر: شهيد الأمّة وشاهدها1: 82، ثمّ: بحوث في علم الأصول6: 5، وانظر حولهما أحداث سنة 1397 هـ
(5) انظر أحداث سنة 1385 هـ.


السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 39

اختصار الحكاية ذكر أنّ السيّد الصدر (ره) كان يجلس في الليل و (يشخبط)، فينتج مطلب. ومن الواضح للقارئ أنّ تصويرنا يحقّق للمسألة بعدها الإنساني، بينما يضفي عليها التصوير الآخر صبغة ميتافيزيقيّة.
وهناك بعض الآراء تغالي في المدح والتبجيل بما يسي‏ء، كالاعتقاد مثلًا بأنّ على وجه المعمورة شخصين فقط بوسعهما استيعاب ما جاء في كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء)!!

سعديُّ حسبُك واقصر عن مبالغةٍ *** لا تنطِقَنّ بدَعوى تورِثُ الخجَلا «1»
2- لا يخفى أنّ دائرة اليقينيّات في البحث التاريخي الذي لا تتكثّر فيه النصوص إلى حدٍّ معتدٍّ به ليست واسعة بالقدر الكافي، ولذا فاليقين الأرسطي لا يأخذ مداه في هذه المجالات، وعلى وجه الخصوص عند من لا يوافق أرسطو في تفسيره لليقينيّات من مبادئ الأقيسة وكيفيّة إفادتها اليقين. ومن هنا فإنّ الباحث كثيراً ما يركن إلى الروايات التي تكون مفاداتها أقدر على تفسير مجموعة من الظواهر، دون أن يقطع بصحّتها بضرسٍ قاطع، أو ينفي صحّة غيرها كذلك. نعم، لا شكّ في وجود يقينيّات بالمعنى الآخر غير الأرسطي، وهي ما يُعبّر عنه في البحث التاريخي بالحقائق، ولهذا جعلنا هذه الكلمة جزءاً من عنوان الكتاب.
3- ومن هنا فإنّ الموارد التي لا يقين جازم بوقوعها تكون عرضةً للتبدّل على ضوء ما يستجدُّ من معلومات، وكم وقع هذا الأمر في الكتاب. وكثيراً ما كنتُ أبذل الجهد في الحصول على القرائن، ثمّ جهداً مضاعفاً في تحليلها من أجل بلورة متبنى تاريخي، وبعد ذلك أحصل على وثيقة معيّنة تؤكّد صحّة ما توصّلتُ إليه أو تهذّب لي بعض تفاصيله أو تظهر لي خطأه.

___________________
(1) ديوان سعدي الشيرازي.

alyatem
31-03-2013, 10:57 AM
شفافيّة العرض‏
ونعقد الكلام حول هذه المسألة ضمن أمور:
الأمر الأوّل‏
أنّني لم أكتب هذا الكتاب في التأريخ للمرحلة المنصرمة من أجل أن أجامل أحداً أو أكسب ودّه، ولا من أجل أن أستفزَّ أحداً أو أثير غضبه، بل لقناعتي التامّة بأنّ الماضي عنصرٌ فاعل من عناصر توليد المستقبل، واطلاع القارئ عليه- خاصّةً طالب الحوزة- يساهم بشكل رئيس في ترشيد وعيه في ظلّ جوٍّ لا تتوفّر فيه مقوّمات التوعية بالشكل الكافي. وأملي كبيرٌ في أن يكون القارئ الكريم متّزناً في تعاطيه مع هذه المسألة، خاصّةً إذا تمّ عرض التاريخ بهدوء بغية توظيفه إيجابيّاً، فلا أحبّب له التسرّع في اتّهام الكاتب.

الأمر الثاني‏
هناك الكثير من المفاصل في حياة الشهيد الصدر (ره) تعتبر غايةً في الحساسيّة، وعليها دارت‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 40

رحى الخلافات بين مجموعات متعدّدة، فحاولتُ قدر المستطاع عرضها بهدوء تام ومع المحافظة على تماسك القلم. وقد سعيتُ إلى إعطاء الأطراف كافّة حقَّهم في بيان وجهة نظرهم، وذلك ضمن الأشخاص الذين تيسّر لي الوصول إليهم، لكن دون أن يسلبني ذلك الحقّ في النقاش والتمحيص بهدف بلورة المتبنّى التاريخي، دون التعدّي إلى الجانب المعياري غير المرتبط بالبعد التاريخي.
وثمّة عاملٌ ساهم- ربّما- في تكريس هدوء البحث إلى حدٍّ ما، وهو بُعد الكاتب الانتمائي عن التجاذبات التي ألمّت بتيّارات الساحة العراقيّة؛ فإنّه لا يميل عاطفيّاً إلى تيّار دون آخر لكي يتحرّك في باطنه نحو ما يصبّ في صالح ذلك التيّار.

الأمر الثالث‏
ليس الكاتب ممّن يعمل على تهميش دور المؤسّسة المرجعيّة ويدعو إلى عزلها وإهمالها، فإنّي لا أعتقد بالمقولة التي أطلقها الدكتور علي شريعتي تحت شعار (اسلام منهاى روحانيت)، أي الإسلام بدون مؤسّسة رجال الدين، وأنا أتطلّع دائماً إلى اليوم الذي تستطيع فيه هذه المؤسّسة أن تمارس دورها بالنحو الذي أريد لها، وتتّسع نشاطاتها لتكون السبّاقة إلى علاج مشكلات الناس بدل الانكفاء عنهم. ومن هنا، فإنّي منذ البدء لا أحبّ لأحدٍ أن يُمارس نوعاً من المزايدة حول هذه النقطة.
وممّا يعبّر عن هذا الموقف ما ذكره الشيخ محمّد جواد مغنيّة (ره) حيث قال:

«إنّي أرجّح الفوضى على تنظيم الساسة والسياسة، وأفضّل أنا- وكلّ عاقل- التقاليد النجفيّة بعلّاتها على أيّ تدخّل خارج عن الدين وأهله. وليس معنى هذا أنّي سأسكت وأصمت عمّا نحن فيه من عيوب وأخطاء حرصاً على الهيئة الدينيّة والحوزة العلميّة كما يقولون .. كلّا، ثمّ كلّا، كيف! وأنا أؤمن بأنّ السبيل إلى القضاء على الرذيلة والأخطاء هو أن نعرفها ونعترف بها، ونشعر بوجوب الخلاص منها. أمّا السكوت والصمت، أمّا التجاهل وغض الطرف عن العيوب، فمعناه الإمضاء لها والإبقاء عليها، ومعناه أيضاً تشجيع الأغيلمة ومن إليهم على تعدّي الحدود والفضول والتطفّل.
ثمّ ما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل معناه أنّنا مسؤولون عن غيرنا ولسنا مسؤولين عن أنفسنا؟ ثمّ لماذا نحرص كلّ الحرص على أن يستر بعضنا على بعض، ونخاف هذا الخوف من النقد والصراحة؟ وهل من سرٍّ سوى الجبن والهلع من الفضائح والقبائح؟
لو كنّا على قليلٍ من الوعي والشجاعة، أو على شي‏ءٍ من حب الخير لأنفسنا، لرحّبنا بالنقد والناقد، بل وبحثنا عنه في كلّ مكان، فإن لم نجده أوجدناه وخلقناه، على شريطة أن يكون مخلصاً في أهدافه، خبيراً بالأسواء والأدواء، يجب أن نطلب هذا الناقد وندعوه للنقد، تماماً كما يجب أن نبحث عن الطبيب الناصح الماهر وندعوه للعلاج.
وبالتالي فإنّي سأنتقد كلّ عيبٍ ونقصٍ أراه في قومي الذين أشهد الله وأنبياءه وأولياءه على المرارة التي أعانيها من أجلهم .. إنّي أدين لهم بالإخلاص وأتمنّى لهم كلّ الخير، وأن يكونوا فوق الناس أجمعين، ولذلك‏

أنتقد كلّ عيبٍ فيهم ونقص، وأعلنه على الملأ، ولا أخشى لومة لائمٍ من كبيرٍ أو حقير ما دمتُ مخلصاً لله ولهم، واعياً ما أقول، آملًا أن يتحسّسوا ويشعروا بالمسؤوليّة تجاه خالقهم ونفسهم وأمّتهم.
وأهلًا ومرحباً بمن يهدي إليّ عيوبي بقلبٍ طاهر وعقلٍ ساهر» «1».

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 41

ومن ناحية أخرى، أجد من الضروري أيضاً التأكيد على أنّ ما بات يُعرف بالحركة الإصلاحيّة ليس عبارة عن جسم واحد موحّد الأهداف والرؤى في ما يتعلّق بالموقف تجاه دور المؤسّسة المرجعيّة أو مؤسّسة رجال الدين؛ لأنّ هذه الحركة تشمل- بالمعنى الواسع للكلمة- المصلح الذي ينطلق في تحرّكاته من حرصه وغيرته على الإسلام، اقتداءً بالإمام الحسين (ع) الذي رفع (الإصلاح) شعاراً، كما تشمل من يهدف إلى التغيير، لكن لا انطلاقاً من دافع ديني. وليعلم القارئ أنّ هذا الكتاب قد جاء تلبيةً لنداء أطلقه كبار الدينيّين من أمثال الإمام روح الله الموسوي الخميني (ره) وغيره، الذين يدعون إلى إصلاح الوضع القائم من أجل تكريس الإسلام في نفوس الناس، لا عزله والعياذ بالله تعالى.
وأنا على الصعيد الشخصي أعتقد تماماً بصحّة ما يذكره السيّد الصدر (ره) في إحدى محاضراته حيث يقول:
«الحوزة هي واجهة الإسلام في نظر الأمّة وهي المعبّر الشرعي عن هذا الإسلام وأحكامه ومفاهيمه وحلوله لمشاكل الحياة، وهذه النظرة من الأمّة إلى الحوزة ليست أمراً تلقائيّاً أو مدسوساً أو مصطنعاً، وإنّما هي جزء من التخطيط الواعي الذي وضعه سيّدنا صاحب العصر (ع) حينما أنهى عهد النيابة الخاصّة واستبدل ذلك بالنيابة العامّة، وكان معنى الاستبدال بالنيابة العامّة جعل الطليعة الواعية المتفاعلة مع الإسلام فكريّاً وروحيّاً وعاطفيّاً، جعل هذه الطليعة الواعية العاملة العادلة هي المسؤولة عن حماية الرسالة، وهي المؤتمنة على هذه الأمانة الغالية التي اضطرّ سيّدنا القائم (ع) أن يغادرها إلى غيبة قد تطول»«2».
إلّا أنّ هذا لا يمنعني من الاعتقاد بأنّ من الممكن لأهل الداخل والخارج على حدٍّ سواء المساهمة في تشخيص أمراض هذا الجسم؛ لأنّ بعض هذه الأمراض ممّا لا يُمكن اكتشافه إلّا لمن عاش في داخله وعاين بنفسه الكثير من مشكلاته، وبعضها الآخر ممّا تعمى عيون أهل الداخل عن رؤيته، لأنّ التسليم غير المبرهن الذي قد ينمو مع الطالب تجاه بعض المسائل يمنعه عن رؤية بعض الأمراض. ولكنّي مع ذلك أجد- لمبرّرات عديدة، بعضها تاريخي- أنّ الإصلاح العملي الذي يتجاوز مرحلة توصيف المرض لا يُكتب له النجاح إلّا إذا انطلق من الداخل نفسه، وتسلّمت المرجعيّة أمر ريادته.
كما أنّ كلامي هذا لا يعني المصادقة على المسارعة في اتهام الحركات الإصلاحيّة، خاصّةً تلك التي تسبح في فلك الدائرة الضيّقة التي ألمحنا إليها، ولم أجد- تاريخيّاً- ما يعزّز لي كون التيّار الذي يقابل التيّار الإصلاحي أكثر حرصاً على هذه الحوزة وهذا الكيان من التيّار الإصلاحي نفسه-

__________________________________________________
(1) عقليّات إسلاميّة 1: 490 - 491
(2) من محاضرة للسيّد الصدر (رحمه الله) ألقاها سنة 1385 هـ، تنشر قريباً بإذن الله تعالى ضمن كتاب (ومضات) عن (المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره)).

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 42

بمعناه الضيّق- المُتّهم بعمله على تقويض المؤسّسة المرجعيّة. ولهذا تجد السيّد محسن الحكيم (ره) مثلًا يصدّ حسين الصافي الذي أتاه شاكياً السيّد محمّد باقر الصدر، بقوله: «وهل أنت أحرص من السيّد محمّد باقر الصدر على الحوزة العلميّة؟!» «1». كما يبدو لافتاً هنا نصُّ الإمام الخامنئي الذي يقول فيه:
«الجموا كلّ من يثير الوساوس في وجه أيّة دعوة إصلاحيّة، هؤلاء يسكتون أمام ممارسات العدو، لكنّهم ينبرون إلى إلصاق تهمةٍ ما بكلّ صرخة إصلاحيّة، وكلّ حديث نابعٍ من قلبٍ متألّم وحريصٍ على الإصلاح» «2».

ومهما يكن من أمر، فنحن نسجّل هذه الكلمات لسدّ الطريق على من يحلو له المسارعة إلى تصنيف الكاتب ضمن الأعداء والحاقدين والمناوئين وما إلى ذلك من ألفاظ مستهلكة، لمجرّد اختلافه معه في وجهة النظر حول ما يتعلّق بدور الحوزة، أو حول المصلحة من وراء عرض تاريخها بشفافية.

الأمر الرابع‏
إذا أردتُ اللجوء إلى المصطلحات العلميّة، فالحقيقة أنّني لم أكن لأقدم على تدوين تاريخ الحوزة العلميّة خلال نصف قرنٍ من حياتها بهذه الشفافية لولا تماميّة المقتضي لذلك وارتفاع المانع:
أمّا المقتضي، فهو المساهمة في ترشيد وعي الناس عموماً والطلّاب خصوصاً، وهذا الملاك يبدو واضحاً من نصوص الإمام الخميني (ره) التي شدّد فيها على ضرورة عرض التاريخ بدون إخفاءٍ وتحفّظ، حتّى لو أدّى ذلك إلى تضرّر فلان أو فلان. وقد اقتصرنا على أيّة حال على القدر المتيقّن ممّا يجوّزه هذا المقتضي. أمّا ما يمكن تصويره من موانع، فبحسب ما يخطر الآن بالبال أمور:
المانع الأوّل: وهو واردٌ بالعنوان الأوّلي، وهو عبارة عمّا يمكن أن يواجهه التأريخ بشفافيّة من إشكاليّة شرعيّة حول مسائل الغيبة والإهانة وما إلى ذلك.
المانع الثاني: وهو واردٌ بالعنوان الثانوي، حيث يلزم من التأريخ بشفافيّة انكفاء الناس عن المرجعيّة، وابتعادهم عنها، الأمر الذي يجعل تديّنهم في معرض الخطر.
المانع الثالث: وهو واردٌ بالعنوان الثانوي كذلك، إذ يلزم الهرج والمرج في ما يتعلّق بردّة الفعل.
* أمّا حول المقتضي الأوّل، فلو قدّر لتجربة من هذا القبيل أن تأتي على يد إنسان غير متشرّعي لأتت بصورة مختلفة تماماً. وإذا كان ذكر بعض القضايا يوجب الاستشكال من ناحية الحكم الشرعي، فلا بدّ من الإشارة إلى أمور:
1- أنّ النقّال بقّال كما يقولون. وعندما أذكرُ في الكتاب أنّ فلاناً فعل كذا ثمّ أذكر المصدر، فهذا لا يعني أنّني أقول إنّه فعل كذا، بل يعني أنّني أقول: ذكر المصدر الفلاني أنّ فلاناً فعل كذا. ومن الواضح أنّني أحاسب على صدقي في النقل عن المصدر لا على صدق المصدر في ما ذكره.

_________________________________
(1) انظر أحداث سنة 1382 هـ
(2) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 165.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 43

2- إذا كان ما تقدّم لا يُخرج من المأزق الشرعي، فإنّ المسألة على أيّة حال تتبع تقليد المرء إن كان من المقلّدين، ومقلَّدي يجوّز هذا السرد ما لم يقصد السارد الانتقاص، والله تعالى شاهدٌ على أنّ هذا القصد لم يكن دخيلًا، وعلى من يختلف معي في وجهة النظر أن يأخذ بعين الاعتبار براءة ذمّتي من جهة تقليدي، ولا يحمّلني قناعاته أو تقليده هو.
وقد جاء في الاستفتاء الموجّه إلى قائد الأمّة الإمام الخامنئي ما يلي: «الشخصيّات التأريخيّة التي لها آثار علميّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، وأصبح أمرها متعلّقاً بعموم المجتمع، فلو تعرّضوا للنقد سلباً أو لتقييم آرائهم ومواقفهم وأخلاقهم وجزئيّات حياتهم، وقد يكون بعض ذلك عيباً، فما الحكم؟».
وجاء في الجواب: «لا مانع من ذلك ما لم يقصد الانتقاص‏» «1»، فكيف إذا اكتفينا بالعرض وأحجمنا عن التقييم والنقد المعياريّين؟!
ولن أطيل في المسألة بعد أن كنتُ مُبرَأ الذمّة بحسب تقليدي. ولكنّي أودُّ الإشارة إلى أنّنا إن لم نقل: إنّ البحث التاريخي برمّته خارج عن مورد البحث، وأنّ أدلّة التحريم منصرفة عنه، فإنّ مواد الكتاب خارجة عن موضوع الاستشكال الشرعي موضوعاً؛ باعتبار عدم كونها عيباً، أو باعتبار التجاهر .. وإلّا فحكماً؛ باعتبار تزاحم الملاكات وتقديم ما نحن فيه لغرض شرعي صحيح بحسب ما نطمئنُّ إليه في ظلّ توجيهات شخصيّات من قبيل الإمام الخميني (ره) والإمام الخامنئي. وربّما لهذا السبب ذكر بعض العلماء المعاصرين أنّ المحرّم من الأمر يقتصر على الأمور الشخصيّة الناجمة عن الحسد وما شابه، ولا يشمل الأمور الاجتماعيّة التي يجوز فيها الانتقاد العلني «2»، فكيف إذا لم يكن هناك انتقاد، كما هو الحال في كتابنا هذا؟!
والإمام الخميني (ره)- مثلًا- وإن كان من أكثر المتشدّدين في بحثه حول المسألة من الناحية الفقهيّة في كتاب (المكاسب)، يطلب من السيّد حميد روحاني-...- تدوين التاريخ كما وقع ودون ستر للأمور، حيث يقول (ره) ما ترجمته:
«.. وعليكم أن تكتبوا الحقائق وإن لزم من ذلك تضرّركم أو تضرّر من تربطكم بهم علاقة .. إذا أردتم أن يكون التاريخ الذي تكتبونه مفيداً للإسلام والمسلمين، فعليكم أن تكتبوه بعيداً عن أيّة أغراض. حاولوا أن تكونوا مؤرّخين بهذا النحو. وعليكم أن تبيّنوا المسائل والحوادث كما وقعت ولا يكوننّ في ما تكتبونه مبالغة أو سترٌ للأمور» «3».

إنّ هذه النصائح والإرشادات لا يُمكن فصلها عن الجانب الفتوائي بذريعة عدم تدوينها في رسالته العمليّة، بل يُمكن أن نستفيد منها أنّه يرى مجال البحث التاريخي خارجاً عمّا كان بصدد التنظير له في بحثه الفقهي إذا تجاوز الأمر المشاحنات والطعونات الشخصيّة المحضة، وكان الهدف‏
__________________________________________________
(1) الشهيد الصدر بين أزمة التاريخ وذمّة المؤرّخين: 203، نقلًا عن صحيفة (المبلّغ الرسالي)، العدد المؤرّخ بـ 21 / شعبان / 1415 هـ
(2) يادنامه شرق، ضميمه رايگان تاريخ وانديشه، شماره 12، ويژه آيت الله بروجردى، فروردين85 : 7
(3) نهضت امام خمينى، ط 15، 1: 11- 12.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 44

منه تدوين التاريخ بكبرياته، وذلك بغية تعريف الأجيال بمجرياته من أجل ترشيد وعيهم وتزويدهم بالدروس والعبر.
وإن كنتُ مخطئاً ولم يكن الأمر كذلك، فلا شكّ في أنّ سدّ باب تدوين التاريخ بغالبه هو الأولى والمحكّم في المقام بعد ملاحظة الأمور المتقدّمة.
إضافةً إلى ذلك، فقد وجدتُ من المصلحة إيراد بعض الحوادث التي وردت في مصادر منشورة ومتداولة، ولكنّنا أوردنا فيها بعض القرائن التي لم ترد في تلك المصادر، أو أضفنا تعليقاً يوجّه بعض الأمور، ممّا صبّ في نهاية المطاف في صالح من يُظنّ أنّنا نتهجّم عليهم.
وبعيداً عن ذلك، فقد تعرّض السيّد الصدر (ره) مؤخّراً إلى انتقادٍ طال تحرّكاته واعتقاداته، بل طال شهداء الحركة الإسلاميّة في العراق وشرعيّة إقدامهم على ما أقدموا عليه. وكان من الممكن مباركة هذه الخطوة في حال توفّرها على المبرّرات العلميّة والأخلاقيّة الكافية، إلّا أنّ ذلك لم يكن متيسّراً في ظلّ معاينتي شخصيّاً لموارد تقطيع النصوص وسلخها من سياقها بطريقة تبعد البحث عن أجوائه العلميّة بُعدَ ما بين الأرض والسماء.
وقد لاحظنا أنّ المرجعيّة لم تقدم على استنكار هذه الخطوة، مع أنّها تحمل في طيّاتها ما هو أعظم وأخطر بكثير ممّا يظنّه القارئ مودعاً في هذا الكتاب. ولو صحّت الرواية التي نقلت حول كيفيّة تسوية الأمور بهدف تراجع أحد المراجع عن قراره القاضي بتعطيل الحوزة دروسها استنكاراً، فهذا يكشف عن تشجيع المرجعيّة- أو بعض وجوهها على الأقل- على الخطوة المذكورة ومباركتها لها.
وأجمل الوجوه المفسّرة لما جرى هو أنّ هذا الموقف كان نابعاً إمّا من القناعة بضرورة نقد السيّد الصدر (ره) بالذات وبهذا الشكل، لمصلحة تراها هي، أو من حرصها الشديد على تكريس ظاهرة نقد المؤسّسة المرجعيّة بشكل عام وتشجيعها عليه، وذلك تأسّياً منها بأمير المؤمنين (ع) الذي لم تمنعه عصمته من الامتثال وغريمه أمام القاضي «1»، في حادثةٍ ربّما فهمتها المرجعيّة تأسيساً منه (ع) لمفهوم اجتماعيٍّ مطّرد يُلزم من بيده أزمّة أمور المجتمع بأن لا يترفّع بنفسه عن النقد.
فعلى الأوّل، قيل بالمصلحة في نقد غيره. أمّا على الثاني، فالأمر سهلٌ.
ومهما يكن من أمر، فإنّي لم أتعرّض في كتابي هذا إلى خصوصيّات الأشخاص خارج الدائرة المتعلّقة بمهمّة الكتاب ورسالته التي أراها له، فلم أتدخّل في حياتهم الشخصيّة، ولم أذكر ما يكون موضوعاً لحقّ الله تعالى خاصّة، فهو على الأقلّ لا يعنيني سواء في مهمّتي أم خارجها، وقد أهملت ذكر العديد من الأخبار المتعلّقة ببعض الشخصيّات، لأنّها ذات طابع شخصي محض ولا ارتباط لها بالشأن العام، كما لم أبدِ اعتناءً في تسجيل ما يتعلّق بالأشخاص الذين لا يعتبرون وجوهاً اجتماعيّة،

__________________________________________________
(1) هذه الرواية رواها أهل السنّة (انظر مثلًا: المغني لابن قدامة11: 444)؛ ونقلها علماؤنا في كتبهم الفقهيّة (انظر مثلًا: المبسوط8: 149؛ كفاية الأحكام2: 681؛ كشف اللثام 10: 47).


السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 45

لأنّ ما جوّز لي التأريخ قد لا يشمل حالات من هذا القبيل.
وعلى أيّة حال، وحتّى أدرّب نفسي على عدم تحويل المواقف الرساليّة إلى مواقف شخصيّة، فقد أخذت على نفسي عهداً بالاستغفار والدعاء لمن وقع في كتابي بنحوٍ قد يضعف موقفه، من الماضين والأحياء، حتّى من أكاد أطمئنُّ إلى عدم نظافة موقفه، عسى أن يساهم ذلك في تنزيه الموقف عن كونه موقفاً شخصيّاً.
* أمّا المانع الثاني فغير مستقر؛ لأنّنا لم نؤرّخ لاتجاه واحدٍ من اتجاهات المرجعيّات القائمة، وإنّما أرّخنا لخطّين نعتقد بأنّهما يكادان أن يكونا متباينين في ما يتعلّق برؤيتهما الكونيّة، وإذا قدّر للقارئ الانكفاء عن أحدهما، فإنّه سيتفاعل مع الآخر.
ويحلو لي هنا أن أورد نصّاً يسجّل فيه السيّد الصدر (ره) بعض ما ينفعنا في المقام، إذ يقول (ره) :
«وأتذكّر أنّ شخصاً من أجلّة علماء تبريز ومن المحبّين والمخلصين لنا «1» قد كتب لنا بعد صدور تعليقتنا على منهاج الصالحين يطلب السكوت عن فتوى طهارة أهل الكتاب وتبديل ذلك بالاحتياط، وذكر دامت بركاته أنّ جملةً من الأخيار في تبريز تعوّدوا على استخباث أهل الكتاب ونجاستهم، فهم ينقبضون عمّن يقول بالطهارة. وقد كتبتُ إليه دامت بركاته أنّي أعلم بذلك ولكنّي ألاحظ في نفس الوقت الآلاف ممّن يهاجر إلى بلاد أهل الكتاب ويقعون في محنة من ناحية القول بالنجاسة حتّى حدّثني [الثقات‏] أنّ جملةً من المتديّنين الذين هاجروا إلى هناك تركوا الصلاة وخرجوا تدريجاً من التديّن رأساً لأنّهم يرون النجاسة محدقة بهم، فيرفعون يدهم عن أصل الفريضة، فلو أوقفني المولى القدير سبحانه وتعالى للحساب بين يديه وقال لي كيف سبّبت بعدم إبرازك للفتوى التي تراها لانحراف هؤلاء وإحراج الكثير من الناس واستدراجهم إلى المعصية، فماذا سوف أقول. إنّني أيّها السيّد الجليل أعاني نفسيّاً وروحيّاً معاناةً شديدةً في مثل هذه المواقف، وأخشى كثيراً أن أتصرّف تصرّفاً أؤثر فيه مصلحتي الخاصّة على مصلحة الدين، فأنا أعلم أنّ هناك عدداً من الصالحين والمتشرّعة الأبرار قد أخسرهم شخصيّاً بسبب إبراز الفتوى المذكورة التي هي على خلاف المعهود في أذهانهم، وقد يقولون ما لنا ولهذا الفقيه؟! ولنتركه. ولكنّ هؤلاء إذا قدّر لهم أن تركوني فلن يتركوا الدين، وإنّما يتركوني إلى فقيهٍ آخر، لن يتركوا الصلاة، لن تتهدّد كرامتهم بشي‏ء. إذن فلن يخسرهم الدين، وإنّما أخسرهم أنا شخصيّاً إذا لم يوجد من يشرح لهم واقع الحال ويرفع ما في نفوسهم. وأمّا أولئك الذين يقعون في ضائقة من القول بالنجاسة ويصيبهم الضعف الديني تجاه ذلك فيتحلّلون تدريجيّاً من واجباتهم، فإنّهم سيخسرهم الدين رأساً» «2».

ويقول (ره) في رسالة أخرى له:
«... وليست المرجعيّة الصالحة شخصاً، وإنّما هي هدف وطريق، وكلّ مرجعيّة حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعيّة الصالحة التي يجب العمل لها بكلّ إخلاص» «3».
_________________________________________
(1) يبدو لي أنّه السيّد محمّد علي القاضي الطباطبائي (رحمه الله)
(2) انظر أحداث سنة 1397 هـ
(3) انظر أحداث سنة 1399 هـ.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 46

وهذا ينطبق على ما نحن فيه؛ فإنّ إقبال الناس على المرجع أو انكفاءهم عنه- في مسألتنا هذه- لا علاقة له بالتديّن، وإنّما هو مرتبط بوعي المرجع وجوداً وعدماً، فإذا قدّر للقارئ الانكفاء عن مرجعيّات معيّنة، فإنّه لن يترك الدين، وإنّما سيتركها إلى مرجعيّات أخرى قد تكون بنظره أكثر وعياً أو أكثر تحقيقاً لأهداف الإسلام التي يراها، ولن يخسره الدين بذلك، وإنّما تخسره تلك المرجعيّات على الصعيد الشخصي، وهذا لا ضير فيه طالما أنّ من المفترض أن تكون المرجعيّات- بحسب تعبيرنا- مأخوذة على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة.
* أمّا المانع الثالث، فيحتاج إلى إعادة نظر؛ وإن كان ثمّة مفاسد، فمن قال إنّها أعظم من مفسدة بقاء الوضع على ما هو عليه. ويبدو أنّ الإمام الخامنئي لا يعتقد بهذا المانع، حيث يقول في نصٍّ سبق أن سجّلناه:
«إنّ عدم الاعتراف بالنقص يعني عدم إمكانيّة معالجته. إنّ هذه المهمّة مناطة بكم لا سيّما الفضلاء الشباب: اطرحوا هذا الموضوع وكرّروا طرحه، اكتبوا واستدلّوا عليه، ناقشوا الذين يعارضون هذا المنحى، جادلوهم بالحق، وأثبتوا لهم أنّ هذا المريض مريضٌ حقّاً، وأنّ هذا الجسم الحي يعاني الألم، وما لم يفهموا ألمه، سيبقى مريضاً دائماً»«1»، وذلك بعد قوله:
«لكنّ وضع الحوزة يختلف اليوم عمّا كان في الماضي، فهي اليوم متخلّفة كثيراً عن زمانها، ومساحة هذا التخلّف ليست صغيرة»«2».
والخلفيّة التي قد تدفع الناس إلى إحداث حالة من الهرج والمرج بسبب نسمة من النقد تطال الجسم، بل حتّى بسبب توصيفٍ لمرضه دون نقده، إنّما هي من صنع يدي هذا الجسم نفسه ووليدة النهج الذي دأب على تكريسه، ولو عن غير قصد. فلو أنّه حاول على مدى السنين المتراكمة أن يُفهِم الناس أو يشعرهم- ولو بطريقة غير مباشرة تحافظ على مكانته المقبولة بل والمرموقة- بأنّه لا يعلو على النقد، وبأنّه فعلًا غير معصوم، وبأنّ وجود أخطاء يُمنى بها خلال مسيرته وضعٌ طبيعي في ظلّ غياب إمامة الحق ذات العصمة المطلقة، وبأنّ نيابته العامّة عن هذه الإمامة الحقّة لا تسحب عليه ما لها من قدسيّة وعصمة مطلقتين ... لو كان منه هذا، لما جرّ عليه إبداء حفنة من الملاحظات الهرج والمرج.
ثمّ إنّنا لم نمارس في هذا الكتاب نقداً ولم نبرز رأياً أو كلاماً معياريّاً ليستتبع ردّات فعل بدرجة معيّنة، وإنّما اقتصرنا على العرض والتوصيف ليشكّل ذلك خطوة مخفّفة.
__________________________________________________
(1) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 166
(2) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 150.

alyatem
31-03-2013, 10:58 AM
الأمر الخامس‏

لا شكّ في أنّ العلماء ليسوا معصومين وليسوا منزّهين عن الهفوات. يقول الشيخ مرتضى المطهّري (ره) تحت عنوان (فكرة العوام حول الكريّة واعتصام العلماء) متحدّثاً عن وضع العلماء ونظرة الناس إليهم، ما ترجمته:

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 47

«إنّ بعض الناس يتصوّر أنّ تأثير الذنب على الإنسان يتفاوت بين فردٍ وآخر، بحيث تؤثّر المعصية في الإنسان العادي وتخرجه من حالة التقوى والعدالة، ولكنّها لا تؤثّر في طبقة العلماء، لأنّهم يتمتّعون بحالة من الكريّة والاعتصام، نظير ما في الماء القليل والكثير؛ فإنّ الماء الكثير إذا بلغ قدر كرٍّ لم ينجّسه شي‏ء؛ مع أنّ الإسلام لا يقول بكريّة أحد ولا باعتصامه ...» «1». وحول عدم ارتفاع طبقة العلماء الكبار عن النقد يقول (ره) في أجوبته عن النقود الموجّهة إلى كتابه (مسألة الحجاب) ما ترجمته:
«أنا كانت لديّ مجموعة من الانتقادات، وقد صرّحت في بعض كتاباتي بأنّ المراجع ليسوا فوق النقد بحسب المفهوم الصحيح لهذه الكلمة، وكنتُ ولا زال أعتقد بأنّ كلّ من ليس معصوماً ويترفّع بنفسه عن الانتقاد ففي ذلك خطرٌ عليه وعلى الإسلام. وأنا بطبيعة الحال لا أزكّي نفسي وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2»، ولكن ما أعرفه هو أنّي حفظت لساني عن التعرّض لأحد بسوء، خصوصاً إلى طبقة المراجع، حتّى عن الذين وصلني منهم سوء، هذا مع عدم التقائي مع العوام في اعتقادهم بأنّ كلّ من وصل إلى مقام المرجعيّة فهو مورد عناية إمام الزمان (ع) الخاصّة، وأنّه مصون عن الخطأ والذنب والفسق. وإلّا، إن كان الأمر كذلك، فَقَدَ شرط العدالة موضوعه» «3».
إلّا أنّنا مأمورون بالتريّث في إصدار الأحكام، وأن نراعي في مقام بلورة ردّات الفعل دوائر الأحكام الشرعيّة واللياقات، فلا يجوز الطعن في دين أحد في حال من الأحوال .. ولتكن الحريّة التي نتحلّى بها في النقاش مقيّدة بما تفرضه القيود الشرعيّة، ويتطلّبه البحث العلمي والأخلاقي.

الأمر السادس‏
لم يعد خافياً على أحد أنّ الحوزة العلميّة تشتمل على تيّارين مختلفين في طريقة تعاملهما وتفاعلهما مع فكرة العمل الإسلامي وإقامة الحكومة الإسلاميّة، إضافةً إلى الموقف من وظيفة المرجع ودوره في عصر الغيبة. ومن هنا، فما قد لا يستحسنه القارئ من أعمال معروضة في الكتاب قد يكون ناتجاً عن الاختلاف في كبريات العمل مع الشخص الوارد ذكره في الكتاب. ومهما كان رأي القارئ في ما يقرأ، ومهما كانت الدرجة التي وصل إليها في قناعاته إزاء حدثٍ أو شخص، فليترك حيّزاً من (المعذريّة) للطرف الآخر في ما اعتقده أو قام به. وعلى هذا الأساس لا أجدني مجبراً في كلّ موردٍ مبرّرٍ عند أصحابه أن أشير إلى هذه المسألة، وليعتبرها القارئ من الكبريات التي يستطيع تطبيقها في كثيرٍ من الموارد التي جاءت في الكتاب.
وإلى جانب ذلك، أطلب من القارئ الكريم أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ هناك تفاوتاً بين العلماء في مستوى الوعي والاهتمامات، وهذا ليس افتراءً، وإنّما هو تقريرٌ لواقع ملموس، ولا أحسبني مطالباً أمام أبناء جلدتنا بالبرهنة على ذلك.
ولكن يحلو لي ذكر حادثتين: إحداهما ذكرها لي أحد السادة أثناء تشرّفه بزيارة النجف الأشرف‏

__________________________________________________
(1) اصل اجتهاد در اسلام (فارسي)، مجموعه آثار20 : 176؛ وانظر: محاضرات في الدين والاجتماع: 529. وفي تتمّة الكلام ما يرتبط ببحث العصمة
(2) يوسف: 53
(3) پاسخهاى استاد به نقدهايى بر كتاب مسأله حجاب (فارسي)، مجموعه آثار19: 623؛ أجوبة الأستاذ: 148- 149.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 48

بعد سقوط نظام البعث، حيث التقى بأحد المراجع المعاصرين المقلَّدين هناك، وبعد أن أكّد لي على تقوى الرجل العالي وورعه وطيبته و ... ذكر لي أنّه بينما كان يبدي لوعته من الوضع الجديد الذي خيّم على العراق، كان ذاك العالم يشكر الله تعالى لأنّ بيته موجود، ودرسه قائم.
كما سمعتُ من أحد معارفي أنّه اعترض على أحد كبار المراجع المعاصرين في قم بأنّ أهالي المنطقة الفلانيّة يشكونه إلى الله تعالى لعدم إرساله العدد الذي يفي بحاجاتهم من المبلّغين، فيجيبه متعجّباً بأنّه سبق وأن أرسل إليهم نسخاً من رسالته العمليّة!!
فهذان نموذجان من اتّجاه نسلّم له بالتقوى والعدالة على المستوى الشخصي، ومتى ما أمّوا الصلاة اقتدينا بهم، ولكنّ كلامنا في ما يصطلح عليه السيّد الصدر (ره) بـ «العدالة الوظيفيّة» التي لا ملازمة- عنده (ره)- بينها وبين «العدالة الذاتيّة».
وعلى الضفة المباينة يقف عددٌ من العلماء ذوي رؤى وآفاق مختلفة تماماً. وتعقيباً على المثال الأخير الذي سقناه، نجد السيّد الصدر (ره) يكتب في إحدى رسائله الخطيّة:

«إنّ المسألة- كما أظنّكم تعرفون بفهمكم الاجتماعي المعهود للأمور- [ليست‏] مسألة منشور يكتبه الإنسان في السرداب فيقرأه الآخر في السطح فيهتدي، بل هي مسألة تفاعل وعلاقات وتأثير»«1»؛ فبينما يعتبر الفهم الاجتماعي إحدى بديهيّات العمل وحاجاته عند السيّد الصدر (ره)، قد لا يكون لهذه المقولة تعريفٌ واضحٌ في قاموس ذاك.
يقول السيّد محمّد حسين الطباطبائي (ره) ما ترجمته:
«ألا يجب علينا في عالمٍ مثل عالمنا الذي نعيش فيه، حيث تركّزت قدرات الاستقلال المادي المعنوي بيد خصومنا الألدّاء، أن نبادر لنصرة حقائق هذا الدين ونسعى لإحياء كلمته؟ أم يجب علينا أن نترك هذه الأمانة الإلهيّة الثمينة لعبةً تتقاذفها أفكار الخصوم وتلوكها ألسنتهم وتعبث بها أقلامهم، لنجلس نحن في بيوتنا ونمضي الأيّام بحياتنا المعيشيّة بحجّة أنّ للدين صاحباً! فالله عزّ اسمه هو حافظ هذا الدين، والإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) صاحبه! لذلك ليس علينا سوى أن نَكِلَ الأمانة (الدين) إلى الله وإلى الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، ثمّ نتوجّه بالخطاب إلى ساحة الإمام المقدّسة ونقول: [فَاذْهَبْ‏] أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ «2»، ترى ما هو دخل حفظ الله للدين وحراسة الإمام له بوظيفتنا العبوديّة؟ ...» «3».
إنّ هذا التفاوت في مستوى الوعي ونوعيّة الهموم المعاشة، سينعكس- لا محالة- على سيرة هؤلاء العلماء، وسيؤدّي إلى بروز أنحاء من الاختلافات في ما بينهم. ومن هنا وجدتُ مناسباً الإشارة إلى أنّ قسماً من الاختلاف يرجع إلى هذا النقطة.
وتتميماً لهذه المسألة، لا بأس بالإشارة إلى القطيعة الموجودة بين هذين الاتّجاهين في ما يتعلّق‏

__________________________________________________
(1) تجدها بإذن الله تعالى في إحدى رسائله سنة 1396 هـ
(2) المائدة: 24
(3) الشيعة .. نص الحوار مع المستشرق كوربان: 231؛ وانظر الأصل الفارسي في: شيعه .. مجموعه مذاكرات با پروفسور هانرى كربن (فارسي) : 207.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 49

باطّلاع كلٍّ منهما على فكر الآخر. ونحن لا نريد تبرئة أتباع التيّار الإصلاحي المتّهمين بعدم اطّلاعهم الكافي على التراث. ولكن إذا اقتصرنا في عرضنا على الرموز، فإنّ رموز التيّار الإصلاحي- في دائرته الضيّقة- معترفٌ لهم بتمكّنهم من التراث، إلّا أنّني- وبحسب ما أجد- لا أرى مزيد اهتمام من الطرف الآخر بالاطلاع على نتاجاتهم وآرائهم. ولهذا أجد- في معايشاتي اليوميّة- الكثير من المعجبين بفكر السيّد الصدر (ره) الأصولي وفكر الشهيد مطهّري (ره) الفلسفي، ولكنّهم ليسوا على استعداد للاطلاع على نتاجاتهم وآرائهم في ما يتعلّق بما خرجوا به عن الوضع الرتيب. وقد عزّز هذا الواقعَ المزاوجةُ الحاصلة بين التغيير في المجال الإداري والفقهي والحكومتي والدراسي وبين الانقلاب في المجال العقائدي، ما يساهم في انكفاء الطالب عن ذلك، مع أنّه لا ملازمة بين المجالين على الإطلاق.
وفي ما يتعلّق بالسيّد الصدر (ره)- موضوع دراستنا- نقل لي أنّ أحد المراجع ردّ في درسه إشكال أحد طلبته الذي لجأ فيه إلى حساب الاحتمال- الذي يستخدمه السيّد الصدر (ره) بكثرة- معلّلًا بأنّ «ما جاءنا من الغرب نردّه إليه‏». وعبّر أحد مدرّسي الفلسفة عن هذه النظرة في تعبيره بأنّ نظريّة الاستقراء قد أتى بها السيّد الصدر (ره) من «ألعاب القمار»!!
ونحن نسأل: هل هذا تشويه عفوي، أم أنّه لجوءٌ عمدي إلى نفور المتشرّعة من الغرب ومن القمار لقلب الطاولة على أطروحة الصدر الذي لا ذنب له سوى أنّه استخدم مصطلحاً خلت منه كتب القوم، ولم يذكره الشهيد الثاني في فقهه أو الوحيد البهبهباني في أصوله؟! وعلى ماذا يعتمد الفقهاء- ومنهم فقيهنا- في حياتهم اليوميّة وفي تجميعهم للقرائن في بحوثهم الفقهيّة والرجاليّة؟ وهل أنّ تكوّن البذور الأوليّة لنظريّة الاحتمال الرياضيّة في مناخ ألعاب الحظ والقمار، بدءاً من لوسا باسيولي وجيرولاموا كاردانو ونيكولو فونتانا تارتاجليا، مروراً بجاليليو جاليلي في أجوبته الرياضيّة عن أسئلة صديقه المقامر، وصولًا إلى بليز باسكال في جوابه عن سؤالي شيفلييه دي ميريه المتعلّقين بالقمار كذلك .. هل هذا التكوّن التاريخي يجوّز لنا تسطيح المسألة التي تغيّرت ماهيّة البحث فيها بشكل شبه كامل في مطلع القرن العشرين مع هنري بوانكاريه وألفرد نورث وايتهد وبرتراند رسل وريتشارد فون مايسز وهانز رايشنباخ وجون ماينار كينز وأندريه كولموغوروف وكارل بوبر وشارلي دنبر برود وردولف كارناب وغيرهم الكثير .. لتصبح من أعقد وأعوص المشكلات التي يواجهها البحث الفلسفي للفكر البشري عموماً .. هل هذا التكوّن يجوّز تسطيح المسألة إلى هذا الحد؟!
إنّ القطيعة إلى هذا الحد غير قابلة للتحمّل، وإذا قدّر لها البقاء، فالحلُّ الناجع هو أن يلتزم كلُّ طرف الصمت تجاه أطروحات الطرف الآخر ..

الأمر السابع‏
رجوعاً إلى أصل الموضوع، نجد أنّ الناس قد انتهجوا أحد منهجين، كلاهما لا يخلو من عيب:

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 50

أ- فهم إمّا يغمضون أعينهم عن الواقع وينظرون إلى كائناته بنظّارات ميتافيزيقيّة، ليقنعوا أنفسهم بأنّه واقع مثالي .. وهذا ممّا ينعكس سلباً على وعيهم بدرجة كبيرة، لينعكس ذلك بدوره سلباً ولمرّة أخرى على الواقع نفسه. وهو الحال عند كثيرٍ من الناس وطلبة العلوم الدينيّة.
ب- وإمّا يتسرّعون ويتساهلون في الطعن بدين الناس، لتخرج مسألة التبصّر والنقد عن إطارها الرسالي والتربوي- الذي هو غايتها الأصيلة- إلى إطار التشهير المحض.
وهنا بالذات كلامٌ للسيّد الصدر (ره) يحاكي المسألة من بعيد، حيث يقول:
«وأنا أرى من فضول القول أن أتحدّث عن صحّة التنظيم وضروراته بالنسبة إلى الحوزة لعلاقتها بمستقبلها، فإنّ هذا أعتبره أمراً ضروريّاً لا ينبغي تركه، كما أنّي أعتبر أنّ المستوى الفكري الذي أعيشه معكم قد تعدّى مرحلة النزاع حول صحّة ذلك، وإنّما أتيت بموضوع النظام لكي أنبّه على نقطة مهمّة، وهذه النقطة هي أنّ دعاة التنظيم في الحوزة وأنصار هذه الفكرة لا ينبغي لهم الغلوّ في التحمّس لهذه الفكرة حتّى تصبح هذه الفكرة عندهم غاية ووسيلة تخرج الفكرة التنظيميّة عن حدودها الصالحة، وتعتبرها الحدّ النهائي، وهذا هو موضع الخطر» «1».
ج- وأكاد أرى تغييباً كبيراً لمنهجٍ ثالثٍ أحقّ بالتبنّي، وتتلخّص معالمه في ضرورة وعي الواقع على ما هو عليه، والإقرار قولًا وعملًا بأنّ العصمة لأهلها، والاعتراف بأنّ علماءنا ليسوا معصومين، وبأنّهم ليسوا طينةً واحدة، وبأنّ مسيرتهم حافلة بالاختلاف هنا وهناك، لكن دون أن يستلزم ذلك الطعن بدين أحد منهم، ومحاولة إيجاد العذر الشرعي حتى مع عدم المصادقة على صحّة العمل بنظر أحدنا، ثمّ تمييز حسنات هذا الواقع عن قبيحه، وتبنّي الحق وتولّيه، ورفض الباطل والتبرّئ منه، والعمل قدر المستطاع على رفع ما يُمكن الوقوف عليه من عيوب.
وكما ألمحنا إليه سابقاً، فإنّ غياب الإمامة المعصومة القائمة بالفعل يجعل لافتراض اجتماع الخطأ مع براءة الذمّة حيّزاً واسعاً، إضافةً إلى ما أمرنا به في الأصل من التريّث والحمل على الأحسن قدر المستطاع .. الأمر الذي يستوجب الأناة في إصدار الأحكام، وهو- أي إصدار الأحكام- أمرٌ لشدّ ما ابتعدت عنه.
ولا بأس هنا بالإحالة إلى نصٍّ يسجّل فيه الإمام الخميني (ره) شيئاً ممّا يتعلّق بما نحن فيه؛ فهذا الرجل الذي شدّد على عدم التشاغل بالتناحرات الداخليّة وتشهير بعضنا البعض «2»، حمل في الوقت نفسه وبشكلٍ واضحٍ وعنيف على تيّار سائدٍ في الحوزة العلميّة «3»، وشدّد على ضرورة كتابة التاريخ كما وقع ودون كتمان الحقائق، ولو أدّى ذلك إلى تضرّر بعض الناس «4»، وهو ما يُفهم من كلام الإمام الخامنئي المتقدّم في دعوته إلى إفهامهم بأنّ هذا المريض مريضٌ حقّاً.
__________________________________________________
(1) من محاضرة للسيّد الصدر (رحمه الله) سنة 1385 هـ تنشر قريباً ضمن كتاب (ومضات) عن المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره)
(2) الجهاد الأكبر: 30- 40
(3) وسيأتيك في هذه المقدّمة بعض كلماته حول ذلك‏
(4) نهضت امام خمينى (فارسي)، ط 15، 1: 11 - 12. وقد تقدّم النصّ في مطلع الكتاب، ولعلّه يتكرّر لاحقاً.

alyatem
31-03-2013, 10:58 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 51

الأمر الثامن‏
وأخيراً أشير إلى فائدة الثقافة التاريخيّة ومساهمتها في التخفيف من حدّة الأزمات النفسيّة التي قد يولّدها الاصطدام مع الواقع الخارجي ومعطياته.
ودعونا هنا نعرّج مباشرةً على ما يرتبط من الكتاب بهذا الجانب، فإنّنا قد نورد بعض الروايات التي قد لا يستسيغها القارئ- وإن كنّا قد نبّهنا على أنّنا لا نتبنّى كلّ ما نورده- فيردّها لمجرّد تصادمها مع بعض المسلمّات التي لا يصادق على سلامتها الواقع الخارجي. ومنهجنا في التعامل مع أصل الجامع الذي تجتمع حوله الأخبار قائمٌ على حساب الاحتمالات، وإليك بعض النماذج:

المثال الأوّل:
يحضرني الآن مثالٌ أوردناه ضمن أحداث سنة 1387 هـ: فقد حدّثني الأستاذ محمود سالم صاحب دار الفكر ببيروت بأنّه كان يزور السيّد الصدر (ره) مرّتين في السنة تقريباً، وقد بقي على ديدنه هذا حتّى بعد طلب السيّد الصدر (ره) منه التوقّف عن طباعة كتبه نتيجة بعض الحرج الذي وقع فيه (ره) مع دار أخرى. وذات مرّة وصل الأستاذ سالم إلى منزل السيّد الصدر (ره) عند الظهر في وقتٍ لم يره مناسباً للزيارة، فقصد حرم الإمام علي (ع) ريثما يصبح الوقت ملائماً. وقد تأذّى هناك من مشهد قابضي النذورات وغيرهم من المعتاشين على هذه الأمور. وعندما التقى بالسيّد الصدر (ره) أخبره بما جرى معه، فبادله (ره) استياءه هذا، فقال له: «سيّدنا، أنتم العلماء، أليس من واجبكم الردع عن هذه الأمور؟!»، فتبسّم السيّد الصدر (ره) وأجابه بكلّ شفافيّة: «إنّ مشكلة علماء السنّة هي أنّهم توظّفوا عند الدولة، فهم عنها ساكتون، ومشكلتنا نحن أنّ وارداتنا من عامّة الناس، فنسكت عنهم قليلًا».
قد يسارع بعض القرّاء لردّ هذه الرواية مع ما تحمله، لمجرّد إشعارها بأنّ العنصر المالي دخيلٌ في تحديد مسار بعض سياسات المرجعيّة. وأنا أقدّر شعور هذا الصنف من القرّاء، لأنّني أعي تماماً طبيعة البيئة التي تكوّنت فيها قناعاته، ولكنّي على الصعيد الشخصي تجاوزت هذه المرحلة ولم أعد أشعر بأزمة نفسيّة إذا طرقت سمعي هذه الحكايا، لأنّني وبكل بساطة استطعت الجمع بين الإيمان العملي بعدم عصمة من لم تثبت عصمته، وبين محاولة تبرير الدوافع متى كان مجالٌ لذلك، والمجال واسع .. ولستُ أدري حقّاً ما المشكلة في أن نفترض صحّة رواية من هذا القبيل- طبعاً بعد الإيمان بأنّ الإمكان لا يكفي في نفسه مبرّراً للبناء على الصحّة إذا لم تتوفّر المبرّرات الموضوعيّة لذلك- ونفترض في الوقت نفسه أنّ الذين راعوا عوام الناس كانوا فعلًا بانين بأنّ المصلحة الدينيّة من وراء مراعاتهم والحفاظ على مقدّرات المؤسّسة المرجعيّة أكبر من مفاسد مقاطعتهم؟! ما المشكلة في ذلك حتّى لو اعتقدنا مثلًا بأنّهم مخطئون وبأنّ المفاسد هي الأعظم؟! طبعاً، جواب السيّد الصدر (ره) هذا ممّا يُمكن تأييده بحوادث أخرى:
1- فالشهيد مرتضى المطهّري (ره) يشير إلى الموضوع بالشفافيّة نفسها وبالوضوح نفسه، حيث يعترف بأنّ من العناصر الإيجابيّة للعامل المالي لدى الشيعة استقلال المؤسّسة الدينيّة عن الدولة وقدرتها على الوقوف بوجهها، ولكن من عناصره السلبيّة حمل العلماء على مراعاة أذواق عوام‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 52

الناس ومعتقداتهم، والحفاظ على حسن ظنّ هؤلاء الناس بهم «1»، وعندما يتحدّث (ره) عن ذلك- وهو المعايش والمعاين لشؤون المرجعيّة عن قرب- فهو لا ينطلق في حديثه من فراغ.
2- وعندما تمّ تدشين مدرسة (الخان) التي تولّى بناءها وإدارتها من قبل السيّد حسين البروجردي (ره) الشيخ مجتبى العراقي، وتمّ تعيين السيّد بدلا والشيخ عبد الحسين الدشتي وشخصين آخرين لإعانة الشيخ العراقي في إدارة المدرسة، تمّ إدخال اللغة الإنجليزيّة مادةً للتعليم. ولمّا عُرض ذلك على السيّد البروجردي (ره) استحسن الفكرة قائلًا: «من يعرف لغة واحدة فهو شخص، ومن يعرف لغتين فهو شخصان، ومن يعرف ثلاثاً فهو ثلاثة أشخاص‏».
ولكن سرعان ما التقى به أحد الأشخاص وقال له: «إذا علم الناس أنّك تبذل أموالهم في سبيل تدريس اللغة الأجنبيّة فستسقط من أعينهم‏»، فاقتنع (ره) بذلك وأعرض عن الفكرة «2».
3- وإذا عدنا قليلًا إلى الوراء، سنجد قريباً منه ما يذكره السيّد محسن الأمين (ره) في ترجمة السيّد حسين ابن السيّد دلدار علي ابن السيّد محمّد معين الدين النقوي النصيرآبادي الرضوي اللكهنوئي، حيث يقول:
«لمّا وصل مجلّد الصلاة من كتابه مناهج التحقيق إلى صاحب الجواهر كتب فيما كتب إليه: (بالله أقسم أنّها كاسمها، إذ هي منهج التدقيق لمن أراد إلى التدقيق سبيلًا، ومعارج التحقيق لمن رام على التحقيق دليلًا، وهداية الحق لطالب الحق، ونجاة الصدق لمريد الصدق. كيف لا! وهي من مصنّفات فرع تلك الذات الملكوتيّة، وغصن تلك الشجرة الزيتونيّة المتبحبح من الأبوّة بين الإمامة والنبوّة، الإمام ابن الإمام، والهمام ابن الهمام، لا يقف على حدٍّ حتّى ينتهي إلى أشرف جدّ، ذريّة [بعضها] من بعض، والله سميع عليم. ولمّا وصلت إلينا رتعت النواظر في خمائل رياضها الزاهرة، وابتهجت الخواطر بتحقيقاتها الباهرة ... إنّ رجائي ممّن هو كعبة رجائي أن ترسلوا باقي أجزاء المناهج إن كانت له بقيّة، وإلّا فمأمولي والتماسي السعي في إتمامه، فإنّني رأيته ما بين، فقد اشتمل على مزيد التحقيق. ولعمري لهو بذلك حقيق، فالتماسي لكم بل إلزامي إيّاكم الجدّ في ذلك ليقرّ به ناظري ويبتهج به خاطري ...)».
ويعلّق السيّد الأمين (ره) قائلًا:
«وأنت ترى في هذه الكتابة أثراً ظاهراً لمراعاة المصلحة العامّة؛ فصاحب الجواهر يطلب ويؤكّد أن ترسل بقيّة الأجزاء إليه، فهل كان في حاجة إليها؟! وإذا كان يرسل بواسطته ثمانين ألف ليرة عثمانيّة إلى الشيخ لإيصال الماء إلى النجف، وإن لم يساعد التوفيق على وصوله، وألوف الروبيّات لتفضيض ضريح العباس (ع)، وتعمير قبري مسلم وهانئ كما يأتي، فلا حرج على الشيخ في ما كتب» «3».
__________________________________________________
(1) مشكل اساسى در سازمان روحانيت (فارسي) : 299- 300؛ وانظر: محاضرات في الدين والاجتماع: 554
(2) مجلّه حوزه (فارسي)، شماره (43) : 167، مصاحبه با حاج آقاى مجتبى عراقى؛ چشم وچراغ مرجعيت .. گفتگو با شاگردان آيت لله بروجردى (فارسي) : 175. والمصدر الثاني هو عين المصدر الأوّل ولكن بعنوان آخر، فما ورد في (يادنامه شرق، ضميمه رايگان تاريخ وانديشه، شماره 12، ويژه آيت الله بروجردى، فروردين85 : 16) نقلًا عن المصدر الثاني من أنّ إعراض السيّد البروجردي (رحمه الله) عن المشروع كان نتيجة اعتراض التجّار والمؤمنين ليس دقيقاً، بل الوارد ما أوردناه في المتن‏
(3) أعيان الشيعة (ط. ق) 9: 173.

alyatem
31-03-2013, 10:59 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 53

وعن هذه المسألة في شقّها المرتبط بأهل السنّة، يقول الشيخ محمّد رشيد رضا صاحب (المنار) :
«إنّ للعلماء من الاحترام والنفوذ الروحي في بلاد الأعاجم ما ليس لهم في البلاد العربيّة، وإنّ احترامهم في بلاد الفرس أشدّ منه في سائر بلاد العجم؛ فإنّ الحكّام ليس لهم عليهم من السلطة هناك مثل ما لغيرهم من حكّام المسلمين، وما أزال الملوك والأمراء احترام العلماء ومحو نفوذهم- حاشا ما كان منه مؤيّداً لهم ومعيناً لاستبدادهم- إلّا بما اخترعوه لهم من الرتب العلميّة وكساوي الشرف الوهميّة، وبما جعلوا من موارد أرزاقهم في تصرّفهم، فصار رزق العالم وجاهه الدنيوي بيد الأمير أو السلطان، وهما الرسنان اللذان يقودون بهما طالب المال والجاه من العلماء إلى حيث شاءوا، فإذا أمكن لطلّاب الإصلاح الإسلامي أن يبطلوا هذه الرتب العلميّة وما لها من الشارات، ويخرجوا أرزاق علماء الدين من أيدي الحكّام فإنّهم يحرّرون العلماء من رقٍّ يكون مقدّمةً لإصلاح الأمّة كلّها» «1».

المثال الثاني:
وربّما أوردنا في الكتاب ما يُستفاد منه تحفّظ العلماء على إبداء ما يتوصّلون إليه من فتاوى مراعاةً للناس، وهو ممّا يثير حفيظة الكثيرين. ولكنّه على أيّة حال ليس ممّا يتفرّد به الكتاب:
1- فها هو الشيخ محمّد جواد مغنيّة مثلًا يقول لدى حديثه عن طهارة أهل الكتاب:
«وما زلتُ أذكر أنّ الأستاذ قال في الدرس ما نصّه: (إنّ أهل الكتاب طاهرون علميّاً- أي نظريّاً- نجسون عمليّاً)، وأنّي أجبته بالحرف أيضاً: (هذا اعترافٌ صريحٌ بأنّ الحكم بالنجاسة عملٌ بلا علم)، فضحك الأستاذ ورفاق الصف، وانتهى كلّ شي‏ء. وقد عاصرتُ ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد، الأوّل كان في النجف الأشرف، وهو الشيخ محمّد رضا آل ياسين؛ والثاني في قم، وهو السيّد صدر الدين الصدر؛ والثالث في لبنان، وهو السيّد محسن الأمين، وقد أفتوا جميعاً بالطهارة، وأسرّوا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوّشين، على أنّ آل ياسين كان أجرأ الجميع. وأنا على يقينٍ بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنّهم يخشون أهل الجهل، والله أحقّ أن يخشوه» «2»، حتّى لو لم يكن اعتقادنا بالمسألة بالمستوى الذي صوّره (ره).
2- وقد قدّمنا في ما سبق رسالة السيّد الصدر (ره) التي يسجّل فيها موقفه من انعكاسات إفتائه بطهارة أهل الكتاب، وفيها إشارة إلى ما نحن فيه.
3- كما أنّ للشهيد مطهّري (ره) كلاماً متعلّقاً بدواعي كتمان الفتاوى عن الناس تحت عنوان (كتمان يا اظهار؟) «3».

المثال الثالث:
قد يجد القارئ في هذا الكتاب بعض الأحداث التي توحي- أو تصرّح- بأنّ لأبناء العلماء دوراً- يختلف خفّةً وشدّةً- في التأثير على سياسات آبائهم، وهو أمرٌ يلمسه أهل‏
__________________________________________________
(1) نامه ها واسناد سياسى- تاريخى از سيد جمال الدين الحسينى اسدآبادى (فارسي) : 198
(2) فقه الإمام جعفر الصادق1: 43
(3) مسأله حجاب (فارسي)، مجموعه آثار19 : 560

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 54

الداخل، وهو في قسمٍ منه أمرٌ طبيعي، ولكنّه أحياناً زائدٌ بمدّه عن حدّه. وفي هذا الصدد كلامٌ للشيخ محمّد جواد مغنيّة (ره)، ونحن وإن خالفناه في مستوى الشدّة وفي تصوير المسألة، إلّا أنّ كلامه ليس نابعاً من فراغ على أيّة حال، وربّما كان ناظراً في هذا النص إلى بعض المصاديق الخارجيّة التي عايشها (ره). يقول (ره) :
«وبهذه المناسبة نذكر أوجه الشبه بين بعض أولاد العلماء بالدين وأولاد إسرائيل، وهو الاسم الثاني ليعقوب:
قال أولاد بني إسرائيل إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ «1»، وبهذا الوصف ينعت بعض أولاد العلماء آباءهم إذا قالوا كلمة أو تصرّفوا تصرّفاً لا يعجبهم ولا يتّفق مع أهوائهم، حتّى ولو كان وحياً منزلًا.
وقال أولاد إسرائيل: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ «2». وهكذا يفعل بعض أولاد العلماء، يتآمرون على الناصح الأمين، ويدسّون عليه الدسائس والمفتريات ليخلو لهم وجه أبيهم وللشياطين من أمثالهم، ثمّ يوحون إليه بما استوحوه من وسطاء الشر وعملاء الشيطان، ويقبضون الأجر بالعملة الصعبة والنقد النادر، وكلّما كان التأثير بالغاً تضاعف الأجر.
وجاء أولاد إسرائيل على قميص يوسف بِدَمٍ كَذِبٍ «3». وفي كل يومٍ يحمل بعض أولاد العلماء لأبائهم أحاديث وروايات ابتدعوها ظلماً وزوراً ينالون بها من مقام المخلص الأمين، ويرفعون من شأن الخائن العميل عند الوالد الكريم، ليأخذ منه ومنهم دون مراقبٍ ومعاتب «4».
وجاء أولاد إسرائيل أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ «5»، يسترون فعلتهم الشنعاء بالنفاق ودموع التماسيح. وتظاهر أولاد العلماء أمام أبيهم المقدّس بالتقى والقداسة كذباً ورياءً؛ لينخدع بدسائسهم ومؤامراتهم» «6».

المثال الرابع:
وإذا أوردنا من الروايات ما يُستفاد منه وجود خلافات بين العلماء، علت صيحات الاتّهام بالوضع والتزوير والتحامل ... باعتبار أنّ لدى الناس مصادرات أوليّة قبليّة حول الموضوع مفادها أنّ «العلماء لا يختلفون»، فكلّما ورد خبر يفيد اختلافهم، حملوه على هذه الكبرى الأوليّة التي لا مجال لمسّها بحسب الفرض، باعتبارها أوليّة، فيتمّ طرح الخبر. وهذا شبيهٌ ببحث المصادرات الذي وقع في فخّه المنطق الأرسطي، الذي حسب أنّ التواتر يفيد اليقين لاعتماده على كبرى عقليّة أوليّة مفادها «استحالة الاتفاق الدائمي»، إلى أن أتى دور السيّد الصدر (ره) الذي أرشد هذا المنطق إلى أنّ هذه الكبرى هي بنفسها وليدة حساب الاحتمال، وأنّها بَعديّة لا قبليّة، وأنّ حياتها تعتمد على مدى جود أو بخل الاحتمالات تبعاً للدرجة الذي يوصل إليها تراكمها.
وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ إيماننا بقضيّة عدم اختلاف العلماء منوط بما يمنحه لنا
__________________________________________________
(1) يوسف: 8
(2) يوسف: 9
(3) يوسف: 18
(4) انظر إلى هنا: التفسير الكاشف 4: 293 - 294؛ صفحات لوقت الفراغ: 177
(5) يوسف: 16
(6) التفسير الكاشف 2: 294.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 55

الاستقراء، لا أنّنا نفترضها مصادرةً من عنديّاتنا ثمّ نحاكم على ضوئها أعداداً هائلة من الاحتمالات المتراكمة التي تنازعها. ومن هنا، فإنّ جولة تاريخيّة ستوصلنا إلى ما يكاد يبلغ حدّ التواتر الإجمالي بوجود خلافات من هذا القبيل، علماً بأنّ ما ينعكس في الكتب لا يعبّر بطبيعة الحال سوى عن جزءٍ يسير ممّا كان يجري، خاصّةً إذا لم يكن هناك قوّة إعلاميّة قائمة.
والخلافات التي نتحدّث عنها ليست ناشئة فقط من الاختلاف في وجهات النظر المتعلّقة بكبريات العمل السياسي والاجتماعي مثلًا، لأنّنا نلمس توتّر الأجواء حتّى في مقام البحث العلمي، حتّى أنّك تجد الشيخ صاحب (الجواهر) (ره) مثلًا يطيل البحث كثيراً في بحث الوجوب العيني لصلاة الجمعة، وممّا يقوله:
«ومن مضحكات المقام دعوى بعض المحدثين تواتر النصوص بالوجوب العيني»، وكذلك قوله: «ولقد وقفت على جملة من الرسائل المصنّفة في المسألة نسجوا فيها على منوال هذه الرسالة، وقد أكثروا فيها من السب والشتم، خصوصاً رسالة الكاشاني التي سمّاها بـ (الشهاب الثاقب ورجوم الشياطين)، ولولا أنّه آية في كتاب الله لقابلناه بمثله، لكن لا يبعد أن تكون هذه الرسالة وما شابهها من كتب الضلال التي يجب إتلافها، اللهمّ إلّا أن يرجّح بقاءها أنّها أشنع شي‏ء على مصنّفيها لما فيها من مخالفة الواقع في النقل وغيره، بل فيها ما يدلّ على أنّهم ليسوا من أهل العلم كي يعتدّ بكلامهم ويعتنى بشأنهم ... ولقد قيل: إنّ بعضهم كان يبالغ في حرمتها حال قصور يده ولمّا ظهرت له كلمة بالغ في وجوبها» «1».ومن هنا- وبعيداً عن المثال المتقدّم- يقول الشيخ مرتضى الأنصاري (ره) : «وقد وقع من بعض الأعلام بالنسبة إلى بعضهم ما لا بدّ له من الحملٍ والتوجيه، أعوذ بالله من الغرور وإعجاب المرء بنفسه، وحسده على غيره، والاستيكال بالعلم» «2». ويقول في موضع آخر: «وأمّا ما وقع من بعض الأعلام بالنسبة إلى من تقدّم عليه منهم من الجهر بالسوء من القول، فلم يعرف له وجهٌ، مع شيوعه بينهم من قديم الأيّام!» «3»، وليس المقام مقام إحصاء كلماتهم الكاشفة عن ذلك ولو بعضاً.
ونحن سنقوم بعرض بعض النماذج التي تؤكّد على وجود خلافات تتفاوت عمقاً وسعةً، ولكنّنا نؤكّد على أنّنا لسنا في مقام بيان حقيقة العلاقة بين علمائنا لتكون هذه النماذج معبّرة عنها، فإنّ هذا سيعني- حينها- تشويهاً للحقيقة؛ لأنّ لدينا مئات الشواهد والحاكايا التاريخيّة التي تكشف عن طهارة وعظمة العلاقات التي قامت بين الكثيرين منهم، وسيأتيك بعضها في هذا الكتاب. إذن نحن في مقام بيان أصل وجود خلاف بينهم فحسب، ولا ندّعي أنّ هذه النماذج تتكفّل بييان طبيعة علاقاتهم بشقّيها الإيجابي والسلبي:
1- الخلاف الواقع بين المحقّق الكركي (ره) وبين الشيخ إبراهيم القطيفي (ره) الذي عارضه بشدّة
__________________________________________________
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 11: 174، 178
(2) كتاب المكاسب 1: 331
(3) كتاب المكاسب 1: 357.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 56

حول دخوله في سلطان الدولة الصفويّة، وهي علاقة وصفها السيّد الأمين (ره) بحالة (العداء) «1»، وقال في موضع آخر: «عاب عليه معاصره ومنافسه الشيخ إبراهيم القطيفي قبوله جوائز السلاطين ... ونرجو أن لا يكون الباعث للقطيفي على ذلك الحسد، وهو ليس من رجال الكركي وأقرانه مع زيادة علمه وفضله. وبالجملة كانت بينهما منازعات وردود ونقوض صنعها القطيفي وأجابه الكركي، ذكرت ترجمتها ... ألّف معاصره الشيخ إبراهيم القطيفي رسالة في الرضاع ردّ بها على المحقّق الكركي، أساء فيها الأدب، وتكلّم بما لا يليق بالعلماء، مع عدم إصابته في أكثر ما ردّ به. ولو فرض جدلًا أنّه مصيب في ردّه لكان مخطئاً كلّ الخطأ وخارجاً عن طريقة أهل العلم في بذاءته» «2». وكان الشيخ القطيفي (ره) قد ردّ على الرسالة الرضاعيّة للمحقّق الكركي (ره) بما يوحي بطبيعة الموقف بينهما، حيث قال: «أشهد بالله أنّ جهاد مثل هذا الرجل على الغلط والأغلاط في المسائل أفضل من الجهاد بالضرب بالسيف في سبيل الله»، وكان يصفه بـ «المعاصر القاصر» «3».
2- أضف إلى ذلك الخلاف الأصولي الأخباري الحاد الذي تجاوز ميادين الصناعة العلميّة، حتّى أنّ الشيخ عبد الله المامقاني (ره) يقول- نقلًا عن ثقات مشايخه بحسب ظاهر عبارته- : «ومن غريب ما نقلوا ممّا يكشف عن قوّة ديانة صاحب الحدائق أنّ مسجد الوحيد (ره) كان محاذياً لمسجد صاحب الحدائق، وكان الوحيد يحكم ببطلان الصلاة خلف صاحب الحدائق، وكان صاحب الحدائق يحكم بصحّة الصلاة خلف الوحيد (ره)، وكانوا يخبرون صاحب الحدائق بما يقوله الوحيد (ره)، فكان يجيب بأنّ: (تكليفه الشرعي ذاك، وتكليفي الشرعي هذا، فكلٌّ منّا يعمل بما كلّفه الله تعالى به)، وكان صاحب الحدائق يتحمّل ذلك لأجل رواج مذهب الأصوليّة ..» «4». وفي الوقت الذي يكشف فيه هذا النص عن ديانة صاحب الحدائق (ره)، فإنّه يكشف عن أمور أخرى نحن بصدد الإلماح إليها.
وقد أودى الخلاف الأصولي الأخباري- في بعض تجلّياته العليا- بحياة الميرزا محمّد الأخباري (ره) الذي يُعرف بالـ (المقتول) «5»؛ فبعد أن حاول الميرزا المذكور إقناع فتح علي شاه القاجاري بتبنّي مذهبه الأخباري، سعى علماء النجف لقطع الطريق عليه، فألّف الشيخ جعفر كاشف‏
__________________________________________________
(1) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 10: 225، تحت عنوان (الأمير نعمة الله الحلي، السيّد الصدر الكبير)
(2) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 10 : 209 - 211، تحت عنوان (الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي العاملي الكركي)
(3) رسائل الكركي 1: 18؛ أعيان الشيعة (ط. ق) 8: 211؛ وانظر حول الموضوع: تاريخ المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة: 289
(4) انظر بهذا الصدد: تنقيح المقال في علم الرجال (ط. حجريّة) 2: 85، حرف الميم، ترجمة (محمّد بن أكمل البهبهاني) تحت رقم (10429)؛ مع علماء النجف الأشرف: 74، نقلًا عنه دون تعيين التفاصيل؛ البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة 1: 25 (مقدّمة التحقيق)
(5) انظر التعبير عنه بـ (المقتول) في: الذريعة 2: 223، 318، 349، 408؛ 3: 92؛ 6: 190، 266؛ 9 : 986؛ 12: 209؛ 14: 197، 221؛ 15 : 3، 22، 104، 129، 193؛ 16 : 60 ؛ 18: 129؛ 19: 373؛ 21: 161، 207؛ 21: 317؛ 24: 33.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 57

الغطاء (ره) رسالة في الرد عليه أهداها- ضمن من أهداها إليهم- إلي فتح علي شاه القاجاري سنة 1222 هـ، وممّا جاء فيها مخاطباً الميرزا الأخباري: «اعلم والله أنّك نقصت اعتبارك، وأذهبت وقارك، وتحمّلت عارك، وأجّجت نارك، وعرفت بصفات خمس هي أخس الصفات، وبها نالتك الفضيحة في الحياة، وتناولتك بعد الممات: أوّلها نقص العقل، ثانيها نقص الدين، ثالثها عدم الوفاء، رابعها عدم الحياء، خامسها الحسد المتجاوز للحد؛ وعلى كل واحد منها شواهد ودلائل لا تخفى عن العالم بل ولا الجاهل ..» «1».
ويبدو من التفاصيل والحكايا التي ينقلها الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (ره) أنّ الموقف تجاه الميرزا الأخباري (ره) كان متوتّراً إلى أبعد الحدود. وبعد استقراره في العراق، عقد درساً يباحث فيه في الردّ على الوحيد البهبهاني (ره) أستاذ الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ره)، فاستاء الأخير لذلك، وإلى جانبه السيّد علي الطباطبائي (ره) صاحب (رياض المسائل) [وهو صهر الوحيد البهبهاني (ره)] «2»، وكذلك الآغا محمّد علي ابن الوحيد، فعزموا على إخراجه من العراق، فاستفتوا الشيخ كاشف الغطاء (ره) : «ما يقول شيخنا في مبتدعٍ بالدين يسعى بإتلاف شريعة سيّد المرسلين؟ وما جزاء من سعى في الأرض الفساد وحارب أولياء الله الأمجاد؟»، فجاء في جواب الشيخ: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ «3»»، ولمّا بعثوا بحكم الشيخ إلى حاكم البلد، نفي الميرزا خارج العراق «4».
وبعد رجوع الميرزا مجدّداً إلى الكاظميّة بعد وفاة الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ره)، خطّط السيّد محمّد الطباطبائي المجاهد (ره) «5»- نجل السيّد علي صاحب (الرياض)- لقتله، فوجّه إلى الشيخ موسى كاشف الغطاء (ره) نجل الشيخ جعفر السؤال التالي: «ما رأي حجّة الله على خلقه وأمينه في أرضه في رجلٍ يؤلّب على العلماء الصالحين، ويسعى في قتلهم إطفاءً لنور الدين؟»، فوقّع الشيخ موسى (ره) : «يجب على كلّ محبٍّ وموالٍ أن يبذل في قتله النفس والمال، وإلّا فلا صلاة ولا صيام له، وليتبوّأ في جهنّم منزله»، ثمّ حكم السيّد عبد الله شبّر (ره)- إمام الكاظميّة آنذاك- بوجوب اتّباع حكم الشيخ موسى، وأيّده علماء آخرون، من قبيل السيّد محسن [الأعرجي‏]- صاحب المحصول- والشيخ أسد الله. وبعد نشر الفتوى في الكاظميّة، هجم الناس على الميرزا في بيته وقتلوه «6» مع ولده الكبير السيّد أحمد وأحد تلامذته «7»، وذلك يوم الأحد 28 / ربيع الأوّل / 1232 هـ «8». وقد أرجع آغا بزرگ الطهراني (ره) السبب‏
__________________________________________________
(1) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 4: 101، تحت عنوان (الشيخ جعفر ابن الشيخ خضر ... الجناجي النجفي)
(2) ما بين [ ] من: تنقيح المقال في علم الرجال (ط. حجريّة) 2: 85، ترجمة رقم (10429)
(3) المائدة: 33
(4) العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة: 86- 103
(5) انظر حول هذا التصريح: روضات الجنّات 7: 129
(6) العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة: 183- 187
(7) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 9: 173؛ موسوعة طبقات الفقهاء13 : 481؛ وانظر: فهرس التراث 2: 112
(8) الوارد في (الذريعة 8: 273) أنّ ذلك كان يوم الأحد سنة 1233 هـ، ووردت هذه السنة في: (مستدرك أعيان الشيعة 7: 94)، بينما جاء في: (الذريعة 8: 227، 10: 241 ...) و (أعيان الشيعة، ط. ق 7: 331) أنّه كان سنة 1232 هـ، وقد أفاد محقّق (العبقات العنبريّة) الدكتور جودت القزويني- استناداً إلى مخطوطات أسرة الأخباري- أنّ ذلك كان يوم الأحد 28 / ر 1 / 1232 هـ.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 58

في ذلك إلى كتابه (السلّم المرونق في من تكفّر وتزندق) «1». وكان الميرزا قد كتب أيضاً (معاول العقول لقطع أساس الأصول)، ردّاً على كتاب (أساس الأصول) للسيّد دلدار علي بن محمّد معين النصير آبادي، فردّ عليه تلامذة الأخير بكتاب (مطارق الحق واليقين لكسر معاول الشياطين) «2».
3- الحالة المضطربة التي ذُكرت بين الشيخ صاحب (الجواهر) وبين الشيخ محسن بن خنفر العفكي (ره)، الذي يقول السيّد الأمين (ره) في ترجمته:
«... قال تلميذه السيّد محمد الهندي في (نظم‏ اللآل في علم الرجال) : (... وكان لغزارة علمه وإحاطته وتفرّده بذلك ربّما أنكر فضيلة بعض الأساطين، وكان خشناً في الله لا يداهن ولا يبالي، أقبل الناس عليه أم أعرضوا) ... وبعض الأساطين المشار إليه في كلام السيّد الهندي هو صاحب (الجواهر) : فيحكى عنه أنّه كان يقول له: (أعطِ جواهرك هذه لبائعي الفلفل والكمّون يصرّون بها «3»)، ولذلك نسب إلى اعوجاج السليقة. ويقال: إنّ صاحب (الجواهر) كان يرميه بذلك، والله أعلم. ولا يبعد أن يكون رميه من علماء عصره باعوجاج السليقة لما كان يبديه من التحقيق ودقّه النظر في المسائل. ويدلّ على ذلك ما يقال: إنّ الشيخ مرتضى الأنصاري كان يُرمى من بعضهم بمثل ذلك. ويحكى أنّه حجّ عن طريق نجد، فزاره صاحب (الجواهر)، وقال لبعض الحاضرين: (سلوه عن هواء نجد الذي أجمع الناس كافّة على حسنه، حتّى ذكرته الشعراء في أشعارها، لتعلموا حال سليقته)، فسألوه فذمّ هواء نجد. وسأله صاحب (الجواهر) مرّة من باب [المطايبة]: (هل للمجتهد جميع ما للإمام؟! وكان يقول بذلك، وصاحب (الجواهر) لا يقول به، فقال: (نعم)، فقال صاحب (الجواهر) : (اشهدوا أنّي طلّقت زوجة الشيخ)، فقال الشيخ محسن: (ثبّت العرش ثمّ انقش). ومثل هذا قد يقع بين المتعاصرين كثيراً، ولا يقدح في جلالة شأنهم، تغمّدنا الله وإيّاهم بعفوه ورحمته» «4».
4- ومثالٌ رابع: الشيخ هادي الطهراني (ره) الذي كاد أن لا يباري الآخوند الخراساني (ره) في زمانه إلّا هو والميرزا حبيب الله الرشتي (ره) «5»، حتّى سمع الشيخ صدر الإسلام محمّد أمين الإمامي الخوئي (ره) بنفسه من بعض من كان ينتسب إلى الشيخ الطهراني (ره) وقرأ على بعض فضلاء تلاميذه اعتقاده بأنّ أكابر أعلام الشيعة مثل المفيد والطوسي والحلّي والطوسي والعلّامة والشهيدين (ره) ومن في طبقتهم لو كانوا حاضرين في عصر الشيخ كانوا يتبادرون إلى حضور درسه والاستفادة من حضرته، وكلّهم يعترفون بأعلميّته وتقدّمه عليهم .. «6».
__________________________________________________
(1) انظر الذريعة 12: 221
(2) انظر الذريعة 21: 207
(3) يقصد: يلفّون بها
(4) أعيان الشيعة (ط. ق) 9: 47 - 48
(5) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 9: 6، تحت عنوان (الآخوند الشيخ ملّا كاظم)
(6) مرآة الشرق 2: 1381.

alyatem
31-03-2013, 11:01 AM
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 59

يقول الشيخ بزرگ الطهراني (ره) في ترجمة الشيخ رضا الهمداني (ره) :
«.. وقد أصرّ علماء عصره على الطعن بالحجّة الجليل الشيخ هادي الطهراني حسداً لمكانته، إلّا المترجم له ..» «1». كما تعرّض لنكبته السيّد محسن الأمين (ره) في ترجمة الشيخ الهمداني (ره) أيضاً، حيث يقول: «كان في عصره رجل في النجف اسمه الشيخ هادي الطهراني، مشهور بالفضل، له حلقة درس كبيرة ومؤلّفات مطبوعة، يقال: إنّه كان يطيل لسانه على أكابر العلماء. ولعلّه لما كان يعتقده في نفسه من الفضل والتفوّق. وقد شاهدناه في النجف وكثر الكلام في حقّه من كثير من أكابر العلماء، حتّى وصل إلى حد التكفير، فانحلّ أمره وتناقص عدد حلقة درسه إلى ما يقرب من عدد الأصابع أو يزيد قليلًا، وكان ذلك قبل ورودنا النجف، فوردناها والحال على ذلك. وفي بعض أوقات وجودنا فيها ثارت ثائرة جماعة من العلماء عليه، فأصدروا فتاواهم بتكفيره، وأرسلوا إلى شيخنا المترجم ليشاركهم في ذلك فأبى وقال: التكفير أمرٌ عظيم لا أقدم عليه بمثل هذه النسب، وصارت يومئذٍ مسألة الشيخ هادي حديث الناس من العلماء والطلّاب وغيرهم في مجالسهم ومحافلهم»«2».
وأضاف في موضع آخر:
«تصدّى للتدريس، فتهافتت عليه الطلّاب وأعجبوا بحسن أسلوبه في الإلقاء والإملاء، وبجودة تحقيقه في ذلك وحسن بيانه، وطار ذكره وكثرت تلاميذه وانتشروا في الأقطار، وكانوا مغالين به يفضّلونه على معظم العلماء من المعاصرين والقدماء. وكان لهذه المزايا، ولما طبع عليه من علو الفطرة لا يعجبه كثيرٌ من العلماء، وربّما أوقع في بعضهم، وجهّلهم، وفنّد آراءهم، وصرّح بمؤاخذتهم، فاغتنم هذا فيه بعض معاصريه أو مفاخريه، فحمل بإغراء أتباعه على إعلان تكفيره، فكان لهذه الواقعة دوي في المحافل الدينية وغيرها في العراق وغيره. وتحزّب الناس حزبين، وانبرى لنصرته وبراءته فريق من العلماء، منهم الشيخ محمّد حسين الكاظمي والملّا محمّد الإيرواني وغيرهما، فهان أمره، ولولا ذلك لانتظر الإيقاع به. رأيناه في النجف والطلّاب والعلماء تتحامى مخالطته خوفاً على أنفسهم من ألسنة الناس، ولا يحضر درسه إلّا نفر قليل متناهون في الإخلاص له، لا يبلغون الخمسة عشر. وكان يحضر درسه أوّلًا فضلاء العرب والفرس، فلما جرى عليه ما جرى تحامى الناس حضور درسه خوفاً من الناس، مع رغبتهم في حضوره، وكانت حادثته هذه في عصر الميرزا الشيرازي والميرزا في سامراء، فلم ينبس فيها ببنت شفة، إلّا انه قطع السؤال عنه. وكانت هذه الحادثة قبل مجيئنا إلى النجف، ودخلناها وحالته كما ذكرنا من تحامي الناس درسه سوى خاصّته، وكان يدرّس نهاراً في بيته وليلًا على سطح الكيشوانيّة القبليّة الشرقيّة، ثمّ جدّد أمر الهياج عليه ونحن بالنجف من أكثر العلماء إلّا شيخنا الآغا رضا الهمداني؛ فلم يدخل في ذلك ولم يرض أن يجري ذكر هذا الأمر في مجلسه بحرف واحد، وإلّا شيخنا الشيخ محمّد طه نجف. وكان كثيرٌ من الناس يغالي في علمه وفضله، لكنّ الذي سمعته من السيّد علي ابن عمّنا السيّد محمود- وكان ممّن حضر مجلس درسه- أنّه ليس بتلك المنزلة من المغالاة، وإن كان في مرتبة سامية من الفضل، وأنّ الناس في حقّه بين الإفراط والتفريط. ولكن من المحقّق أنّه كان يطيل لسانه على العلماء، ويقال إنّه صنّف حاشية على رسائل الأنصاري سمّاها الحسام المنتضى على الشيخ مرتضى، وكان يقول للشيخ حسن ابن صاحب الجواهر وهو في مجلس درسه: إنّ أباك ليلة كتب هذا المطلب كان عشاؤه طبيخ الماش، ونحو ذلك. ومثل هذا يقع كثيراً من العلماء، خصوصاً من ذوي الأفهام الحادّة والأفكار الواسعة»«1».
__________________________________________________
(1) نقباء البشر في القرن الرابع عشر 2: 777
(2) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 7: 20.
(1) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 10: 233، تحت عنوان (الشيخ هادي ابن الحاج ملّا محمّد أمين الواعظ الطهراني النجفي)

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 60

يقول متمّم (روضات الجنّات) في ترجمة الشيخ الطهراني (ره) :
«ونقل أنّه كان كثير الطعن والتشنيع في مجلس درسه على العلماء والمجتهدين في مقام ردّ كلماتهم، ولذا نقل بل اشتهر أنّ معاصره العلّامة الرشتي المتقدّم ذكره حكم بكفره، بحيث نقل لنا من أثق بنقله وأعتمد على قوله أنّ شيخنا الهادي صاحب العنوان ورد في تأبين بعض علماء النجف، فلمّا سقوه القهوة حسب ما هو العادة في المأتم والتعازي، صاح من وسط المجلس بعض المغرضين بمحضر الشيخ العلّامة الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي (ره) وملأٍ من الناس: (اغسلوا فنجان القهوة الذي شرب منه الشيخ هادي)، وكان شيخنا العلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسين الكاظمي (ره) حاضراً في المجلس، فلمّا سمع تلك الصيحة النفسانيّة المنبعثة من الوساوس الشيطانيّة والدسائس الشخصيّة، حرّكته الغيرة الإيمانيّة، فأمر بإتيان كوز من الماء ليشرب، فجي‏ء له بكوز من الماء، فقدّمه لشيخنا الهادي (ره) وقال: (اشرب منه حتّى أشرب سؤرك)، ففعل ذلك، فتعجّب الحاضرون من صنيع الشيخ، فوثقوا بصاحب العنوان بعد فعل الشيخ المعظّم عليه، وتركوا الحركات القبيحة والتكلّمات البذيّة الموجبة لفساد عقايد العوام، والمخرّبة لشعائر الإسلام، ولولاه لكان ساقطاً عن الأنظار بالكليّة. وبالجملة لم نر في مؤلّفاته ما يوجب ذلك، بل يعبّر في كتبه عن علمائنا رضوان الله عليهم بحسن التعبير. وظنّي أنّ بعض المغرضين المفسدين الذين غرضهم هتك شعائر الله وحرماته ألبسوا الأمر على العلّامة الرشتي (قدس سره)، ومع ذلك ما أظنّه تفوّه بذلك، بل نسبوه إليه، كما وقع نظيره لمعاصره العلّامة الشيرازي (ره) بالنسبة إلى تحريم التنباك» «2».
ويذكر الشيخ صدر الإسلام الخوئي (ره) في ترجمة الشيخ حبيب الله الرشتي (ره) : «سافر المترجم إلى إيران .. ولمّا رجع المترجم من سفره إلى النجف الأطهر، زاره جلّ طبقاتها، وزاره أيضاً الشيخ محمّد هادي الطهراني من أعلام عصره. ولمّا قام الشيخ المذكور من مجلسه أمر المترجم بتغسيل الفنجان- الذي شرب الشيخ المذكور فيه القهوة- على ملأ من الحاضرين ومشهدٍ منهم، وانتشر الخبر من حينه وشاع وفشا شيوعاً عظيماً، فجاء المترجم جماعة يسألون عن العمل المذكور وسرّه ورأيه فيه، فأجابهم المترجم أوّلًا بأنّ الأمر بالتغسيل إنّما هو على وجه الاحتياط ممّا بلغه من الشيخ المذكور بوجوه ليس المقام موضع شرحه؛ فاعتُرض عليه- ولعلّ هذا الاعتراض كان على الشيخ وإن كان له بصورته- بأنّ الاحتياط إنّما هو في خلافه، لاستلزام العمل الحرام القطعي لأمرٍ لم يُعلم وجوبه، فيه توهين المؤمن، بل إيذاؤه وكسر اعتباره وهدم مقامه وهتك حرمة. فلمّا سمع به المترجم أظهر الجزم بذلك. فلمّا صدر منه [الأمر] تنجّز على الطهراني ما كان‏
__________________________________________________
(2) انظر: أحسن الوديعة في تراجم أشهر مشاهير مجتهدي الشيعة 1: 167 - 168؛ مقدّمة تحقيق الفوائد الأصوليّة للشيخ الأنصاري (رحمه الله) : 101، نقلًا عنه.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 61

يتبعه، واستقرّ وشاع أثره، وطار صيته وعلا وامتدّ ذيوله.
ووقتئٍذٍ قام بعض معاصريه- مثل العلّامة مولى محمّد الأيرواني الفاضل من عمد أعلام العصر وزعيمه- وغيره بتبجيل الشيخ المذكور وتعظيمه اعتقاداً منهم باشتباه المترجم في نظره، ولكنّ الشيخ لم يستقم صلباً ولم ينبسط وجهاً بعد ذلك مدّة حياته أبداً، مع الإصرار والاجتهاد [البليغ‏] في ترويج أمره وتعظيم مقامه ورفع الوصمة عنه من أعلام عصره، وما كان ذلك كلّه إلّا لإساءة اللسان منه بالنسبة إلى السلف الصالح رضوان الله [على‏] معاشر الماضين أجمعين، والله العالم بحقايق الأحوال وبواطن الأسرار» «1».
وأورد في ترجمة الشيخ محمّد هادي الطهراني (ره) :
«وكان (ره) حديد اللسان في المحاورة، قليل الرعاية في الكلام والانتقاد والقدح على أقرانه من السلف والخلف، ولا يبالي مخالفة الشهرة في الفتوى، بل لا يخلو عن حبّ التفرّد والاشتهار. وقد تقدّم ذكر معاملة العلّامة الميرزا حبيب الله الجيلاني النجفي مع المترجم في مجلسه العام وأمره باغتسال الفنجان- الذي شرب فيه المترجم قهوة- على رؤوس الأشهاد، وما ورد على المترجم من الكسر والنكبة بعد ذلك، بحيث إنّه لم يبتسم وجهاً ولم يستقم صلباً ولم يعدل أمراً ولم يرأ سقماً بعد ذلك اليوم إلى آخر عمره وخاتم أمره أبداً.
ويقال: إنّ كلّ ذلك كان ممّا كان عليه المترجم المغفور له من عدم [المبالاة] في انتقاداته العلميّة بالنسبة إلى السلف الصالح من أعلام الدين وخيار رجال العلم والأساتذة المحقّقين، ولو بالاستخفاف وسوء التعبير في ذلك، ولو على رؤوس الأشهاد، في مجالس درسه ونحوه. ويقال أيضاً: إنّ السبب في سوء اعتقاد العلّامة الجيلاني للمترجم ومعاملته معه أنّ العلّامة المذكور وقف على مقالة أو كرّاسة بقلم المترجم، أو سمع بمقالته هذه ممّن يثق به، أنّ المترجم ينكر فيه علم الباري تعالى شأنه على «2» الجزئيّات، كما نسب ذلك إلى جملة من الفلاسفة أيضاً، فجرى بينهما ما جرى من الأمر. وقيل في ذلك مقالات أخرى [غيرها] أيضاً [ممّا] لا ينبغي ذكرها، فضلًا عن قبولها أو الظن بصدقها في مثل هذا العالم الجليل ..» «3».
5- هذا إضافةً إلى العلاقات المتوتّرة بين أنصار الآخوند الخراساني وبين أنصار السيّد محمّد كاظم اليزدي (ره)؛ فقد أورد السيّد الأمين (ره) في ترجمة أستاذه السيّد محمّد كاظم اليزدي (ره) : «في أيّامه ظهر أمر المشروطة في إيران، وأعقبها خلع السلطان عبد الحميد في تركيا، وكان هو ضدّ المشروطيّة، وبعض العلماء يؤيّدونها، كالشيخ ملّا كاظم الخراساني وغيره. وتعصّب لكلٍّ منهما فريقٌ من الفرس، وكان عامّة أهل العراق وسوادهم مع اليزدي، خصوصاً من لهم فوائد من بلاد إيران، لظنّهم أنّ المشروطيّة تقطعها. وجرت بسبب ذلك فتن وأمور يطول شرحها، وليس لنا إلّا أن نحمل كلًّا منهما على المحمل الحسن والاختلاف في اجتهاد الرأي‏» «4»، وقد بلغ الأمر أنّ أنصار المشروطة أرادوا قتل السيّد اليزدي (ره) لولا
__________________________________________________
(1) مرآة الشرق 1: 688
(2) كذا في المصدر
(3) مرآة الشرق 2: 1380
(4) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 10: 43

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 62

دفاع رؤساء عرب النجف وشيوخهم عنه وطوافهم ببيته لحمايته «1».
ويفصّل الحديث السيّد حسن الأمين (ره)، حيث يذكر أنّه بعد امتناع السيّد محمّد كاظم اليزدي (ره) عن التوقيع على (المشروطة)، صار أنصاره يوصفون بالمستبدّين، وانقسمت النجف والمدن الأخرى إلى فريقين، وقد استطاع السيّد اليزدي (ره) أن يكسب كفّة الميزان لصالحه، و «كان أكثر العامّة من دعاة الاستبداد، ويعدّون الملّا كاظم الخراساني هو وأتباعه كفّاراً، ولا يكادون يسمعون عن أحد العلماء أنّه (مشروطة) حتّى ينفضّوا عنه ويلعنوه ويتركوا الصلاة خلفه‏».
وبعد أن انقلب موقف الدولة العثمانيّة لصالح الشيخ الآخوند الخراساني (ره) «نظم الشيخ علي الشرقي قصيدة يهجو بها اليزدي ويتشفّى به، كما نظم السيّد صالح الحلي بعض الأبيات اللاذعة من الشعر، قارن في أحدها بين اليزدي ويزيد» «2»، وهي قوله:

فوالله ما أدري غداً في جهنّم*** (أَيَزْدِيُّها) أشقى الورى أو يزيدُها «3»


6- وبما أنّ اسم السيّد الأمين (ره) قد تردّد، فلا بأس بالإشارة إلى ما تعرّض له عقيب انتقاده بعض المراسم الحسينيّة التي تجري في يوم عاشوراء: فقد حرّم (ره) الضرب بالسيوف والسلاسل يوم عاشوراء، ودعا إلى مقاومة من يستعمل الطبول والصنوج والأبواق، [وقد تسرّبت هذه الظاهرة لاحقاً إلى مراسم استقبال الجنائز، في حين كان استعمال الطبول في العهد الذي كان فيه السيّد الأمين (ره) في النجف مقصوراً على التُرك الإيرانيّين في أيّام عاشوراء] «4»، وكان ذلك في تصريحٍ له إلى مراسل جريدة (العهد الجديد) البيروتيّة، فألّف الشيخ عبد الحسين صادق (ره) سنة 1345 هـ في الردّ عليه رسالة (سيماء الصلحاء في إثبات جواز إقامة العزاء لسيّد الشهداء (ع))، وهي عبارة عن الفائدة الثانية والسبعين من كتابه (مجمع الفوائد)، ثمّ طبعها مستقلّة في اثنين وثمانين صفحة بعد أن دعت الحاجة إلى ذلك، وهي- بحسب قول الشيخ صادق (ره)- أنّ «ناشئة عصريّة ولّدها الدهر بعد حبال أو قاءها بعد جشا، تنتحل دين الإسلام، وما هي منه بفتيل أو نقير، ولا بعير أو نفير، وإن تقشّفت بلبسته وأدهنت بصفته‏...»، ثمّ يقارن بين السيّد الأمين (ره)- دون أن يسمّيه- وبين الوهابيّة- دون أن يسمّيها كذلك- التي هدّدت بتخريب قبور البقيع، قائلًا: «ولا ريب أنّ هذه العصا من تلك العصية».
وعلى أيّة حال، فقد ألّف السيّد الأمين (ره) في الردّ على (سيماء الصلحاء) رسالة (التنزيه)، والتي- بحسب قوله- : «قام لها بعض الناس وقعدوا، وأبرقوا وأرعدوا، وجاشوا وأزبدوا، وهيّجوا طغام العوام والقشريّين ممّن ينسب للدين، فذهب زبدهم جفاء ومكث ما ينفع الناس في الأرض».
وكانت ردّة الفعل الشعبيّة على دعوة (التنزيه) مزيداً من التمسّك بالشعائر الحسينيّة، ظهر «في أوّل شهر محرّم جاء بعد الفتوى؛ فقد ازداد عدد الضاربين بالسيوف والسلاسل، وازداد استعمال الطبول والصنوج والأبواق، وكثرت‏
__________________________________________________
(1) أحسن الوديعة في تراجم أشهر مشاهير مجتهدي الشيعة 1: 190
(2) مستدركات أعيان الشيعة 4: 151 - 152
(3) انظر: هكذا عرفتهم 1: 109؛ وانظر حول الخلاف بين هذين العالِمين: المرجعيّة الدينيّة ومراجع الإماميّة: 118- 120
(4) ما بين [ ] من: رحلات السيّد الأمين: 113.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 63

الأهازيج والأناشيد التي تتضمّن النقمة والتحدّي لتلك الحركة الإصلاحيّة». وقد أيّد السيّد الأمين (ره) من علماء جبل عامل الشيخ أحمد رضا، الشيخ سليمان ظاهر، [الشيخ محسن شرارة]، ومن العراق: السيّد أبو الحسن الإصفهاني، الشيخ عبد الكريم الجزائري، الشيخ علي القمي، الشيخ جعفر البديري، السيّد مهدي القزويني، السيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ومن الهند: الكاتب الهندي محمّد علي سالمين صاحب جريدة (ديوائن ميسج) التي تصدر في بومباي باللغة الإنجليزيّة، والذي كتب مقالًا نشر باللغة العربيّة.
وقد وقف إلى جانب صاحب (سيماء الصلحاء) عددٌ من رجال الدين، [خاصّةً بعد إصدار الميرزا النائيني (ره) فتواه بالتحليل بتاريخ 5 / ربيع الأوّل / 1354 هـ]: منهم السيّد عبد الحسين شرف الدين، السيّد نور الدين شرف الدين، الشيخ عبد الله سبيتي، والشيخ مرتضى آل ياسين (ره)، [وقد أصدر بعضهم كتباً في هذا المجال، من قبيل: (المواكب الحسينيّة) للشيخ كاشف الغطاء، و (نظرة دامعة حول مظاهرات عاشوراء) للشيخ مرتضى آل ياسين، و (الأساليب البديعة في رجحان مآتم الشيعة) للسيّد شرف الدين والتي نشرت في مجلّة (العرفان)].
وكان للصحافة كذلك دورٌ واسع في تحريك هذه الظاهرة، فكتبت مقالات عديدة- بعضها باسم مستعار- مع السيّد الأمين، وبعضها ضدّه؛ فكتب اثنان من أنصاره، وقع أحدهما مقاله بتوقيع (حبيب بن مظاهر) ووقّعه الثاني بتوقيع (أبو فراس) «1».
أمّا السيّد أبو الحسن الإصفهاني (ره) الذي أيّده، فقد أصدر فتواه التالية:
«إنّ استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق، وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء بيوم عاشوراء باسم الحزن على الحسين، إنّما هو محرّم وغير شرعي‏».
وإثر ذلك انقسم الناس إلى فريقين: أطلق عليهم العوام: (الأمويّون)، وهم أنصار السيّد الأمين (ره)، ويقابلهم (العلويّون)، وهم أنصار الطرف المقابل. وقد بلغت الأمور بين الفريقين شدّتها، حتّى راح حملة القرب وسقاة الماء ينادون‏: «لعن الله الأمين .. ماء»، بعد أن كانوا ينادون: «لعن الله حرملة .. ماء». ويؤكّد الخليلي أنّ العامليّين الذين يسكنون النجف كانوا السبب الأكبر في توتّر الجو ضدّ السيّد الأمين (ره).
وفي هذه الأجواء، أطلق الخطيب المعروف، السيّد صالح الحلّي (ره) شعره ذائع الصيت، والذي يقال إنّه لأحد العامليّين، وإنّما اشتهر على لسان السيّد الحلّي لشدّة موقفه من السيّد الأمين (ره)،
__________________________________________________
(1) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 11: 20 - 21؛ الذريعة 12: 292؛ وما بين: [ ] من: حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل: 144- 149. وقد جاء في المصدر أنّ من الذين أيّدوا الفريق الذي يقابل السيّد الأمين (رحمه الله) : السيّد محسن الحكيم والسيّد محمود الشاهرودي والسيّد الخوئي والسيّد عبد الهادي الشاهرودي والسيّد حسين الحمّامي، وهذا بعيدٌ بحقّ بعضهم على الأقلّ، لأنّ ما نحن فيه يرجع إلى سنة 1345 هـ. ويُشار إلى أنّ الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) صرّح بأنّ الأدلّة الفقهيّة لا تساعد إلّا على الحرمة، ولكنّ هذه الأعمال إن صدرت من المكلّف بدافع العشق الحسيني، فلا يبعد جوازها، بل إنّها تكون من القربات وأجلّ العبادات (الفردوس الأعلى: 58- 59).

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 64

والشعر هو:

يا راحلًا أما مررت بجلّق***فابصق بوجه أمينها المتزندق‏

ونظم في مقابله الشيخ مهدي الحجّار شعره التالي:

يا حرّ رأيك لا تحفل بمنتقد***إنّ الحقيقة لا تخفى على أحد
إن تلق ذمّاً على رأي تجد مدحاً***وأنت في البين لم تنقص ولم تزد
وهل على الشمس بأسٌ حين لم ترها***عين أصيبت بداء الجهل لا الرمد
يا أيّها الوطن المحبوب رحلتنا***وقفا عليك غداً أو لا فبعد غد
آسى على ضيعة الأخلاق منك وذا***قلبي لأجلك مطويٌّ على الكمد
هذى بنوك صوادّ عن معارفها***و كيف يمكث ذوري بجنب صدي‏
ليس المقام على الإرغام من شيمي***أقصى البلاد أدنى الإبا بلدي‏
إنّي أقول ونظم الشهب من كلمي***كما أصول ونصر الله من مددي‏
عن كلّ شائنة في معطسي شمم***لكن على بيعة الرضوان هاك يدي‏
عندي من المتنبي خير عاطفة***روح الحماسة حلّت منه في جسدي‏
ومصلح فاه «بالتنزيه» ليس له***غير الحقيقة إي والله من صدد
تأسَّ يا «محسن» فيما لقيت بما***لاقاه جدّك من بغي ومن حسد
إنّا على «عامل» نأسى لأنّ بها***من لا يفرّق بين الزبد والزبد
سيروا شبيبتنا لكن على خطط*** قد سنّها الدين في منهاجه الجدد
لا تجعلوا لسقيم الذوق منتقداً***عليكم واحذروا من أعين الرصد
إنّا لنأمل فيكم أنّ شعبكم***يعود ملتئماً في شمله البدد «1»

وللسيّد رضا الهندي (ره) شعرٌ قيل إنّه نظمه في السيّد الأمين (ره)، وكان الأوّل مخالفاً الثاني في ما دعا إليه، ولكن يبدو من جواب السيّد الهندي عن سؤال الأستاذ جعفر الخليلي أنّه لم يقله في السيّد الأمين (ره)، هذا إن لم يكن لغيره، وهو:

ذريّة الزهراء إن عددت *** يوماً ليطري الناس فيها الثنا
فلا تعدّوا (محسناً) منهم *** لأنّها قد أسقطت (محسنا)

كما تطاول السيّد صالح الحلّي (ره) على السيّد الإصفهاني (ره) نفسه «2»، وقد أقدم الأخير على تحريم مجالسه مفتياً بفسقه «3»، فأنشأ الشيخ علي بازي مؤرّخاً ذلك:
__________________________________________________
(1) انظر الشعر بالخصوص في: أعيان الشيعة (ط. ق) 10: 148
(2) انظر: هكذا عرفتهم 1: 207 - 210؛ وما يتعلّق بالسيّد رضا الهندي (رحمه الله) انظره في: هكذا عرفتهم1 : 31، وفي بعض الدواوين: «لتحصي» بدل «ليطري»
(3) في التعبير عن هذه الأمور بالفتاوى تسامح، ولا مصحّح له سوى أن يكون من باب تحقيق موضوع الفتوى، وهو على كلّ حال أمرٌ يستوي فيه المقلّد مع مقلَّده في غير الموارد الولائيّة ويمكنه مخالفته فيه. اللهمّ إلّا أن يكون لفظ الفتوى للأعمّ من الحكم المحض- أعني غير الولائي- والولائي.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 65


أبو حسنٍ أفتى بتفسيق ***صالح قراءته أرّختها (غير صالحة)

ولمّا حاول وجوه الحلّة استرضاء السيّد الإصفهاني (ره) ملقين بالسيّد صالح على قدميه، أبى التراجع عن موقفه وقال: «إنّ السيّد صالح كحرف (أي) التي قيل عنها (أيٌّ كذا خلقت‏)» «1»، فكان أن اعتذر السيّد صالح عمّا بدا منه في حشد حافل في الصحن الحيدري، حيث اعتلا المنبر وقال: «أيّها الناس! إنّي أستغفر الله عمّا قلته وعمّا سأقوله‏»، ثمّ نزل «2».
يقول السيّد محسن الأمين (ره) :
«لقد أشاعوا في العوام أنّ فلاناً حرّم إقامة العزاء، بل زادوا على ذلك أن نسبونا إلى الخروج من الدين، واستغلّوا بذلك بعض الجامدين من المعمّمين، فقيل لهم: إنّ فلاناً هو الذي شيّد المجالس في دمشق، فقالوا: قد كان هذا في أوّل أمره، لكنّه بعد ذلك خرج من دين الإسلام. وعمدوا إلى شخص من الذاكرين يسمّى السيّد صالح الحلّي، بذلوا له مالًا على أن يقرأ في مجلسٍ أنشأوه كمسجد الضرار، ليقرأ فيه السيّد صالح ويقدح فينا، ورهن بعضهم لذلك داره وأنفق المال الذي رهنها به في ذلك السبيل»«3».
ناهيك عن مجريات تاريخيّة أشدّ قرباً إلينا، تختلف شدّةً وضعفاً:
7- من قبيل ما حدث بين السيّد حسين البروجردي وبين السيّد محمّد حسين الطباطبائي (ره) بعد عودة الأخير من تبريز إلى قم وشروعه بتدريس (الأسفار) واجتماع أكثر من مئة طالب في درسه؛ فقد أمر السيّد البروجردي (ره) بقطع رواتب من يحضر هذا الدرس، وأرسل إلى السيّد الطباطبائي [الحاج أحمد الخادمي‏] يبلغه بأنّه هو بنفسه درس (الأسفار) ولكن بشكل مخفي، وأنّ هذا الدرس ليس من الدروس المتعارفة في الحوزة، فأجاب الطباطبائي (ره) بأنّه درس ما هو متعارف في الحوزة من فقه وأصول، وأنّه لا يقلّ عن الآخرين في هذا الجانب. وقد انقطع الأمر عند هذا الحد ولم يتعرّض لهم السيّد البروجردي (ره) بعد ذلك، وأرسل إلى السيّد الطباطبائي (ره) ذات مرّة نسخة من القرآن الكريم من أصحّ وأجود المطبوع «4». وكان الشيخ حسين المنتظري يدرّس‏
__________________________________________________
(1) انظر: هكذا عرفتهم 1: 109 - 111. ويشير السيّد الإصفهاني (رحمه الله) في قوله: «أيٌّ كذا خلقت» إلى ما جرى مع مروان بن سعيد بن عبّاد بن عبّاد بن حبيب بن المهلّب بن أبي صفرة حين سأل الكسائي بحضرة يونس: «أيّ شي‏ء يشبه (أيّ) من الكلام؟»، فقال: «ما ومن»، فقال له: «فكيف تقول: لأضربنّ من في الدار؟»، قال: «لأضربنّ من في الدار»، قال: «فكيف تقول: لأركبنّ ما تركبُ؟»، قال: «لأَركبنّ ما تركب»، قال: «فكيف تقول: ضربت من في الدار؟»، قال: «ضربتُ مَن في الدار»، قال: «فكيف تقول: رَكبتُ ما ركبتَ؟»، قال: «ركبتُ ما ركبتَ»، قال: «فكيف تقول لأضربنّ أيّهم في الدار؟»، قال: «لأضربنّ أيَّهم في الدار»، قال: «فكيف تقول ضَرِبتُ أيّهم في الدار؟»، قال: «لا يجوز»، قال: «لِمَ؟»، قال: «أيٌّ كذا خلقت» (أخبار النحويّين، الموسوعة الشعريّة: 22)
(2) انظر: حياة الإمام السيّد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (قدس سره) .. دراسة وتحليل: 150، نقلًا عن الشيخ باقر القرشي الذي كان حاضراً
(3) انظر: أعيان الشيعة (ط. ق) 10: 363
(4) مهر تابان (فارسي) : 61 وما بعد؛ الشمس الساطعة: 101 وما بعد.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 66

(المنظومة)، فتعطّل درسه «1»، ولكنّ السيّد البروجردي (ره) إنّما كان يعارض درس (الأسفار) و (المنظومة)، ولم يعارض تدريس فلسفة ابن سينا وفلسفة المشّائين «2».
أو الضغوط التي سبّبتها تعليقة السيّد الطباطبائي (ره) على كتاب (بحار الأنوار)، والتي أدّت بمتولّي طبع الكتاب إلى الاعتذار منه عن متابعة طبع بقيّة التعليقة، بعد أن توقّفت عند الجزء السادس، وكان السيّد الطباطبائي (ره) يرفض التخفيف من التعليق باعتبار أنّ منزلة الإمام الصادق (ع) أعظم من منزلة صاحب (البحار) «3»، وكان يردّد: «قد أخطأ المجلسي، قد أخطأ العلّامة» «4». وكان السيّد عبد الهادي الشيرازي (ره) قد أصدر بياناً من النجف الأشرف نشره في قم إثر تعليق السيّد الطباطبائي (ره) على (البحار)، وبحسب المصدر فإنّه: «تقريباً قد كفّره‏» «5».
ويشير السيّد الطباطبائي (ره) في بعض كتاباته إلى ظاهرة حمل مقولة (مخالفة العلماء) حملَ قميص عثمان، ويؤكّد على أنّ حسن الظن بالعلماء واحترام شخصيّتهم الدينيّة شي‏ء، واتباع نظريّاتهم العلميّة وأفكارهم العقليّة شي‏ء آخر «6». ويقول (ره) في تفسيره (الميزان) : «فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلّم المربي نفسه متصفاً بما يصفه للمتعلّم، متلبّساً بما يريد أن يلبسه، فمن المحال العادي أن يربّي المربّي الجبان شجاعاً باسلًا، أو يتخرّج عالمٌ حرٌّ في آرائه وأنظاره من مدرسة التعصّب واللجاج، وهكذا» «7».
8- وعام 1949 م وقعت في المدرسة الفيضيّة في قم خلافات بين الطلّاب الرشتيّين وبين الطلّاب الأتراك، هجموا خلالها على بعضهم البعض، وقد نشرت ذلك صحيفة (استوار) القميّة، ودخل رجال الأمن على إثرها المدرسة الفيضيّة. وقد دفعت هذه الحادثة بالإمام الخميني (ره) إلى
__________________________________________________
(1) تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 207
(2) تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 210
(3) مهر تابان (فارسي) : 35- 36؛ الشمس الساطعة: 52- 53.
(4) تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 216
(5) تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 212، نقلًا عن حسين حقّاني. وقد ذكر لي الشيخ جعفر السبحاني أنّه اطّلع ضمن تركة السيّد الطباطبائي (رحمه الله) على مجموعة من الرسائل التي كانت قد أرسلت إليه، وفيها شتمٌ وكلامٌ من قبيله.
وإذا رغب القارئ الكريم في الاطلاع على تعليقات السيّد الطباطبائي (رحمه الله) على (البحار) ليرى طبيعتها، فليراجع: بحار الأنوار ج 1: 90، 100، 104، 135، 179، 194، 218؛ ج2: 25، 33، 52، 104، 123، 135، 141، 160، 174، 176، 177، 185، 192، 314، 319؛ ج3 : 8، 31، 40، 45، 56، 62، 82، 87، 110، 143، 151، 180، 229، 249، 252، 258، 267، 273، 306، 327؛ ج4 : 38، 62، 63، 72، 86، 98، 129، 131، 137، 140، 144، 148، 149، 164، 167، 197، 296، 302، 305؛ ج5 : 7، 18، 33، 39، 83، 102، 105، 111، 112، 123، 149، 161، 207، 215، 223، 224، 234، 257، 276، 294؛ ج6 : 8، 37، 158، 271، 280، 290، 291، 326، 330، 336
(6) شيعه .. مجموعه مذاكرات با پروفسور هانرى كربن (فارسي) : 220؛ الشيعة .. نص الحوار مع المستشرق كوربان: 246
(7) الميزان في تفسير القرآن 6: 258 - 259.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 67

الاجتماع بالسيّد البروجردي (ره) والحديث معه حول ضرورة إصلاح الحوزة وتنظيم أمورها، وأنّ الوضع لم يعد يُحتمل، وأنّ عليهم الإسراع في ذلك، وكان السيّد البروجردي (ره) يسعى بشدّة لإصلاح الوضع، إلّا أنّ المقرّبين منه كانوا يحولون دون ذلك. وكان مدير الفيضيّة في ذلك الوقت الحاج الميرزا عبد الحسين صاحب الداري البروجردي الذي لم يكن- حسب المصدر- محبوباً من قبل الطلّاب، وكان المقرّبون من السيّد البروجردي (ره) يحمونه ويحرصون على بقائه في منصبه.

alyatem
31-03-2013, 11:04 AM
وقد نقل الشيخ عبد الله آل آغا الطهراني (ره) للشيخ علي الدوّاني أنّه- أي آل آغا- ذهب مع الإمام الخميني والسيّد ريحان الله الگلپليگاني والشيخ مرتضى الحائري (ره) إلى السيّد البرورجردي (ره) واجتمعوا به. وبعد المباحثات، تمّ الاتّفاق على تعيين الشيخ آل آغا الطهراني مديراً للمدرسة الفيضيّة، وكُتب ذلك في ورقة موقّعة ومختومة من السيّد البروجردي (ره). إلّا أنّ الشيخ آل آغا يفاجأ بعد صلاة الصبح من اليوم التالي بخادم السيّد البروجردي (ره) يأتيه ويبلغه طلب الأخير تسليمه الورقة التي منحه إيّاها، فيعطيه إيّاها ويبلغ الإمام الخميني (ره) بذلك، فيقصد الوفد الأخير نفسه السيّد البروجردي (ره) للمرّة الثانية مستوضحاً الأمر، [وقد ذكر لهم السيّد البروجردي (ره) أنّهم يسعون إلى سحب الأمور من يديه‏] «1»، ويسأله الإمامُ (ره) : «سيّدنا! إنّ أعضاء هيئة المصلحين أقاموا عدّة جلسات وعملوا، حتّى استطعنا الحصول على هذه الورقة، وكان الجميع مسرورين لأنّ العمل قد آتى ثماره. ماذا استجدّ حتّى سحبتم الورقة من الشيخ عبد الله‏؟!»، فأجاب السيّد البرورجردي (ره) : «لقد ذكروا لي بعض الأمور التي جعلتني أخشى أن يسوء الوضع مع وجود توقيعي وختمي، ثمّ إنّ من الممكن العمل على هذا النحو»، فقال الإمام (ره) : «لا، لا بدّ من وجود الورقة»، فقال السيّد (ره) : «لا، ليس ذلك ضروريّاً»، فقال الإمام: «إنّ الشيخ عبد الله لن يحرّك ساكناً طالما أنّ الورقة ليست بحوزته‏».
عندها تدخّل بعض الأصحاب «2» فقال السيّد البروجردي (ره) : «من أين لي أن أعلم بأنّكم ستقومون بإصلاح الوضع؟!»، فأجابه الشيخ مرتضى الحائري (ره) بغضب وهو يرمي عمامته أرضاً: «وهل نحن مفسدون؟ إنّ أبي «3» قد أجاد في تأسيس هذه الحوزة، والآن نحن مفسدون؟!». ومع تدخّل بعض الأصحاب «4» يضرب الإمام الخميني (ره) بفنجان الشاي الذي كان في يده عرض الحائط فيكسره، ويقوم السيّد البروجردي ويدخل إلى الدار، بينما يقوم الوفد ويخرج.
وبعدها يعتزل الإمام الخميني (ره)، بينما يسافر الشيخ مرتضى الحائري (ره) إلى مشهد لمدّة ستّة أشهر، ويقرّر البقاء هناك. وعندما بلغ ذلك السيّد البرورجردي (ره)، أرسل إليه من يستميله ويرجعه إلى قم، ففعل، ولكنّه خفّف من تردّده على منزل السيّد البروجردي (ره)، وبقي الاثنان على الاحترام‏
__________________________________________________
(1) ما بين [ ] من: تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 201، وفي هذا الكتاب كلامٌ كثيرٌ حول دور حاشية السيّد البروجردي (رحمه الله) في تكوين قناعاته‏
(2) يبدو أنّ المراد بعض أصحاب السيّد البروجردي (رحمه الله)
(3) أي الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه الله) مؤسّس الحوزة العلميّة في قم‏
(4) يبدو كذلك أنّ المراد بعض أصحاب السيّد البروجردي (رحمه الله).

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 68

المتبادل «1»، وقيل: إنّ السيّد الخميني (ره) لم يذهب إلى بيت السيّد البروجردي (ره) سوى في أيّام العزاء، وعند وفاة الأخير «2». وجاء في كلام آخر أنّه أراد زيارته بعد قطيعة دامت لفترة، وذلك أثناء تواجد السيّد محمّد صادق اللواساني (ره) في قم وعزمه على زيارة السيّد البرورجردي (ره)، ولكنّ حاشية الأخير عندما علمت بوجوده لم تطلع السيّد البروجردي (ره) على تواجده في البيت، فجلسا لفترة ثمّ غادرا «3».
9- كما أنّ الشيخ مرتضى المطهّري (ره) كان أحد الكوادر العاملة إلى جانب الإمام الخميني (ره) في سبيل إصلاح الحوزة ضمن ما عرضناه في النقطة السابقة. وبعد فشل المشروع، اتّخذ المقرّبون من السيّد البروجردي (ره) موقفاً سلبيّاً منه، وكلّما أراد توضيح موقفه كان يقابل برفض الاستماع إلى شهادته، فلجأ إلى كتابة رسالة إلى السيّد البروجردي (ره) يوضح فيها الموقف ويعترض بأنّه في أيّ نظام تتمّ فيه محاكمة المتّهم غيابيّاً دون سماع شهادته؟! وطلب من الشيخ حسين المنتظري تسليمه إيّاها شخصيّاً. ولمّا التقى به، رفض السيّد البروجردي (ره) استلامها، فكان من الشيخ المطهّري (ره) أن انتقل إلى طهران، ليبدأ مرحلةً جديدةً من حياته في الجامعة «4».
10- أو ما كان يلقاه الإمام الخميني (ره) من الوسط العلمائي، و «كانوا إذا أرادوا أن يمسكوا كتاب (المنظومة) يستعينون بخرقة لئلّا يتنجّسوا، أو أنّهم يعتبرون الشخص الذي يدرّس الفلسفة عديم الدين‏» «5»، حتّى أنّ البعض كان يتّهمه بأنّه لا يصلّي «6». وفي هذا المجال يقول نجله السيّد أحمد (ره) : «أعتقد أنّ نضال الإمام ضدّ المتظاهرين بالقداسة داخل الحوزة كان أصعب بكثيرٍ من نضاله في ساحة الصراع السياسي‏» «7». وبيانات ورسائل الإمام الخميني (ره) تشتمل على الكثير من الانتقادت التي يوجّهها إلى الحوزة والحوزيّين، ولعلّ آخرها وأشدّها ما يُعرف بالفارسيّة بـ (منشور روحانيت)، وهو عبارة عن ندائه إلى الحوزات العلميّة الذي وجّهه بتاريخ 22 / 2 / 1989 م قبيل أشهرٍ من وفاته، والذي أثار في حينه- على ما سمعته من بعض معاصري الأحداث- بلبلة في الوسط الحوزي، كادت أن تقلب الموازين فيها بسعي من السيّد أحمد الخميني (ره) لولا تدخّل بعض الشخصيّات، ونحن نترجم مقاطع‏
__________________________________________________
(1) زندگانى زعيم بزرگ عالم تشيع آيت الله بروجردى (فارسي) : 307- 312؛ وانظر حول موضوع إصلاح الحوزة وملابساته في: تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 200- 248
(2) تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 168
(3) تاريخ شفاهى انقلاب اسلامى ايران .. پيدايش وتحولات حوزه علميه قم (فارسي) : 255- 256؛ وانظر حول هذا الخلاف: سرگذشتهاى ويژه از زندگى امام خمينى (فارسي)، شماره 6: 60
(4) انظر: خاطرات من از استاد شهيد مطهرى (فارسي) : 88- 91، نقلًا عن الشيخ المطهّري (رحمه الله)؛ ذكرياتي مع الشهيد مطهّري: 127- 128؛ زندگانى زعيم بزرگ عالم تشيع آيت الله بروجردى (فارسي) : 322
(5) مرآة الشمس: 75
(6) انظر: صحيفه دل (2) (فارسي) : 15. وهذه النسبة بطبيعة الحال ليست إلى كبار العلماء
(7) انظر: صحيفه امام (فارسي) 21: 150 - 152.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 69

منه: «... طبعاً هذا لا يعني أن ندافع عن جميع رجال الدين؛ لأنّ رجال الدين المرتهنين والمتظاهرين بالقداسة والمتحجّرين لم يكونوا قلّة، وليسوا كذلك. في الحوزات العلميّة يوجد من يعمل ضدّ الثورة والإسلام المحمّدي الأصيل، واليوم هناك أشخاص يلجأون إلى مظاهر القداسة من أجل تحقيق مآربهم في ضرب أصل الدين والثورة والنظام، وكأنّ هذا شغلهم الوحيد. إنّ خطر المتحجّرين والمتظاهرين بالقداسة الحمقى في الحوزة العلميّة ليس بالقليل، وعلى الطلّاب الأعزّاء أن لا يغفلوا ولو للحظة واحدة عن هذه الأفاعي، إنّ هؤلاء يروّجون للإسلام الأمريكي، وهم أعداء رسول الله. ألا يجب في مقابل هذه الأفاعي ذات الملمس المخادع المحافظة على اتّحاد الطلّاب الأعزّاء؟!
في بداية المواجهة الإسلاميّة، كنتَ إذا قلت: إنّ الشاه خائن، تسمع مباشرةً من يقول: إنّ الشاه شيعي! هناك مجموعة من المتظاهرين بالقداسة الرجعيّين كانوا يحرّمون كلّ شي‏ء، ولم يكن بوسع أحد الوقوف بوجههم.
إنّ النزف الذي ألحقه هؤلاء المتحجّرون بقلب أبيكم العجوز لم تُلحقه به أيٌّ من الضغوطات والصعوبات الأخرى.
عندما راجت مقولة فصل الدين عن السياسة وصار معنى الفقاهة في منطق غير الواعين عبارة عن الغرق في الأحكام الفرديّة والعباديّة، وصار ممنوعاً على الفقيه أن يخرج من هذه الدائرة ويكسر طوق هذا الحصار ليتدخّل في أمور السياسة والحكومة، صارت حماقة رجل الدين في طريقة تعامله مع الناس تعدُّ فضيلة. وبزعم أحدهم، فإنّ مؤسّسة رجال الدين كانت تلقى الاحترام والتكريم عندما تتدفّق الحماقة من جنبيها، وإلّا فإنّ العالم الخبير بأمور السياسة ورجل الدين العاقل والواعي كان يعتبر مكّاراً.
إنّ هذه المسائل كانت رائجة في الحوزات، حتّى أنّ كلّ من يتمايل أكثر في ميشه يعدّ أكثر تديّناً. كانت دراسة اللغة الأجنبيّة كفراً، ودراسة الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً. في مدرسة الفيضيّة شرب ابني الحدث المرحوم مصطفى الماء من الإبريق فغسلوه، لأنّني كنتُ أدرّس الفلسفة.
لا يساورني شكٌّ في أنّ الوضع السابق لو طال، لوصلت مؤسّسة رجال الدين والحوزات إلى ما كانت عليه الكنائس في القرون الوسطى، ولكنّ الله منّ على المسلمين وعلى هذه المؤسّسة بحفظ الكيان الحقيقي لهذه الحوزات ...» «1».
11- كما أنّ السيّد محسن الحكيم (ره) تعرّض لنقد شديد إثر إفتائه بطهارة أهل الكتاب، فقد كتب الشيخ محمّد الشيخ مهدي الخالصي (ره)- وكان مقيماً حينها في كاشان- : «أفتى الحكيم بكذا وثبت كفره‏»، وقال يومذاك: إنّه في الوقت الذي نواجه فيه اليهود، فإنّ فتوى من هذا القبيل تدلّ على كفر ونفاق مفتيها «2».
إضافةً إلى ما ستجده في هذا الكتاب من الأمور المرتبطة بالسيّد الصدر (ره) والموقف منه ...
__________________________________________________
(1) انظره كاملًا بالفارسيّة في: صحيفه امام (فارسي) 21 : 273 - 293؛ وانظر ترجمةً أخرى له في: بحثاً عن نهج الإمام (2) : 79- 105؛ وانظر أيضاً رسالته (رحمه الله) إلى [الشيخ‏] محمّد حسن قديري في: صحيفه امام (فارسي) 21: 150 - 152
(2) انظر: هفتاد سال خاطره از آيت الله حسين بدلا (فارسي) : 197؛ جريان ها وسازمانهاى مذهبى سياسى ايران .. سالهاى 1320- 1357 (فارسي) : 353، نقلًا عنه.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 70

ونحن هنا أيضاً لا نريد من خلال هذا الاستعراض المختصر والسريع لبعض أحداث الماضي أن نسجّل انتصاراً لطرفٍ على آخر، وإنّما نريد الإشارة إلى أنّ ما سردناه يختزن في طيّاته مدلولين اثنين:
أحدهما: أصل وقوع الخلاف بين علمائنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بمستويات مختلفة أفقيّاً وعموديّاً، الأمر الذي يعني بدوره أنّ ما قد يتعثّر به القارئ في هذا الكتاب ليس- في اتّجاهه العام- بدعاً من القول، وإنّما يأتي في سياق أمور متكرّرة الوقوع. وأنا أعتبر أنّ ما وقع ويقع أمرٌ طبيعيٌّ في ظلّ غياب إمامة فكريّة ونفسيّة معصومة قائمة بالفعل، ولكنّ المهم أن يكون الاختلاف ممّا يعتقد كلّ طرفٍ من أطرافه أنّه في سبيل خطّ تلك الإمامة.
والثاني: نقلُ علمائنا هذه الأخبار في كتبهم وتعرّضهم لها في كلماتهم، وبعضهم من الفقهاء أصحاب الفتوى، الأمر الذي يكشف عن عدم تحرّزهم من ذلك.
ولكن حيث يكون الحديث عن الماضين، فإنّ القارئ المعاصر لا يجد مزيد حزازة في التعامل مع مجريات التاريخ، لأنّ طرف المعاملة عندما يكون ميتاً، تسري بصمات موته لتخلق شيئاً من البرودة في التعامل معه. ولذلك لا يجد المحقّق حزازةً نفسيّة في تحقيق مسألة تاريخيّة تتمحور مثلًا حول استيلاء ابن عبّاس على أموال البصرة «1»، بينما لا يستطيع تحقيق مسألة من هذا القبيل ترجع إلى إنسان معاصر أو متّصل نِسبيّاً من الناحية الزمنيّة. وفي المقابل تجعل حياتُه العلاقةَ به حيّة ملؤها الحرارة والتفاعل العاطفي الواضح، وهو ما يبرّر حالات التعاطف أو الاستنفار التي قد يتركها طرحٌ من هذا القبيل، حيث يعتبر تأريخاً لمرحلةٍ متّصلةٍ بمرحلتنا.
_____________________________________
(1) انظر مثلًا: أعيان الشيعة (ط. ق) 1: 528 ،8 : 57

alyatem
31-03-2013, 11:05 AM
أسلوب التوثيق‏

1- أستطيع أن أقول بإيجاز: إنّ المعلومات الواردة في الكتاب هي في الجملة وبشكل عام معلومات مسندة، وهي موزّعة بين المسند منّي مباشرةً وبين المسند بواسطة. وإذا كنتُ قد أرجعتُ في مقام التوثيق إلى الكتب، فما تمّ إثباته في الأخيرة هو بدوره بين مسندٍ بالواسطة وبين مسندٍ بغيرها، حيث الإرجاع غالباً إلى المقابلات والصحف العراقيّة الصادرة في إيران، وما في الصحف منقولٌ بلا واسطة على الغالب.
2- نعم، بعد أن كنتُ قد وثّقت معلومات الكتاب في مرحلة متأخّرة عن مرحلة تجميعها، فقد غاب عنّي أثناء التوثيق المصدرُ الذي أخذت منه بعض المعلومات، وقد حال ضيقُ الوقت من ناحية وعدم التمكّن من الوصول إلى المصادر من ناحية أخرى دون النجاح في تفادي هذه المشكلة، ومن هنا بقيت بعض المعلومات (مرسلة) فأشرت إلى أكثرها بـ (***)، ولكنّ عدد هذه الموارد قليلٌ جدّاً قد لا يلحظه القارئ. وكنتُ في بعض الموارد أتذكّر المصدر الذي قرأتُ فيه معلوماتي، غير

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 71

أنّه غير متوفّر لديّ، فكنتُ أذكر المصدر دون رقم الصفحة.
هذا إضافةً إلى بعض المرويّات التي طلب ناقلوها عدم ذكر اسمهم، فبقيت مرسلةً من هذه الناحية.
3- لقد كنتُ أرغبُ كثيراً في إرجاع كلّ معلومة إلى أصلها وإلى الشخص الذي ذكرها غيرَ مكتفٍ بسرد المصادر التي يمكن أن تكون قد اعتمدت جميعاً على مصدر واحد، ولكنّ هذه الخطوة تحتاج إلى شي‏ءٍ من الوقت الذي لم أغنم به حاليّاً «1».
4- وهناك ملاحظة فنيّة لم يتح لي ضيق الوقت فرصة تجنّبها بشكل كامل، وإن كنت قد راعيتها في أكثر الموارد على ما في بالي، وهي أنّ الطريقة الأسلم في التوثيق هي ذكر المصدر الأصلي ثمّ الفرعي وتقديم الأقدم على الأحدث، ولكنّني ربّما ذكرتُ- لدى تخريج المصادر- الأصلَ ثمّ أردفته بالفرع الذي نقل عنه، أو ربّما قدّمتُ الفرع على الأصل، أو ربّما قدّمتُ الأحدث على الأقدم ..
5- إنّ ما أنقله حرفيّاً عن المصادر المكتوبة أنقله بين «»، وما لا أنقله كذلك لا يمكن نسبته حرفيّاً إلى المصدر، وإن كنتُ التزمنتُ على العموم بعبارات المصادر ولم أتصرّف إلّا بحدود تغيير الضمائر وما يفرضه ربط العبارات بعضها ببعض.
6- ما كنتُ أضيفه إلى النصوص وهو ليس منها كنتُ أضعه بين [ ] تمييزاً له عمّا ورد في الأصل، وما ورد في الكتاب بين [ ] على أنواع:
فما لم أدرج إلى جانبه هامشاً توضيحيّاً فهو في الغالب تصحيحٌ لخطأ نحويٍّ أو إملائيٍّ ورد في الأصل، كما هو الحال في الوثائق الخطيّة التي قمنا بإدراجها داخل الكتاب.
وبعض ما جاء كذلك هو عبارة عن تتميم لمعلومة ناقصة وردت في الأصل، كما لو لم يرد في المصدر اسم بعض الأشخاص نتيجة النسيان وكان معلوماً لديّ، فكنتُ أضيفه بين [ ]، فإن لم أشر إلى المصدر فهذا يعني أنّه منّي.
أمّا ما أذيّله بهامش، فتوضيح حاله يظهر من الهامش نفسه.
7- ما نقلته عن المصادر المسموعة- أعني المقابلات- ووضعته بين «» قد يشتمل على شي‏ءٍ من التغيير الذي يقتضيه السياق وصحّة العبارة، وهو مقدارٌ ضئيلٌ جدّاً لا يؤثّر بتاتاً على أصل المطلب.
ثمّ إنّني أثبتُّ الحوارات التي نُقلت لي باللهجة (العاميّة) بالفصحى، ومع ذلك وضعتها بين «»، اللهمّ إلّا ما وجدتُ أنّ إبقاءه على حاله من (العاميّة) يضفي على الحدث جوّاً خاصّاً.
8- عندما أورد في الهامش مصدراً، فهذا يعني أنّني راجعته بنفسي ووصل إلى يدي، ولم أكتفٍ‏
__________________________________________________
(1) وهنا ينبغي عليّ أن أشير إلى أنّ كثيراً ممّا نقلته عن صحيفة لواء الصدر دون ذكر الناقل هو ممّا تعب على جمعه السيّد ياسين الموسوي، ولم أتمكّن لاحقاً من تدارك هذا الخلل.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 72

على الإطلاق بنقل أحد؛ فإذا كان «ب» ينقل عن «أ»، واستطعت الوصول إلى «أ»، أرجعتُ إلى «أ» وإلى «ب» نقلًا عنه. أمّا إذا لم أعاين «أ» بنفسي، أرجعتُ إلى «ب» نقلًا عن «أ» فحسب. وقد وجدتُ أنّ الكثير من الباحثين يقعون في هذه المشكلة، حيث يرجعونا إلى «أ» مع أنّهم لم يطّلعوا إلّا على «ب» الناقل عنه، وهذا بحسب ما يبدو خلاف الأمانة العلميّة.
9- إذا تكرّر المصدر الواحد فإنّنا لم نعمد إلى أسلوب التوثيق المتداول حيث الإشارة إلى (المصدر نفسه) أو (المصدر السابق) أو (م. ن)، لأنّني- على الصعيد الشخصي- كنتُ أشعر بالتشويش أثناء تنقّلي بين هوامش الكتب التي تعتمد الطريقة المذكورة، فتفاديتُ ذلك.

صياغة النصّ‏
1- لقد حاولتُ جاهداً أن أبقى في أجواء نصوص المصادر التي اعتمدت عليها، وقد عزّز ذلك ضيقُ الوقت الذي لم يسمح باستئناف الكتابة، إضافةً إلى عدم وجود ما يدعو إلى ذلك. وقد حاولتُ أن لا أخرج عنها إلّا بالمقدار الذي يتطلّبه دمج النصوص، أو المقدار الذي نقلتُه ممّا لم يسبق أن نُشر في مكان آخر، أو (تفصيح) ما كان يُنقل لي بغير الفصحى، ويضاف إليه المقدار المتعلّق بالأوصاف- التمجيديّة منها والتحقيريّة- التي حذفتُ الكثير منها في محاولةٍ للحفاظ على هدوء النصّ، وإن اعتقدتُ في بعضها بثبوت الوصف للموصوف.
2- لقد حاولتُ تهدئة جوّ الكثير من النصوص التي تتمظهر فيها مشاعر ناقليها، وذلك حرصاً منّي على التركيز على البعد التاريخي للمسألة من وجهة النظر الموضوعيّة. ومن هنا لم أثبت النصوص ذات الطابع الأدبي، إلّا في موارد نقل النصوص الحرفيّة. اللهمّ إلّا بعض الموارد التي لم أنجح فيها في عزل الجانب المعلوماتي والاقتصار عليه.
3- لا شكّ لديّ في أنّ لغة الكتاب جاءت جافّة ومملّة في كثيرٍ من فصوله، وكان ذلك نتيجة ما التزمتُ به في محاولتي الاقتصار غالباً على الجانب المعلوماتي المحض، وقد عزّز قناعتي هذه ما لاحظتُه في بعض الكتابات التي صاغت بقلمها ما جاء في مصادر أوّليّة، حيث وجدتُ أنّ الحدث قد يتعرّض لدى صياغته إلى شي‏ءٍ من التحريف ولو في بعض تفاصيله، الأمر الذي كنتُ أتجنّبه.
وإلى جانب هذا العيب، فقد بدا الكتاب لي مرهقاً، لعدم اشتماله على محطّات استراحة ولو قصيرة؛ إضافةً إلى أنّي كتبته في أوقات متقطّعة، حيث لم أكن في مزاج واحد أو طاقة واحدة ... ليأتي الكتاب بأسلوب واحد.
وعلى أيّة حال، فإنّي في الجملة مؤمنٌ بأنّ لغة الكتاب تحتاج إلى تطوير في مرحلة لاحقة وإدخال شي‏ءٍ من المحسّنات الأدبيّة عليها إذا قدّر لها الاحتفاظ بسلامة المعلومة التاريخيّة، إضافةً إلى إعادة اختيار عناوين مناسبة للفقرات، وذلك في مشروع اختصارٍ للكتاب أرجو أن أوفّق لاحقاً لإنجازه.


- 2-
متفرقات حول الكتاب‏

العقبات‏
لم أكن لأشكّ أبداً في صعوبة عمل من هذا القبيل، وقد واجهتني صعوبات عديدة تغلّبت على قسم كبير منها بعد عناء شديد، وفي ما يلي استعراضٌ لأبرز هذه المصاعب:
1- جدة المشروع، إذ من الطبيعي أن يعاني أيّ مشروع تتمُّ ممارسته حديثاً من صعوبات ومتاعب خاصّة، ترجع غالباً إلى ضبابيّة المنهج الذي ينبغي اتّباعه.
2- ليس كاتب السطور ممّن عايش الشهيد الصدر (ره) أو لقيه، بل إنّ معاصرته الزمنيّة لم تبلغ السنتين، ولهذا الفاصل التاريخي بين المصنّف وبين صاحب الترجمة أثره الذي يُلحظ.
3- إضافة إلى ذلك، فإنّ عملًا من هذا القبيل يتطلّب إلماماً كافياً بتوزّع الأحداث على السنوات التي عاشها الشهيد الصدر (ره)، في حين غاب التأريخ الدقيق عن كثيرٍ من الكتابات التي شكّلت مصادرنا في البحث والكتابة، إضافةً إلى الوثائق التي ندر فيها وجود التأريخ.
ومن هنا، فقد صعب علينا تحديد الكثير من التواريخ، الأمر الذي اضطرّنا إلى اتّباع أسلوب الحدس من خلال تجميع القرائن، وهو ما استنفذ الحظّ الأوفر من وقت إعداد الكتاب، حيث كنتُ مضطرّاً إلى قراءة الكثير ممّا يُحتمل اشتماله على قرينة تفيد في البحث.
4- العامل الزمني الذي حكمني في محاولتي هذه، حيث كان عليّ إنجاز الكتاب خلال عطل دراسيّة متقطّعة، لم أكن خلالها في مزاجٍ واحد أو جَلَدٍ واحد، ومن المحتمل أنّ الوقت لو طال، لجاء الكتاب أكمل.
ومن الجوانب التي تأثّرت سلباً بضيق الوقت تصحيح الكتاب من الأخطاء المطبعيّة وعمليّة إخراج صفحاته فنيّاً، فإنّ ضيق الوقت لم يسمح لي فعلًا بتصحيحه بشكلٍ متأنّ وإخراجه بشكل متقن.
5- التغييب العمدي وغير العمدي لكثيرٍ من الحقائق المرتبطة بتاريخ السيّد الصدر (ره)، ويقف إلى جانب ذلك إحجام بعض تلامذته المقرّبين منه عن الإدلاء بأيّة معلومات لا يشكّ الباحث في مساهمتها في الكشف عن الكثير من الخفايا والملابسات.
وإذا قدّر للقارئ الكريم أن يلاحظ أنّ هذا الكتاب لا يستند إلى بعض المقرّبين من السيّد الصدر (ره)، فذلك راجعٌ إلى إحجامهم لا إلى عدم مبادرة الكاتب.
6- وجود بعض التعديلات المخلّة التي وقعت في طبعات لاحقة لكتب تناولت حياة السيّد الصدر (ره) «1».
__________________________________________________
(1) انظر حول هذه النقطة: محمّد باقر الصدر .. حياة حافلة .. فكرٌ خلّاق: 24- 26.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 74

نوعيّة المصادر
بحسب استحضاري الآن لمحتويات الكتاب، فإنّ مصادره تتوزّع على الأقسام التالية:
1- الكتب التي كتبت خصّيصاً للحديث عن سيرة السيّد الصدر (ره)، والتي جاء بعضها على شكل تدوين لمجموعة من الخواطر، وإن اختلفت من هذه الناحية ضيقاً ووسعاً.
2- الدراسات العلميّة التي اشتملت في بعض فقراتها على أمور تتعلّق بسيرة السيّد الصدر (ره).
3- الكتب المتعلّقة بتاريخ العراق عموماً، والتي أفادت في رسم صورة أكثر وضوحاً حول الوضع في العراق.
4- البحوث والمقالات التي كتبت حول السيّد الصدر (ره) ونشرت مستقلّةً أو في مجلّات وصحف متفرّقة، والتي اشتملت على معلومات مهمّة تتعلّق بسيرته الشخصيّة أو بمسيرة العمل الإسلامي في العراق.
5- المقابلات التي أجريت مع الكثير من طلّاب الشهيد الصدر خصوصاً ومن عاصره عموماً، والتي تعب على جمعها السيّد حامد علي الحسيني، وهي محفوظة في أرشيف (المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره)) الذي رمزنا إليه بشعار المؤتمر المذكور).
6- المقابلات التي أجريتها بنفسي مع العديد من الشخصيّات التي عاصرت السيّد الصدر (ره) من طلّابه وغيرهم.
وكانت قناة المنار قد أجرت مجموعة من المقابلات مع عددٍ من الشخصيّات من أجل إعداد فيلم (شهيد العراق .. الصدر الأوّل) الذي ارتكز أساساً على مسودّة هذا الكتاب، والذي اشتمل على مقاطع من معظم هذه المقابلات، وقد تفضّلت إدارة (المنار) بإعطائنا نسخة كاملة عن المقابلات، فاستفدنا منها بشكل كامل وأوردنا كثيراً ممّا لم يرد في الفيلم المذكور. وقد رمزنا إلى أرشيف قناة المنار بشعارها.
وهناك ملاحظة أودّ تسجيلها في ما يتعلّق بالمقابلات وبالشخصيّات التي قابلتها: فقد سمعتُ أحدهم يوجّه انتقاداً هادئاً إلى السيّد محمّد الحسيني على عدم تنويعه بين الشخصيّات التي يقابلها وعلى تكرّر بعض الشخصيّات في كتابه بشكل ملحوظ، خاصّةً في المسائل الحسّاسة، وهذا من شأنه تضعيف قيمة شهاداتهم. ولكنّني أدرك- من خلال معايشتي وتجربتي- أنّ التقصير ليس من السيّد الحسيني، وهذا الإشكال قد يوجّه في بعض الموارد إلى كتابي وسأجيب عنه بالجواب نفسه: فقد قابلت ما يقرب من مائة شخصيّة، بعضهم لا يعرف إلا الأمور السطحيّة، أمّا من يعرف الأمور الحسّاسة فلعلّي لم أجد إلّا شخصاً واحداً لم يمانع من الإدلاء بشهادته، فما ذنب الكاتب في ذلك؟ أضف إلى ذلك أنّ طبيعة موقع الشخص قد تجعله الوحيد القادر على الإدلاء بشهادات من هذا القبيل: فمثلًا يقولون: إنّ الأمور التي يرويها الشيخ الفلاني مطعونٌ فيها لتفرّده بروايتها .. أقول: إذا هذا الشيخ هو الوحيد الذي بقي مع السيّد الصدر (ره) في فترة الحجز فكيف يمكن لغيره أن يرويها؟!

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 75

وإذا كان غيرها ممّا يرتبط بغير فترة الحجز يحتاج بطبيعته إلى شخصٍ ملازمٍ للسيّد الصدر (ره)، وكان الشيخ هو المولج بأموره (ره) الخاصّة، فكيف يمكن لغيره الإدلاء بشهادته؟! إنّ ما يتعلّق بالسيّد الصدر (ره) والتنظيم مطعونٌ فيه؛ لأنّ رواته من المنتسبين إلى التنظيم .. أقول: إنّ جلّ هذه الأمور ممّا لا يُمكن لغير المنظّم أن يطّلع عليها، فكيف يتوقّع منه الإدلاء بشهاداته حولها؟!
7- الوثائق الخطيّة الكثيرة التي ساعدت بشكل كبير على صقل الصورة التاريخيّة لكثيرٍ من الأحداث وتدعيم جملة من الشهادات التاريخيّة في مقابل أخرى.
أمّا ترتيب الوثائق بحسب التسلسل الزمني، فالحقيقة أنّ كثرة الوثائق وخلوّ أكثرها من التواريخ من ناحية وضيق وقتي من ناحية أخرى، حتّم وجود بعض الخلل في تقديم وتأخير بعضها، وأنا أعتقد بأنّها بحاجة إلى إعادة نظر فيما يتعلّق بهذا الجانب.
8- المصادر الفارسيّة: لا شكّ لديّ في أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران قد بذلت جهوداً جبّارة في إرساء قواعد مؤسّسات علميّة تعنى بشؤون التراث والاهتمامات الثقافيّة المعاصرة لم تبذلها- بحسب علمي- أيٌّ من الدول المجاورة. ويكاد المرء يعجب من السعي الحثيث في سبيل تعميم ثقافة الكتاب والقراءة من خلال تشييد مؤسّسات التحقيق والتأليف والنشر والعرض والمكتبات العامّة المجانيّة...
أمّا في ما نحن فيه: فقد أولت الثورة الإسلاميّة- وبتشجيع من الراحل السيّد الإمام الخميني (ره)- اهتماماً بالغاً بتدوين تاريخ الثورة، فقامت المؤسّسات التي تكفّلت توثيق وقائعها وجمع مستنداتها وتبويبها وترتيبها، إضافةً إلى تكفّلها طباعة ما ينتجه الكتّاب والمؤلّفون إذا كان حائزاً على الشروط العلميّة. هذه المشاريع التي نفتقدها فيما يتعلّق بتاريخ العراق ولبنان مع الحاجة الماسّة إليها.
ومن هذا المنطلق فقد وقفت أمام مادّة ضخمة جدّاً حول تاريخ الثورة الإسلاميّة في إيران، رافقتها معلومات هامّة تتعلّق بتاريخ العراق، نتيجة اللحمة بين تاريخي البلدين في كثيرٍ من المجالات، فلم أتردّد في ترجمتها والاستفادة منها في كتابي.
9- تقارير المخابرات الإيرانيّة: والتي ورد فيها الحديث عن السيّد الصدر (ره) لمناسبةٍ وأخرى. وقد عثرت في تقريرٍ من التقارير المرتبطة بالسيّد موسى الصدر على إشارة إلى وجود ملف لدى المخابرات الإيرانيّة يتعلّق بالشهيد الصدر (ره) حيث جاء: «در پرونده محمد باقر صدر بايگانى شود 14 / 7 / 53»، أي: «يحفظ في ملف محمّد باقر الصدر». وهذا يعني وجود ملفٍّ له (ره) في وزارة الأمن الإيرانيّة، نرجو أن ينشر على ضمن الأعمال التي تقوم بها الوزارة في هذا السياق.
10- يُشار إلى أنّ صحيفة (جوان) الإيرانيّة أشارت في عددها (1783) الصادر يوم الأربعاء 6 / 7 / 2005 م إلى أنّ صحيفة (الفرات) العراقيّة بدأت تنشر تقارير المخابرات العراقيّة المتعلّقة بالسيّد الصدر (ره) ابتداءً من عام 1963 م. وذكرت نقلًا عن الصحيفة المذكورة أنّ الوثيقة الأولى التي نشرت تتعلّق بإصدار إقامة للسيّدة فاطمة الصدر زوجة الشهيد الصدر (ره)، ولكن لم تتح لنا فرصة الاطّلاع‏ على هذه الوثائق «1».
__________________________________________________
(1) روزنامه جوان، چهارشنبه 15 / تير / 1384 هـ. ش، سال هفتم، شماره (1783) : 3. وقد ذُكر لي أنّ الصحيفة المذكورة هي صحيفة (الشاهد) لا (الفرات).

مراحل العمل‏
لقد قمتُ بجمع عدّة مئات من الدراسات والمقالات التي كتبت حول السيّد الصدر (ره)، ثمّ عزلت البحوث العلميّة- القرآنيّة، الفلسفيّة، العقائديّة، الفقهيّة، الأصوليّة، السياسيّة ...- وخصّصتُ لها مشروعاً مستقلًّا ولم آخذها بعين الاعتبار في هذه الدراسة، ثمّ أتيتُ إلى ما يرتبط بالسيرة والتاريخ فقرأته واستخرجتُ منه الجانب التاريخي المعلوماتي، إلى جانب عددٍ ضخمٍ من الوثائق الخطيّة التي وفّقني الله تعالى إلى الحصول عليها، مضافاً إلى ما حصلتُ عليه بالمشافهة.
وبعد ذلك عمدتُ إلى المصادر التي أرّخت للحقبة المنصرمة أو تناولتها من قريبٍ أو بعيد، وطبّقتُ عليها الأمر نفسه.
بعد هذا وذاك بدا لي الكمُّ الكبير والمتراكم من المعلومات كقطع مبعثرةٍ للوحةٍ كبيرةٍ عن حياة الشهيد الصدر والحركة الإسلاميّة سعيتُ إلى رسمها، فكان عليّ ترتيب هذه القطع من أجل استكمال رسم اللوحة المنشودة. ومن هنا كان عليّ اجتياز ثلاث مراحل:
الأولى: استكمال عدد قطع هذه اللوحة، الأمر الذي دفع بي إلى قراءة المزيد، ثمّ الالتقاء بصحب الصدر وآله والاستفسار منهم عن تفاصيل الحلقات المفقودة.
الثانية: تحديد هويّة الكثير من القطع التي لم تكن بالنسبة لي ذات شكل هندسي وهويّة تاريخيّة محدّدة يمكنني على أساسها أن أضعها في مكانها المناسب، فكان عليّ من أجل ذلك تجميع الكثير من القرائن، وكان ذلك يتطلّبُ- أثناء شحذ القطع- إحاطةً بحياة الصدر واستحضاراً فوقيّاً لها.
وأنا على اعتقاد بأنّ توزيع الكثير من الأحداث قد يكون بحاجة إلى إعادة نظر، وهو يحتاج بدوره إلى فسحة من الوقت غير متوفّرة حاليّاً.
الثالثة: ترتيب قطع اللوحة تمهيداً لرسم الصورة المنشودة. وعلى الرغم من الصعوبة التي اكتنفت هذه المرحلة، إلّا أنّها بدت لي أسهل أخواتها.
وقد بان لي بعد اكتمال المرحلة الثالثة أنّ عدداً من القطع ينقصني، فسعيتُ وراء تحصيله ما استطعتُ، ولكنّ كبر اللوحة وسعة مساحتها قد حالا دون ظهورها لوحةً مشوّهة منقوصة بدرجة فادحة.
وأريد للقارئ أن يدرك أنّ عمليّة تنسيق النصوص وترتيبها في نصٍّ يُنتج قصّة، وفي الوقت نفسه يحافظ على الأمانة المعلوماتيّة، لم تكن على الإطلاق عمليّةً سهلة؛ فالقارئ غالباً ما يتصوّر أنّ الجهد الذي يبذله الكاتب والوقت الذي يصرفه في التحقيق يوازي الجهد والوقت الذي يصرفه هو

__________________________________________________
(1) روزنامه جوان، چهارشنبه 15 / تير / 1384 هـ. ش، سال هفتم، شماره (1783) : 3. وقد ذُكر لي أنّ الصحيفة المذكورة هي صحيفة (الشاهد) لا (الفرات).

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 77

في القراءة، في حين قد يحتاج الباحث إلى صرف عشرين ساعة في تحقيق حادثة لا يحتاج القارئ في قراءتها سوى إلى دقيقة.

تاريخ الأحداث‏
1- هناك مجموعة من الأحداث لم أستطع الحدس بتاريخ وقوعها، فما كان منها يناسب بعض الأحداث ذات التاريخ المعلوم أدرجته في ذيلها من باب المناسبة؛ وما كان منها معلوم السنة ولكنّه غير معلوم التاريخ على وجه التحديد جمعته في ذيل أحداث ذلك العام.
ويُستثنى من ذلك بعض الأحداث معلومة التاريخ، والتي أدرجتُها في ذيل غيرها من الأحداث لوجود مناسبة قويّة تقتضي ذلك بعد أن لم يكن ذلك يؤثّر على صورة الأحداث.
وهنا أشير إلى أنّ الكثير من الشهادات والخواطر قد ورد فيها تواريخ محدّدة، ومع ذلك فقد تبيّن لي- بضرسٍ قاطع- خطؤها، فكنتُ أعمل وفق ما أتوصّل إليه مشيراً إلى وجه ذلك.
2- كنتُ أحياناً أحصل على قرائن تاريخيّة تغيّر قناعاتي في بعض ما كتبته، فأعدّله على ضوئها، وكان يلزمني تعديل ما يترتّب على تلك المعلومات المعدّلة، فكنتُ أعالج ما تسمح باستحضاره الذاكرة، وربّما بقي ما هو بحاجة إلى التعديل.
3- لقد اتّبعت التاريخ الهجري في عرض الأحداث، وقد حاولت أن لا يفوتني عطفه بالتاريخ الميلادي. والقاعدة العامّة هي أنّ ما ذكر في المصادر بالتاريخ الهجري اعتمدتُ فيه التاريخ الهجري وذكرت الميلادي بين قوسين، والعكس صحيح.
أمّا تحويل التاريخ الهجري إلى الميلادي وبالعكس، فقد اعتمدت فيه على برنامج (نجوم اسلامى) الصادر عن مركز الأبحاث الفلكيّة في مدينة قمّ المشرّفة.
نعم؛ ما أثبتت المصادر تاريخه بالميلادي والهجري معاً اعتمدته كما هو وإن خالف ما جاء في برنامج (نجوم اسلامى)، اللهمّ إلّا أن أطمئنّ إلى أنّ المصدر قد ذكره عن حدس لا عن حسّ وقامت قرائن على عدم صحّته، كما لو قامت أدلّة أجنبيّة على تحديده (وهو ما وقع مراراً في الكتاب)، أو صرّحت المصادر بتاريخه الهجري وفي أيٍّ من أيّام الأسبوع وقع، فإنّ تحديد التاريخ الميلادي في ضوء ذلك يمكن أن يتمّ بدقّة من خلال البرامج الكمبيوتريّة.

المتن والهوامش‏
1- لقد سعيتُ- ما أمكنني- أن أكتب عن (محمّد باقر الصدر) بشموليّة، ومن هنا فقد حاولتُ غالباً أن أذكر- أثناء عرض الأحداث- أكبر عدد ممكن ممّا عثرتُ عليه من وقائع وأحداث، ثمّ حاولتُ أن أسرد ما اطّلعتُ عليه من أقوال وآراء تتعلّق بالقضيّة الواحدة.
وكنتُ إذا رجّحتُ قولًا دون آخر سطّرتُ الراجح- أو ما قد أميل إليه- في المتن وأشرتُ في الهامش إلى المرجوح، وإذا تساويا عندي ولم أجد ما يقدّم أحدهما على الآخر سطّرتهما في المتن‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 78

معاً على نحو (قيل .. وقيل) أو جعلتُ ما كان أكثر شهرةً في المتن وأشرتُ إلى الآخر في الهامش.
2- لم تخلُ صفحات الكتاب من هوامش تعليقيّة توزّعت مهامها على الشكل التالي:
أ- بيان الوجه في اختيار وتوزيع بعض التواريخ والأحداث حيث يكون المدرك هو الحدس وتجميع القرائن، وربّما خالفتُ الناقلين أنفسهم في تحديدهم تاريخَ الأحداث.
ب- محاكمة ما اختلفت المصادر المعتمد عليها في نقله، حيث لم يكن من طريقٍ سوى اللجوء إلى تجميع القرائن من أجل ترجيح قول من الأقوال، أو اختيار قول جديد.
ج- سرد الأمور التفصيليّة التي قد لا تعني سوى بعض المحقّقين والدارسين.
د- إثبات بعض الخواطر التي وجدتُ مناسبةً ثانويةً لذكرها في هامش حادثة معيّنة.
3- حاولت الالتزام بتخريج ما جاء في الكتاب من آيات قرآنيّة وروايات وأشعار وأقوال وأمثال وما إلى ذلك، وإن لم يكن مخرّجاً في الأصول والمصادر التي استفدنا منها، وذلك تتميماً للفائدة، وقد استفرغت الوسع في توثيق كلّ ما ورد في الكتاب «1».
يُشار في هذا المقام إلى أنّ التشابه الموجود بين تحقيق جملة من مطالب الكتاب وبين تحقيق كثيرٍ ممّا جاء في مجلّد (ومضات) ضمن (تراث الشهيد الصدر) راجعٌ إلى أنّ تنسيق وترتيب وتحقيق الكتاب المذكور كان قد أسند إليّ، بعد أن أنجز قسماً منه الشيخ مجتبى المحمودي.
4- إنّ مساحةً لا بأس بها من الكتاب قد شغلتها كثرةُ الهوامش والتحقيقات والتعليقات والتفريعات. وأنا على اعتقادٍ تام بأنّ هذا ضروريٌّ للكتاب في هذه المرحلة، مرحلة التثبّت من الأحداث التاريخيّة. ولكنّي في الوقت نفسه على اعتقادٍ بإمكانيّة التخفيف من ذلك في خطوات لاحقة إن شاء الله تعالى، خاصةً إذا دخلت الكثيرُ من الأحداث في دائرة الثبوت التاريخي، أو بدا لنا دخولها.

الملحقات‏
لقد عمدتُ في آخر الكتاب إلى إدراج بعض الملحقات التي قد لا تخلو من فائدة، خاصّةً بالنسبة إلى الباحثين والمعنيّين.
الملحق الأوّل: عرضت فيه آثار الشهيد الصدر (ره) المطبوعة وغيرها، مع ذكر ترجماتها التي عثرت عليها باللغات الثلاث: الفارسيّة، الإنجليزيّة والفرنسيّة.
الملحق الثاني: عرضت فيه أبرز طبعات كتبه وما تمتاز به طبعة على أخرى.
الملحق الثالث: عرضتُ فيه قائمة موسوعة (تراث الشهيد الصدر (قدس سره)) الصادرة عن المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره).

__________________________________________________
(1) ربّما اعتمدتُ في بعض التخريجات طبعةَ دار إحياء التراث العربي لكتاب (بحار الأنوار) إلى جانب الطبعة التي اعتمدتُها أساساً، وهي طبعة مؤسّسة الوفاء.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 79

الملحق الرابع: عرضت فيه- ضمن ثلاثة أقسام- عناوين ما كتب من مقالات وأبحاث حول السيّد الصدر (ره)، وذلك عوناً للباحثين.
الملحق الخامس: عرضتُ فيه ما حصلت عليه من تواريخ دروسه الأصوليّة.
الملحق السادس: عرضتُ فيه قائمة بأسماء طلّاب الشهيد الصدر (ره).
وكنتُ أفكّر في تخصيص ملحق أقيّم فيه صحّة ما نسبه إلى السيّد الصدر (ره) بعض تلامذته في بعض ما نشره وفي بعض أحاديثه. ولكنّي فضّلتُ لاحقاً الاستغناء عنه والاقتصار على ما جاء في الكتاب ممّا أراه صالحاً لبيان حقيقة الحال، ولم أجد داعياً لأخلق جوّاً لم أرده.

الوثائق والصور
1- إلى جانب الملحقات فقد أثبتُّ في آخر الكتاب كافّة ما وقع تحت يديّ من وثائق وصور متعلّقة بالشهيد الصدر (ره) أو ببعض مباحث الكتاب، وقمتُ بالإشارة إلى مصدرها.
وبفضل جود السيّد نور الدين الإشكوري الذي سمح لي بالاستفادة من أرشيف (المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره))، فقد حصلت على أرشيف ضخمٍ نسبيّاً بلغ عدد وثائقه (574) وثيقة، إضافةً إلى ملحق بوثائق للشهيدة بنت الهدى (ره) «1».
__________________________________________________
(1) وهناك مجموعة من الرسائل التي لم نحصل عليها، منها ما هو مفقود، ومنها ما لم يتفضّل أصحابها بها، ومنها ما لم يتيسّر أمر الاتّصال بأصحابها، نذكر من مختلف المجموعات رسائله (رحمه الله) إلى: عمّه السيّد صدر الدين الصدر (موجودة عند السيّد محمّد باقر خسروشاهي الذي ينوي نشرها قريباً)، السيّد أحمد العلوي الغريفي، السيّد تقي القمّي، الحاج حامد عزيزي، الأستاذ حسن الزين، السيّد حسين الخادمي، السيّد حسن القمّي، الأستاذ راجة محمود آباد، الدكتور زهير الغزّاوي، الدكتور صادق الطباطبائي، السيّد السلطاني الطباطبائي، السيّد شرف، الأستاذ الطويل، الشيخ علي كوراني (بعض)، السيّد علي العدناني، السيّد علي ناصر السلمان، السيّد كاظم الحائري (بعض)، السيّد مرتضى الجزائري؛ السيّد مرتضى الحكمي، السيّد مرتضى العسكري، الدكتور محمّد أبو السعود، الأستاذ محمّد أسد شهاب، السيّد محمّد باقر الحكيم (رحمه الله)، السيّد محمّد بحر العلوم، الشيخ محمّد تقي الجعفري (رحمه الله) (بعض)، الشيخ محمّد تقي الفقيه (رحمه الله)، الشيخ محمّد جعفر شمس الدين (بعض)، الشيخ محمّد جواد مغنيّة (رحمه الله) (بعض)، السيّد محمّد حسين الطباطبائي (رحمه الله)، الشيخ محمّد رضا الجعفري، الدكتور محمّد شوقي الفنجري، السيّد محمّد علي الباقري، الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (رحمه الله)، الأستاذ محمود جبر، الشيخ محمود الخليلي، الأستاذ محمود سالم (بعض)، الدكتور محمود فهمي زيدان، السيّد محمود الهاشمي، الأستاذ مصطفى الزرقا، السيّد مهدي صدر عاملي، السيّد موسى الصدر، السيّد مير محمّد القزويني (بعض)، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، السيّد نور الدين الإشكوري (بعض)، السيّد هاشم معروف الحسني.

alyatem
31-03-2013, 11:06 AM
الألقاب‏
يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة (ره) تحت عنوان (الألقاب) : «.. ومن أعطى لنفسه فضائل ليست فيه فقد عاش في جنّة الأساطير، تماماً كذلك الطفل المدلّل الذي سأل أباه أن ينزل القمر من كبد السماء ليلعب به (فطبولًا)، أو كهذا الشيخ الذي كتب بالخط الطويل العريض على ما جمع وطبع: (تصنيف فلك الفقاهة،

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 80

سلطان قلم التحقيق والنباهة، شيخ الطائفة وقدوة مجتهدي الفرقة المحقّة، نائب الإمام وباب الأحكام، غياث المسلمين وحجّة الإسلام، آية الله في الأنام، الفقيه المخالف لهواه إلخ). قطب وفلك وسلطان وغياث وباب وآية ونائب وحجّة .. ولا مدلول وراء ذلك إلّا الأحلام ومضغ الكلام! ولا أدري كيف وصف هذا الشيخ نفسه بالعلو والشموخ أو يرضى به- على فرض أنّه من غيره- وهو مخالفٌ لهواه وزاهدٌ في الرفعة والجاه؟ ولهذا الشيخ المغرق في المتاهات أكثر من شبيه، ويا للأسف» «1».
ويقول (ره) في موردٍ آخر: «ومن هنا كانت هذه الفوضى والتطفّلات، وهذا التكالب على لقب تقي وأتقى، وورع وأورع، وزاهد وأزهد، والعلّامة الأوحد، وحجّة الله وآيته، ومرجع عالي وأعلى، ومجتهد كبير وأكبر، إلى آخر ما هو شائع ذائع، بخاصّة في إيران، مصدر هذه الطنطنات ومسقط رأسها .. وقد كثر التسابق إلى هذه الألقاب بعد أن اشتهرت الفتوى بوجوب الرجوع إلى الأعلم في التقليد»«2».
ويقول الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (ره) حول مصطلح (مرجع أعلى) :
«.. وأقول للتاريخ: إنّنا في عهد الإمام السيّد محمّد باقر الصدر كنّا مجموعة من الناس- وأنا واحدٌ منهم- رحم الله من توفّاه، وحفظ الله من بقي حيّاً، نحن اخترعنا هذا المصطلح في النجف، اخترعنا مصطلح مرجع أعلى، وقبل مرحلة الستّينات لا يوجد في أدبيّات الفكر الإسلامي الشيعي هذا المصطلح على الإطلاق. هذا المصطلح نحن أوجدناه: السيّد محمّد باقر الصدر، السيّد محمّد مهدي الحكيم، السيّد محمّد بحر العلوم- ولعلّه يمكن أن أقول: إنّ جانب السيّد الشهيد الصدر (رضى الله عليه) كان في هذا الرعيل، وهو أعلاهم وأسماهم- والداعي أنا محمّد مهدي شمس الدين، كنّا مجموعة نعمل في مواجهة نظام عبد الكريم قاسم المؤيّد للشيوعيّة في نطاق جماعة العلماء، وفي نطاق مجلّة (الأضواء)، وأردنا أن نوجّه خطاباً سياسيّاً للخارج، سواء كانت مرجعيّة السيّد الحكيم (رضى الله عليه) هي المرجعيّة البارزة وليست الوحيدة، أو كانت مرجعيّة السيّد [البروجردي‏] في إيران هي المرجعيّة البارزة، اخترعنا هذا المصطلح واستعملناه، وآسف لأنّه أصبح مصطلحاً رائجاً، وهو لا أساس له على الإطلاق، استخدمناه وأفادنا الكثير، ولكنّنا استخدمناه كآليّة، ولم نكن مؤقّتاً نريده غلًّا، ولا نريده عائقاً»«3» ...
في ما يتعلّق بالألقاب، ابتعدتُ في هذا الكتاب عن تسطير الألقاب التي تحمل في مدلولها اللغوي أكثر ممّا تكشف عنه من واقع «4»، واكتفيتُ بذكر لقب (السيّد) و (الشيخ) و (الأستاذ) ... وعزفت عن ذكر ألفاظ (الفضيلة) و (السماحة) و (الحجّة) و (آية الله) و (آية الله العظمى) وغيرها، لأسباب عديدة، منها اجتناب تضخّم الكتاب، باعتباره مليئاً بأسماء الأعلام بحسب ما يقتضيه‏
__________________________________________________
(1) صفحات لوقت الفراغ: 45- 46
(2) عقليّات إسلاميّة1: 487
(3) الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي: 145- 146
(4) من قبيل آية الله العظمى وهو ليس بأعظم آيةٍ لله. وقد وقعت عيني على كتاب فقهي استدلالي لأحد علماء القرن المنصرم (رحمه الله)، وقد جاء فيه: «... سماحة حجّة الإسلام والمسلمين وآية الله في العالمين ...»، وهو ما جاء أيضاً في رسالته العمليّة. والعبارة نفسها جاءت على غلاف رسالةٍ عمليّة فارسيّة لأحد المراجع المعاصرين، حيث جاء: «حضرت حجّة الإسلام والمسلمين، آية الله في العالمين ..».

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 81

موضوعه.
وعلى أيّة حال، وبحسب تعبير السيّد الصدر (ره)، فإنّ «الوجود الحقيقي لا يحتاج إلى ألقاب‏»، وتنبغي الكتابة «بدون رتوش وجمل إنشائية .. ويُقتصر على ذلك بدون ألقاب وإنشاءات إلّا بالقدر الذي لا يجعل الكلام ممّا ينتزع عنه الجفاء أو سوء الأدب لا أزيد من ذلك‏»، وقد وجدتُ أنّ المقدار الذي لجأت إليه يفي بالغرض بشكل كامل، وليس في بالي الآن موردٌ واحد يشعر بهذا الجفاء.
ثمّ إنّي كنتُ قد درجتُ على استخدام عبارة (السيّد الشهيد) و (الشهيد الصدر) و (الإمام الخميني) و (الإمام موسى الصدر)، بناءً على خلو الأمر من التكلّف عند عامّة الجمهور، بعد أن صارت هذه الألفاظ أشبه بأسماء الأعلام، ولكنّني مع ذلك ارتأيتُ لاحقاً حذفها من المتن- ما عدا المقدّمة- والاكتفاء بـ (السيّد الصدر) و (السيّد الخميني) و (السيّد موسى الصدر)، محاولًا في ذلك عدم إيقاع القارئ تحت التأثير النفسي الذي قد تتركه هذه الألفاظ في ما يُصطلح عليه بمنطقة (اللاوعي)، وإن كنتُ أراهم أئمّةً في ما قالوا وفعلوا.
وكنتُ قد استخدمتُ في الكتاب عبارة ((قدس سره)) بشأن بعض الأعلام، ثمّ ارتأيتُ أن أحذفها- إلّا ما كان جزءاً من عنوان- فراراً من التبعيض بين شخصيّات الكتاب، بعد الفراغ عن أنّي لم أكن لأستخدمها بحقّ الجميع، لأنّ العبارة تفترض وجود سرٍّ ما في مرحلة سابقة، هذا إذا فرضنا أنّ المراد واضحٌ بشكل كافٍ.

المسائل الفنيّة
1- لقد قمت بتنضيد الكتاب وتصحيحه ومراجعته وإخراجه بنفسي، ولمّا بلغت مرحلة الإرهاق النفسي والجسدي الشديد نتيجة العمل الصيفي المتواصل، أعانني الأخ الشيخ أحمد عمّار الذي آزرني- مشكوراً- بتنضيد قسمٍ كبيرٍ من الوثائق الخطيّة والكلمات، قبل أن أقوم بمطابقتها وتصحيحها والتعليق عليها توضيحاً. وهنا أعترف بأنّ تقطيع النصوص- من حيث النقاط والفوارز- ربّما يحتاج إلى إعادة نظر، نتيجة السرعة التي حكمت إنجاز العمل.
2- لقد عمدت إلى تصحيح الكتاب من خلال جهاز الكمبيوتر لا من خلال الأوراق، الأمر الذي يؤدّي بطبيعته إلى وجود عدد لا بأس به من الأخطاء المطبعيّة، وقد مررت على أحداث السنوات الأخيرة (1392- 1400 هـ) مروراً سريعاً نتيجة ضيق الوقت ومحاولتي الإسراع في طبع الكتاب قبل بداية العام الدراسي. وإلى جانب هذا، فمن المعروف لدى أهل الفنّ في مجال تصحيح النصوص وتقويمها أنّ من الخطأ تصدّي المؤلّف نفسه لتصحيح ما كتب، لأنّ الأخطاء تكون مختزنة في ذهنه بنحوٍ يغفل عنها إذا تعثّر بها.
وأثناء مروري السريع على بعض فقرات الكتاب تعثّرتُ بمجموعة من الأخطاء، وقد وجدتُ أنّ كثيراً منها ناجمٌ عمّا كنتُ أقوم به أحياناً من تعديل عبارةٍ كتبتها، ثمّ أغفل عن ترتيب الأثر النحوي الذي تقتضيه العبارة الجديدة، وحيث إنّ الاحتفاظ بالكتاب لإعادة قراءته وتصحيحه من جديد كان‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 82

سيؤخّر ذهابه إلى الطبع إلى أجلٍ غير مسمّى، فقد أغمضت النظر عن ذلك. وبسبب ضيق الوقت أيضاً لم أقم لحدّ الآن بوضع فهارس فنيّة ضروريّة كفهرس الأعلام مثلًا، إلّا إذا سنحت الفرصة لاحقاً. كما أنّ الكتاب بحاجة إلى كشّاف موضوعي لتيسير وصول القارئ إلى آراء السيّد الصدر (ره) في مختلف المجالات.
3- في ما يتعلّق بإخراج الكتاب، حرصتُ على أن لا يزيد المدُّ عددَ الأجزاء عن الحد، فعمدتُ إلى تصغير حجم الخط وزيادة عدد الأسطر في الصفحة، ثمّ إثبات وثيقتين في الصفحة الواحدة من الجزء الأخير، لتصبح الأجزاء خمسة بعد أن كان حقّها أن تكون ثمانية. وبعض العيوب المتعلّقة بإخراج الكتاب ناجمة عن ضعف برنامج (وورد) في هذا الجانب، خاصّةً التغييرات التي تطرأ على الإخراج لدى تحويل الملف إلى (بي. دي. إف).
4- هناك العديد من الألفاظ التي تشتمل على أحرف أجنبيّة عن أحرف اللغة العربيّة، فما لم يكن منها اسماً لعلم أثبتّه بحسب أحرف اللغة العربيّة كما في (إنجليزي)، وما كان منها كذلك وكان دارجاً في اللغة العربيّة نطقه بذلك الحرف أثبتّه بحرف أجنبي كما في (الگلپايگاني). أمّا ما كان يلفظ منها بأحرف العربيّة فقد أثبتّه بحسب أحرفها، كما في كلمة (القپانچي) التي تلفظ (القبانجي)، وإن كان الصواب الاقتصار على أحرف اللغة العربيّة في الحالات كلّها.
5- لم ألتزم بمجانبة ما بات يُصطلح عليه اليوم بالأغلاط أو الأخطاء الشائعة، نحويّاً وإملائيّاً وصرفيّاً، خاصّةً بعد ملاحظة طبيعة موضوع الكتاب «1»، هذا إذا بنينا على أنّ اللغة العربيّة لا تسمح بتداول هيئات وصيغ كلاميّة جديدة لم يعرفها السابقون.
وبعيداً عن هذا، فقد جعلني في سعةٍ من أمري الخلاف الحاصل بين أعلام هذا الفن أنفسهم، فما تكاد تركن إلى عدّ بعض التعبيرات خطأً شائعاً اعتماداً على كلام أحدهم حتّى يقنعك آخر بأنّه ليس كذلك. وأكتفي ببعض الأمثلة التي قد يتكرّر ذكرها في الكتاب:
* منها التحيّز الصارم لمذهب البصريّين في عدم تجويزهم النسبة إلى الجمع، ولزوم النسبة إلى المفرد، ولذلك قالوا «دَولي» بدل «دُولي»، و «عقيدي»- بل «عَقَدي»- بدل «عقائدي»، مع أنّه لا إشكال في صحّة النسبة إلى الجمع ووقوعها في كلام العرب، كما هو الحال في (الدوانيقي) مثلًا «2» وعشرات الموارد الأخرى من أنساب رجال معروفين في التاريخ «3»، فيصحّ قولنا: (عقائدي) إذا أردنا النسبة إلى الجمع.
__________________________________________________
(1) لو أراد السيّد الصدر (رحمه الله) الأخذ بهذه التدقيقات- بعيداً عن صحّتها- لأسمى مذهبه المعرفي في كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء) : «المذهب الذووي في الأسس المنطقيّة للتقرّي» بدل «المذهب الذاتي في الأسس المنطقيّة للاستقراء»، كما أنّ عبارة (البنك اللاربوي) غير صحيحة، والصحيح (البنك غير الربوي) (راجع بشكل خاص هوامش كتاب: السيّد محمّد باقر الصدر .. دراسةٌ في المنهج)
(2) قل ولا تقل: 269
(3) انظرها في: في التراث اللغوي: 415.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 83

* وكذلك نسبتهم إلى «فَعَلي» من «فعيلة»، فقالوا «بَدَهي» و «طَبَعي» و «كَنَسي»، من «بديهة» و «طبيعة» و «كنيسة»، وذلك على وزان «حَنَفي» من «حنيفة». مع أنّ النسبة إلى «فَعَلي» مختصّة بالأعلام وما يشبهها، من قبيل حنيفة مثلًا، وما عداها يُنسب على «فعيلي»، فيقال «بديهي» و «سليقي» و «طبيعي» و «كنيسي» و «قبيلي» «1». وإذا أردنا الاستفادة من استقراء الدكتور مصطفى جواد في موارد لم يتعرّض لها، فلا يصحّ ما بات متعارفاً في الكتابات المعاصرة من النسبة إلى (عَقَدي) من (عقيدة)، بل الصحيح (عقيدي) إذا أردنا النسبة إلى المفرد بناءً على مذهب البصريّين، أو (عقائدي) إذا نسبنا إلى الجمع بناءً على أحد وجهَي المدرسة الكوفيّة.
* أو في تخطئتهم دخول اللام على ما كان في الأصل مفعولًا به للمصدر، كما في: «نصيحتك إيّاهم» بدل «نصيحتك لهم»، مع أنّ استخدام لام (التقوية)- التي تتقدّم المفعول به تقويةً لعاملٍ قد ضعف أصلًا أو عرضاً- رائجٌ في كلام العرب وفي القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ «2»، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ «3»، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ «4» «5»، ومع ذلك فقد استغنينا عن خدماتها حيث وجدنا مجالًا لذلك.
* ومنها قولنا على سبيل المثال «مدير عام المجالس التنفيذيّة»، فإنّ الصحيح: «مدير المجالس التنفيذيّة العام». وما وقع على هذا النحو هو من الغلط الفاحش عند الدكتور جواد «6».
6- هناك بعض الكلمات وقعت محلّ اجتهاد أو اختلاف في ما يتعلّق برسمها الإملائي من قبيل «نموذج» و «أنموذج»، حيث يصرّ العديد من المدقّقين المعاصرين على إثبات الألف، مع أنّ رسمها بدون الألف جائز في كلام العرب «7»، وقد وردت في أشعارهم برسميها على ما ظهر لنا بالبحث والتتبّع. وفي هذه الحالة اعتمدنا على ما هو أقرب إلى اللغة الأم، فأثبتنا «نموذج»، لأنّه أقرب إلى لغته الأم «نموده» بمعنى ظاهر «8»، أو «نمونه» بمعنى عيّنة أو مثال، خاصّة أنّ دأبهم في كلمات أخرى هو الاكتفاء بإثبات (ذج) و (زج) و (سج) بدل (ده) و (زه) و (شه) دون إضافة الألف، كما في «فالوذج» من «فالوده»، و «فيروزج» من «فيروزه»، و «بنفسج» من «بنفشه»، وهي كلمات ذكر الثعالبي أنّها ممّا تفرّد به الفرس دون العرب «9». وكذلك الأمر بالنسبة إلى «إصفهان» بدل «أصفهان»، فحيث ورد الرسمان في كتب اللغة أثبتنا ما هو أقرب إلى تلفّظ الإيرانيّين أنفسهم، وهو «إصفهان».
__________________________________________________
(1) قل ولا تقل: 266- 268؛ في التراث اللغوي: 73
(2) النساء: 34
(3) ق: 25
(4) المائدة: 41
(5) انظر: معجم الأغلاط اللغويّة المعاصرة: 595
(6) في التراث اللغوي: 385
(7) المصباح المنير: 625
(8) انظر حول تعريب «نموذج» من «نموده»: معجم المعرّبات الفارسيّة: 179
(9) فقه اللغة: 274- 276.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 84

إضافةً إلى بعض الاجتهادات في باب رسم الهمزة من قبيل (يقرؤه) بناءً على أنّ الهمزة متوسّطة ولو بعد إضافة الضمير، بدل (يقرأه) بناءً على أنّ الهمزة في الأصل متطرّفة، ولعلّنا استخدمنا الرسمين.
أمّا «مائة» فقد أثبتناها بهذا الرسم تبعاً للرسم القرآني والمتداول في كتب اللغة بناءً على عدم تلفّظ الألف ورجوع رسمها في الحقيقة إلى «مئة»، الذي هو رسمها الصحيح.
هذا إلى جانب بعض موارد همزة (انّ) التي تكون تابعة إلى مراد المتكلّم أو الكاتب، أو بعض الموارد التي تكون محلَّ خلاف بين علماء النحو والإملاء.
نعم، ربّنا لم ألتزم بإثبات همزة القطع إذا جاءت في ابتداء الكلام وكان حقّها الوصل في وسطه، مع أنّ الصحيح أن تكون همزة قطع حين ورودها في ابتداء الكلام.
كما ربّما لم ألتزم تماماً بتجنّب بعض الصيغ المتداولة، كما في: «إنّه كمؤلّف ..» وصحيحها: «إنّه بوصفه مؤلّفاً»؛ أو في دخول باء الاستبدال على الحالّ، مع أنّ الصحيح دخولها على المنصرم، كما في قولنا: «استبدلتُ القديم بالجديد»، وصحيحها: «استبدلتُ الجديد بالقديم»، قال تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ «1»، وقولنا في الدعاء: «.. ولا تستبدل بي غيري‏» «2».
__________________________________________________
(1) البقرة: 61
(2) الكافي 2: 553

ترجمة النصوص‏

بالنسبة إلى ترجمة النصوص الفارسيّة الواردة في الكتاب، فقد حاولتُ قدر المستطاع البقاء في أجواء النصّ الفارسي إلّا حينما تعجز الترجمة الحرفيّة أو شبهها عن أداء المعنى بشكلٍ مناسب، خاصّةً ما يشتمل على (مجاملات) فارسيّة لا وجود لها في الذوق العربي، وقد ابتعدتُ عن أداء المعنى بجمل عربيّة أدبيّة وإن كان ذلك أكثر صحّة بنظري. وهو الحال في النصوص الإنجليزيّة أو الفرنسيّة إن ورد شي‏ءٌ منها في الكتاب.
نعم، في ما يتعلّق برسائل السيّد الصدر (ره) بالخصوص والواردة بالفارسيّة فقد تمثّلتُ ترجمتها على لسانه (ره) بعد أن تلمّستُ مذاقه في تحرير الرسائل.

alyatem
31-03-2013, 11:07 AM
- 3-
تنبيهات‏

1- كان على الكاتب في بعض الموارد أن يناقش من الناحية التاريخيّة ويتبنّى رأياً دون آخر، الأمر الذي سيجعل منه- شاء أم أبى- مناصراً لأحد طرفي النزاع ومعادياً للآخر، وهذا ما وددتُ هنا نفيه جملةً وتفصيلًا، فإنّ اعتقادي برأي دون آخر لا يعني البتّة مناصرتي من يتبنّاه أو معاداتي من لا

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 85

يتبنّاه.
2- لقد قابلت بهدف توثيق مطالب الكتاب مختلف الشخصيّات، ولا أحبُّ لأحدٍ أن يعتمد على ذلك ليصنّفني في اتّجاهٍ يحلو له أن يضعني فيه.
3- إذا كنتُ قد نقلتُ ما يُستفاد منه مدح بعض الأشخاص أو التيّارات أو ذمّهم، فهذا لا يبرّر توظيف ذلك سياسيّاً في هذا الظرف، فإنّ المناط هو الحاضر لا الماضي.
4- إنّ ميزان الحقّ لا يُمكن أن يتمثّل في أشخاص غير معصومين، ولذلك من الخطأ جدّاً أن يُجعل السيّد الصدر (ره) ميزاناً للحكم على الأشخاص، ونحن مأمورون بمعرفة رجال الحق من خلال معرفة الحق نفسه، ومنهيّون عن معرفة الحقّ من خلال الرجال.
ومن هنا فإنّ مدح الشهيد الصدر (ره) أو غيره شخصيّةً من الشخصيّات لا يصلح في حدّ نفسه مبرّراً لتجليلها ابتداءً أو بقاءً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النماذج السلبيّة التي قد يتعثّر بها القارئ بين أسطر الكتاب، فإنّ المناط في الحكم دائماً هو الحقّ لا الرجال، وليس لدينا قاعدة- فيما عدا من عصم الله تعالى- مفادها أنّ الحقّ مع فلان مطلقاً.
5- إنّ ما قد يتضمّنه الكتاب لا يبرّر على الإطلاق لأيّة شريحة متفاعلةٍ مع الأحداث ترتيب آثار غير منضبطة عليه، فهو من ناحية يعبّر عن اختلاف وجهات النظر، ومن ناحية أخرى لا يعبّر إلّا عن فترات زمنيّة سابقة، ومن ناحية ثالثة يمكن أن يكون المعنيّون قد غيّروا من وجهات نظرهم.
6- لا بأس بالإشارة إلى أنّ السيّد الصدر (ره) عندما كان يبلغه شي‏ءٌ ممّا يقال في حقّه من انتقاصات أو ما شابه، كان يحمل صاحبها- بحسب التعبير الأصولي- على الشبهة المصداقيّة لا المفهوميّة، بمعنى أنّه كان يدعو الله تعالى أن يكون صاحب الكلام مخلصاً لله تعالى ولا يريد من وراء كلامه أو فعله سوى نصرة دين الله، ولكن غاية الأمر أنّه اشتبه في تطبيق المصاديق، فظنّ أنّ في ما يقوم به هو- أي السيّد الصدر- تضعيفاً للدين وأهله.
7- وتبقى مسألة أتعمّد الإشارة إليها بإبهام، لسبب، وربّما يتّضح المراد منها إذا وقعت بعض الأمور في عالم الخارج، وهي أنّ علماء الحديث والرجال قد يعمدون إلى روايات الراوي، ليحصوها ويميّزوا بين صحيحها وسقيمها، فإن ارتفعت نسبة هذه الروايات، شكّل ذلك قدحاً واحتمالًا (قبليّاً) في تقييم ما سيرويه أو ما سيصل إلينا من رواياته لاحقاً. فلو قال قائل: سأخبرك مئة خبر، بعضها ستجده بعد وفاتي، وكان قد أخبرك في حياته ستّين خبراً مثلًا، وكانت ستّة أخبار منها فقط صحيحة، فهذا سيشكّل احتمالًا قبليّاً يتحكّم في أخباره الأربعين الباقية ويجعلك تفترض أنّ أربعة منها فقط ستكون صحيحة.


- 4-
انطباعات‏



إنّ جملة من الانطباعات التي خرجتُ بها من هذه الدراسة ترجع إلى جملة من المشكلات التي‏

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 86

يواجهها المؤرّخ، أوجز أهمّها:

عدم استبعاد اتّجاهات تاريخيّة لوفرة ما يناظرها
وهذا ما طبّقناه في هذه المقدّمة، حيث أوردنا أربعة نماذج يُمكن أن لا يستسيغها القارئ، وأوردنا لكلّ نموذج مجموعة من الأحداث التاريخيّة التي تسير في الاتّجاه نفسه، ما من شأنه أن يحدّ من درجة حساسيّته تجاه الموضوع.
فلو قلنا مثلًا: إنّ السيّد الصدر (ره) كان مختلفاً مع عالم من العلماء، واستنكر القارئ ذلك بحجّة أنّ العلماء لا يختلفون في ما بينهم، ثمّ أوردنا له من باب المثال عشرات النماذج التاريخيّة التي تؤكّد وجود خلافات بين العلماء، فهذا من شأنه أن يهيّئ له الأرضيّة لتقبّل فرضيّة حصول اختلاف بين السيّد الصدر (ره) وغيره في حال توافرت ظروفها الموضوعيّة المناسبة. أمّا مع فقدان هذه الشواهد التاريخيّة، فقد لا يرضى بأقلّ من آية قرآنيّة تنصّ على إمكان وقوع الاختلاف بين العلماء.

تجريد الحدث عن قرائنه‏
من المشكلات التي يواجهها البحث التاريخي أنّ ناقل الحدث قد يجرّده عن القرائن المقاميّة المحيطة به، والتي من شأنها في كثيرٍ من الأحيان أن تغيّر وجهة البحث من أساسه. وقد مرّ بنا في بداية هذه المقدّمة ما يشير إلى مفاسد نقل الأحداث مجتزأة.

نقل الراوي حدسه لا ما يقع تحت حسّه‏
وهناك مشكلة أخرى تسير إلى جانب هذه المشكلة، وهي أنّ الناقل قد يعمد إلى الحدس ببواعث الأحداث، ثمّ إذا أراد أن ينقل الحدث نقل حدسه الخاص لا ما يقع تحت حسّه مباشرةً. ومن الواضح لممارسي البحث العلمي أنّ النتيجة تختلف بين الموقفين.

مل‏ء الفراغ بمختزنات الحاضر
ومن المشكلات أيضاً أنّ الناقل قد يعمد إلى مل‏ء الفراغ التاريخي بما يختزنه هو من معلومات حول الحدث حال النقل لا حال وقوع الحادثة.

شهادة الكلّي ونقل الجزئي‏
ومن المشكلات أيضاً أنّ الناقل قد يسمع أمراً كليّاً فينقل ما في ذهنه من مصاديق لهذا الأمر الكلّي، مع أنّها قد لا تكون في بعض الحالات مرادة للقائل.

التسرّع في التعميم الاستقرائي‏
ومن المشكلات كذلك أنّ الناقل قد يشهد حادثة معيّنة لمرّة واحدة- خلافاً لما لو كان ذلك على نحو التكرار والدوام- فيستخلص منها ديدناً، فيقع الديدن في روايته لا ما شهده.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 87

فلو شاهد الراوي- لمرّة واحدة- شخصاً ينام عند الواحدة مثلًا، لا يقول: رأيته مرّة قد نام عند الواحدة، بل يقول: كان ينام عند الواحدة، فيظنّ المستمع أنّ الراوي شاهده لعدّة مرّات ينام عند الواحدة، بينما الأمر ليس كذلك.
وهذه النماذج قد تتكرّر في الكتاب، ولكنّي لم أعلّق عليها بشي‏ء إذ لا سبيل لذلك، واكتفيتُ بالإشارة إلى هذه المشكلة هنا.

ازدياد درجة الكشف في الأخبار الاستطراديّة
وممّا نلاحظه أنّ الخبر المنقول استطراداً ترتفع فيه درجة الكشف عن الحادثة، لتناقص احتمال الوضع والدسّ، باعتبار أنّ الوضع يحتاج إلى شي‏ءٍ من التخطيط لكي لا يبتلى بالتهافت .. هذا في الحالات التي يحرز فيها كونه استطراديّاً، وأنّ الاستطراد لم يكن عمديّاً وبهدف تمويه عمليّة الوضع.

الانطلاق من قبليّات لا مبرّر علميّ لها
أشرنا في هذه المقدّمة إلى أنّ إحدى الخلافات المعرفيّة بين السيّد الصدر وبين مشهور العقليّين يكمن في أنّهم فسّروا القضايا المتواترة وأخواتها على أساس كبرى عقليّة أوليّة قبليّة افترضوها في هذا الباب ومفادها «استحالة الاتّفاق الدائمي» كما عبّروا عنها، بينما وقف السيّد الصدر (ره) في مقابل ذلك ليؤكّد على أنّ هذه القضيّة المذكورة ليست قبليّة، وإنّما هي بَعْديّة يحدّد تحقّقها أو عدمه حساب الاحتمالات تبعاً لنموّه متأثّراً بالعاملين الكمّي والكيفي للقرائن المتراكمة.
لسنا بصدد الحديث عن آراء السيّد الصدر (ره) الفلسفيّة، ولكنّنا أحببنا أن ننقل هذا الخلاف إلى مجال البحث التاريخي لنسلّط الضوء على خلافٍ مشابهٍ في تكوين الانطباعات التاريخيّة:
فهناك اتّجاهٌ في البحث التاريخي يفترض وجود صورة معيّنة حول واقعٍ معيّن- وهي تقابل القبليّات العقليّة التي يفترضها البحث الفلسفي الأرسطي- ويجعل هذه الصورة القبليّة معياراً لقبول أو رفض الأخبار، مع أنّه لا مبرّر لتكوين هذه الصورة سوى أنّه يحلو له أن تكون صورة الواقع على ذلك النحو. وفي المقابل هناك اتّجاه آخر يجعل الأخبار الموثوقة معياراً لتكوين القناعات والانطباعات التاريخيّة آخذاً بعين الاعتبار عامل (منطق طبائع الأشياء)، وبالتالي يجعلها معياراً لتقييم الأخبار الضعيفة سنداً أو دلالةً.
وإنّي وإن لم أظهر شيئاً من قناعاتي وانطباعاتي في الكتاب، إلّا أنّني أؤمن في مجال البحث التاريخي بصحّة الاتّجاه الثاني، إضافةً إلى بطلان التفسير الأرسطي على صعيد البحث المنطقي.

دخالة الراوي في رسم الحدث التاريخي‏
إنّ من النتائج المهمّة التي خرجتُ بها من هذه التجربة قناعتي التامّة بأنّ الراوي- بما يختزنه من مواقف ومشاعر- غالباً ما يكون عنصراً فاعلًا في تحديد مسار شهادته، وبالتالي في رسم الصور التاريخيّة.

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 88

وشهادة الرواي تشمل بطبيعة الحال أقوال الآخرين وأفعالهم:
أمّا الأقوال، فإنّ نقلَها بشكلٍ مقبول غير مخلٍّ يتوقّف على ذاكرة الراوي وضبطه ومدى أخذه بعين الاعتبار أنّه سيروي في يومٍ من الأيّام ما يسمعه، فإنّ المؤرّخ الذي يسمع الشي‏ء بداعي توثيقه يفوق الآخرين دقّةً في ضبط الأقوال.
نعم، إذا كان الحال كحالنا في النقل عن أشخاص ينقلون ما سمعوه، فإنّ التعويل على تسجيلنا شهاداتهم والتدقيق في تدوينها لا يحلّ إلّا جزءاً من المشكلة، فإنّها تبقى من جهتهم بلا حلّ مضمون.
أمّا الأفعال، فالمشكلة فيها تزداد صعوبةً، لأنّ للحدس دوراً مهمّاً في فهمها وتقييمها قبل حفظها ثمّ الشهادة عليها، وغالباً ما تطرأ هنا المشكلات التي تحدّثنا عنها سابقاً.

نقصان الصورة المرسومة بواسطة التاريخ الكتبي‏
لقد كنتُ أمتلك نظرة معيّنة عن الواقع المعاصر قبل الدخول إلى ميدان البحث التفصيلي، وكم غيّر التنقيب والبحث من قناعاتي وتصوّراتي التاريخيّة، وكدت أركن إلى مقولة سمعتها من بعض المؤرّخين، وهي «أنّ التاريخ هو التاريخ الشفهي لا الكتبي» «1»، وربّما وجدتُ أنّ الواقع لا يُمكن الوصول إليه إلّا من خلال التنقيب في صدور الرجال، ولا يُمكن الوصول إليه عبر الاكتفاء بقراءة ما يُكتب.
والحقيقة أنّني لم أجد ما يدعوني إلى الاطمئنان الكافي والركون إلى الصورة المرسومة لدينا حول كثيرٍ من لوحات الماضي بعد أن أيقنتُ ميدانيّاً أنّ التحقيق قد يغيّر انطباعات قائمة ومتداولة، كما لم أجد ما يدعوني إلى القطع بأنّ مؤرّخينا المتقدّمين مختلفون عن المعاصرين في جريهم على الاكتفاء بتعويم جانب معيّن من الواقع، دون أن ادّعي إغفالهم الجانب الآخر بشكل كامل ..

محاكاة الماضي من خلال معايشات الحاضر
خلاصة هذا الانطباع أنّني أكاد أطمئنّ إلى أنّ تكوين انطباعات تاريخيّة عن الماضي أكثر ملامسةً للواقع إنّما يتأتّى من خلال محاولة قراءة الماضي عبر نقل الحاضر إليه، وهو ما قد نعبّر عنه بلسانٍ (آخوندي) بـ «النزعة القهقرائيّة في دراسة التاريخ»، وهو ما عبّر عنه ابن خلدون حيث تحدّث في مقدّمته عن قياس «الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب‏» «2».
واللجوء إلى هذه الوسيلة في تكوين الانطباعات التاريخيّة أمرٌ مبرّرٌ جدّاً، وطريقة ذلك هي أن نعي حاضرنا بشكلٍ كافٍ، مع الاهتمام بشكل خاص بالعناصر والخصائص المشتركة في الطبع‏
__________________________________________________
(1) لا يُشكل على ذلك بأنّ الشفهي بعد تدوينه سيصبح كتبيّاً، فلا يبقى معنى لهذه المقولة؛ فإنّ المراد هو أنّ الشاهد إذا أراد بنفسه تدوين التاريخ أهمل الكثير ممّا يعرفه، وإذا تحدّث وعرف أنّ ما سيقوله لن يكتب نقل الكثير ممّا كان سيهمله، ولذلك غالباً ما يكون ما يُدوّن من التاريخ الشفاهي مستخرجاً استحياءً
(2) تاريخ ابن خلدون، القسم الأول من المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه ..

السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج‏1، ق‏1، ص: 89

البشري عامّة، والتي لا يختلف فيها السلف عن الخلف، فإنّنا مهما وشّحنا السلف برداء القداسة، فإنّه في نهاية الأمر يشترك معنا في كثيرٍ من الأمور.
وعليه، فعندما نعي جو العلماء المعاصرين بشكل دقيق، ونعيش جزئيّات حياتهم، ونقف على أسلوبهم في التعامل والتفاعل والتصرّف و .. و ... وإذا علمنا أنّهم ينطلقون في ذلك ممّا يشتركون به مع سلفهم، فإنّ هذا سيمنعنا من النظر إلى علماء السلف بنظرة معيّنة، وسيسمح لنا بتكوين صور تاريخيّة أكثر وضوحاً وملامسةً للواقع.


- 5-
دعوة

لستُ أدّعي الكمال في ما كتبت، فهو يشتمل دون شك على الكثير من العثرات، ولذلك مبرّراته المتعلّقة من ناحية باستيلاء النقص على طبيعة البشر، وبالزمن وبطاقة المصنّف من ناحية أخرى، وليس هناك ما هو متعمّدٌ إن شاء الله تعالى.
ولكنّني على كلّ حال أدعو كلّ من يرغب في توجيه ملاحظة أو تصحيح معلومة أو إضافة أخرى، خاصّةً طلّاب الشهيد الصدر (ره) الذين يمكنهم إفادتي بالكثير، وكلّ من يملك وثيقةً أو صورة أو غير ذلك ويرغب في التفضّل بها .. أدعوه إلى التواصل عبر الناشر في بيروت، أو على العنوان البريدي التالي:

Sadr_assira_wal_masira*************

والحمد لله ربّ العالمين «1»

احمد عبدالله ابو زيد العاملي
***


______________
(1) أضفنا إلى المقدّمة والكتاب بعض ما استجدّ لنا عام 2006 م قبيل إرساله إلى الطبع.

alyatem
31-03-2013, 11:09 AM
اللهم صل على محمد وآل محمد

انتهينا من عرض نص

مقدمة المؤلف

وهنا نسخة المقدمة المصورة


http://www.hajr-up.info/download.php?id=8700


مع وجود الملف بصيغة وورد (هنا (http://www.yahosein.com/vb/attachment.php?attachmentid=10121&d=1314858961))

وسندرج الجزء الأول مصورا تباعا بحول الله تعالى وقوته

وفقكم الله تعالى ونسألكم الدعاء