نعيم الشرهاني
14-04-2013, 04:40 PM
عمر بن الخطّاب يعارض كتاب الله باجتهاده
إنّ للخليفة الثاني عمر تاريخاً حافلا من اجتهاده مُقابل النّصوص الصريحة من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة الشريفة.
وأهل السنّة يجعلون ذلك من مفاخره ومناقبه التي يمدحونه لأجلها، والمنصِفُون منهم يلتمسون لذلك أعذاراً وتأويلات باردة لا يقبلُها عقل ولا
منطق، وإلاّ كيف يكون من يعارض كتاب الله وسنّة نبيّه من المجتهدين، والله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِيناً}
وقال عزّ من قائل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، في باب ما يذكرُ من ذمِّ الرأي وتكلّف القياس ولا تقفُ ولا تقل ما ليس لك به علم، قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله لا ينزعُ العلم بعد أن أعطاهمُوه انتزاعاً، ولكن ينتزعُه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهّالٌ يُسْتَفتونَ فيُفتُون برأيهم فيُضِلُّون ويَضِلُّونَ
كما أخرج البخاري في صحيحه من نفس الكتاب في الباب الذي يليه: "ما كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يُسْئَلُ ممّا لم يُنزَلُ عليه الوحيُ فيقول: لا أدري، أو لم يُجب حتّى ينزلُ عليه الوحيُ، ولم يقلْ برأي ولا قياس، لقوله تعالى: {بِمَا أرَاكَ اللّهُ}
وقد قال العلماء قديماً وحديثاً قولا واحداً: إنّه من قال في كتاب الله
برأيه فقد كفر، وهذا بديهي من خلال الآيات المحكمات، ومن خلال أقوال وأفعال الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فكيف تُنسَى هذه القاعدة إذا ما تعلّق الأمر بعمر بن الخطّاب أو بأحد الصّحابة أو أحد أئمة المذاهب الأربعة، فيصبحُ القول بالرّأي في معارضة أحكام الله اجتهاداً، يؤجر عليه صاحبه أجراً واحداً إن أخطأ، وأجران إن أصاب؟!
ولقائل أن يقول: إنّ هذا ما اتّفقت عليه الأُمّة الإسلامية قاطبة سنّة وشيعة للحديث النّبوي الشريف الوارد عندهم.
أقول: هذا صحيح ولكن اختلفوا في موضوع الاجتهاد، فالشيعة يوجبون الاجتهاد في ما لم يرد بشأنه حكم من الله أو من رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا أهل السنّة فلا يتقيّدون بهذا، واقتداءً بالخلفاء والسّلف الصالح عندهم لا يرون بأساً في الاجتهاد مقابل النّصوص.
وقد أورد العلاّمة السيّد شرف الدّين الموسوي في كتابه "النصّ والاجتهاد" أكثر من مائة مورد خالف فيه الصّحابة وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة النّصوص الصريحة من القرآن والسنّة، فعلى الباحثين مطالعة ذلك الكتّاب.
وما دمنا في هذا الموضوع بالذّات، فلا بدّ لنا من إيراد بعض النّصوص التي خالف فيها عمر صريح النصّ، وذلك إمّا جهلا منه بالنّصوص، وهذا أمرٌ عجيبٌ!! لأنّ الجاهل ليس لَه أنْ يحكمَ فيحلّل ويحرّم من عند نفسه، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}
وليسَ للجاهِلِ أن يتقلّدَ منصب الخلافة لقيادة أُمّة بأكملها، قال تعالى: {أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلا أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
وإمّا أنّه لا يجهل النّصوص ويَعرفُها، ولكنّه يتعمّد الاجتهاد لمصلحة اقتضاها الحال حسب رأيه الشخصي، لا يعد أهل السنّة هذا كفراً ومروقاً، كما لابدّ أن يكون جاهلا بوجود من يعرف الأحكام الصحيحة من معاصريه، وهذا باطل لمعرفته بإلمام علي (عليه السلام) بالكتاب والسنّة إلماماً تاماً، وإلاّ لما استفتاه في كثير من المعضلات حتى قال فيه: "لولا علي لهلك عمر فلماذا يا تُرى لم يستفته في المسائل التي اجتهد فيها برأيه الذي يعرف قصوره؟
وأعتقد بأنّ المسلمين الأحرار يوافقون على هذا; لأنّ هذا النوع من الاجتهاد هو الذي أفسد العقيدة، وأفسد الأحكام وعطّلها، وتسبّب في اختلاف علماء الأُمّة، وتفريقها إلى الفرق والمذاهب المتعدّدة، ومن ثمّ النزاع والخصام، فالفشل وذهاب الرّيح والتخلّف المادّي والروحي.
ولنا أن نتصوّر حتّى بوجود أبي بكر وعمر على منصّة الخلافة وإزاحة
صاحبها الشرعي، نتصوّر لو أن أبا بكر وعمر جمعَا السنن النبويّة، وحفظاها في كتاب خاصّ بها، لوفّرا على أنفسهما وعلى الأُمة الخير العميم، ولما دخلت في السنّة النبويّة ما ليس منها، ولكان الإسلام بكتابه وسنّته واحداً، ملّة واحدة، وأُمّة واحدة، وعقيدة واحدة، ولكان لنا اليوم كلامٌ غير هذا.
أمّا وأنّ السّنن قد جُمعتْ وأُحرقتْ، ومنعت من التدوين ومن النّقل حتى شفوياً، فهذه هي الطّامة الكبرى، وهذه هي البائقة العُظمى، فلا حول ولا قوى إلاّ بالله العلي العظيم.
وإليك بعض النّصوص الصريحة التي اجتهد فيها عمر بن الخطّاب في مقابل القرآن:
(أ) يقول القرآن: {وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَر أوْ جَاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}
والمعروف في السنّة النبويّة بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علّم الصّحابة كيفية التيمّم، وبحضور عمر نفسه.
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التيمّم، في باب الصّعيد الطيّب وضوء المسلم يكفيه عن الماء. قال: عن عمران، قال: كنّا في سفر مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّا أسرينا حتّى إذا كنّا في آخر الليل وقعنا وقعةً ولا وقْعَةَ أَحْلَى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلاّ حرّ الشمس، وكان أوّل من استيقظ فلانٌ ثمّ فلانٌ يسمّيهم أبو رجاء فنسي عوفٌ ثمّ عمر بن الخطّاب الرّابع.
وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نامَ لم يُوقَظْ حتى يكون هو يستيقظ لأنّا لا ندري
ما يحدُثُ له في نومِهِ، فلمّا استيقظ عُمرُ ورأى ما أصاب النّاسَ وكان رجُلا جليداً، فكبّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يُكبّر ويرفَعُ صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا استيقظ شكوا إليه الذي أصَابهم، قال: لا خَيْرَ ولا يُضِيرُ ارتَحِلوا.
فارتحل فسار غير بعيد، ثمّ نزلَ فدعَا بالوضوءِ فتوضَّأ ونودِيَ بالصّلاةِ فصَلَّى بالنّاس، فلمّا انفَتل من صلاته إذا هو برجُل معتزل لم يصلّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلانٌ أنْ تُصَلِّيَ مع القوم؟ قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء! قال: عليك بالصّعيد فإنّه يكفيكَ..
ولكنّ عمر يقول معارضة لكتاب الله وسنّة رسوله: من لم يجد الماء لا يُصلِّ.. وهذا مذهبه سجّله عليه أغلب المحدّثين. فقد أخرج مسلم في صحيحه ج1 من كتاب الطّهارة باب التيمّم: أنّ رجلا أتى عُمرَ فقالَ: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تُصَلِّ فقال عمّار: أما تذكرُ يا أميرَ المؤمنين إذْ أنا وأنتَ في سَريَّة، فأجنَبنَا فلم نجدْ ماءً، فأمَّا أنت فلم تُصَلِّ وأمَّا أنَا فتمعَّكتُ في التراب وصلّيتُ، فقال النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما كان يكفيكَ أنْ تضربَ بيديك الأرضَ، ثمّ تنفُخَ ثمّ تمسَحَ بهما وجْهَكَ وكفّيكَ، فقال عمر:اتّق الله يا عمّار! قال: إن شِئْتَ لمْ أُحدِّثْ به
سبحان الله! لم يكتف عُمرُ بمعارضته للنّصوص الصريحة من الكتاب والسنّة، حتى يحاول منع الصّحابة من معارضته في رأيه، ويضطّر عمّار بن ياسر أن يعتذر للخليفة بقوله: "إن شئتَ لم أُحدثْ به".
وكيف لا أعجب ولا تعجبون من هذا الاجتهاد، وهذه المعارضة وهذا الإصرار على الرأي رغم شهادة الصّحابة بالنّصوص، فإنّ عمر لم يقتنع إلى أن مات وهو مصرٌ على هذا الاعتقاد، وقد أثر مذهبه هذا في كثير من الصحابة الذين كانوا يرون رأيه، بل ربّما كانوا يقدّمونه على رأي رسول الله.
فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الطّهارة، باب التيمّم من جزئه الأول صفحة 192 قال: عن شقيق: كنتُ جالساً مع عبد الله وأبي موسَى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أنّ رجُلا أجْنبَ فلم يجدْ الماء شَهْراً كيف يَصْنَعُ بالصّلاةِ؟ فقال عبد الله: لا يتيمَّمُ وإنْ لم يجد الماءَ شهراً!
فقال أبو موسى: فكيفَ بهذه الآية في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فقال عبد الله: لو رُخِّصَ لهم في هذه الآية لأوشك إذا بَردَ عليهم المَاءُ أنْ يتيمّموا بالصَّعيد.
فقال أبو موسى لعبدالله: ألم تسمع قول عمّار: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرّغت في الصّعيد كما تمرَّغَ الدّابة، ثمّ أتيتُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له، فقال: إنّما يكفيك أن تقولَ بيديك هكذا ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً، ثمّ مَسَح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهَهُ. فقال عبد الله: أو لم تَرَ عُمَر لم يقنع بقول عمّار
ونحن إذا تأمّلنا في هذه الرواية التي أثبتها البخاري ومسلم وغيرهم من الصّحاح، نفهم من خلالها مدى تأثير مذهب عمر بن الخطّاب على الكثير من كبار الصّحابة، ومن هذا نفهمُ أيضاً مدى تناقض الأحكام، وتهافت الروايات وتضاربها، ولعلّ ذلك هو الذي يُفسِّرُ استخفاف الحكّام الأمويين والعبّاسيين بالأحكام الإسلامية ولا يُقيمون لها وزناً، ويسمحُون بتعدّد المذاهب المتعارضة في الحكم الواحد، ولسان حالهم يقول لأبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي: قولوا ما شئتم بآرائكم، فإذا كان سيّدكم وإمامكم عمر يقول برأيه ما شاء مقابل القرآن والسنّة، فلا لوم عليكم، فما أنتم إلاّ
آخر كلامه الذي لا تفهمه العقول السّليمة، ونحن نقبل شهادته بأنّ عمر غيّر الأحكام القرآنية تبعاً لرأيه بأنّ المصلحة تتغيّر بحسب الأزمان. ونرفض تأويله بأنّ عمر نظر إلى علّة النّص ولم ينظر إلى ظاهره، ونقول له ولغيره: بأنّ النّصوص القرآنية والنّصوص النبويّة لا تتغيّر بتغيّر الأزمان، فالقرآن صريح بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ليس من حقّه أن يبدّل، قال تعالى:
{وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّـنَات قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَذَا أوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِـعُ إلا مَا يُوحَى إلَيَّ إنِّي أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم}
والسنّة النبويّة الطّاهرة تقول: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة".
(ت) قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلا أنْ يَخَافَا ألا يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيَما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَاُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ}
والسنّة النبويّة الشريفة فسّرتْ بغير لُبس بأنّ المرأة لا تحرم على زوجها إلاّ بعد ثلاثة تطليقات، ولا يحقّ لزوجها أن يراجعها إلاّ بعد أن تنكِحَ زوجاً آخر، فإذا طلّقها هذا الأخير عند ذلك يمكنُ لزوجها أن يتقدّم لخطبتها من جديد كبقية الرّجال، وعليها أن تقبل أو ترفض فالخيرة لها.
ولكنّ عمر بن الخطّاب وكعادته تَخطّى حدود الله التي بيّنها لقوم يعلمون،
فأبدل هذا الحكم بحكمه الذي يقول طلقةٌ واحدة فعلية بلفظ الثلاثة، تحرم على الزوج زوجه، وخالف بذلك القرآن الكريم والسنّة النبويّة.
فقد جاء في صحيح مسلم في كتاب الطّلاق باب طلاق الثّلاث عن ابن عبّاس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين من خلافة عُمر طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطّاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانتْ لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم
عجباً! والله كيف يجرؤ الخليفة على تغيير أحكام الله بمحضر من الصحابة، فيوافقون على كلّ ما يقول وما يفعل ولا من منكر ولا من مُعارض، ويموّهون علينا نحن المساكين بأنّ أحد الصحابة قال لعمر: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بحدّ السّيف"!!
فهذا زور من القول وبُهتان، ليتشدّقوا بأنّ الخُلفاء كانوا المثل الأعلى في الحريّة والديمقراطيّة، والتاريخ يُكذّبهم بواقعه العملي، ولا عبرة بالأقوال إذا كانت الأعمال على نقيضها.
أو لعلّهم كانوا يرون الاعوجاج في الكتاب والسنّة، وأنّ عمر بن الخطاب هو الذي قوّمها وأصلحها، نعوذ بالله من الهذيان، وكنتُ في مدينة قفصة كثيراً ما أفتي للرجال الذين حرّموا نساءهم بكلمة: "أنتِ حرامٌ بالثلاث"، ويفرحون عندما أعرّفهم بأحكام الله الصحيحة التي لم يتصرّف فيها الخلفاء
باجتهاداتهم، ولكنّ من يدّعون العلم يخوّفونهم بأنّ الشيعة عندهم كل شيء حلال.
وهل استمع المسلمون لرأي علي غير شيعته الذين آمنوا بإمامته، فقد عارض تحريم المتعة، وعارض بدعة التراويح، وعارض كلّ الأحكام التي غيّرها أبو بكر وعمر وعثمان، ولكن بقيت آراؤه محصورة في أتباعه وشيعته، أمّا غيرهم من المسلمين فقد حاربوه ولعنوه، وحاولوا جهدهم القضاء عليه ومحو ذكره.
ولا أدلَّ على معارضته من موقفه العظيم البطولي عندما دعاه عبد الرحمن بن عوف الذي رشّحوه لاختيار الخليفة بعد موت عمر فاشترط عليه ـ بعد أن اختاره ليكون هو الخليفة ـ أن يحكم فيها بسنّة الخليفتين أبوبكر وعمر، فرفض علي (عليه السلام) هذا الشرط وقال: أحكم بكتاب الله وسنّة رسوله. وعلى هذا تركوه، واختاروا عثمان بن عفان الذي قبل شرط الحكم بسنّة الخليفتين، فإذا كان علي (عليه السلام) لا يقدر على معارضة أبي بكر وعمر وهما ميّتان، فكيف يعارضهما وهما على قيد الحياة؟!
ولذلك ترى اليوم بأنّ باب مدينة العلم الذي كان أعلم النّاس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقضاهم وأحفظهم لكتاب الله وسنّة رسوله متروكاً عند أهل السنّة والجماعة، فيقتدون بمالك وأبي حنيفة والشّافعي وابن حنبل، ويقلّدونهم في كلّ أُمور الدّين من العبادات والمعاملات، ولا يرجعون في شيء للإمام علي.
وكذلك فعل أئمّتهم في الحديث كالبخاري ومسلم، فتراهم يروون عن أبي هريرة، وعن ابن عمر، وعن الأقرع والأعرج، وعن كلّ قريب وبعيد مئات الأحاديث، ولا يروون عن علي إلاّ بضعة أحاديث مكذوبة عليه، وفيها مسُّ بكرامة أهل البيت.
ثمّ هم لا يكتفون بذلك، فيستنكرون ويكفّرون من قلّده واقتدى به من شيعته المخلصين، وينبزونهم بالرّوافض وبكلّ ما يُشين.
والحقيقة: إنّ هؤلاء ليس لهم ذنبٌ إلاّ أنّهم اقتدوا بعلي الذي كان منبوذاً ومبعداً في عهد الخلفاء الثلاثة، ثمّ هو ملعون ومحارب في عهد الأموييّن والعبّاسيّين، وكلّ من له إلمام ومعرفة بالتّاريخ، سيُدركُ هذه الحقيقة واضحة جليّة، وسيفهم الخلفيات والمؤامرات التي حيكتْ ضدّه، وضدّ أهل بيته وشيعته.
إنّ للخليفة الثاني عمر تاريخاً حافلا من اجتهاده مُقابل النّصوص الصريحة من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة الشريفة.
وأهل السنّة يجعلون ذلك من مفاخره ومناقبه التي يمدحونه لأجلها، والمنصِفُون منهم يلتمسون لذلك أعذاراً وتأويلات باردة لا يقبلُها عقل ولا
منطق، وإلاّ كيف يكون من يعارض كتاب الله وسنّة نبيّه من المجتهدين، والله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِيناً}
وقال عزّ من قائل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، في باب ما يذكرُ من ذمِّ الرأي وتكلّف القياس ولا تقفُ ولا تقل ما ليس لك به علم، قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله لا ينزعُ العلم بعد أن أعطاهمُوه انتزاعاً، ولكن ينتزعُه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهّالٌ يُسْتَفتونَ فيُفتُون برأيهم فيُضِلُّون ويَضِلُّونَ
كما أخرج البخاري في صحيحه من نفس الكتاب في الباب الذي يليه: "ما كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يُسْئَلُ ممّا لم يُنزَلُ عليه الوحيُ فيقول: لا أدري، أو لم يُجب حتّى ينزلُ عليه الوحيُ، ولم يقلْ برأي ولا قياس، لقوله تعالى: {بِمَا أرَاكَ اللّهُ}
وقد قال العلماء قديماً وحديثاً قولا واحداً: إنّه من قال في كتاب الله
برأيه فقد كفر، وهذا بديهي من خلال الآيات المحكمات، ومن خلال أقوال وأفعال الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فكيف تُنسَى هذه القاعدة إذا ما تعلّق الأمر بعمر بن الخطّاب أو بأحد الصّحابة أو أحد أئمة المذاهب الأربعة، فيصبحُ القول بالرّأي في معارضة أحكام الله اجتهاداً، يؤجر عليه صاحبه أجراً واحداً إن أخطأ، وأجران إن أصاب؟!
ولقائل أن يقول: إنّ هذا ما اتّفقت عليه الأُمّة الإسلامية قاطبة سنّة وشيعة للحديث النّبوي الشريف الوارد عندهم.
أقول: هذا صحيح ولكن اختلفوا في موضوع الاجتهاد، فالشيعة يوجبون الاجتهاد في ما لم يرد بشأنه حكم من الله أو من رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا أهل السنّة فلا يتقيّدون بهذا، واقتداءً بالخلفاء والسّلف الصالح عندهم لا يرون بأساً في الاجتهاد مقابل النّصوص.
وقد أورد العلاّمة السيّد شرف الدّين الموسوي في كتابه "النصّ والاجتهاد" أكثر من مائة مورد خالف فيه الصّحابة وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة النّصوص الصريحة من القرآن والسنّة، فعلى الباحثين مطالعة ذلك الكتّاب.
وما دمنا في هذا الموضوع بالذّات، فلا بدّ لنا من إيراد بعض النّصوص التي خالف فيها عمر صريح النصّ، وذلك إمّا جهلا منه بالنّصوص، وهذا أمرٌ عجيبٌ!! لأنّ الجاهل ليس لَه أنْ يحكمَ فيحلّل ويحرّم من عند نفسه، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}
وليسَ للجاهِلِ أن يتقلّدَ منصب الخلافة لقيادة أُمّة بأكملها، قال تعالى: {أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلا أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
وإمّا أنّه لا يجهل النّصوص ويَعرفُها، ولكنّه يتعمّد الاجتهاد لمصلحة اقتضاها الحال حسب رأيه الشخصي، لا يعد أهل السنّة هذا كفراً ومروقاً، كما لابدّ أن يكون جاهلا بوجود من يعرف الأحكام الصحيحة من معاصريه، وهذا باطل لمعرفته بإلمام علي (عليه السلام) بالكتاب والسنّة إلماماً تاماً، وإلاّ لما استفتاه في كثير من المعضلات حتى قال فيه: "لولا علي لهلك عمر فلماذا يا تُرى لم يستفته في المسائل التي اجتهد فيها برأيه الذي يعرف قصوره؟
وأعتقد بأنّ المسلمين الأحرار يوافقون على هذا; لأنّ هذا النوع من الاجتهاد هو الذي أفسد العقيدة، وأفسد الأحكام وعطّلها، وتسبّب في اختلاف علماء الأُمّة، وتفريقها إلى الفرق والمذاهب المتعدّدة، ومن ثمّ النزاع والخصام، فالفشل وذهاب الرّيح والتخلّف المادّي والروحي.
ولنا أن نتصوّر حتّى بوجود أبي بكر وعمر على منصّة الخلافة وإزاحة
صاحبها الشرعي، نتصوّر لو أن أبا بكر وعمر جمعَا السنن النبويّة، وحفظاها في كتاب خاصّ بها، لوفّرا على أنفسهما وعلى الأُمة الخير العميم، ولما دخلت في السنّة النبويّة ما ليس منها، ولكان الإسلام بكتابه وسنّته واحداً، ملّة واحدة، وأُمّة واحدة، وعقيدة واحدة، ولكان لنا اليوم كلامٌ غير هذا.
أمّا وأنّ السّنن قد جُمعتْ وأُحرقتْ، ومنعت من التدوين ومن النّقل حتى شفوياً، فهذه هي الطّامة الكبرى، وهذه هي البائقة العُظمى، فلا حول ولا قوى إلاّ بالله العلي العظيم.
وإليك بعض النّصوص الصريحة التي اجتهد فيها عمر بن الخطّاب في مقابل القرآن:
(أ) يقول القرآن: {وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَر أوْ جَاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}
والمعروف في السنّة النبويّة بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علّم الصّحابة كيفية التيمّم، وبحضور عمر نفسه.
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التيمّم، في باب الصّعيد الطيّب وضوء المسلم يكفيه عن الماء. قال: عن عمران، قال: كنّا في سفر مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّا أسرينا حتّى إذا كنّا في آخر الليل وقعنا وقعةً ولا وقْعَةَ أَحْلَى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلاّ حرّ الشمس، وكان أوّل من استيقظ فلانٌ ثمّ فلانٌ يسمّيهم أبو رجاء فنسي عوفٌ ثمّ عمر بن الخطّاب الرّابع.
وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نامَ لم يُوقَظْ حتى يكون هو يستيقظ لأنّا لا ندري
ما يحدُثُ له في نومِهِ، فلمّا استيقظ عُمرُ ورأى ما أصاب النّاسَ وكان رجُلا جليداً، فكبّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يُكبّر ويرفَعُ صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا استيقظ شكوا إليه الذي أصَابهم، قال: لا خَيْرَ ولا يُضِيرُ ارتَحِلوا.
فارتحل فسار غير بعيد، ثمّ نزلَ فدعَا بالوضوءِ فتوضَّأ ونودِيَ بالصّلاةِ فصَلَّى بالنّاس، فلمّا انفَتل من صلاته إذا هو برجُل معتزل لم يصلّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلانٌ أنْ تُصَلِّيَ مع القوم؟ قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء! قال: عليك بالصّعيد فإنّه يكفيكَ..
ولكنّ عمر يقول معارضة لكتاب الله وسنّة رسوله: من لم يجد الماء لا يُصلِّ.. وهذا مذهبه سجّله عليه أغلب المحدّثين. فقد أخرج مسلم في صحيحه ج1 من كتاب الطّهارة باب التيمّم: أنّ رجلا أتى عُمرَ فقالَ: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تُصَلِّ فقال عمّار: أما تذكرُ يا أميرَ المؤمنين إذْ أنا وأنتَ في سَريَّة، فأجنَبنَا فلم نجدْ ماءً، فأمَّا أنت فلم تُصَلِّ وأمَّا أنَا فتمعَّكتُ في التراب وصلّيتُ، فقال النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما كان يكفيكَ أنْ تضربَ بيديك الأرضَ، ثمّ تنفُخَ ثمّ تمسَحَ بهما وجْهَكَ وكفّيكَ، فقال عمر:اتّق الله يا عمّار! قال: إن شِئْتَ لمْ أُحدِّثْ به
سبحان الله! لم يكتف عُمرُ بمعارضته للنّصوص الصريحة من الكتاب والسنّة، حتى يحاول منع الصّحابة من معارضته في رأيه، ويضطّر عمّار بن ياسر أن يعتذر للخليفة بقوله: "إن شئتَ لم أُحدثْ به".
وكيف لا أعجب ولا تعجبون من هذا الاجتهاد، وهذه المعارضة وهذا الإصرار على الرأي رغم شهادة الصّحابة بالنّصوص، فإنّ عمر لم يقتنع إلى أن مات وهو مصرٌ على هذا الاعتقاد، وقد أثر مذهبه هذا في كثير من الصحابة الذين كانوا يرون رأيه، بل ربّما كانوا يقدّمونه على رأي رسول الله.
فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الطّهارة، باب التيمّم من جزئه الأول صفحة 192 قال: عن شقيق: كنتُ جالساً مع عبد الله وأبي موسَى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أنّ رجُلا أجْنبَ فلم يجدْ الماء شَهْراً كيف يَصْنَعُ بالصّلاةِ؟ فقال عبد الله: لا يتيمَّمُ وإنْ لم يجد الماءَ شهراً!
فقال أبو موسى: فكيفَ بهذه الآية في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فقال عبد الله: لو رُخِّصَ لهم في هذه الآية لأوشك إذا بَردَ عليهم المَاءُ أنْ يتيمّموا بالصَّعيد.
فقال أبو موسى لعبدالله: ألم تسمع قول عمّار: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرّغت في الصّعيد كما تمرَّغَ الدّابة، ثمّ أتيتُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له، فقال: إنّما يكفيك أن تقولَ بيديك هكذا ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً، ثمّ مَسَح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهَهُ. فقال عبد الله: أو لم تَرَ عُمَر لم يقنع بقول عمّار
ونحن إذا تأمّلنا في هذه الرواية التي أثبتها البخاري ومسلم وغيرهم من الصّحاح، نفهم من خلالها مدى تأثير مذهب عمر بن الخطّاب على الكثير من كبار الصّحابة، ومن هذا نفهمُ أيضاً مدى تناقض الأحكام، وتهافت الروايات وتضاربها، ولعلّ ذلك هو الذي يُفسِّرُ استخفاف الحكّام الأمويين والعبّاسيين بالأحكام الإسلامية ولا يُقيمون لها وزناً، ويسمحُون بتعدّد المذاهب المتعارضة في الحكم الواحد، ولسان حالهم يقول لأبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي: قولوا ما شئتم بآرائكم، فإذا كان سيّدكم وإمامكم عمر يقول برأيه ما شاء مقابل القرآن والسنّة، فلا لوم عليكم، فما أنتم إلاّ
آخر كلامه الذي لا تفهمه العقول السّليمة، ونحن نقبل شهادته بأنّ عمر غيّر الأحكام القرآنية تبعاً لرأيه بأنّ المصلحة تتغيّر بحسب الأزمان. ونرفض تأويله بأنّ عمر نظر إلى علّة النّص ولم ينظر إلى ظاهره، ونقول له ولغيره: بأنّ النّصوص القرآنية والنّصوص النبويّة لا تتغيّر بتغيّر الأزمان، فالقرآن صريح بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ليس من حقّه أن يبدّل، قال تعالى:
{وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّـنَات قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَذَا أوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِـعُ إلا مَا يُوحَى إلَيَّ إنِّي أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم}
والسنّة النبويّة الطّاهرة تقول: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة".
(ت) قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلا أنْ يَخَافَا ألا يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيَما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَاُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ}
والسنّة النبويّة الشريفة فسّرتْ بغير لُبس بأنّ المرأة لا تحرم على زوجها إلاّ بعد ثلاثة تطليقات، ولا يحقّ لزوجها أن يراجعها إلاّ بعد أن تنكِحَ زوجاً آخر، فإذا طلّقها هذا الأخير عند ذلك يمكنُ لزوجها أن يتقدّم لخطبتها من جديد كبقية الرّجال، وعليها أن تقبل أو ترفض فالخيرة لها.
ولكنّ عمر بن الخطّاب وكعادته تَخطّى حدود الله التي بيّنها لقوم يعلمون،
فأبدل هذا الحكم بحكمه الذي يقول طلقةٌ واحدة فعلية بلفظ الثلاثة، تحرم على الزوج زوجه، وخالف بذلك القرآن الكريم والسنّة النبويّة.
فقد جاء في صحيح مسلم في كتاب الطّلاق باب طلاق الثّلاث عن ابن عبّاس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين من خلافة عُمر طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطّاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانتْ لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم
عجباً! والله كيف يجرؤ الخليفة على تغيير أحكام الله بمحضر من الصحابة، فيوافقون على كلّ ما يقول وما يفعل ولا من منكر ولا من مُعارض، ويموّهون علينا نحن المساكين بأنّ أحد الصحابة قال لعمر: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بحدّ السّيف"!!
فهذا زور من القول وبُهتان، ليتشدّقوا بأنّ الخُلفاء كانوا المثل الأعلى في الحريّة والديمقراطيّة، والتاريخ يُكذّبهم بواقعه العملي، ولا عبرة بالأقوال إذا كانت الأعمال على نقيضها.
أو لعلّهم كانوا يرون الاعوجاج في الكتاب والسنّة، وأنّ عمر بن الخطاب هو الذي قوّمها وأصلحها، نعوذ بالله من الهذيان، وكنتُ في مدينة قفصة كثيراً ما أفتي للرجال الذين حرّموا نساءهم بكلمة: "أنتِ حرامٌ بالثلاث"، ويفرحون عندما أعرّفهم بأحكام الله الصحيحة التي لم يتصرّف فيها الخلفاء
باجتهاداتهم، ولكنّ من يدّعون العلم يخوّفونهم بأنّ الشيعة عندهم كل شيء حلال.
وهل استمع المسلمون لرأي علي غير شيعته الذين آمنوا بإمامته، فقد عارض تحريم المتعة، وعارض بدعة التراويح، وعارض كلّ الأحكام التي غيّرها أبو بكر وعمر وعثمان، ولكن بقيت آراؤه محصورة في أتباعه وشيعته، أمّا غيرهم من المسلمين فقد حاربوه ولعنوه، وحاولوا جهدهم القضاء عليه ومحو ذكره.
ولا أدلَّ على معارضته من موقفه العظيم البطولي عندما دعاه عبد الرحمن بن عوف الذي رشّحوه لاختيار الخليفة بعد موت عمر فاشترط عليه ـ بعد أن اختاره ليكون هو الخليفة ـ أن يحكم فيها بسنّة الخليفتين أبوبكر وعمر، فرفض علي (عليه السلام) هذا الشرط وقال: أحكم بكتاب الله وسنّة رسوله. وعلى هذا تركوه، واختاروا عثمان بن عفان الذي قبل شرط الحكم بسنّة الخليفتين، فإذا كان علي (عليه السلام) لا يقدر على معارضة أبي بكر وعمر وهما ميّتان، فكيف يعارضهما وهما على قيد الحياة؟!
ولذلك ترى اليوم بأنّ باب مدينة العلم الذي كان أعلم النّاس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقضاهم وأحفظهم لكتاب الله وسنّة رسوله متروكاً عند أهل السنّة والجماعة، فيقتدون بمالك وأبي حنيفة والشّافعي وابن حنبل، ويقلّدونهم في كلّ أُمور الدّين من العبادات والمعاملات، ولا يرجعون في شيء للإمام علي.
وكذلك فعل أئمّتهم في الحديث كالبخاري ومسلم، فتراهم يروون عن أبي هريرة، وعن ابن عمر، وعن الأقرع والأعرج، وعن كلّ قريب وبعيد مئات الأحاديث، ولا يروون عن علي إلاّ بضعة أحاديث مكذوبة عليه، وفيها مسُّ بكرامة أهل البيت.
ثمّ هم لا يكتفون بذلك، فيستنكرون ويكفّرون من قلّده واقتدى به من شيعته المخلصين، وينبزونهم بالرّوافض وبكلّ ما يُشين.
والحقيقة: إنّ هؤلاء ليس لهم ذنبٌ إلاّ أنّهم اقتدوا بعلي الذي كان منبوذاً ومبعداً في عهد الخلفاء الثلاثة، ثمّ هو ملعون ومحارب في عهد الأموييّن والعبّاسيّين، وكلّ من له إلمام ومعرفة بالتّاريخ، سيُدركُ هذه الحقيقة واضحة جليّة، وسيفهم الخلفيات والمؤامرات التي حيكتْ ضدّه، وضدّ أهل بيته وشيعته.