شبكة جنّة الحسين
18-04-2013, 06:41 PM
إنّ القوافي أينما حلّت، خاصة وهي تؤرّخ لنهضة وضعت مائزاً بين النور والظلام، هي مِلك الإنسانية وليست ملك ناظمها ولا ملك مقتنيها في نسخة مخطوطة أو طبعة حجرية، ومن يحبس القوافي في خزانة كتب أو خلف نافذة متحف ولا يطلق سراحها، إنما خذل جبهة الحق ولم ينتصر لإمام الحق الذي طلب النصرة يوم عاشوراء، وكذا أساء ذلك المحتكر لساحة الأدب والأدباء الّذين رجموا الباطل بسهام كلماتهم ونبال قوافيهم، رغم بُعد المسافة الزمنية عن محرم عام 61 هــ، وتَباعُدِ المساحة المكانية عن طفّ كربلاء، كقول خطيب المذهب الحنفي الموفّق بن أحمد الخوارزمي المتوفى عام 568 هـ، من بحر الوافر:
وإنَّ موفَّقاً إنْ لم يُقاتِلْ * أمامَك يابنَ فاطمةَ البتولِ
فَسَوفَ يَصوغُ فيك مُحبَّراتٍ * تَنَقَّلُ في الحُزونِ وفي السهولِ
أو قول الكاتب والشاعر مهيار بن مَرزَوَيه الديلمي المتوفى عام 428 هـ، من بحر المتقارب:
ولا زال شِعريَ مِن نائحٍ * يُنَقَّلُ فيكم إلى مُنشِدِ
وما فاتَني نصرُكُمْ باللسان * إذا فاتَني نَصْرُكُم باليدِ
فالنُّصرة لا تقتصر على السيفِ لمن أراد أن يلبّيَ واعية الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وتضييقها على السلاح مظلَمة لها، فالأدب المنثور الواعي نصرة للحق وأهله، والأدب المنظوم الملتزم شوكة في عيون الباطل وحزبه، وليس هناك برزخ يقف على قلّته من يحول دون نشر الأدب الحرّ بحجة أو بأخرى.
• تاريخٌ موزون:
كلّ حادث إن لم تلتقطه عدسة المصوّر غابت مفاصله وزواياه، وفي عصرٍ لم تكن آلة التصوير قائمة، كانت الرواية هي العدسة التي يعرضها الراوي لنقل تفاصيل القصة أو السيرة، ولذلك كان الراوية ــ كما كان القاصّ أو الحكواتي ــ تنجذب إليه النفوس وتتحلق حوله الأبدان وهو يروي الواقعة، حتى أصبحت الرواية في باب القصص والسير اختصاصاً له رجاله، وبخاصة حكاية المقاتل والمعارك، والراوي هنا هو غير راوي الحديث، وإن اشتركا في قواسم عدة.
وقد وجد بعض الشعراء في الملاحم والمقاتل ضالّتهم في ترجمة الواقعة إلى نصٍّ شعري، أو قولبة النصوص النثريّة لملاحم قتالية سابقة على عهدهم في نصوص شعريّة.
وما يلاحظ في قوافي الوغى الّتي تابعت معركة كربلاء بكل تفاصيلها؛ قبلها وأثناءها وبعدها، أنها:
أولاً: ساهمت في حفظ معركة الكرامة وبيان معالمها، لأن الشعر أثبتُ في ذاكرة الإنسان وأركزُ على صفحات التاريخ، فالأدب المنثور يتعرض إلى النسيان والضياع والتحوير من ناقل إلى آخَر، في حين أنّ الشعر قوافٍ موزونة قلّما تتعرض إلى التحريف، وإذا حصل فهو من باب الخلل في الاستنساخ، ثم إنه بشكل عام محفوظ في سجل الذاكرة الإنسانية يُنقل من جيل إلى آخَر.
ثانياً: ساعد شعر الملاحم على تصحيح الاختلاف الحاصل في النسخ المتعددة للملحمة في صورتها النثرية، فكما أن الشعر يُستشهَد به في قواعد اللّغة العربية، فللباحث أن يستشهد به لتصويب الحادث، خاصةً إذا كانت الملحمة الشعرية نظمَتْها شخصية علمائية، ومن الثابت أنّ شعراء القرون الأُولى كانوا يجمعون إلى جانب النظم العلومَ الأُخرى، فهم في وقت واحد أُدباء وعلماء وفقهاء، وهذه خصوصيّة بدأت تفقد بريقها في القرون المتأخرة.
ثالثاً: اعتاد الناس في مجال الأدب الحسيني على سماع قصة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) بصوت خطيب حسيني، ولعلّ أشهر المقاتل المقروءة حتى يومنا وأشجاها هو مقتل الخطيب الراحل الشيخ عبد الزهراء بن فلاح الكعبي الحائري (رضوان الله عليه) (1327 ــ 1394 هـ / 1907 ــ 1974 م)، لكنّنا لم نستطع الاستفادة من الملاحم الشعرية في عقد مجالس لِتُذكَر واقعة كربلاء على مسامع الناس، فبعض الملاحم المنظومة تغطّي معظم الواقعة الحسينيّة، منذ خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من الجزيرة العربية إلى العراق، إلى استشهاده في كربلاء في عاشوراء 61 هـ، ثمّ أسر أهل بيته إلى الكوفة وإلى الشام، ومن بعد رجوع ركب الأسرى إلى العراق في العشرين من صفر 61 هـ، ثم العودة إلى المدينة المنورة، كملحمة الحلبي الحائري يوسف بن إسماعيل الشوّاء المتوفى عام 635 هـ، وهي في 606 أبيات من البحر الطويل، ومطلعها:
أُفكِّرُ والصَّبُ الحزينُ يُفكِّرُ * وأُسهِرُ ليلي والمصائبُ تَسهرُ
ويَطرُقُني همُّ النوائب دائماً * ولكنْ إذا هلَّ المحرَّمُ يَكبرُ
ولذلك أعتقد أنّ من المفيد الاستفادةَ من هذه الملاحم الشعرية في عرض النهضة الحسينية على المنابر بأصوات وشخصيات تجيد قراءة الشعر وإنشاده، وترويج مثل هذه المحافل الشعرية ونصبها في العشرة من محرم الحرام، فهناك قطاعات كبيرة من الجمهور يتذوّق الشعر، فإذا أمكن إنضاج قابليات المنشدين كان الأدب الحسيني قد تم توظفيه أداةً إعلامية جديدة تخاطب طبقة الأدباء وأصحاب الذوق ومن يُنسب إليهم، وجدَّد من الأسلوب المنبري المتعارف عليه، وكسب إليه قطاعات من الناس لم تتعوّد على حضور المجالس الحسينية وإن كانت هي الأفضل، وتشجع في الوقت نفسه الشعراء على نظم الملاحم، وترجمة النهضة الحسينية إلى ملحمة شعرية.
ومع الجهد الكبير والفريد الذي يبذله بعض الأدباء والباحثين في توثيق الشعر الحسيني عبر القرون، فإنّ الطريق ممهّد أمام هذا الأسلوب من العرض المنبريّ لأن يأخذ طريقه في التطبيق والانتشار، لاسيّما وأنّ الملاحم الشعرية قد تمّ ضبطها من كلّ النواحي الفنية، فلا يجد المُلقي صعوبة في تشنيف أسماع الناس على أن يكون الإلقاء بصوت شجي، وبذلك يكون مثل هذا الفن من المنبر الشعري الحسيني قد استعاد دوره التاريخيَّ الكبير، الّذي كان يقوم به شعراء القرون الأُولى عندما كانوا يُلقون قصائدهم الحسينيّة في محضر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كدعبل بن علي الخزاعي المتوفى سنة 246 هـ، الذي ألقى قصيدته التائيّة من 122 بيتاً من بحر الطويل بحضور الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وهو على ولاية العهد في العاصمة طوس، فأُغمي عليه (صلوات الله عليه) عند سماعها، خاصّة عندما تستنطق واقعة كربلاء شعراً، ومطلعها من الطويل:
تَجاوَبنَ بالأرنانِ والزفَراتِ * نوائحُ عُجمُ اللّفظِ والنَّطِقاتِ
إنّ الملاحم الشعريّة في الواقع قليلة، ولكنّ الموجود منها لم يتم تداوله بما يليق بالمناسبة، ولذلك فإنّ خطباء المنبر الحسيني بحاجة إلى إجراء تجديد في القصائد الّتي يلقونها، فالأدب الحسينيّ غنيٌّ بالقصائد الملحمية، ومن حقّها أن يتم تداولها كحالةٍ من حالات التجديد المنبري، فالملحمة الشعرية تاريخ، تاريخٌ منظوم موزون، وليست بشعر ذي خيال وإلهام.
• طباق منضود:
ليس الشعر الراقي ما انتظم قافية ووزناً فحسب، بل هنالك مقوّمات عدّة إذا اجتمعت نالت القصيدة المقام المعلّى، ومن تلك المقومات استخدام المحسّنات البلاغية بما يعطي القصيدة رونقاً خاصاً، ومن المحسّنات: الطباق، أي الجمع بين الكلمة وضدّها في النص الواحد، فإذا كان الشيئان من سِنْخَين مختلفين، عدّ الطباق إيجابياً، وإن كانا من سِنْخ واحدٍ دخل عليهما الإثبات والنفي أو الأمر أو النهي أو كلاهما، كان من الطباق السلبي.
والأمثلة على الطباق كثيرة، فمثال الأوّل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ﴾ (سورة فاطر: 22)، ومثال الثاني في الإثبات والنفي قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (سورة الزمر: 9)، ومثال الثاني في الأمر والنهي: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (سورة الأنعام: 108)، ومنه أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة آل عمران: 175). وبشكل عام فإنّ الطباق هو الجمع بين الشيء وضدِّه في الكلام، وطباق الإيجاب هو ما لم يختلف فيه الضدّان إيجاباً ولا سلباً، وطباق السلب هو ما اختلف فيه الضدّان إيجاباً وسلباً (البلاغة الواضحة لعلي الحازم ومصطفى أمين: 281).
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر ناصر بن مسلم الفقيه المتوفى قبل عام 1000 هـ، من قصيدة في85 بيتاً من بحر الخفيف، ومطلعها:
مَن لِصَبٍّ مُقَلْقَلِ الأحشاءِ * خِدْنِ شوقٍ ولوعةٍ وضَناءِ
ثم يقول:
ثمَّ حرَّمتمُ الفراتَ علينا * وأَبَحتُمْ لغيرِنا كلَّ ماءِ
والطباق في "حرّمتم" و"أبحتم"، حيث يتحدّث الشاعر عن لسان الإمام الحسين (عليه السلام)، مسائلاً الجيشَ الأموي عن السبب الذي يدعوهم إلى حرمان أهل بيت النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) من ماء الفرات وإباحته لغيرهم من الخَلق!
وقد يأتي الطباق في البيت الواحد في أكثر من موضع، من ذلك قول حسين بن حمدان الخصيبي المتوفى عام 308 هـ، من قصيدة له بعنوان "مشهد النور"، من بحر الخفيف، وهي من المستدركات، يقول في مطلعها:
أيُّها الزائرون مشهدَ نورِ * لِحُسينٍ ظفرتمُ بالسرورِ
ثم يقول:
شاهداً غائباً صَموتاً نَطُوقاً * ذاهباً راجعاً مُكِرَّ الكُرورِ
فالطباق في "شاهد - غائب"، "صَمُوت - نَطُوق"، و"ذاهب - راجع".
على أنّ الطباق هو غير المقابلة وإن بدا التشابه بينهما، فالثاني أن يُؤتى بمعنيين أو أكثر، ثمّ يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) عن الإمام علي (عليه السلام) أثناء خلافته: فأتيتُه فوجدته يخصف نعلاً، فقلتُ له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوجُ منّا إلى ما تصلح. فلم يكلّمني حتى فَرَغ من نعله، ثم ضمّها إلى صاحبتها وقال لي: «قوِّمْهما» (أي: اجعل لهما قيمةً ماليّة بتخمينك)، فقلت: ليس لهما قيمة، قال: «على ذاك»، قلت: كسر درهم، قال: «واللهِ لَهُما أحبُّ إليَّ من أمرِكم هذا، إلّا أن أُقيمَ حقاً أو أدفعَ باطلاً»، والمقابلة في «أُقيم حقاً - أدفع باطلاً».
منقول عن: شبكة جنة الحسين (عليه السلام) الحسينية التخصصية (http://site.jannatalhusain.net)
وإنَّ موفَّقاً إنْ لم يُقاتِلْ * أمامَك يابنَ فاطمةَ البتولِ
فَسَوفَ يَصوغُ فيك مُحبَّراتٍ * تَنَقَّلُ في الحُزونِ وفي السهولِ
أو قول الكاتب والشاعر مهيار بن مَرزَوَيه الديلمي المتوفى عام 428 هـ، من بحر المتقارب:
ولا زال شِعريَ مِن نائحٍ * يُنَقَّلُ فيكم إلى مُنشِدِ
وما فاتَني نصرُكُمْ باللسان * إذا فاتَني نَصْرُكُم باليدِ
فالنُّصرة لا تقتصر على السيفِ لمن أراد أن يلبّيَ واعية الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وتضييقها على السلاح مظلَمة لها، فالأدب المنثور الواعي نصرة للحق وأهله، والأدب المنظوم الملتزم شوكة في عيون الباطل وحزبه، وليس هناك برزخ يقف على قلّته من يحول دون نشر الأدب الحرّ بحجة أو بأخرى.
• تاريخٌ موزون:
كلّ حادث إن لم تلتقطه عدسة المصوّر غابت مفاصله وزواياه، وفي عصرٍ لم تكن آلة التصوير قائمة، كانت الرواية هي العدسة التي يعرضها الراوي لنقل تفاصيل القصة أو السيرة، ولذلك كان الراوية ــ كما كان القاصّ أو الحكواتي ــ تنجذب إليه النفوس وتتحلق حوله الأبدان وهو يروي الواقعة، حتى أصبحت الرواية في باب القصص والسير اختصاصاً له رجاله، وبخاصة حكاية المقاتل والمعارك، والراوي هنا هو غير راوي الحديث، وإن اشتركا في قواسم عدة.
وقد وجد بعض الشعراء في الملاحم والمقاتل ضالّتهم في ترجمة الواقعة إلى نصٍّ شعري، أو قولبة النصوص النثريّة لملاحم قتالية سابقة على عهدهم في نصوص شعريّة.
وما يلاحظ في قوافي الوغى الّتي تابعت معركة كربلاء بكل تفاصيلها؛ قبلها وأثناءها وبعدها، أنها:
أولاً: ساهمت في حفظ معركة الكرامة وبيان معالمها، لأن الشعر أثبتُ في ذاكرة الإنسان وأركزُ على صفحات التاريخ، فالأدب المنثور يتعرض إلى النسيان والضياع والتحوير من ناقل إلى آخَر، في حين أنّ الشعر قوافٍ موزونة قلّما تتعرض إلى التحريف، وإذا حصل فهو من باب الخلل في الاستنساخ، ثم إنه بشكل عام محفوظ في سجل الذاكرة الإنسانية يُنقل من جيل إلى آخَر.
ثانياً: ساعد شعر الملاحم على تصحيح الاختلاف الحاصل في النسخ المتعددة للملحمة في صورتها النثرية، فكما أن الشعر يُستشهَد به في قواعد اللّغة العربية، فللباحث أن يستشهد به لتصويب الحادث، خاصةً إذا كانت الملحمة الشعرية نظمَتْها شخصية علمائية، ومن الثابت أنّ شعراء القرون الأُولى كانوا يجمعون إلى جانب النظم العلومَ الأُخرى، فهم في وقت واحد أُدباء وعلماء وفقهاء، وهذه خصوصيّة بدأت تفقد بريقها في القرون المتأخرة.
ثالثاً: اعتاد الناس في مجال الأدب الحسيني على سماع قصة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) بصوت خطيب حسيني، ولعلّ أشهر المقاتل المقروءة حتى يومنا وأشجاها هو مقتل الخطيب الراحل الشيخ عبد الزهراء بن فلاح الكعبي الحائري (رضوان الله عليه) (1327 ــ 1394 هـ / 1907 ــ 1974 م)، لكنّنا لم نستطع الاستفادة من الملاحم الشعرية في عقد مجالس لِتُذكَر واقعة كربلاء على مسامع الناس، فبعض الملاحم المنظومة تغطّي معظم الواقعة الحسينيّة، منذ خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من الجزيرة العربية إلى العراق، إلى استشهاده في كربلاء في عاشوراء 61 هـ، ثمّ أسر أهل بيته إلى الكوفة وإلى الشام، ومن بعد رجوع ركب الأسرى إلى العراق في العشرين من صفر 61 هـ، ثم العودة إلى المدينة المنورة، كملحمة الحلبي الحائري يوسف بن إسماعيل الشوّاء المتوفى عام 635 هـ، وهي في 606 أبيات من البحر الطويل، ومطلعها:
أُفكِّرُ والصَّبُ الحزينُ يُفكِّرُ * وأُسهِرُ ليلي والمصائبُ تَسهرُ
ويَطرُقُني همُّ النوائب دائماً * ولكنْ إذا هلَّ المحرَّمُ يَكبرُ
ولذلك أعتقد أنّ من المفيد الاستفادةَ من هذه الملاحم الشعرية في عرض النهضة الحسينية على المنابر بأصوات وشخصيات تجيد قراءة الشعر وإنشاده، وترويج مثل هذه المحافل الشعرية ونصبها في العشرة من محرم الحرام، فهناك قطاعات كبيرة من الجمهور يتذوّق الشعر، فإذا أمكن إنضاج قابليات المنشدين كان الأدب الحسيني قد تم توظفيه أداةً إعلامية جديدة تخاطب طبقة الأدباء وأصحاب الذوق ومن يُنسب إليهم، وجدَّد من الأسلوب المنبري المتعارف عليه، وكسب إليه قطاعات من الناس لم تتعوّد على حضور المجالس الحسينية وإن كانت هي الأفضل، وتشجع في الوقت نفسه الشعراء على نظم الملاحم، وترجمة النهضة الحسينية إلى ملحمة شعرية.
ومع الجهد الكبير والفريد الذي يبذله بعض الأدباء والباحثين في توثيق الشعر الحسيني عبر القرون، فإنّ الطريق ممهّد أمام هذا الأسلوب من العرض المنبريّ لأن يأخذ طريقه في التطبيق والانتشار، لاسيّما وأنّ الملاحم الشعرية قد تمّ ضبطها من كلّ النواحي الفنية، فلا يجد المُلقي صعوبة في تشنيف أسماع الناس على أن يكون الإلقاء بصوت شجي، وبذلك يكون مثل هذا الفن من المنبر الشعري الحسيني قد استعاد دوره التاريخيَّ الكبير، الّذي كان يقوم به شعراء القرون الأُولى عندما كانوا يُلقون قصائدهم الحسينيّة في محضر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كدعبل بن علي الخزاعي المتوفى سنة 246 هـ، الذي ألقى قصيدته التائيّة من 122 بيتاً من بحر الطويل بحضور الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وهو على ولاية العهد في العاصمة طوس، فأُغمي عليه (صلوات الله عليه) عند سماعها، خاصّة عندما تستنطق واقعة كربلاء شعراً، ومطلعها من الطويل:
تَجاوَبنَ بالأرنانِ والزفَراتِ * نوائحُ عُجمُ اللّفظِ والنَّطِقاتِ
إنّ الملاحم الشعريّة في الواقع قليلة، ولكنّ الموجود منها لم يتم تداوله بما يليق بالمناسبة، ولذلك فإنّ خطباء المنبر الحسيني بحاجة إلى إجراء تجديد في القصائد الّتي يلقونها، فالأدب الحسينيّ غنيٌّ بالقصائد الملحمية، ومن حقّها أن يتم تداولها كحالةٍ من حالات التجديد المنبري، فالملحمة الشعرية تاريخ، تاريخٌ منظوم موزون، وليست بشعر ذي خيال وإلهام.
• طباق منضود:
ليس الشعر الراقي ما انتظم قافية ووزناً فحسب، بل هنالك مقوّمات عدّة إذا اجتمعت نالت القصيدة المقام المعلّى، ومن تلك المقومات استخدام المحسّنات البلاغية بما يعطي القصيدة رونقاً خاصاً، ومن المحسّنات: الطباق، أي الجمع بين الكلمة وضدّها في النص الواحد، فإذا كان الشيئان من سِنْخَين مختلفين، عدّ الطباق إيجابياً، وإن كانا من سِنْخ واحدٍ دخل عليهما الإثبات والنفي أو الأمر أو النهي أو كلاهما، كان من الطباق السلبي.
والأمثلة على الطباق كثيرة، فمثال الأوّل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ﴾ (سورة فاطر: 22)، ومثال الثاني في الإثبات والنفي قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (سورة الزمر: 9)، ومثال الثاني في الأمر والنهي: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (سورة الأنعام: 108)، ومنه أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة آل عمران: 175). وبشكل عام فإنّ الطباق هو الجمع بين الشيء وضدِّه في الكلام، وطباق الإيجاب هو ما لم يختلف فيه الضدّان إيجاباً ولا سلباً، وطباق السلب هو ما اختلف فيه الضدّان إيجاباً وسلباً (البلاغة الواضحة لعلي الحازم ومصطفى أمين: 281).
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر ناصر بن مسلم الفقيه المتوفى قبل عام 1000 هـ، من قصيدة في85 بيتاً من بحر الخفيف، ومطلعها:
مَن لِصَبٍّ مُقَلْقَلِ الأحشاءِ * خِدْنِ شوقٍ ولوعةٍ وضَناءِ
ثم يقول:
ثمَّ حرَّمتمُ الفراتَ علينا * وأَبَحتُمْ لغيرِنا كلَّ ماءِ
والطباق في "حرّمتم" و"أبحتم"، حيث يتحدّث الشاعر عن لسان الإمام الحسين (عليه السلام)، مسائلاً الجيشَ الأموي عن السبب الذي يدعوهم إلى حرمان أهل بيت النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) من ماء الفرات وإباحته لغيرهم من الخَلق!
وقد يأتي الطباق في البيت الواحد في أكثر من موضع، من ذلك قول حسين بن حمدان الخصيبي المتوفى عام 308 هـ، من قصيدة له بعنوان "مشهد النور"، من بحر الخفيف، وهي من المستدركات، يقول في مطلعها:
أيُّها الزائرون مشهدَ نورِ * لِحُسينٍ ظفرتمُ بالسرورِ
ثم يقول:
شاهداً غائباً صَموتاً نَطُوقاً * ذاهباً راجعاً مُكِرَّ الكُرورِ
فالطباق في "شاهد - غائب"، "صَمُوت - نَطُوق"، و"ذاهب - راجع".
على أنّ الطباق هو غير المقابلة وإن بدا التشابه بينهما، فالثاني أن يُؤتى بمعنيين أو أكثر، ثمّ يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) عن الإمام علي (عليه السلام) أثناء خلافته: فأتيتُه فوجدته يخصف نعلاً، فقلتُ له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوجُ منّا إلى ما تصلح. فلم يكلّمني حتى فَرَغ من نعله، ثم ضمّها إلى صاحبتها وقال لي: «قوِّمْهما» (أي: اجعل لهما قيمةً ماليّة بتخمينك)، فقلت: ليس لهما قيمة، قال: «على ذاك»، قلت: كسر درهم، قال: «واللهِ لَهُما أحبُّ إليَّ من أمرِكم هذا، إلّا أن أُقيمَ حقاً أو أدفعَ باطلاً»، والمقابلة في «أُقيم حقاً - أدفع باطلاً».
منقول عن: شبكة جنة الحسين (عليه السلام) الحسينية التخصصية (http://site.jannatalhusain.net)