نعيم الشرهاني
28-04-2013, 05:28 PM
صلاة أبي بكر خلف النبي (صلى الله عليه واله وسلم):
حيث قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قدم أبا بكر على جميع أهل بيته وأصحابه، كي يصلي بالمسلمين إماماً، وحيث إن الصلاة عماد الدين(1)، دل ذَْلك على أن أبا بكر إمام الأمة لرضا النبي به في الاقتداء به في الصلاة، فيكون مرضياً عنه لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة(2).
وقد أفصح صاحب المواقف وابن حجر في الصواعق عن رأي العامة في خلافة أبي بكر، فقال الأول:
إن النبي (ص) استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به
وما عزله فيبقى إماماً فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل(3).
وقال الثاني: ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة، وأن القصد الذاتي من نصب الإمام العام، إقامة شرائع الدين على الوجه المأمور من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها إلى مستحقيها ودفع الظلم ونحو ذَْلك ليس مقصوداً بالذات بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم، إذ لا يتم تفرغهم إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمر على الأنفس والأموال ووصول كل ذي حق إلى حقه، فلذَْلك رضي النبي لأمر الدين وهو الإمامة العظمى أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ومن ثم أجمعوا على ذَْلك(4).
يورد عليهما:
1. دعوى أن النبي استخلف أبا بكر في الصلاة بحاجة إلى برهان أو بيان وما نسبوه(5) إلى النبي من أنه أمر عائشة، قالت: صلى رسول الله
في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً.
فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال: "صلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) صلى عن يسار أبي بكر قاعداً، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائماً"(7).
وعن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم،عن الأسود، عن عائشة، قالت: "صلى رسول الله في مرضه عن يمين أبي بكر جالساً وصلى أبو بكر قائماً بالناس"(8).
وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله بحذاء أبي بكر جالساً، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر(9).
ووجه الاضطراب واضح في هذه المرويات، وجميعها مروي عن
عائشة، فتارة تقول: كان رسول الله إماماً بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماماً، وأخرى تقول: صلى عن يمين أبي بكر، ورابعاً تقول: صلى عن يساره، وخامساً تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهرها على الاضطراب والاختلاق مما يستوجب بطلان الحديث المزعوم، والشهادة عليه بأنه من الموضوعات.
2. كيف يصلي النبي جالساً، والمأمومون قياماً في حين أن عليهم الصلاة جلوس اقتداءً بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وهَْذا مضافاً إلى مناقضة هَْذا الحديث لما أمر به النبي ـ حسبما روى القوم في الصحاح ـ عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: صلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في بيته وهو شاك، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن أجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا"(10).
وورد عن أنس بن مالك قال: "سقط النبي عن فرس فجحش(11) شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعداً فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا
كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا.. وإذا صلى فصلوا قعوداً أجمعون"(12).
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: صلى جالساً فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا(13).
وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قال: إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قائماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً(14).
فهذه الأحاديث تبطل حديث صلاة أبي بكر، وتدل على اختلاقه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ـ كما في هذه المرويات ـ مما يستلزم القول بأن أبا بكر أقدم على الصلاة من دون أمر النبي ومشورته.
3. إن حديث صلاة أبي بكر ـ الذي تفردت بنقله عائشة ـ يتعارض
بما روي عن ابن عباس قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ابعثوا إلى علي (عليه السلام) فادعوه، فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر، وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر، فاجتمعوا عنده جميعاً فقال رسول الله: انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم. فانصرفوا, وقال رسول الله (ص): آن الصلاة؟
قيل: نعم، قال: فأمروا أبا بكر ليصلي بالناس. فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، فمر عمر. فقال: مروا عمر. فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد. فتقدم أبو بكر ووجد رسول الله خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول الله فقرأ من حيث انتهى أبو بكر(15).
والملاحظ في هَْذا الحديث أن النبي وقع في تهافت ـ وحاشاه أن يقع ـ إذ كيف يأمر أبا بكر بن أبي قحافة بالصلاة ثم ينتزعه بثوبه ليصلي مكانه، لولا أنه (صلى الله عليه واله وسلم) أراد أن لا تكون صلاة أبي بكر ممسكاً عليه إلى آخر الدهر، وإلا لو كان النبي راضياً عن أبي بكر لما كان قطعه عن الصلاة، في حين أن العامة أنفسهم رووا على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أنه
صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري(16)، فليكن أبو بكر ـ على أقل تقدير مساوياً لعبد الرحمن ـ فلا يجذبه النبي بثوبه ليصلي مكانه. وعلى فرض اقتداء النبي بعبد الرحمن أو بأبي بكر فلا يوجب ذَْلك فضلاً على النبي ولا على غيره من المسلمين.
ولو كان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) راضياً عن صلاة أبي بكر لما خرج معصباً رأسه(17) متكئا على الفضل بن عباس وعلى يد رجل كريم تناست ذكر اسمه عائشة، وقد روى مسلم بذَْلك أخبارا مستفيضة عن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها، وأذن له، قالت: فخرج ويد له على الفضل بن عباس، ويد له على رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض، فقال عبيد الله: فحدثت به ابن عباس، فقال: أتدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ هو عليٌّ (عليه السلام)(18).
فخروج النبي بهذه الحالة(19) لينحي أبا بكر عن الصلاة، له دلالاته
الهامة، وعلى أقل تقدير كان على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أن يتركه يؤم الصلاة ـ لو كان يحسن الظن به ـ حتى لا يسيء أحد من المسلمين به الظن وأنه غير جدير بإمامة صلاة، فكيف بإمامة العباد والبلاد!!
هَْذا مضافاً إلى أنهم لا يختلفون أنه عليه وآله الصلاة والسلام أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة، ولم يدل ذَْلك على فضله عليهم بحسب ما يذهبون إليه من تقديمهما على عمرو بن العاص.
ويروى أن سالم مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي إلى المدينة(20).
4. إن إمامة أبي بكر للصلاة ليست فضيلة له، ولا توجب أن يكون إماماً على هذه الأمة، وذَْلك لما يروون من أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال لأمته: "صلوا خلف كل بر وفاجر"(21). فأباح لهم النبي بحسب مضمون هَْذا الحديث الصلاة خلف الفجار والفساق، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.
هَْذا مضافاً إلى تجويزهم الصلاة خلف كل مفتون ومبتدع، فقد روى البخاري عن أبي التياح أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال النبي لأبي ذر: اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة(22).
بل إن عزل أبي بكر عن الصلاة بعد تقديمه ـ على فرض أن النبي قدمه ـ إنما كان لإظهار نقصه عند ا لأمة وعدم صلاحيته للتقديم في شيء، فإن من لا يصلح أن يكون إماماً للصلاة مع أنه أقل المراتب عند العامة لصحة تقديم الفاسق فيها، فكيف يصلح أن يكون إماماً عاماً ورئيساً مطاعاً لجميع الخلق، فكان قصده صلوات الله عليه وآله إن كان وقع هَْذا الأمر منه إظهار نقص أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذَْلك، فيكون حجة عليهم.
وما أشبه هذه القصة بقصة سورة براءة وعزله عنها، وإنفاذه بالراية في يوم خيبر، فإن ذَْلك كله كان بياناً لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من أمور الدين والدنيا.
6. لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحاً ـ كما زعموا ـ وكان مع صحته دالاً على أمامته على إمامته لكان ذَْلك نصاً من النبي بالإمامة، ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره، فكيف لم يجعل أبو بكر ونظيره عمر ذَْلك دليلاً على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟! وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف، وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لايختار الأعسر الصعب مع وجود الأسهل إلا لعجزه عنه، فعلم أن ذَْلك ليس فيه حجة أصلاً.
(1) كنز العمال ج7 / 284 رقم 18889، ط / مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1425هـ.
(2) شرح التجريد للقوشجي ص372 والصواعق المحرقة ص23، ط / مكتبة القاهرة.
(3) هامش إحقاق الحق ج2 / 360 نقلاً عن شرح المواقف.
(4) الصواعق المحرقة ص23ـ 24.
(5) السيرة النبوية لابن هشام ج4 / 301، ط / الحلبي ـ مصر 1355هـ 1931م.
(6) السيرة النبوية لابن هشام ج4 / 302،وتاريخ الطبري. 440، ط / الأعلمي مصححة على نسخة ليدن 1879م والسيرة الحلبية ج3 / 464، ط / دار المعرفة 1400هـ.
(7) السيرة الحلبية ج3 / 464، وصحيح البخاري ج1 / 217 ح713، ط / دار الكتب.
(8) السيرة الحلبية ج3 / 467، وسيرة ابن هشام ج4 / 302 وتاريخ الطبري ج2 / 439.
(9) السيرة الحلبية ج3 / 464.
(10) صحيح البخاري ج2 / 337 حديث رقم 1113، ط / دار الكتب العلمية.
(11) جحش: انخدش جلده.
(12) صحيح مسلم ج4 / 112والنوري بهامش صحيح مسلم، والبخاري ج1 / 221ح732.
(13) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ج4 / 12، ط / دار الكتب الإسلامية 1415هـ.
(14) صحيح مسلم ج4 / 112 ح413.
(15) تاريخ الطبري ج2 / 439.
(16) لاحظ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 / 476، ط / دار الكتب العلمية.
(17) سيرة ابن هشام ج4 / 302.
(18) صحيح مسلم ج4 / 117 ح91 وصحيح البخاري ج1 / 202 ح665.
(19) وكما نقل البخاري في صحيحه ج1 / 202 ح664 أن النبي خرج يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان من الوجع. فلاحظ.
(20) صحيح البخاري ج1 / 211 ح692.
(21) كنز العمال ج6 / 54 ح14815 عن سنن البيهقي.
(22) صحيح البخاري ج1 / 212 ح696.
حيث قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قدم أبا بكر على جميع أهل بيته وأصحابه، كي يصلي بالمسلمين إماماً، وحيث إن الصلاة عماد الدين(1)، دل ذَْلك على أن أبا بكر إمام الأمة لرضا النبي به في الاقتداء به في الصلاة، فيكون مرضياً عنه لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة(2).
وقد أفصح صاحب المواقف وابن حجر في الصواعق عن رأي العامة في خلافة أبي بكر، فقال الأول:
إن النبي (ص) استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به
وما عزله فيبقى إماماً فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل(3).
وقال الثاني: ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة، وأن القصد الذاتي من نصب الإمام العام، إقامة شرائع الدين على الوجه المأمور من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها إلى مستحقيها ودفع الظلم ونحو ذَْلك ليس مقصوداً بالذات بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم، إذ لا يتم تفرغهم إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمر على الأنفس والأموال ووصول كل ذي حق إلى حقه، فلذَْلك رضي النبي لأمر الدين وهو الإمامة العظمى أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ومن ثم أجمعوا على ذَْلك(4).
يورد عليهما:
1. دعوى أن النبي استخلف أبا بكر في الصلاة بحاجة إلى برهان أو بيان وما نسبوه(5) إلى النبي من أنه أمر عائشة، قالت: صلى رسول الله
في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً.
فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال: "صلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) صلى عن يسار أبي بكر قاعداً، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائماً"(7).
وعن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم،عن الأسود، عن عائشة، قالت: "صلى رسول الله في مرضه عن يمين أبي بكر جالساً وصلى أبو بكر قائماً بالناس"(8).
وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله بحذاء أبي بكر جالساً، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر(9).
ووجه الاضطراب واضح في هذه المرويات، وجميعها مروي عن
عائشة، فتارة تقول: كان رسول الله إماماً بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماماً، وأخرى تقول: صلى عن يمين أبي بكر، ورابعاً تقول: صلى عن يساره، وخامساً تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهرها على الاضطراب والاختلاق مما يستوجب بطلان الحديث المزعوم، والشهادة عليه بأنه من الموضوعات.
2. كيف يصلي النبي جالساً، والمأمومون قياماً في حين أن عليهم الصلاة جلوس اقتداءً بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وهَْذا مضافاً إلى مناقضة هَْذا الحديث لما أمر به النبي ـ حسبما روى القوم في الصحاح ـ عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: صلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في بيته وهو شاك، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن أجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا"(10).
وورد عن أنس بن مالك قال: "سقط النبي عن فرس فجحش(11) شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعداً فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا
كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا.. وإذا صلى فصلوا قعوداً أجمعون"(12).
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: صلى جالساً فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا(13).
وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قال: إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قائماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً(14).
فهذه الأحاديث تبطل حديث صلاة أبي بكر، وتدل على اختلاقه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ـ كما في هذه المرويات ـ مما يستلزم القول بأن أبا بكر أقدم على الصلاة من دون أمر النبي ومشورته.
3. إن حديث صلاة أبي بكر ـ الذي تفردت بنقله عائشة ـ يتعارض
بما روي عن ابن عباس قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ابعثوا إلى علي (عليه السلام) فادعوه، فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر، وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر، فاجتمعوا عنده جميعاً فقال رسول الله: انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم. فانصرفوا, وقال رسول الله (ص): آن الصلاة؟
قيل: نعم، قال: فأمروا أبا بكر ليصلي بالناس. فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، فمر عمر. فقال: مروا عمر. فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد. فتقدم أبو بكر ووجد رسول الله خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول الله فقرأ من حيث انتهى أبو بكر(15).
والملاحظ في هَْذا الحديث أن النبي وقع في تهافت ـ وحاشاه أن يقع ـ إذ كيف يأمر أبا بكر بن أبي قحافة بالصلاة ثم ينتزعه بثوبه ليصلي مكانه، لولا أنه (صلى الله عليه واله وسلم) أراد أن لا تكون صلاة أبي بكر ممسكاً عليه إلى آخر الدهر، وإلا لو كان النبي راضياً عن أبي بكر لما كان قطعه عن الصلاة، في حين أن العامة أنفسهم رووا على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أنه
صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري(16)، فليكن أبو بكر ـ على أقل تقدير مساوياً لعبد الرحمن ـ فلا يجذبه النبي بثوبه ليصلي مكانه. وعلى فرض اقتداء النبي بعبد الرحمن أو بأبي بكر فلا يوجب ذَْلك فضلاً على النبي ولا على غيره من المسلمين.
ولو كان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) راضياً عن صلاة أبي بكر لما خرج معصباً رأسه(17) متكئا على الفضل بن عباس وعلى يد رجل كريم تناست ذكر اسمه عائشة، وقد روى مسلم بذَْلك أخبارا مستفيضة عن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها، وأذن له، قالت: فخرج ويد له على الفضل بن عباس، ويد له على رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض، فقال عبيد الله: فحدثت به ابن عباس، فقال: أتدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ هو عليٌّ (عليه السلام)(18).
فخروج النبي بهذه الحالة(19) لينحي أبا بكر عن الصلاة، له دلالاته
الهامة، وعلى أقل تقدير كان على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أن يتركه يؤم الصلاة ـ لو كان يحسن الظن به ـ حتى لا يسيء أحد من المسلمين به الظن وأنه غير جدير بإمامة صلاة، فكيف بإمامة العباد والبلاد!!
هَْذا مضافاً إلى أنهم لا يختلفون أنه عليه وآله الصلاة والسلام أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة، ولم يدل ذَْلك على فضله عليهم بحسب ما يذهبون إليه من تقديمهما على عمرو بن العاص.
ويروى أن سالم مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي إلى المدينة(20).
4. إن إمامة أبي بكر للصلاة ليست فضيلة له، ولا توجب أن يكون إماماً على هذه الأمة، وذَْلك لما يروون من أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال لأمته: "صلوا خلف كل بر وفاجر"(21). فأباح لهم النبي بحسب مضمون هَْذا الحديث الصلاة خلف الفجار والفساق، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.
هَْذا مضافاً إلى تجويزهم الصلاة خلف كل مفتون ومبتدع، فقد روى البخاري عن أبي التياح أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال النبي لأبي ذر: اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة(22).
بل إن عزل أبي بكر عن الصلاة بعد تقديمه ـ على فرض أن النبي قدمه ـ إنما كان لإظهار نقصه عند ا لأمة وعدم صلاحيته للتقديم في شيء، فإن من لا يصلح أن يكون إماماً للصلاة مع أنه أقل المراتب عند العامة لصحة تقديم الفاسق فيها، فكيف يصلح أن يكون إماماً عاماً ورئيساً مطاعاً لجميع الخلق، فكان قصده صلوات الله عليه وآله إن كان وقع هَْذا الأمر منه إظهار نقص أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذَْلك، فيكون حجة عليهم.
وما أشبه هذه القصة بقصة سورة براءة وعزله عنها، وإنفاذه بالراية في يوم خيبر، فإن ذَْلك كله كان بياناً لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من أمور الدين والدنيا.
6. لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحاً ـ كما زعموا ـ وكان مع صحته دالاً على أمامته على إمامته لكان ذَْلك نصاً من النبي بالإمامة، ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره، فكيف لم يجعل أبو بكر ونظيره عمر ذَْلك دليلاً على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟! وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف، وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لايختار الأعسر الصعب مع وجود الأسهل إلا لعجزه عنه، فعلم أن ذَْلك ليس فيه حجة أصلاً.
(1) كنز العمال ج7 / 284 رقم 18889، ط / مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1425هـ.
(2) شرح التجريد للقوشجي ص372 والصواعق المحرقة ص23، ط / مكتبة القاهرة.
(3) هامش إحقاق الحق ج2 / 360 نقلاً عن شرح المواقف.
(4) الصواعق المحرقة ص23ـ 24.
(5) السيرة النبوية لابن هشام ج4 / 301، ط / الحلبي ـ مصر 1355هـ 1931م.
(6) السيرة النبوية لابن هشام ج4 / 302،وتاريخ الطبري. 440، ط / الأعلمي مصححة على نسخة ليدن 1879م والسيرة الحلبية ج3 / 464، ط / دار المعرفة 1400هـ.
(7) السيرة الحلبية ج3 / 464، وصحيح البخاري ج1 / 217 ح713، ط / دار الكتب.
(8) السيرة الحلبية ج3 / 467، وسيرة ابن هشام ج4 / 302 وتاريخ الطبري ج2 / 439.
(9) السيرة الحلبية ج3 / 464.
(10) صحيح البخاري ج2 / 337 حديث رقم 1113، ط / دار الكتب العلمية.
(11) جحش: انخدش جلده.
(12) صحيح مسلم ج4 / 112والنوري بهامش صحيح مسلم، والبخاري ج1 / 221ح732.
(13) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ج4 / 12، ط / دار الكتب الإسلامية 1415هـ.
(14) صحيح مسلم ج4 / 112 ح413.
(15) تاريخ الطبري ج2 / 439.
(16) لاحظ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 / 476، ط / دار الكتب العلمية.
(17) سيرة ابن هشام ج4 / 302.
(18) صحيح مسلم ج4 / 117 ح91 وصحيح البخاري ج1 / 202 ح665.
(19) وكما نقل البخاري في صحيحه ج1 / 202 ح664 أن النبي خرج يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان من الوجع. فلاحظ.
(20) صحيح البخاري ج1 / 211 ح692.
(21) كنز العمال ج6 / 54 ح14815 عن سنن البيهقي.
(22) صحيح البخاري ج1 / 212 ح696.