المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مَن الذي انتصر.. معاوية أم علي عليه السلام؟


alyatem
07-05-2013, 12:25 AM
مَن الذي انتصر.. معاوية أم علي عليه السلام؟



كان معاوية يتصور أنه سياسي عبقري، يعرف كيف تؤكل الكتف!

1 - فقد استطاع أن يثبت أقدامه على حكم بلاد الشام في زمن عمر وعثمان، واستطاع أن يتجنب موجة النقمة على عثمان من الصحابة وأهل مصر والعراق والحجاز، وفي نفس الوقت أن يكون وارث عثمان والمطالب بدمه! ثم استطاع أن يتجنب حرب الجمل ومقتل طلحة والزبير وهزيمة عائشة، ويستثمر ذلك لمصلحته، فيجمع اليه كل قبائل قريش الطلقاء!

2 - واستطاع أن يتهم علياً عليه السلام بدم عثمان أو بحماية قاتليه، فقد رفع قميص عثمان الملطخ بدمه علماً وشعاراً، ودار به في بلاد الشام، وعقد له مجالس النوح والبكاء، وأقنع أغلب أهل الشام بذلك أو جعلهم يشكون في مسؤولية علي عليه السلام!

3 - وفي السنة الثانية لمقتل عثمان استطاع معاوية أن يُعِدَّ جيشاً من تسعين ألفاً، من أهل الشام وأهل اليمن الشاميين، وطلقاء قريش وأتباعهم، ويشن بهم حرباً على علي عليه السلام في صفين!

4 - ثم عندما شارف على الهزيمة وتهيأ للفرار في صفين، استطاع بمساعدة عمرو بن العاص الداهية، ونفوذ الأشعث بن قيس على جيش علي عليه السلام، أن يوقف الحرب برفع المصاحف، ويفرض الحكمين اللذين يرتضيهما، ويعود الى الشام ومعه مهلة سنة وخمسة أشهر، حتى يجتمع الحكمان!

5 - ثم استطاع أن يجعل الحكم الذي يمثل طرف علي عليه السلام وهو أبو موسى الأشعري مَضْحَكةً للناس! فقد أقنعه ابن العاص أن يخطب في نهاية المحكمة ويخلع علياً عليه السلام من الخلافة لعدم صلاحيته لها كما يخلع خاتمه من يده! وجاء بعده الحكم الذي يمثل طرف معاوية، وهو ابن العاص ليثبت معاوية في الخلافة كما يثبت خاتمه في يده!

6 - كما كان معاوية يرى نفسه أنه حقق نجاحات باهرة على علي عليه السلام فقد أوقع الخلاف بين أصحابه، فانشق منهم الخوارج، ثم أعدًّ لابن العاص جيشاً فغزا مصر وانتصر على حاكمها محمد بن أبي بكر وقتله رحمه الله، وبذلك وفى بوعده لابن العاص، وصارت مصر وكل المناطق المفتوحة من إفريقيا تبعاً لها، تحت حكمه، طعمةً له كل حياته لا يأخذ معاوية شيئاً من خراجها!

7 - ثم بدأ سياسة الغارات على الحجاز والعراق واليمن، فأوجد الرعب في نفوس المسلمين الذين تحت حكم علي عليه السلام، ونشط عملاؤه في تخذيل المسلمين وعصيان دعوة علي عليه السلام واستنفاره إياهم للحرب.

8 - كان معاوية يرى أن نجمه في صعود، ودولته تزداد قوة، فقد بايعه أهل الشام بالخلافة، وهم مطيعون له، جاهزون لتنفيذ أوامره مهما كانت!

بينما نجم علي عليه السلام في أفول، فقد خسر النصر المحقق في صفين، ثم خسر حكم لجنة التحكيم، ثم خسر مصر ووزيره الأشتر ومعاونه محمد بن أبي بكر!
والأهم من ذلك أنه خسر طاعة أصحابه الذين هم ثقل الجيوش الإسلامية في الكوفة والبصرة، فالخوارج صار لهم ثأر عنده، وهم فاتكون يطلبون رأسه، وبقية الناس أكثرهم انحسروا عنه خوفاً من جيش الشام، أو شكاً في علي بفعل دعايات معاوية وجماعته من رؤساء أصحاب علي عليه السلام وفي طليعتهم الأشعث بن قيس رئيس قبائل كندة، وصاحب النفوذ المتزايد على قبائل اليمن!

9 - اهتم معاوية بالنشاط السياسي السرّي ضد علي عليه السلام حتى كان يقول: (حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء)! (أنساب الأشراف ص383) وكانت مراسلاته وأمواله تصل الى عملائه المنافقين في الكوفة وغيرها، خاصة رئيسهم الأشعث، لأغراض تحريك الخوارج على علي عليه السلام، وتقوية المعترضين عليه علناً في المسجد، والذين يبثون الدعاية ضده في الناس!

وكانت أهم دعاية معاوية ضده أنه شريك في دم عثمان، وأنه عدو لأبي بكر وعمر، وأنه يكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم! ويخبر عن المستقبل كأنه يعلم الغيب!

وهذا التصور لمعاوية عن نفسه ونجاحه السياسي، يشاركه فيه الكتَّاب الغربيون والأمويون، ومن تأثر بهم من المسلمين.

وهو تصور صحيح بناء على الرؤية المادية التي تسقط من حسابها الآخرة، وتسقط كل القيم الإسلامية والإنسانية!

أمّا أهل النظرة الأعمق الذين ينظرون الى الأمور بميزان الدين والعقل، والقيم الإنسانية، فيرون أن معاوية هو الخاسر، وعلياً عليه السلام هو الرابح.

فمعاوية بميزان الدين والإنسانية:
شخص وصولي (ميكافيلي) طالب حكم، وإمام فئة شهد في حقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنها فئة باغية داعية الى النار، فهو باغٍ خارجٌ على إمام عصره، سفاكٌ لدماء ألوف مؤلفة من خيار الصحابة والتابعين، منتهكٌ لحرمات الإسلام، آكلٌ للمال الحرام!
ولئن استطاع أن يتغلب بالقتل والغدر والمكر ويحكم المسلمين عشرين سنة، فقد ذهب الى ربه يحمل أوزاراً كافية لتخليده في عذاب جهنم، وبقيت أعماله وأساليبه مضرب مَثَل في مخالفة قيم الدين والإنسانية، من أجل هدف دنيوي!
فكل من قرأ معاوية يوافق على شهادة هؤلاء النسوة البدويات اللواتي صحن في وجه بُسر بن أرطاة لمنعه من قتل طفلين هاشميين: (وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن: يا بُسر ما هذا؟! الرجال يقتلون فما بال الولدان؟! والله ما كانت الجاهلية تقتلهم، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة، لسلطانُ سوء! فقال بُسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف)! (تاريخ اليعقوبي:2 / 197).

أمّا علي عليه السلام فكان يفكر بشكل أرقى ويعمل لهدف أسمى:

1 - كان يرى أن الله تعالى سمح أن تجري في هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم سنن التاريخ في الأمم السابقة، وأن تتآمر قريش على أوصياء النبي الشرعيين من عترته صلى الله عليه وآله وسلم، وتغصب خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم وتعزلهم وتضطهدهم! (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ). (البقرة:253)
وقد أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وفصَّل له أحداثه، وأمره أن يستنهض الأمة ويذكرها ببيعة الغدير، وبوصية النبيالمؤكدة بالقرآن والعترة، وأن يستنهض الأنصار خاصة ويذكرهم ببيعتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يحموه وأهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم! فإن لم يجد أنصاراً، فعليه أن يحفظ نفسه وأهل بيته من القتل ويصبر، فإنه ستأتيه فرصة فتوليه الأمة أمرها وسيقاتل المنحرفين على تأويل القرآن، كما قاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التنزيل!

2 - كان علي عليه السلام يرى أن ما حققته السلطة القرشية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتوحات ونشر للإسلام، فهو بسبب ضغطه عليها وتدبيره، وجهاد الفرسان القادة من شيعته والجنود المخلصين من الأمة، وقد تقدم كلامه في ذلك (هنا (http://www.alameli.net/books/?id=2464)).

3 - وكان يرى أن الأمة في زمن عثمان تحصد ما زرعه أبو بكر وعمر وسهيل بن عمرو، فقد كانت نتيجة سقيفتهم أن نقلوا قيادة أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودولته من عترته الى بني أمية، الذين قادوا الحروب ضده حتى عجزوا!
وكان عليه السلام يرى أن عثمان أمويٌّ الى العظم قبل أن يكون صحابياً وخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس عنده فهمُ بني عبد شمس ولا دهاؤهم، فهو ينقاد لمروان الى حتفه كما ينقاد الجمل من خزامته! ومروان شيطان ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!
قال أميرالمؤمنين عليه السلام في وصف عثمان وخلافته:
(إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع! إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته)! (نهج البلاغة:1 / 31).

4 - كان عليه السلام يرى في نقمة الصحابة والأمة على عثمان، ومحاصرته وقتله، ومجيئهم اليه مطالبين أن يقبل بيعتهم بالخلافة، أنها الفرج الذي وعده به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه جاء الوقت لكي يقدّم الى الأمة مشروع التصحيح وإدانة الإنحراف الأموي والقرشي، وإعادة العهد النبوي، وتركيز خط أهل البيت عليهم السلام. فكان يقول:
(أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشدُّ يقيناً مني بما عاينت وشهدت)! (كتاب سليم بن قيس ص213).
والسبب في ذلك أن الكشف عن الواقع بما فيه المستقبل الذي يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو وحيٌ من رب العالمين عزّوجل، فلا يرد فيه أدنى احتمال خلاف، فهو أعلى درجةً وأرقى في الكشف عن الواقع عن طريق المعاينة، مهما كان مستجمعاً لشروط الجزم واليقين!

5 - يرى عليٌّ عليه السلام وهو التلميذ الأول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام أن (ميكافيلية) معاوية والمكر والدهاء والعنف، مهما كانت وسائل نافعة ومفضلة عند أصحاب المشاريع الدنيوية، ومهما حققت من أهداف قريبة، فهي لا تصلح وسائل عمل لمن يتقي الله تعالى ويريد الفوز برضوانه، ولا لمن يريد إرساء مبادئ رسالة إلهية في الأمة والعالم، ويعلم أجيالها على تطبيقاتها النظيفة.
وبما أن قضيته عليه السلام هي الغلبة الرسالية على خصومه وليست الدنيوية، وغلبة العقائد والقيم الإسلامية على مفاهيمهم المادية الجاهلية، فلا يصح أن يستعمل معهم وسائلهم التي يحاربها، ويدعو الأمة للإبتعاد عنها!
كان يرى عليه السلام أنه وإن غلبه خصومه آنياً وانتصرت وصوليتهم القرشية على الإنسانية والنزاهة الإسلامية الهاشمية، فهو في الحقيقة المنتصر؛ لأنه بسلوكه وسياسته يُتِمُّ الحجة على الأمة، ليحيى من حيَّ عن بينه، ويعرف العالم وأجياله رسالة الإسلام وقيمه، حتى يأتي أمر الله تعالى! قال عليه السلام في خطبة له:
(إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة! ما لهم قاتلهم الله! قد يرى الحُوَّل القُلَّبُ وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين). (نهج البلاغة:1 / 92).
وقال عليه السلام:
(والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر! ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة! والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة). (نهج البلاغة:1 / 180).
وزيادة على هذا، فإن علياً وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرون أن الذي يستعمل أساليب غير مشروعة، لا عقل له، مهما كان داهية في الوصول الى هدفه!
فقد سأل رجلٌ الإمام الصادق عليه السلام: ما العقل؟
قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان.
قال قلت: فالذي كان في معاوية؟
فقال: تلك النكراء، تلك الشيطنة! وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل). اهـ. (الكافي:1 / 11)
والسبب في ذلك أن الدهاء والمكر الذي تكون نتيجته حكم الناس عشرين سنة، أو ألف سنة، ثم الخلود في عذاب الجحيم، والسمعة السيئة عند خيار الناس.. ليس من العقل في شئ!

6 - كان باستطاعة علي عليه السلام أن يجبر الناس على بيعته كما فعل أبو بكر وعمر لنفسيهما ولعثمان! ولكنه لم يفعل؛ لأن الواجب عنده إعادة الإرادة الحرة للإنسان المسلم التي صادرتها قريش بمجرد أن أغمض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عينيه! فلا إجبار عنده على بيعة، ولا حطب عنده ولا حرق بيوت، مهما كانت الخسارة عليه!
وكان باستطاعته أن يمنع طلحة والزبير من مغادرة المدينة للتآمر مع عائشة، فقد كان على علم بذلك وأخبرهم به! ولكنه لا يفعل، بل يعطي الحرية لمن خالف النظام أن يفعل ما يريد، ولا يحرمه من شئ من حقوقه المدنية حتى يرفع السيف على النظام أو المجتمع! وهكذا كانت سياسته مع كل الخوارج عليه!

7 - القضية عند علي عليه السلام ليست أن يحكم ويكون خليفة، بل أن ينفِّذ أمر ربه وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والفرق عميقٌ وشاسع بين من يطلب الملك لنفسه، ومن يطلبه لرسالة ربه! إنهما يبدوان في المظهر سواء، لكن أين الثريا من الثرى؟!
فلو كان عليٌّ يطلب الحكم لنفسه لقبل الخلافة عندما قدمت اليه على طبق من ذهب، طعاماً شهياً يسيل له لعاب طلاب الحكم، فرآها مِيتَةً ونَفَرَ منها!
كان ذلك في الشورى التي رتبها عمر، وجعل لعبدالرحمن بن عوف صهر عثمان حق النقض فيها، فعرَضَ ابن عوف على عليٍّ أن يبايعه على كتاب الله وسنة رسوله وسنة أبي بكر وعمر! فبادر عليٌّ بالرفض ولم يحتج الى تفكير ليجيب بالنفي! لأنه يرى أن قبوله بذلك إقرارٌ بأن سنة شيخي قريش جزءٌ من الإسلام، وإن ألْفَ ضربةٍ بسيف أهون على عليٍّ عليه السلام من أن يـأتي ربه يوم القيامة فيسأله: لماذا جعلت سنة هذين جزءً من ديني؟!
روى أحمد في مسنده:1 / 75:
(عن عاصم عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً؟ قال: ما ذنبي! قد بدأت بعليٍّ فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، قال فقال: فيما استطعت، قال: ثم عرضتها على عثمان، فقبلها).
وفي شرح النهج:1 / 188:
(فبدأ بعلي وقال له: أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر. فقال: بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال: نعم، فعاد إلى علي فأعاد قوله، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان وقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فيقال: إن علياً قال له: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دقَّ الله بينكما عطر مَنْشِم. قيل: ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبدالرحمن، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن)!!
وفي الطبري:4 / 56:
(فجاءه ربيعة...فقال له: بايع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر! قال له عليٌّ: ويلك لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونا على شئ من الحق)!
فعليٌّ إنما يريد الخلافة ليصحح المسار القرشي القبلي الذي وضعوا فيه الإسلام والأمة! وهو الذي يقول:
(إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة، فإذا غُيِّر منها شئ قيل قد غيرت السنة، وقد أتى الناس منكراً! ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحا بثفالها، ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة!
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته، فقال:
قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيرين لسنته، ولو حملتُ الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي! أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزوجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام...
الى أن قال عليه السلام:
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيِّرت سنة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري! ما لقيتُ من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار). (الكافي:8 / 59).

8 - وكان باستطاعة علي عليه السلام أن يستعمل أسلوب معاوية وعثمان، وأبي بكر وعمر، في إجبار الناس وتخويفهم، والتميز بينهم في العطاء، واستمالة رؤساء القبائل بالمال، وترويضهم بالإذلال، وبذلك يُحكم قبضته على العالم الإسلامي الذي كان بيده ما عدا الشام، ويعطي معاوية مطلبه فيجعله حاكم الشام من قبله مدى حياته، ثم يدبر قتله بعد شهور!
ولعليٍّ من شخصيته وشجاعته وعلمه وتاريخه، كل المقومات التي تجعل إسمه مرعباً للناس كحاكم، كما كان صوته مرعباً للأبطال!
ولو فعل عليٌّ ذلك، لخضعت له العرب والعجم، وكان أمبراطوراً دونه أبَّهة كسرى وقيصر! ولرأيت كل المنافقين المعترضين عليه، والمعارضين الطامعين في الحكم إمَّعاتٍ متزلفين له، آخذين بالركاب، أو مقتولين تحت التراب!
فما أسهل لعلي عليه السلام أن (يصلح) شعبه بالقوة والإضطهاد والقتل، كما فعل غيره! لكنه لا يستحل ذلك، ولا هو قضيته، ولا من هدفه!
ليس هدف علي من الأمة مجرد الطاعة، بل القناعة بالطاعة! فطاعة الخوف طاعة أبدان وأبشار، وغرض علي في العقول والأفكار!
نعم، كان باستطاعة عليٍّ عليه السلام أن يؤسس ملكاً عريضاً لبني هاشم، ويورَّث الحسن والحسين أمبراطورية أعظم مما ورث الأكاسرة والقياصرة لأبنائهم! لكنها أمبراطورية كغيرها تقوم على الدماء والأشلاء، وظلم العباد والبلاد، والغارة على أموال الفقراء، دونها غارة الذئاب الكاسرة على المعزى الكسيرة!
ونتيجتها في الدنيا أن يعتمل الظلم في نفوس الشعوب بعد حين، فيستغله ثوار محترفون، ويحدثون موجةً كاسحة على بني هاشم، كما حدثت على بني أمية الذين أخذهم طوفان ظلمهم بعد ثمانين سنة، حتى قال شاعر الثوار لقائدهم:
لا يغرَّنْكَ ما ترى من رجال إن تحــــت الضلــــــــوع داء دويَّ
فضعِ السيفَ وارفع السوطَ حتى لا ترى فوق ظهرها أموي

ودخل عليه آخر: (وقد أجلس ثمانين من بني أمية على سمط الطعام، فأنشده:

أصبح الملكُ ثابت الآساسِ بالبهاليل من بني العباسِ
طلبوا وتر هاشم وشفوْها بعد ميْل من الزمان ويــــــــاس
لا تقيلنَّ عبـد شمــــس عثاراً واقطعن كل رَقْلة وأواســـــي
ذُلُّــــــها أظهر التوددَ منهـا وبها منكــــــــم كحزِّ المواســــــي
ولقــــــد غاظني وغاظ سوائي قربها من نمارق وكراسي
أنزلـــــــوها بحيــــــث أنزلـــــها الله بدار الهـــــوان والإتعــاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد وقتيلاً بجانب المهــــــراس
والقتيـل الذي بحران أضحى ثاوياً بين غربة وتناســــــي

فأمر بهم عبدالله فشُدخوا بالعمد، وبسطت البسط عليهم وجلس عليها، ودعا بالطعام، وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً)! (شرح النهج:7 / 128 127).

فلو استعمل عليٌّ هذا الأسلوب، لكانت النتيجة القريبة أمبراطورية بني هاشم! لكن لم يكن أثرٌ ولا خبرٌ عن مبادئ دين إلهي، ولا قيم إنسانية ولا عربية!
ثم لا تسأل كيف سيلاقي علي عليه السلام ربه ونبيه وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم!!
فهل هذا هدف علي عليه السلام؟
كلا ثم كلا، وحاشا لأصفى معدن إنساني من سلالة إبراهيم الخليل عليه السلام، ووصيِّ أكرم الخلق وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم! وحامل لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواء رئاسة المحشر يوم القيامة، وقسيم الجنة والنار بأمره!
قال عليه السلام:
(والله قد دعوتكم عوداً وبدءً وسراً وجهاراً، في الليل والنهار والغدو والآصال، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً وإدباراً، أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة! وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني والله لا أصلحكم بإفساد نفسي! ولكن أمهلوني قليلاً، فكأنكم والله قد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم، فيعذبه الله كما يعذبكم! إن من ذل المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار فتراوغون وتدافعون، ما هذا بفعل المتقين). (الغارات للثقفي:2 / 624، وتاريخ اليعقوبي:2 / 197).

9 - أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بأن التناسب بين حالة الأمة ومن يتولى عليها قانونٌ وسنة إلهية! فالهبوط الذي تشهده الأمم بعد أنبيائها عليهم السلام يعني أن كمية الخير ومعدله الكلّي فيها ليس مرتفعاً لتستحق به أن يحكمها وصي نبيها، فيجب أن يغلب على قيادتها من هو بمستواها أو دونه!
فقيادة النبوة فرضٌ على الأمة، أما قيادة الإمامة فهي فرضٌ واستحقاق!
(تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَلَوشَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ). (البقرة:252 253).
وقد كان أميرالمؤمنين عليه السلام يتعجب من هذا الهبوط الذي كشف عنه موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بميزان عادي، فضلاً عن ميزان النص النبوي وبيعة الغدير، فيقول:
(ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلى النار، لأنهم قد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عوداً وبدءاً:
ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا!
فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه!
وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرؤهم لكتاب الله، وأقضاهم بحكم الله.
وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا غَنَاء معه في جميع مشاهده، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف، جبناً ولؤماً ورغبة في البقاء). (كتاب سليم ص247).
وكان عليه السلام يعتبر أن دفعة الإيمان التي شهدتها الأمة في انتفاضها على عثمان وبيعته عليه السلام، كانت استثناءً من ذلك بتدبير إلهي، ليدخل في تاريخها وثقافتها مشروع عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتالهم على التأويل، تكميلاً لقتاله صلى الله عليه وآله وسلم على التنزيل!

10 - هذه الأمور تعني أن أميرالمؤمنين عليه السلام حقق في مدة حكمه القصيرة رغم الحروب الثلاث التي شنت عليه، إنجازاً غير عادي!
فقد قدم للأمة المشروع الذي أوكله اليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تصحيح الإنحراف وقتال الناكثة والقاسطة والمارقة. وأعاد بذلك الحيوية والزخم الديني للإسلام، فثبت في الأمة كدين من عند الله، ودخل عمله في تاريخها وثقافتها، فصار حكم علي وعدل علي عليه السلام ميزاناً بيد عامة الناس، وشعاراً للطامحين للإصلاح والثائرين على الفساد! ولم يكن غيره ليستطيع أن يحقق ذلك!
لقد كشف علي عليه السلام للأمة بعمله خطورة الفتنة الأموية على الإسلام، وفقأ عينها! وعرف أجيال الأمة مدى الظلامة التي أوقعتها السقيفة بالإسلام والأمة!
قال عليه السلام:
(أما بعد أيها الناس، فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون!
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فإني عن قليل مقتول، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها، فوالذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، إلى يوم القيامة). (نهج البلاغة:1 / 182، وتاريخ اليعقوبي:2 / 193).
فصلوات الله على رسول الله، وعلى وصيه وكبير تلاميذه
وأول عترته علي أميرالمؤمنين.

الشيخ علي الكوراني
جواهر التاري (http://www.alameli.net/books/?id=2524)خ ج1 (http://www.alameli.net/books/?id=2524)