melika
16-10-2007, 10:48 AM
بلغت الشیعة أرقى صور التطور والإبداع لا فی میادین المناهج السیاسیة والتربویة فحسب، وإنما ارتقت إلى أمور أخرى لا تقل فی أهمیتها عن ذلك، ونلمع إلى بعضها:
تقدیس العقل:
أ ـ قال الإمام أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): حجة الله على العباد النبی والحجة فیما بین العباد وبین الله العقل...)(1).
ب ـ قال الإمام أبو جعفر (علیه السلام) : لما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتی وجلالی ما خلقت خلقا أحسن منك، إیاك آمر، وإیاك أنهى، وإیاك أثیب، وإیاك أعاقب(2)).
ج ـ قال الإمام أبو عبد الله (علیه السلام): إن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التی لا ینتفع شیء إلا به العقل الذی جعله الله زینة لخلقه، ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون، وأنه الباقی، وهم الفانون واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه فی سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، ولیله ونهاره، وبان له ولهم ـ أی للعقل و للعباد ـ خالقا ومدبرا لم یزل، ولا یزول، وعرفوا به الحسن من القبیح وأن الظلمة فی الجهل، وأن النور فی العلم، فهذا ما دلهم علیه العقل.
وقیل للإمام: فهل یكتفی العباد بالعقل دون غیره؟
فأجاب:
إن العاقل لدلالة عقله الذی جعله الله قوامه، وزینته، وهدایته علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة وأن له كراهة، وأن له طاعة، وأن له معصیة، فلم یجد عقله یدله على ذلك وعلم أنه لا یوصل إلیه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ینتفع بعقله إن لم یصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذی لا قوام إلا به(3).
وكثیر من أمثال الأحادیث أدلى بها أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی فضل العقل وأهمیته، ولا إشكال فی أن فاقد العقل غیر مكلف، بما فرض الله على عباده من واجبات، وما نهاهم عنه من اقتراف المحرمات.
حجیة العقل:
وتؤمن الشیعة الإمامیة بحجیة العقل، وأنه أحج الأدلة الأربعة التی یستنبط منها الفقهاء الأحكام الشرعیة، وهی الكتاب المجید والسنة المقدسة والإجماع ودلیل العقل، أن له مسرحا كبیرا فی استنباط الأحكام الشرعیة، والتی منها:
البراءة العقلیة:
ونعنی بها قبح العقاب بلا بیان، وهذه القاعدة یتمسك بها عند فقد النص أو إجماع له أو لتعارض النصین، ومن مواردها الشبهة الحكمیة الوجوبیة كما فی الشك بین الوجوب وغیر الحرمة، ویلحق بها الشبهة الموضوعیة وهی التی كان الحكم فیها معلوما من الوجوب أو الحرمة، وحصل الاشتباه أنه من أفراد الوجوب أو الإباحة مثلا، وقد تعرضت كتب الأصول إلى تفصیل ذلك، وبیان الاختلاف الواقع فی هذه المسألة بین أقطاب هذا الفن.
وعلى أی حال فإن البراءة العقلیة من المسائل ذات الأهمیة البالغة فی البحوث الفقهیة والأصولیة.
الاستصحاب:
وهو إبقاء ما كان على ما كان، ومن جملة الأدلة على حجیة حكم العقل بالأخذ بالحالة السابقة ما لم یثبت خلافها، وفیه مباحث مهمة عرضت لها كتب الأصول، وأطالة البحث فیه وفی البراءة یخرج هذا الكتاب عن موضوعه.
التعادل والتراجیح:
وهو ما كان أحد الدلیلین فی عرض الآخر، وفی مدلولیهما تعارض وتمانع، بحیث لا یوجد الملاك إلا فی أحدهما دون الآخر بخلاف باب التزاحم، وهو ما كان الملاك موجودا فی كلیهما ولكن المكلف لا یتمكن من امتثالها فی زمان واحد كإنقاذ الغریقین فی وقت واحد.
ومن جملة المرجحات فی باب التعارض أن یتفق أحد الدلیلین مع حكم العقل ویشذ الآخر عنه فی مثل ذلك یؤخذ بما رجحه العقل، وحكم على طبقة.
وعلى أی حال فإن كثیرا من المباحث الأصولیة تدخل تحت إطار حكم العقل كمقدمة الواجب، وكالأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده، وغیر ذلك مما بحثت عنه بالتفصیل كتب الأصول.
فتح باب الاجتهاد:
والشیء الذی تمیزت به الشیعة الإمامیة عن بقیة المذاهب الإسلامیة هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلل ذلك على أصالة فقههم وتفاعله مع الحیاة، وتطوره واستمراره فی العطاء لجمیع شؤون الإنسان، وأنه لا یقف مكتوفا أمام الأحداث المستجدة التی یبتلی بها الناس، وذلك فی كثیر من المسائل التی عدم فیها النص ولم تكن موجودة فی العصور السابقة كالتلقیح الصناعی، وغرس الأعضاء، وصعود الإنسان إلى الكواكب، ووسائل البنوك والسرقفلیة، وغیر ذلك من الأمور التی لا یوجد لها حل على غیر مائدة فقه أهل البیت (علیهم السلام).
ومن الجدیر بالذكر أن كبار علماء الأزهر قد أدركوا مدى الحاجة الملحة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشیعة فی هذه الظاهرة، وفیما یلی أراء بعضهم:
السید رشید رضا:
قال السید رشید رضا وهو من أعلم مشایخ الأزهر: ولا نعرف فی ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثیرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طریق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد ، فصاروا إلى ما نرى....(4))
عبد المتعال الصعید:
وممن أنكر قف باب الاجتهاد عبد المتعال الصعدی وهو من أعلام مصر ومن شیوخ الأزهر قال: وإنی أستطیع أن احكم بعد هذا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطریقة ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولا شك أن هذه الوسائل لو قدرت بغیر المذاهب الأربعة التی نقلها الآن لما بقی لها جمهور یقلدها... فنحن إذا فی حل من التقیید بهذه المذاهب الأربعة التی فرضت علینا بتلك الوسائل الفاسدة، وفی حل من العود إلى الاجتهاد فی أحكام دیننا لأن منعه لم یكن إلا بطریق القهر، والإسلام لا یرضى إلا بما یحصل بطریق الرضا والشورى بین المسلمین(5).
الدكتور عبد الدائم:
ومن المنكرین لإقفال باب الاجتهاد الدكتور عبد الدائم البقری الأنصاری قال: منع الاجتهاد وهو سر تأخر المسلمین، وهذا هو الباب المرن الذی عندما قفل تأخر المسلمون بقدر ما تقدم العالم فأضحى ما وضعه السابقون لا یمكن أن یغیر أو یبدل لأنه لاعتبارات سیاسیة منع الولاة والسلاطین الاجتهاد حتى یحفظوا ملكهم، ویطمئنوا إلى أنه لن یعارضهم معارض، وإذا ما عارضهم أحد ـ لأنه لا تخلو أمة من الأمم إلا وفیها المصلح النزیه، والزعیم الذی لا یخشى فی الحق لومة لائم فلن یسمع قوله لأن باب الاجتهاد قد أغلق، لهذا جمد لتشریع الإسلامی الآن، وما التشریع إلا روح الجماعة وحیاة الأمة، وإنی أرجع الفتنة الشعواء التی حصلت فی عهد الخلیفة عثمان، والتی كانت سببا فی وقف الفتح الإسلامی، حیث تحولت فی عهده الحرب الخارجیة إلى حرب داخلیة ـ أرجع ذلك ـ إلى أن عثمان كان من المحافظین، وقد شرط ذلك على نفسه عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على (لزوم الإقتداء بالشیخین فی كل ما یعنی بدون اجتهاد) عند انتخابه خلیفة، ولم یوافق الإمام علی على ذلك حینئذ قائلا: ( إن الزمن قد تغیر فكان سبب تولی عثمان الخلافة هو سبب سقوطه)(6).
العلامة العبیدی:
قال العلامة العبیدی: (الاجتهاد مجلبة الیسر، والیسر من أكبر مقاصد الشارع، وأبدع حكم التشریع بالاجتهاد، یتلاطم موج الرأی فینفذ جوهر الحقیقة على الساحل، الحوادث لا تتناهى، والعصور محدثات، فإذا جمدنا على ما قیل، فما حیلتنا فیما یعرض من ذلك القبیل؟ سد باب الاجتهاد اجتهاد، فقل للقائل به إنك قائل غیر ما تفعل(7)).
جمال الدین الأفغانی:
وما أبدع ما قاله جمال الدین الأفغانی: قال: بأی نص سد باب الاجتهاد، وأی إمام قال: لا ینبغی لأحد من المسلمین بعدی أن یجتهد أو لیتفقه فی الدین، أو أن یهتدی بهدى القرآن وصحیح الحدیث أو أن یجد، ویجتهد بتوسیع مفهومه، والاستنتاج على ما ینطبع على العلوم العصریة، وحاجیات الزمن، وأحكامه، ولا ینافی جوهر النص، إن الله بعث محمد رسولا بلسان قومه العربی لیعلمهم ما یردی إفهامهم ولیقیموا منه ما یقوله لهم:
ولا ارتیاب بأنه لو فسح فی أجل أبی حنیفة ومالك والشافعی وأحمد وعاشوا إلى الیوم لداموا مجتهدین مجدین یستنبطون لكل قضیة حكما من القرآن والحدیث، وكلما أزداد تعمقهم زادوا فهما وتدقیقا، نعم إن أولئك الفحول من الأئمة ورجال الأمة اجتهدوا، وأحصنوا فجزاهم الله خیر الجزاء، ولكن لا یصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، وتمكنوا من تدوینها فی كتبهم(8).
أحمد أمین:
قال أحمد أمین: وقد أصیب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز، وقولهم: بإقفال باب الاجتهاد لأن معناه لم یبق فی الناس من تتوفر فیه شروط المجتهد، ولا یرجى أن یكون ذلك فی المستقبل، وإنما قال: هذا القول بعض المقلدین لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس(9).
إن الإسلام ـ والحمد لله ـ قد نعى على الفكر والجمود، ودعاه إلى التطور والإبداع فی میادین الفكر والعلم، ولیس من الحكمة فی شیء ولا من المنطق إقفال باب الاجتهاد ، وفرض باب التقلید.. إنه لیس فی فتح باب الاجتهاد واستحالة، ولا مخالفة لنصوص الكتاب السنة، وأما إقفاله فقد كان فی وقت خاص فرضته الحكومات القائمة فی تلك العصور لمصالح سیاسیة تعود لها بالنفع حسبما أدلى به المحققون(10).
وعلى أی حال فإن فتح باب الاجتهاد عند الشیعة آیة على تطورهم الفكری، ومسایرتهم للزمن فیما یحدث فیه من أحداث لم تكن موجودة ولا منصوص على حكمها فی میادین التشریع الإسلامی فهی تعالج على ضوء الأصول العلمیة التی ینتهی إلیها الفقیه عند فقد النص أو إجماله أو تعارضه.
المرجعیة العامة:
ونعرض بصورة موجزة إلى المرجعیة العامة التی یتقلدها أكبر الفقهاء عند الشیعة الإمامیة، وهی من أهم المراكز الحساسة فی العالم الإسلامی، وفیما یلی ذلك.
معنى المرجعیة:
أما المرجعیة فمعناها النیابة العامة عن إمام العصر قائم آل محمد ومستند ذلك إلى أن الإمام أوكل بعد غیبته الكبرى إلى الفقهاء المجتهدین قضایا المسلمین ومسائل الدین، وقلدهم وسام النیابة العامة عنه لیحكموا بین الناس بما أنزل الله تعالى، وألزم المسلمین بأخذ أحكام دینهم منهم، والرجوع إلیهم فیما شجر بینهم من خلاف، ولیس للمسلمین بأی حال الرد علیهم ومخالفتهم فیما صدر منهم من الفتیا حسبما دلت علیه الأخبار الواردة عنه.
صفات المرجع:
ویجب أن تتوفر فی المرجع العام جمیع الصفات الكریمة النزعات الشریفة من العلم والشجاعة ونكران الذات والدرایة بما تحتاج إلیه الأمة، وقد نص الفقهاء على بعض الشروط الأولیة التی یجب أن یتصف بها المرجع وسائر المجتهدین الذین یتصدون للفتیا والقضاء بین المسلمین وهی:
1 ـ الذكورة:
ولا بد أن یكون المرجع ذكرا كما هو شرط فی القاضی وإمام الجماعة، فلا یجوز للمرأة أن تتصدى لهذه المناصب الخطیرة لا للحط من شأنها والاستهانة بمركزها، وإنما لعجزها الذاتی، وعدم قدرتها على تحمل هذه المسؤولیة، وأداء وظائفها على الوجه الصحیح فهی بحسب تكوینها السیكولوجی عاجزة عن القیام بمثل هذه المناصب.
2 ـ العقل:
وهو من الشروط الأولیة فی المرجع وغیره بل هو شرط فی توجه التكلیف إلیه، وعند فقده فهو أحد الذین رفع القلم عنهم كما دل علیه حدیث الرفع.
3 ـ الإیمان:
ویجب أن یكون المرجع مؤمنا ومسلما فإذا فقد ذلك وكان فی أرقى مراتب الاجتهاد فلا یجوز تقلیده ولا مرجعیته ولا الترافع إلیه، وإذا حكم بحكم فهو غیر نافذ على الإطلاق.
4 ـ العدالة:
إما العدالة فهی من العناصر الأساسیة فی المرجعیة ونعنی بها أن تكون عند المرجع ملكة تصده عن اقتراف الذنوب واقتراف الجرائم، وأن یتحلى بتقوى الله وطاعته، ویجعل الله تعالى نصب عینیه فی جمیع تصرفاته وشؤونه، فلا ینساب وراء العواطف والأهواء، فلا یقدم قریبا على بعید ولا قوما على آخرین، ویكون المثل الأعلى للتقوى فی هدیه وسلوكه كالأئمة الطاهرین.
5 ـ الاجتهاد:
ویجب فی المرجع الأعلى أن یبلغ أسمى مرتب الاجتهاد وقد عرف بأنه استنباط الحكم الشرعی من مداركه المقررة، وعلى ضوئها یفتی الفقیه فیما یعرض علیه من المسائل الشرعیة المتعلقة بالعبادات والمعاملة والأمور المستحدثة، وقد عرضت كتب الفقه بصورة موضوعیة وشاملة إلى تعریف الاجتهاد، وبیان أنواعه من المطلق والمتجزئ، ما یتعلق بها من بحوث كما ألفت فیها بعض الدراسات الحدیثة.
هذه بعض الشروط التی یجب أن تتوفر فی المرجع العام، فإذا فقد بعضها فلیس له أن یتصدى لهذا المنصب الخطیر الذی تناط به مصلحة الأمة.
انتخابه:
أما انتخاب المرجع العام، وتعیینه قائدا عاما للأمة فهو بید أهل الخبرة من الفقهاء والعلماء المتحرجین فی دینهم فهم الذین ینتخبونه للمرجعیة بعد إطلاعهم التام على تقواه وورعه وطاقاته العلمیة التی تظهر فی بحوثه ومؤلفاته.
مسؤولیاته:
أما مسؤولیات مرجع الأمة فإنها شاقة وعسیرة ومرهقه، وهذه بعضها:
أ ـ السهر على مصالح العالم الإسلامی من دون فرق بین طوائفه وقومیاته، فهو أب للجمیع، یقوم برعایة شؤونهم ومصالحهم ، ومناجزة على عدوهم.
وكان من بین المواقف المشرفة للمرجعیة العامة فی النجف الأشرف إنها وقفت إلى جانب الشعب اللیبی المسلم حینما تعرض للغزو الإیطالی، وقد دعت المسلمین إلى مناصرتهم والذب عنهم، ومحاربة الغزاة الإیطالیین(11) وحینما احتلت الجیوش البریطانیة العراق هبت المرجعیة العامة فی النجف بقیادة الإمام الشیرازی، الذی أصدر فتواه بوجوب طرد الإنكلیز ومحاربتهم، فكانت ثورة العشرین الثورة الخالدة التی زعزعت كیان بریطانیا.. وحینما احتل الصهاینة فلسطین بدعم ومساندة من القوى الاستعماریة فی الغرب التی تكید للمسلمین وللعرب فی اللیل إذا یغشى وفی النهار إذا تجلى، فهب مراجع الشیعة إلى نصرة الشعب الفلسطینی المظلوم فأفتوا بالجهاد المقدس ووجوب مناصرة الفلسطینیین فی كفاحهم المسلح ضد الصهاینة المجرمین. ولما انطلق الشعب الجزائری المجاهد لإعلان استقلاله وحریته وكرامته، وطرد الاستعمار الفرنسی، وقفت المرجعیة الشیعیة إلى مساندة والذود عنه، وأفتت بلزوم مناصرته.
ولما تعرض العراق للغزو الشیوعی أیام عبد الكریم قاسم انبرى جمیع المراجع والعلماء الإعلام إلى إنقاذ العراق من براثن الشیوعیة، وأفتى الإمام الحكیم (الشیوعیة كفر وإلحاد) فكانت هذه الفتوى الخالدة صاعقة على الشیوعیین فزعزعت كیانهم، وجردتهم من القاعدة الشعبیة، كما زعزعت الشیوعیة العالمیة، وأفسدت جمیع مخططاتها وأسالیبها فی العالم الإسلامی وغیره من مناطق العالم.
وعلى أی حال فإن المرجعیة الإمامیة مصدر فیض وعطاء لجمیع المسلمین لا تتحیز ولا تتعصب لفئة دون أخرى، وإنما تتبنى بصورة ایجابیة المصلحة العامة لجمیع المسلمین فی جمیع أقالیمهم وأوطانهم.
ب ـ ومن مسؤولیات المرجعیة العامة القیام بشؤون الحوزة العلمیة، والإنفاق علیهم بما یسد حاجتهم ولا یجعلهم فی ضائقة اقتصادیة، فیلحظهم كأبنائه وعیاله، كما تتولى المرجعیة تغذیة الناشئة العلمیة بالفقه ومقدماته لیكونوا مرشدین ومبلغین لأحكام الإسلام فی الأقطار والأقالیم الإسلامیة وغیرها.
وكذلك تقوم المرجعیة بالأنفاق على الفقراء والبؤساء ومساعدتهم والبر بهم، ومن جملة ألوان البر الذی یصدر من المرجعیة مساعدة العزاب الفقراء فی زواجهم ... هذه بعض مسؤولیات المرجعیة الإمامیة عرضنا لها بصورة موجزة.
انفصال المرجعیة عن الدولة:
والشیء المهم فی المرجعیة الإمامیة أنها منفصلة انفصالا تاما عن الدولة وعدم ارتباطها بأی شأن من شؤونها، فلیس للدولة أی سیطرة أو سلطان علیها، وإنما هی حرة فیما تقول وتفتی، وقد أفتت المرجعیة بكفر الشیوعیین وإلحادهم أیام كانت الدولة فی العرق مساندة لهم.
وقد استمدت المرجعیة هذه الظاهرة من أئمة أهل البیت (علیهم السلام)، فقد كتب المنصور الدوانیقی إلى الإمام الصادق (لم لا تغشانا كما یغشانا سائر الناس؟) فأجابه الإمام: (لیس عندنا من الدنیا ما نخافك علیه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له فعلام نزورك؟ فكتب إلیه المنصور: (إنك تصحبنا لتنصحنا) فرد علیه الإمام: (من أراد الآخرة فلا یصحبك ومن أراد الدنیا فلا ینصحك).
وعلى أی حال فإن المرجعیة لا ترتبط بأی حال من الأحوال بالدولة لا اقتصادیا ولا سیاسیا، وإنما هی بمعزل عنها وهذا هو السبب الذی جعل الدولة فی كثیر من الأحیان ناقمة على المرجعیة وعلى علماء الدین.
واردات المرجعیة:
أما واردات المرجعیة فهی بالغة الأهمیة وتكفی لتأسیس دولة، وهذه بعضها:
الخمس:
وهو ضریبة مالیة یدفعها أبناء الطائفة الإمامیة إلى المرجع العام، ومن بنود الخمس ما یفضل من مؤونة الإنسان سنویا من النقود وغیرها من سائر الأعیان، كما یجب الخمس فی الهبة والهدیة، والجائزة، والمال الموصى به، ونماء الوقف الخاص أو العام، والمیراث الذی لا یحتسب.
والخمس ینقسم إلى قسمین: قسم منه إلى الإمام سلام الله علیه، والقسم الآخر یدفع إلى السادة زادهم الله شرفا، وحق الإمام یدفع إلى المرجع العام، وینفقه على مصالح المسلمین، ومن أهم مصارفه إقامة شعائر الدین، ونشر قواعده وأحكامه، ومؤونة أهل العلم الذین یصرفون أوقاتهم فی تحصیل العلوم الدینیة، والدفاع عن الإسلام، ومن المعلوم أن دفع هذا الحق إلى المرجع إنما هو فی زمان غیبة الإمام أما فی زمان حضوره فیتعین الدفع إلیه وهنا مباحث مهمة تعرضت لها كتب الفقه ورسائل المراجع.
الزكاة:
وهی من الضرائب المالیة، وتجب فی الغلات الأربع: الحنطة، والشعیر، والتمر، والزبیب، وفی النقدین: الذهب والفضة، ویجب إنفاقها على فقراء المحلة، وإذا طلبها الفقیه تعین إیصالها له.
النذور:
ومن واردات المرجعیة النذور، وهی واردات كثیرة یصل بعضها إلى المراجع، وتفصیل النذور ، ومعرفة الصحیح من غیره قد ذكرته كتب الفقهاء ورسائلهم.
ثلث الأموات:
ومما یرد إلى المراجع ما یوصی به المؤمنون من إیصال ثلث أموالهم إلى المرجع لینفقه فی سبیل الله من الخیرات والمبرات، كالصوم والصلاة التی فاتت المیت وغیر ذلك.
ومضافا لهذه الواردات ما یصل إلى المرجع من الهدایا والألطاف وغیرها... وبهذا ینتهی بنا الحدیث عن التطور والإبداع عند الشیعة الإمامیة.
الهوامش:
1- أصول الكافی 1/25
2- أصول الكافی 1/26
3- أصول الكافی 1/29
4- الوحدة الإسلامیة (ص99)
5- میدان الاجتهاد (ص14)
6- الفلسفة السیاسیة للإسلام (ص31)
7- النواة فی حقل الحیاة (124)
8- خاطرات جمال الدین (ص177)
9- یوم الإسلام (ص189)
10- حیاة الإمام محمد الباقر 1/220
11- لمحات اجتماعیة من تأریخ العراق الحدیث
م........
تقدیس العقل:
أ ـ قال الإمام أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): حجة الله على العباد النبی والحجة فیما بین العباد وبین الله العقل...)(1).
ب ـ قال الإمام أبو جعفر (علیه السلام) : لما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتی وجلالی ما خلقت خلقا أحسن منك، إیاك آمر، وإیاك أنهى، وإیاك أثیب، وإیاك أعاقب(2)).
ج ـ قال الإمام أبو عبد الله (علیه السلام): إن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التی لا ینتفع شیء إلا به العقل الذی جعله الله زینة لخلقه، ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون، وأنه الباقی، وهم الفانون واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه فی سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، ولیله ونهاره، وبان له ولهم ـ أی للعقل و للعباد ـ خالقا ومدبرا لم یزل، ولا یزول، وعرفوا به الحسن من القبیح وأن الظلمة فی الجهل، وأن النور فی العلم، فهذا ما دلهم علیه العقل.
وقیل للإمام: فهل یكتفی العباد بالعقل دون غیره؟
فأجاب:
إن العاقل لدلالة عقله الذی جعله الله قوامه، وزینته، وهدایته علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة وأن له كراهة، وأن له طاعة، وأن له معصیة، فلم یجد عقله یدله على ذلك وعلم أنه لا یوصل إلیه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ینتفع بعقله إن لم یصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذی لا قوام إلا به(3).
وكثیر من أمثال الأحادیث أدلى بها أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی فضل العقل وأهمیته، ولا إشكال فی أن فاقد العقل غیر مكلف، بما فرض الله على عباده من واجبات، وما نهاهم عنه من اقتراف المحرمات.
حجیة العقل:
وتؤمن الشیعة الإمامیة بحجیة العقل، وأنه أحج الأدلة الأربعة التی یستنبط منها الفقهاء الأحكام الشرعیة، وهی الكتاب المجید والسنة المقدسة والإجماع ودلیل العقل، أن له مسرحا كبیرا فی استنباط الأحكام الشرعیة، والتی منها:
البراءة العقلیة:
ونعنی بها قبح العقاب بلا بیان، وهذه القاعدة یتمسك بها عند فقد النص أو إجماع له أو لتعارض النصین، ومن مواردها الشبهة الحكمیة الوجوبیة كما فی الشك بین الوجوب وغیر الحرمة، ویلحق بها الشبهة الموضوعیة وهی التی كان الحكم فیها معلوما من الوجوب أو الحرمة، وحصل الاشتباه أنه من أفراد الوجوب أو الإباحة مثلا، وقد تعرضت كتب الأصول إلى تفصیل ذلك، وبیان الاختلاف الواقع فی هذه المسألة بین أقطاب هذا الفن.
وعلى أی حال فإن البراءة العقلیة من المسائل ذات الأهمیة البالغة فی البحوث الفقهیة والأصولیة.
الاستصحاب:
وهو إبقاء ما كان على ما كان، ومن جملة الأدلة على حجیة حكم العقل بالأخذ بالحالة السابقة ما لم یثبت خلافها، وفیه مباحث مهمة عرضت لها كتب الأصول، وأطالة البحث فیه وفی البراءة یخرج هذا الكتاب عن موضوعه.
التعادل والتراجیح:
وهو ما كان أحد الدلیلین فی عرض الآخر، وفی مدلولیهما تعارض وتمانع، بحیث لا یوجد الملاك إلا فی أحدهما دون الآخر بخلاف باب التزاحم، وهو ما كان الملاك موجودا فی كلیهما ولكن المكلف لا یتمكن من امتثالها فی زمان واحد كإنقاذ الغریقین فی وقت واحد.
ومن جملة المرجحات فی باب التعارض أن یتفق أحد الدلیلین مع حكم العقل ویشذ الآخر عنه فی مثل ذلك یؤخذ بما رجحه العقل، وحكم على طبقة.
وعلى أی حال فإن كثیرا من المباحث الأصولیة تدخل تحت إطار حكم العقل كمقدمة الواجب، وكالأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده، وغیر ذلك مما بحثت عنه بالتفصیل كتب الأصول.
فتح باب الاجتهاد:
والشیء الذی تمیزت به الشیعة الإمامیة عن بقیة المذاهب الإسلامیة هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلل ذلك على أصالة فقههم وتفاعله مع الحیاة، وتطوره واستمراره فی العطاء لجمیع شؤون الإنسان، وأنه لا یقف مكتوفا أمام الأحداث المستجدة التی یبتلی بها الناس، وذلك فی كثیر من المسائل التی عدم فیها النص ولم تكن موجودة فی العصور السابقة كالتلقیح الصناعی، وغرس الأعضاء، وصعود الإنسان إلى الكواكب، ووسائل البنوك والسرقفلیة، وغیر ذلك من الأمور التی لا یوجد لها حل على غیر مائدة فقه أهل البیت (علیهم السلام).
ومن الجدیر بالذكر أن كبار علماء الأزهر قد أدركوا مدى الحاجة الملحة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشیعة فی هذه الظاهرة، وفیما یلی أراء بعضهم:
السید رشید رضا:
قال السید رشید رضا وهو من أعلم مشایخ الأزهر: ولا نعرف فی ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثیرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طریق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد ، فصاروا إلى ما نرى....(4))
عبد المتعال الصعید:
وممن أنكر قف باب الاجتهاد عبد المتعال الصعدی وهو من أعلام مصر ومن شیوخ الأزهر قال: وإنی أستطیع أن احكم بعد هذا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطریقة ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولا شك أن هذه الوسائل لو قدرت بغیر المذاهب الأربعة التی نقلها الآن لما بقی لها جمهور یقلدها... فنحن إذا فی حل من التقیید بهذه المذاهب الأربعة التی فرضت علینا بتلك الوسائل الفاسدة، وفی حل من العود إلى الاجتهاد فی أحكام دیننا لأن منعه لم یكن إلا بطریق القهر، والإسلام لا یرضى إلا بما یحصل بطریق الرضا والشورى بین المسلمین(5).
الدكتور عبد الدائم:
ومن المنكرین لإقفال باب الاجتهاد الدكتور عبد الدائم البقری الأنصاری قال: منع الاجتهاد وهو سر تأخر المسلمین، وهذا هو الباب المرن الذی عندما قفل تأخر المسلمون بقدر ما تقدم العالم فأضحى ما وضعه السابقون لا یمكن أن یغیر أو یبدل لأنه لاعتبارات سیاسیة منع الولاة والسلاطین الاجتهاد حتى یحفظوا ملكهم، ویطمئنوا إلى أنه لن یعارضهم معارض، وإذا ما عارضهم أحد ـ لأنه لا تخلو أمة من الأمم إلا وفیها المصلح النزیه، والزعیم الذی لا یخشى فی الحق لومة لائم فلن یسمع قوله لأن باب الاجتهاد قد أغلق، لهذا جمد لتشریع الإسلامی الآن، وما التشریع إلا روح الجماعة وحیاة الأمة، وإنی أرجع الفتنة الشعواء التی حصلت فی عهد الخلیفة عثمان، والتی كانت سببا فی وقف الفتح الإسلامی، حیث تحولت فی عهده الحرب الخارجیة إلى حرب داخلیة ـ أرجع ذلك ـ إلى أن عثمان كان من المحافظین، وقد شرط ذلك على نفسه عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على (لزوم الإقتداء بالشیخین فی كل ما یعنی بدون اجتهاد) عند انتخابه خلیفة، ولم یوافق الإمام علی على ذلك حینئذ قائلا: ( إن الزمن قد تغیر فكان سبب تولی عثمان الخلافة هو سبب سقوطه)(6).
العلامة العبیدی:
قال العلامة العبیدی: (الاجتهاد مجلبة الیسر، والیسر من أكبر مقاصد الشارع، وأبدع حكم التشریع بالاجتهاد، یتلاطم موج الرأی فینفذ جوهر الحقیقة على الساحل، الحوادث لا تتناهى، والعصور محدثات، فإذا جمدنا على ما قیل، فما حیلتنا فیما یعرض من ذلك القبیل؟ سد باب الاجتهاد اجتهاد، فقل للقائل به إنك قائل غیر ما تفعل(7)).
جمال الدین الأفغانی:
وما أبدع ما قاله جمال الدین الأفغانی: قال: بأی نص سد باب الاجتهاد، وأی إمام قال: لا ینبغی لأحد من المسلمین بعدی أن یجتهد أو لیتفقه فی الدین، أو أن یهتدی بهدى القرآن وصحیح الحدیث أو أن یجد، ویجتهد بتوسیع مفهومه، والاستنتاج على ما ینطبع على العلوم العصریة، وحاجیات الزمن، وأحكامه، ولا ینافی جوهر النص، إن الله بعث محمد رسولا بلسان قومه العربی لیعلمهم ما یردی إفهامهم ولیقیموا منه ما یقوله لهم:
ولا ارتیاب بأنه لو فسح فی أجل أبی حنیفة ومالك والشافعی وأحمد وعاشوا إلى الیوم لداموا مجتهدین مجدین یستنبطون لكل قضیة حكما من القرآن والحدیث، وكلما أزداد تعمقهم زادوا فهما وتدقیقا، نعم إن أولئك الفحول من الأئمة ورجال الأمة اجتهدوا، وأحصنوا فجزاهم الله خیر الجزاء، ولكن لا یصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، وتمكنوا من تدوینها فی كتبهم(8).
أحمد أمین:
قال أحمد أمین: وقد أصیب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز، وقولهم: بإقفال باب الاجتهاد لأن معناه لم یبق فی الناس من تتوفر فیه شروط المجتهد، ولا یرجى أن یكون ذلك فی المستقبل، وإنما قال: هذا القول بعض المقلدین لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس(9).
إن الإسلام ـ والحمد لله ـ قد نعى على الفكر والجمود، ودعاه إلى التطور والإبداع فی میادین الفكر والعلم، ولیس من الحكمة فی شیء ولا من المنطق إقفال باب الاجتهاد ، وفرض باب التقلید.. إنه لیس فی فتح باب الاجتهاد واستحالة، ولا مخالفة لنصوص الكتاب السنة، وأما إقفاله فقد كان فی وقت خاص فرضته الحكومات القائمة فی تلك العصور لمصالح سیاسیة تعود لها بالنفع حسبما أدلى به المحققون(10).
وعلى أی حال فإن فتح باب الاجتهاد عند الشیعة آیة على تطورهم الفكری، ومسایرتهم للزمن فیما یحدث فیه من أحداث لم تكن موجودة ولا منصوص على حكمها فی میادین التشریع الإسلامی فهی تعالج على ضوء الأصول العلمیة التی ینتهی إلیها الفقیه عند فقد النص أو إجماله أو تعارضه.
المرجعیة العامة:
ونعرض بصورة موجزة إلى المرجعیة العامة التی یتقلدها أكبر الفقهاء عند الشیعة الإمامیة، وهی من أهم المراكز الحساسة فی العالم الإسلامی، وفیما یلی ذلك.
معنى المرجعیة:
أما المرجعیة فمعناها النیابة العامة عن إمام العصر قائم آل محمد ومستند ذلك إلى أن الإمام أوكل بعد غیبته الكبرى إلى الفقهاء المجتهدین قضایا المسلمین ومسائل الدین، وقلدهم وسام النیابة العامة عنه لیحكموا بین الناس بما أنزل الله تعالى، وألزم المسلمین بأخذ أحكام دینهم منهم، والرجوع إلیهم فیما شجر بینهم من خلاف، ولیس للمسلمین بأی حال الرد علیهم ومخالفتهم فیما صدر منهم من الفتیا حسبما دلت علیه الأخبار الواردة عنه.
صفات المرجع:
ویجب أن تتوفر فی المرجع العام جمیع الصفات الكریمة النزعات الشریفة من العلم والشجاعة ونكران الذات والدرایة بما تحتاج إلیه الأمة، وقد نص الفقهاء على بعض الشروط الأولیة التی یجب أن یتصف بها المرجع وسائر المجتهدین الذین یتصدون للفتیا والقضاء بین المسلمین وهی:
1 ـ الذكورة:
ولا بد أن یكون المرجع ذكرا كما هو شرط فی القاضی وإمام الجماعة، فلا یجوز للمرأة أن تتصدى لهذه المناصب الخطیرة لا للحط من شأنها والاستهانة بمركزها، وإنما لعجزها الذاتی، وعدم قدرتها على تحمل هذه المسؤولیة، وأداء وظائفها على الوجه الصحیح فهی بحسب تكوینها السیكولوجی عاجزة عن القیام بمثل هذه المناصب.
2 ـ العقل:
وهو من الشروط الأولیة فی المرجع وغیره بل هو شرط فی توجه التكلیف إلیه، وعند فقده فهو أحد الذین رفع القلم عنهم كما دل علیه حدیث الرفع.
3 ـ الإیمان:
ویجب أن یكون المرجع مؤمنا ومسلما فإذا فقد ذلك وكان فی أرقى مراتب الاجتهاد فلا یجوز تقلیده ولا مرجعیته ولا الترافع إلیه، وإذا حكم بحكم فهو غیر نافذ على الإطلاق.
4 ـ العدالة:
إما العدالة فهی من العناصر الأساسیة فی المرجعیة ونعنی بها أن تكون عند المرجع ملكة تصده عن اقتراف الذنوب واقتراف الجرائم، وأن یتحلى بتقوى الله وطاعته، ویجعل الله تعالى نصب عینیه فی جمیع تصرفاته وشؤونه، فلا ینساب وراء العواطف والأهواء، فلا یقدم قریبا على بعید ولا قوما على آخرین، ویكون المثل الأعلى للتقوى فی هدیه وسلوكه كالأئمة الطاهرین.
5 ـ الاجتهاد:
ویجب فی المرجع الأعلى أن یبلغ أسمى مرتب الاجتهاد وقد عرف بأنه استنباط الحكم الشرعی من مداركه المقررة، وعلى ضوئها یفتی الفقیه فیما یعرض علیه من المسائل الشرعیة المتعلقة بالعبادات والمعاملة والأمور المستحدثة، وقد عرضت كتب الفقه بصورة موضوعیة وشاملة إلى تعریف الاجتهاد، وبیان أنواعه من المطلق والمتجزئ، ما یتعلق بها من بحوث كما ألفت فیها بعض الدراسات الحدیثة.
هذه بعض الشروط التی یجب أن تتوفر فی المرجع العام، فإذا فقد بعضها فلیس له أن یتصدى لهذا المنصب الخطیر الذی تناط به مصلحة الأمة.
انتخابه:
أما انتخاب المرجع العام، وتعیینه قائدا عاما للأمة فهو بید أهل الخبرة من الفقهاء والعلماء المتحرجین فی دینهم فهم الذین ینتخبونه للمرجعیة بعد إطلاعهم التام على تقواه وورعه وطاقاته العلمیة التی تظهر فی بحوثه ومؤلفاته.
مسؤولیاته:
أما مسؤولیات مرجع الأمة فإنها شاقة وعسیرة ومرهقه، وهذه بعضها:
أ ـ السهر على مصالح العالم الإسلامی من دون فرق بین طوائفه وقومیاته، فهو أب للجمیع، یقوم برعایة شؤونهم ومصالحهم ، ومناجزة على عدوهم.
وكان من بین المواقف المشرفة للمرجعیة العامة فی النجف الأشرف إنها وقفت إلى جانب الشعب اللیبی المسلم حینما تعرض للغزو الإیطالی، وقد دعت المسلمین إلى مناصرتهم والذب عنهم، ومحاربة الغزاة الإیطالیین(11) وحینما احتلت الجیوش البریطانیة العراق هبت المرجعیة العامة فی النجف بقیادة الإمام الشیرازی، الذی أصدر فتواه بوجوب طرد الإنكلیز ومحاربتهم، فكانت ثورة العشرین الثورة الخالدة التی زعزعت كیان بریطانیا.. وحینما احتل الصهاینة فلسطین بدعم ومساندة من القوى الاستعماریة فی الغرب التی تكید للمسلمین وللعرب فی اللیل إذا یغشى وفی النهار إذا تجلى، فهب مراجع الشیعة إلى نصرة الشعب الفلسطینی المظلوم فأفتوا بالجهاد المقدس ووجوب مناصرة الفلسطینیین فی كفاحهم المسلح ضد الصهاینة المجرمین. ولما انطلق الشعب الجزائری المجاهد لإعلان استقلاله وحریته وكرامته، وطرد الاستعمار الفرنسی، وقفت المرجعیة الشیعیة إلى مساندة والذود عنه، وأفتت بلزوم مناصرته.
ولما تعرض العراق للغزو الشیوعی أیام عبد الكریم قاسم انبرى جمیع المراجع والعلماء الإعلام إلى إنقاذ العراق من براثن الشیوعیة، وأفتى الإمام الحكیم (الشیوعیة كفر وإلحاد) فكانت هذه الفتوى الخالدة صاعقة على الشیوعیین فزعزعت كیانهم، وجردتهم من القاعدة الشعبیة، كما زعزعت الشیوعیة العالمیة، وأفسدت جمیع مخططاتها وأسالیبها فی العالم الإسلامی وغیره من مناطق العالم.
وعلى أی حال فإن المرجعیة الإمامیة مصدر فیض وعطاء لجمیع المسلمین لا تتحیز ولا تتعصب لفئة دون أخرى، وإنما تتبنى بصورة ایجابیة المصلحة العامة لجمیع المسلمین فی جمیع أقالیمهم وأوطانهم.
ب ـ ومن مسؤولیات المرجعیة العامة القیام بشؤون الحوزة العلمیة، والإنفاق علیهم بما یسد حاجتهم ولا یجعلهم فی ضائقة اقتصادیة، فیلحظهم كأبنائه وعیاله، كما تتولى المرجعیة تغذیة الناشئة العلمیة بالفقه ومقدماته لیكونوا مرشدین ومبلغین لأحكام الإسلام فی الأقطار والأقالیم الإسلامیة وغیرها.
وكذلك تقوم المرجعیة بالأنفاق على الفقراء والبؤساء ومساعدتهم والبر بهم، ومن جملة ألوان البر الذی یصدر من المرجعیة مساعدة العزاب الفقراء فی زواجهم ... هذه بعض مسؤولیات المرجعیة الإمامیة عرضنا لها بصورة موجزة.
انفصال المرجعیة عن الدولة:
والشیء المهم فی المرجعیة الإمامیة أنها منفصلة انفصالا تاما عن الدولة وعدم ارتباطها بأی شأن من شؤونها، فلیس للدولة أی سیطرة أو سلطان علیها، وإنما هی حرة فیما تقول وتفتی، وقد أفتت المرجعیة بكفر الشیوعیین وإلحادهم أیام كانت الدولة فی العرق مساندة لهم.
وقد استمدت المرجعیة هذه الظاهرة من أئمة أهل البیت (علیهم السلام)، فقد كتب المنصور الدوانیقی إلى الإمام الصادق (لم لا تغشانا كما یغشانا سائر الناس؟) فأجابه الإمام: (لیس عندنا من الدنیا ما نخافك علیه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له فعلام نزورك؟ فكتب إلیه المنصور: (إنك تصحبنا لتنصحنا) فرد علیه الإمام: (من أراد الآخرة فلا یصحبك ومن أراد الدنیا فلا ینصحك).
وعلى أی حال فإن المرجعیة لا ترتبط بأی حال من الأحوال بالدولة لا اقتصادیا ولا سیاسیا، وإنما هی بمعزل عنها وهذا هو السبب الذی جعل الدولة فی كثیر من الأحیان ناقمة على المرجعیة وعلى علماء الدین.
واردات المرجعیة:
أما واردات المرجعیة فهی بالغة الأهمیة وتكفی لتأسیس دولة، وهذه بعضها:
الخمس:
وهو ضریبة مالیة یدفعها أبناء الطائفة الإمامیة إلى المرجع العام، ومن بنود الخمس ما یفضل من مؤونة الإنسان سنویا من النقود وغیرها من سائر الأعیان، كما یجب الخمس فی الهبة والهدیة، والجائزة، والمال الموصى به، ونماء الوقف الخاص أو العام، والمیراث الذی لا یحتسب.
والخمس ینقسم إلى قسمین: قسم منه إلى الإمام سلام الله علیه، والقسم الآخر یدفع إلى السادة زادهم الله شرفا، وحق الإمام یدفع إلى المرجع العام، وینفقه على مصالح المسلمین، ومن أهم مصارفه إقامة شعائر الدین، ونشر قواعده وأحكامه، ومؤونة أهل العلم الذین یصرفون أوقاتهم فی تحصیل العلوم الدینیة، والدفاع عن الإسلام، ومن المعلوم أن دفع هذا الحق إلى المرجع إنما هو فی زمان غیبة الإمام أما فی زمان حضوره فیتعین الدفع إلیه وهنا مباحث مهمة تعرضت لها كتب الفقه ورسائل المراجع.
الزكاة:
وهی من الضرائب المالیة، وتجب فی الغلات الأربع: الحنطة، والشعیر، والتمر، والزبیب، وفی النقدین: الذهب والفضة، ویجب إنفاقها على فقراء المحلة، وإذا طلبها الفقیه تعین إیصالها له.
النذور:
ومن واردات المرجعیة النذور، وهی واردات كثیرة یصل بعضها إلى المراجع، وتفصیل النذور ، ومعرفة الصحیح من غیره قد ذكرته كتب الفقهاء ورسائلهم.
ثلث الأموات:
ومما یرد إلى المراجع ما یوصی به المؤمنون من إیصال ثلث أموالهم إلى المرجع لینفقه فی سبیل الله من الخیرات والمبرات، كالصوم والصلاة التی فاتت المیت وغیر ذلك.
ومضافا لهذه الواردات ما یصل إلى المرجع من الهدایا والألطاف وغیرها... وبهذا ینتهی بنا الحدیث عن التطور والإبداع عند الشیعة الإمامیة.
الهوامش:
1- أصول الكافی 1/25
2- أصول الكافی 1/26
3- أصول الكافی 1/29
4- الوحدة الإسلامیة (ص99)
5- میدان الاجتهاد (ص14)
6- الفلسفة السیاسیة للإسلام (ص31)
7- النواة فی حقل الحیاة (124)
8- خاطرات جمال الدین (ص177)
9- یوم الإسلام (ص189)
10- حیاة الإمام محمد الباقر 1/220
11- لمحات اجتماعیة من تأریخ العراق الحدیث
م........