الرحيق المختوم
26-05-2013, 02:30 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما يلي هو ملخص محاضرة لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الأستاذ علي رضا بناهيان حيث ألقاها بمناسبة ذكرى استشهاد الشهيد شمران، أحد أشهر القواد في أيام الدفاع المقدس:
طموح خاص في عهد المراهقة والشباب
قد تلوح بعض النزعات والرغبات في قلب الإنسان في أيام المراهقة والشباب، وأحيانا ما تتحول إلى أمنيات. ولكن مهما ابتعد الإنسان عن أيام شبابه ومضى صوب الكِبَر والشيخوخة، يغضّ الطرف عن هذه المطامح إذ لا يمكن الحفاظ عليها إلا بجهد جهيد.
إنّ بإمكان هذه المطامح والأمنيات أن تؤدي إلى شقاء الإنسان إن أسأنا التعامل معها، وفي نفس الوقت بإمكانها أن تؤدي إلى سعادة الإنسان إن أحسنّا التعامل معها. إن من شأن هذه النزعة أن تؤدي دورا كبيرا في تبلور حياة الإنسان. إنها لأمنية مهمة جدا ولا ينبغي أن تهمل عن عدم اكتراث.
لا يخلو قلب أحد من هذه الرغبة إلى حدّ ما، ولكن لا يظهرها بعض الناس. أمّا اليوم وبسبب الثقافة السائدة في المجتمع أصبح الكلام عن هذه الرغبات أمرا يسيرا. لا أريد أن أتطرق إلى حسن هذا العمل أو عدمه، ولكن أحيانا ما نسمع هذه الأمنيات عن غير المتدينين أكثر من المتدينين.
نستطيع أن نسمّي هذه الرغبة بحبّ «التمايز». إنها لأمنية بديعة. إن أصل تبلور هذه الأمنية في وجود الإنسان أمر جميل جدا. وهو أن يتمنى الإنسان أن يمتاز عن الآخرين ولا يكون مثلهم. إنها لأمنية جيدة جدا وتشحن الإنسان بالطاقة والاندفاع ولا سيما في فترة الشباب.
بيد أن بعض الناس لا يتعاطون مع هذه الأمنية الجميلة كما ينبغي. فعلى سبيل المثال قد يسرّح شعره بشكل غريب أو يرتدي زيّا غريبا ليمتاز عن الآخرين. أنا لست الآن بصدد بيان صواب هذا السلوك أم خطأه، ولكن إذا اقتصر حب التمايز بهذا النطاق وبلغذروته عند هذا المستوى فهذا غير صحيح.
ومن جانب آخر يهوى بعض الناس أن يلبي شهوته في التمايز في مجال الفكر والمشاعر المعنوية والأعراف الاجتماعية، حيث يخالف المسار العامّ ويسبح عكس التيّار بلا روية وتمييز بين الصواب وعدمه. فقد تؤدي هذه الرغبة في التمايز إلى أن يصبح غير مبال بما عنده فيقضي على كل مواهبه وطاقاته وثرواته.
ذروة الاختلاف
إن رغبة الإنسان في التمايز والاختلاف أمر جميل بحد ذاته. ولكن لابدّ من ترشيد وتنمية هذه الرغبة في وجودنا لنبلغ القمة. إن ذروة الاختلاف هو «التمايز». يعني أن لا نكتفي بالاختلاف وحسب، بل لابدّ أن ينطوي هذا الاختلاف على امتياز وفضل، ويكون امتيازنا واختلافنا مجسدا لفضلنا وسلوكنا الحسن.
فلنتمنَّ أن نمتاز عن الآخرين، بحيث إن كان باقي الناس أخيارا صالحين، نكن أفضل منهم. وإن كان للناس عموما بعض السلبيات، ندعها ونتخلّ عنها. وبالتأكيد لا يتبلور هذا الطموح إلى في ذوي الهمّة العالية والشخصية القوية.
الشهيد شمران، انسان متمايز
من هذا المنطلق بودّي أن أتحدث عن إنسان مختلف ومتمايز. إن حياة الشهيد شمران، تنطوي على مقاطع تدلّ على أن هذا الإنسان كان إنسانا متمايزا بارزا. فعلى سبيل المثال يتحدث الشهيد نفسه عن أيام مراهقته فيقول:
«کان من وظائفي اليومية في تلك الأيام أن أشتري خبزا أثناء رجوعي من المدرسة ونتغدى به في ذلك اليوم. ذات يوم وأثناء ما كنت أمضي في طريقي إلى البيت، رأيت فقيرا يعاني من برد الشتاء وقدماه منغمسان في الثلج، كان يرتجف ويستجدي. فكلما حاولت أن أمرّ منه بغير مبالاة لم استطع. فأعطيته نقود الخبز. بعد ذلك واجهت سؤالا جادّا في البيت من قبل أهلي؛ ماذا فعلت بالنقود؟ ولماذا لم تشتر خبزا؟ لم أجبهم سوى أن قلت لهم ليست النقود بيدي. وكلما ألحّوا عليّ أن أخبرهم بما جرى على النقود وما فعلت بها، لم يسمح لي قلبي أن أقول لهم لقد أعطيتها لذاك الفقير حفاظا على ماء وجهه في البيت».
إنها إحدى ذكريات أيام مراهقة الشهيد شمران. وكم كان متمايزا عن باقي أقرانه وزملائه. لم يقتصر هذا الاختلاف والتمايز عن الآخرين في أيام مراهقته بل كان كذلك في أيام كِبَره أيضا:
«سئل يوما، ماذا تريد أن تفعل بعد التقاعد؟ وكان آنذاك صاحب شهادة الدكتوراه في فيزياء البلازما، وكان ممثل الإمام ومورد ثقته، كان قد حرّر مدينة باوة مضافا إلى كونه شاعرا ورساما جيدا إلى غيرها من الكفاءات والمواهب. فسألوه عما يرغب في ممارسته أيام الشيخوخة. فيجيب: لقد تحدثت مع زوجتي في هذا الموضوع. فإن أقعدنا عن العمل وعجزنا عن كل شيء نكون خادمَين في مسجد ما إن شاء الله».
الاستقلال الذاتي مقدمة التمايز
إن التمايز متمخض من روح الاستقلال. فإحدى شروط التمايز هو أن تحمل روح الاستقلال في نفسك ومن شروط هذا الأمر هو لا تقارن نفسك مع غيرك بلا روية. إذ عندما نقارن أنفسنا مع الآخرين، غالبا ما نتأثر بالآخرين بغير صواب ونخسر استقلاليتنا. لا تكن ممن يأتون المسجد تبعا لأصدقائهم وأبناء حيّهم. أو أن تتثاقل عن الذهاب إلى المسجد فيما إذا تفرّق شملكم وبات أصحابك لا يأتون إلى المسجد. كن أمير نفسك.
إذا أراد امرء أن يصبح إنسانا مختلفا متمايزا، أول ما يجب عليه هو أن يكسب روح الاستقلال؛ أن لا تأخذه هيبة أحد ويحافظ على استقلاليته. لابدّ له أن يفكّر بنفسه ويخرج بالنتيجة دون أن يهاب أحدا أو أن يتأثر بالكلام الباطل لغيره، كما لا ينبغي أن يجره حديث الآخرين الصحيح إلى غير صواب.
كما قال الإمام الباقر (عليه السلام) إلى جابر بن يزيد الجعفي أحد خيرة أصحابه: «وَ اعْلَمْ بِأَنَّكَ لَا تَكُونُ لَنَا وَلِيّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ يَحْزُنْكَ ذَلِكَ وَ لَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يَسُرَّكَ ذَلِك»1
ينقل عن الشهيد شمران أنه عندما ذهب إلى مصر، زار جمال عبد الناصر، أحد أشهر القياديين القوميين في العالم العربي، فانتقده وقال له: لماذا تضرب على وتر العروبة في خطاباتك دائما ولا تذكر الإسلام؟! فتظاهر جمال عبد الناصر بقبول نصيحة الشهيد شمران الذي لم يكن قد تجاوز عمر الشباب آنذاك.
التمرين على الاستقلال: إذا أردتم أن تجربوا الاستقلالية في الحياة، فابدأوا بالصلاة في أول وقتها. طوبى لمن كان بين أناس لا يصلون في أول الوقت، بيد أنه يترك نشاطه ويصلي في أول الوقت خلافا لما اعتاد عليه الجميع من زملائه. إن صلاته هذه تمرين على الاستقلال.
أثناء ما تشاهد برنامجا في التلفاز والكل مجتمعون يتفرجون، دع أنت الجلسة واذهب إلى الصلاة. أثبت بأنك لست إمعة وتابعا لغيرك وأنك مستقل عن غيرك وتمتاز عنهم. وإذا أردت أن تبلغ الذروة في الاستقلال صل صلاة الليل. إذ تستطيع بهذه الطريقة أن تتجرد وتستقل عن نفسك أيضا.
متمايزون بلا تمايز
مع أن للتمايز والاختلاف دورا كبيرا في حياة الإنسان وإنه مدعاة لرشده وكماله، بيد أنه لا داعي للتمايز والاختلاف في جميع أبعاد الحياة. فإذا أردت أن تكون متمايزا عن الجميع في جميع أبعاد حياتك فهذه لجاجة وليست بامتياز.
إن الشهيد شمران هذا الرجل الذي بنى ذاته وامتاز عن غيره بأشدّ امتياز كان يفرّ من التمايز أحيانا ويحرص بشدة على أن لا يختلف عن غيره. كان يراقب نفسه في أن لا يختلف عن الآخرين.
عندما أنشأ الشهيد شمران مع زوجه دار أيتام في لبنان. قررا على أن يأكلا من نفس الطعام الذي يأكله الأيتام. ذات يوم أرسلت أمّ زوجه إليهم طعاما من البيت؛ ولكنه لم يذق الطعام وقال لزوجه: ألم نعهد على أنفسنا أن لا نأكل طعاما غير ما يأكله أيتام الدار؟" تقول زوجه فأجبته: "الأطفال نيام، وأنت على عهدك دائما وتأكل من نفس طعام الأطفال، أما الآن فتناول هذا الطعام." فغرورقت عيناه وقال: "إن الأطفال نيام، ولكن رب الأطفال غير نائم، فإن سألني ربي لماذا تناولت طعاما آخرا، ماذا أجيبه؟"
نفس هذا الإنسان الذي هو في غاية التمايز والاختلاف عن الجميع وفي قمة الاستقلال، ولكنه في مقام آخر تجده بسلوك متضادّ حيث يراقب نفسه أشدّ مراقبة على أن لا يختلف عن غيره.
ما هي مواطن التمايز وعدمه
تجد المتمايزين من الناس في غاية التمايز والاختلاف في مواطن الإيثار والتضحية بأنفسهم، أما في مواطن الانتفاع بالآخرين وإيثار أنفسهم على الآخرين تجدهم لا يختلفون عن غيرهم. فهم في مواطن الأنانية والاستئثار يحاولون أن لا يختلفون عن غيرهم.
فكان قد جمع الشهيد شمران بين هذه الأضداد. لابدّ لنا أن نطالع حياة أمثال هذه الشخصية لنتمنى أن نكون مثلهم. مجرد هذا التمنّي جيد بحذ ذاته ويزيد من نور الإنسان. إن من شأن هذه الأمنية أن ترفع مستوى الإنسان وتوسع مدى استيعابه للارتقاء والتكامل.
هكذا كان الشهيد شمران إذ كان الإمام (ره) يقول في حقه: «لقد اشتقت إلى شمران». هكذا كان شمران حيث قد جعله الإمام قدوة لنا وقال: «موتوا مثل شمران». لماذا كان الإمام يوصي بأن نقتدي بشمران؟ لأن إمام العصر ـ عليه السلام ـ بحاجة إلى أنصار مثله.
وكذلك في كربلاء هناك شهيد يختلف عن باقي الشهداء، وقد أشار إلى هذا الاختلاف والتمايز الإمام السجاد عليه السلام. قال في حقه: «إِنَّ لِلْعَبَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى مَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِهَا جَمِيعُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»2
في ليلة العاشر حيث كان الشهداء يلتمسون الحسين ـ عليه السلام ـ ليسمح لهم بالذهاب ضحية من أجله، وإذا بهم يشاهدون الحسين وهو يتمنى أن يفدي بنفسه لشخص آخر، إذ نادى أخاه العباس: «بنفسي أنت يا أخي».3 هكذا كان أبو الفضل العباس ـ عليه السلام ـ متمايزا ومختلفا عن غيره. هكذا كان يحبّ الحسين أخاه العباس. إذن لا عتب على الحسين إن كان يسكب الدموع على خدّيه حين رجوعه من الشريعة... ولا عتب على سكينة حيث استقبلت أباها تسأل «أين عمّي العباس»... ولا عتب على الحسين إن لم يجبها ولم يخبرها بما جرى على عمّها...
كل من كان يودّع أهل الحرم ويبرز إلى الميدان، لم يلبث ساعة إلا ويرجع جسده إلى الخيام مهشّما. فغدا موقف الوداع موقفا قاتلا لأطفال الحسين عليه السلام. أصبح الوداع بنفسه مصيبة عظمى عليهم. لقد انطبعت هذه الحقيقة في ذهن الأطفال وهي أن كل من يودّعهم سوف لا يعود طيّبا. عندما ودّعهم علي الأكبر جاءوا بجسده إربا إربا. عندما ودعهم القاسم راح ورجع إربا إربا. فعندما عزم العباس لتوديع الأطفال، شاهد القلق في أعينهمم فاستحيى ولم يطاوعه قلبه لتوديعهم، لم يجد بدا في ذلك الموقف المحرج سوى أن يأخذ القربة، يعني بذلك أنه يذهب ليأتي إليهم بالماء... فما زال أطفال الحسين منتظرين عودة عمّهم من الشريعة...
«ألا لعنة الله علی القوم الظالمین»
1. تحف العقول، ص284، من وصايا الإمام الباقر (ع) إلى جابر الجعفي.
2. أمالي الصدوق، ص 462.
3. إرشاد الشيخ المفيد، ج 2، ص 89.
طموح خاص في عهد المراهقة والشباب
قد تلوح بعض النزعات والرغبات في قلب الإنسان في أيام المراهقة والشباب، وأحيانا ما تتحول إلى أمنيات. ولكن مهما ابتعد الإنسان عن أيام شبابه ومضى صوب الكِبَر والشيخوخة، يغضّ الطرف عن هذه المطامح إذ لا يمكن الحفاظ عليها إلا بجهد جهيد.
إنّ بإمكان هذه المطامح والأمنيات أن تؤدي إلى شقاء الإنسان إن أسأنا التعامل معها، وفي نفس الوقت بإمكانها أن تؤدي إلى سعادة الإنسان إن أحسنّا التعامل معها. إن من شأن هذه النزعة أن تؤدي دورا كبيرا في تبلور حياة الإنسان. إنها لأمنية مهمة جدا ولا ينبغي أن تهمل عن عدم اكتراث.
لا يخلو قلب أحد من هذه الرغبة إلى حدّ ما، ولكن لا يظهرها بعض الناس. أمّا اليوم وبسبب الثقافة السائدة في المجتمع أصبح الكلام عن هذه الرغبات أمرا يسيرا. لا أريد أن أتطرق إلى حسن هذا العمل أو عدمه، ولكن أحيانا ما نسمع هذه الأمنيات عن غير المتدينين أكثر من المتدينين.
نستطيع أن نسمّي هذه الرغبة بحبّ «التمايز». إنها لأمنية بديعة. إن أصل تبلور هذه الأمنية في وجود الإنسان أمر جميل جدا. وهو أن يتمنى الإنسان أن يمتاز عن الآخرين ولا يكون مثلهم. إنها لأمنية جيدة جدا وتشحن الإنسان بالطاقة والاندفاع ولا سيما في فترة الشباب.
بيد أن بعض الناس لا يتعاطون مع هذه الأمنية الجميلة كما ينبغي. فعلى سبيل المثال قد يسرّح شعره بشكل غريب أو يرتدي زيّا غريبا ليمتاز عن الآخرين. أنا لست الآن بصدد بيان صواب هذا السلوك أم خطأه، ولكن إذا اقتصر حب التمايز بهذا النطاق وبلغذروته عند هذا المستوى فهذا غير صحيح.
ومن جانب آخر يهوى بعض الناس أن يلبي شهوته في التمايز في مجال الفكر والمشاعر المعنوية والأعراف الاجتماعية، حيث يخالف المسار العامّ ويسبح عكس التيّار بلا روية وتمييز بين الصواب وعدمه. فقد تؤدي هذه الرغبة في التمايز إلى أن يصبح غير مبال بما عنده فيقضي على كل مواهبه وطاقاته وثرواته.
ذروة الاختلاف
إن رغبة الإنسان في التمايز والاختلاف أمر جميل بحد ذاته. ولكن لابدّ من ترشيد وتنمية هذه الرغبة في وجودنا لنبلغ القمة. إن ذروة الاختلاف هو «التمايز». يعني أن لا نكتفي بالاختلاف وحسب، بل لابدّ أن ينطوي هذا الاختلاف على امتياز وفضل، ويكون امتيازنا واختلافنا مجسدا لفضلنا وسلوكنا الحسن.
فلنتمنَّ أن نمتاز عن الآخرين، بحيث إن كان باقي الناس أخيارا صالحين، نكن أفضل منهم. وإن كان للناس عموما بعض السلبيات، ندعها ونتخلّ عنها. وبالتأكيد لا يتبلور هذا الطموح إلى في ذوي الهمّة العالية والشخصية القوية.
الشهيد شمران، انسان متمايز
من هذا المنطلق بودّي أن أتحدث عن إنسان مختلف ومتمايز. إن حياة الشهيد شمران، تنطوي على مقاطع تدلّ على أن هذا الإنسان كان إنسانا متمايزا بارزا. فعلى سبيل المثال يتحدث الشهيد نفسه عن أيام مراهقته فيقول:
«کان من وظائفي اليومية في تلك الأيام أن أشتري خبزا أثناء رجوعي من المدرسة ونتغدى به في ذلك اليوم. ذات يوم وأثناء ما كنت أمضي في طريقي إلى البيت، رأيت فقيرا يعاني من برد الشتاء وقدماه منغمسان في الثلج، كان يرتجف ويستجدي. فكلما حاولت أن أمرّ منه بغير مبالاة لم استطع. فأعطيته نقود الخبز. بعد ذلك واجهت سؤالا جادّا في البيت من قبل أهلي؛ ماذا فعلت بالنقود؟ ولماذا لم تشتر خبزا؟ لم أجبهم سوى أن قلت لهم ليست النقود بيدي. وكلما ألحّوا عليّ أن أخبرهم بما جرى على النقود وما فعلت بها، لم يسمح لي قلبي أن أقول لهم لقد أعطيتها لذاك الفقير حفاظا على ماء وجهه في البيت».
إنها إحدى ذكريات أيام مراهقة الشهيد شمران. وكم كان متمايزا عن باقي أقرانه وزملائه. لم يقتصر هذا الاختلاف والتمايز عن الآخرين في أيام مراهقته بل كان كذلك في أيام كِبَره أيضا:
«سئل يوما، ماذا تريد أن تفعل بعد التقاعد؟ وكان آنذاك صاحب شهادة الدكتوراه في فيزياء البلازما، وكان ممثل الإمام ومورد ثقته، كان قد حرّر مدينة باوة مضافا إلى كونه شاعرا ورساما جيدا إلى غيرها من الكفاءات والمواهب. فسألوه عما يرغب في ممارسته أيام الشيخوخة. فيجيب: لقد تحدثت مع زوجتي في هذا الموضوع. فإن أقعدنا عن العمل وعجزنا عن كل شيء نكون خادمَين في مسجد ما إن شاء الله».
الاستقلال الذاتي مقدمة التمايز
إن التمايز متمخض من روح الاستقلال. فإحدى شروط التمايز هو أن تحمل روح الاستقلال في نفسك ومن شروط هذا الأمر هو لا تقارن نفسك مع غيرك بلا روية. إذ عندما نقارن أنفسنا مع الآخرين، غالبا ما نتأثر بالآخرين بغير صواب ونخسر استقلاليتنا. لا تكن ممن يأتون المسجد تبعا لأصدقائهم وأبناء حيّهم. أو أن تتثاقل عن الذهاب إلى المسجد فيما إذا تفرّق شملكم وبات أصحابك لا يأتون إلى المسجد. كن أمير نفسك.
إذا أراد امرء أن يصبح إنسانا مختلفا متمايزا، أول ما يجب عليه هو أن يكسب روح الاستقلال؛ أن لا تأخذه هيبة أحد ويحافظ على استقلاليته. لابدّ له أن يفكّر بنفسه ويخرج بالنتيجة دون أن يهاب أحدا أو أن يتأثر بالكلام الباطل لغيره، كما لا ينبغي أن يجره حديث الآخرين الصحيح إلى غير صواب.
كما قال الإمام الباقر (عليه السلام) إلى جابر بن يزيد الجعفي أحد خيرة أصحابه: «وَ اعْلَمْ بِأَنَّكَ لَا تَكُونُ لَنَا وَلِيّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ يَحْزُنْكَ ذَلِكَ وَ لَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يَسُرَّكَ ذَلِك»1
ينقل عن الشهيد شمران أنه عندما ذهب إلى مصر، زار جمال عبد الناصر، أحد أشهر القياديين القوميين في العالم العربي، فانتقده وقال له: لماذا تضرب على وتر العروبة في خطاباتك دائما ولا تذكر الإسلام؟! فتظاهر جمال عبد الناصر بقبول نصيحة الشهيد شمران الذي لم يكن قد تجاوز عمر الشباب آنذاك.
التمرين على الاستقلال: إذا أردتم أن تجربوا الاستقلالية في الحياة، فابدأوا بالصلاة في أول وقتها. طوبى لمن كان بين أناس لا يصلون في أول الوقت، بيد أنه يترك نشاطه ويصلي في أول الوقت خلافا لما اعتاد عليه الجميع من زملائه. إن صلاته هذه تمرين على الاستقلال.
أثناء ما تشاهد برنامجا في التلفاز والكل مجتمعون يتفرجون، دع أنت الجلسة واذهب إلى الصلاة. أثبت بأنك لست إمعة وتابعا لغيرك وأنك مستقل عن غيرك وتمتاز عنهم. وإذا أردت أن تبلغ الذروة في الاستقلال صل صلاة الليل. إذ تستطيع بهذه الطريقة أن تتجرد وتستقل عن نفسك أيضا.
متمايزون بلا تمايز
مع أن للتمايز والاختلاف دورا كبيرا في حياة الإنسان وإنه مدعاة لرشده وكماله، بيد أنه لا داعي للتمايز والاختلاف في جميع أبعاد الحياة. فإذا أردت أن تكون متمايزا عن الجميع في جميع أبعاد حياتك فهذه لجاجة وليست بامتياز.
إن الشهيد شمران هذا الرجل الذي بنى ذاته وامتاز عن غيره بأشدّ امتياز كان يفرّ من التمايز أحيانا ويحرص بشدة على أن لا يختلف عن غيره. كان يراقب نفسه في أن لا يختلف عن الآخرين.
عندما أنشأ الشهيد شمران مع زوجه دار أيتام في لبنان. قررا على أن يأكلا من نفس الطعام الذي يأكله الأيتام. ذات يوم أرسلت أمّ زوجه إليهم طعاما من البيت؛ ولكنه لم يذق الطعام وقال لزوجه: ألم نعهد على أنفسنا أن لا نأكل طعاما غير ما يأكله أيتام الدار؟" تقول زوجه فأجبته: "الأطفال نيام، وأنت على عهدك دائما وتأكل من نفس طعام الأطفال، أما الآن فتناول هذا الطعام." فغرورقت عيناه وقال: "إن الأطفال نيام، ولكن رب الأطفال غير نائم، فإن سألني ربي لماذا تناولت طعاما آخرا، ماذا أجيبه؟"
نفس هذا الإنسان الذي هو في غاية التمايز والاختلاف عن الجميع وفي قمة الاستقلال، ولكنه في مقام آخر تجده بسلوك متضادّ حيث يراقب نفسه أشدّ مراقبة على أن لا يختلف عن غيره.
ما هي مواطن التمايز وعدمه
تجد المتمايزين من الناس في غاية التمايز والاختلاف في مواطن الإيثار والتضحية بأنفسهم، أما في مواطن الانتفاع بالآخرين وإيثار أنفسهم على الآخرين تجدهم لا يختلفون عن غيرهم. فهم في مواطن الأنانية والاستئثار يحاولون أن لا يختلفون عن غيرهم.
فكان قد جمع الشهيد شمران بين هذه الأضداد. لابدّ لنا أن نطالع حياة أمثال هذه الشخصية لنتمنى أن نكون مثلهم. مجرد هذا التمنّي جيد بحذ ذاته ويزيد من نور الإنسان. إن من شأن هذه الأمنية أن ترفع مستوى الإنسان وتوسع مدى استيعابه للارتقاء والتكامل.
هكذا كان الشهيد شمران إذ كان الإمام (ره) يقول في حقه: «لقد اشتقت إلى شمران». هكذا كان شمران حيث قد جعله الإمام قدوة لنا وقال: «موتوا مثل شمران». لماذا كان الإمام يوصي بأن نقتدي بشمران؟ لأن إمام العصر ـ عليه السلام ـ بحاجة إلى أنصار مثله.
وكذلك في كربلاء هناك شهيد يختلف عن باقي الشهداء، وقد أشار إلى هذا الاختلاف والتمايز الإمام السجاد عليه السلام. قال في حقه: «إِنَّ لِلْعَبَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى مَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِهَا جَمِيعُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»2
في ليلة العاشر حيث كان الشهداء يلتمسون الحسين ـ عليه السلام ـ ليسمح لهم بالذهاب ضحية من أجله، وإذا بهم يشاهدون الحسين وهو يتمنى أن يفدي بنفسه لشخص آخر، إذ نادى أخاه العباس: «بنفسي أنت يا أخي».3 هكذا كان أبو الفضل العباس ـ عليه السلام ـ متمايزا ومختلفا عن غيره. هكذا كان يحبّ الحسين أخاه العباس. إذن لا عتب على الحسين إن كان يسكب الدموع على خدّيه حين رجوعه من الشريعة... ولا عتب على سكينة حيث استقبلت أباها تسأل «أين عمّي العباس»... ولا عتب على الحسين إن لم يجبها ولم يخبرها بما جرى على عمّها...
كل من كان يودّع أهل الحرم ويبرز إلى الميدان، لم يلبث ساعة إلا ويرجع جسده إلى الخيام مهشّما. فغدا موقف الوداع موقفا قاتلا لأطفال الحسين عليه السلام. أصبح الوداع بنفسه مصيبة عظمى عليهم. لقد انطبعت هذه الحقيقة في ذهن الأطفال وهي أن كل من يودّعهم سوف لا يعود طيّبا. عندما ودّعهم علي الأكبر جاءوا بجسده إربا إربا. عندما ودعهم القاسم راح ورجع إربا إربا. فعندما عزم العباس لتوديع الأطفال، شاهد القلق في أعينهمم فاستحيى ولم يطاوعه قلبه لتوديعهم، لم يجد بدا في ذلك الموقف المحرج سوى أن يأخذ القربة، يعني بذلك أنه يذهب ليأتي إليهم بالماء... فما زال أطفال الحسين منتظرين عودة عمّهم من الشريعة...
«ألا لعنة الله علی القوم الظالمین»
1. تحف العقول، ص284، من وصايا الإمام الباقر (ع) إلى جابر الجعفي.
2. أمالي الصدوق، ص 462.
3. إرشاد الشيخ المفيد، ج 2، ص 89.