عمارالموسوي الجزائري
17-06-2013, 03:55 PM
شواهد على تدرج الانحراف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن الشواهد التي تشير إلى تضاؤل ذلك التوهج العاطفي الحار عند الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل وانطفائه تماما في مواقع عديدة حتى تحول في بعضها إلى سواد وأداة تحاول إطفاء ما تبقى من نور الرسالة :
1 - مجريات السقيفة وكل ما فيها من تبادل الشتائم والتهديد وظهور النعرات القبلية مجددا " بين المهاجرين والأنصار من جهة ، وبين قبائل كل منهما من جهة أخرى ، علاوة على ظهور حب الجاه والزعامة في بعض الصحابة ذوي المكانة والمرتبة .
ولو كان تصرف أهل السقيفة إسلاميا " وليس قبليا " جاهليا " لما تخلف علي ومعه ستة عشر من أجلاء الصحابة عن البيعة لقائد الأمة الجديد ( 1 ) .
2 - ظهور الغطرسة من جديد في خالد بن الوليد عندما أقدم على سلوك بعيد كل البعد عن تعاليم دين الإسلام وأخلاقه وإنسانيته ، وذلك بقتله للمسلم مالك بن نويرة وأصحابه وما فعله
بزوجته ( 2 ) ، كل ذلك يظهر الطبيعة الجاهلية التي ما زالت مترسخة في نفوس بعضهم ، حتى إن عمر بن الخطاب طالب بإقامة حدي القتل والزنا على خالد والذي زعم بعضهم أنه
سيف الله المسلول ( ! ! ) ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال فيه : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) .
3 - تعيين الخليفة أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان عاملا " على الشام مقابل تأييد بني أمية لخلافته ، حيث تم بموجب هذه الاتفاقية كما يذكر المؤرخون أن تكون الشام من حصة آل
أبي سفيان على الدوام ، الأمر الذي ألزم الخليفة عمر لاحقا " ليس فقط أن يعين معاوية خلفا " لأخيه يزيد بعد موته ، بل والتهاون
معه أيضا " ، خلافا لشدته وحزمه مع غيره من العمال والولاة .
ومما يجدر ذكره أن أبا سفيان كان قد حاول تقديم ( خدماته ) أولا " لعلي عشية صراع السقيفة قائلا له أكثر من مرة : ( إن شئت لأملأنها عليهم خيلا " ورجالا " ولأسدنها عليهم
من أقطارها ) ( 1 ) ، ولكن الإمام عليا " رفض هذا النوع من المساندة ، لعلمه أن ما كان يسعى له أبو سفيان هو الدخول إلى دائرة الأضواء وما فيها من نفوذ وسلطة من أي نافذة
ممكنة ، فضلا " عن محاولته إذكاء نار الفتة والصراع بين المسلمين لأنه سيكون المستفيد الأول من ذلك .
وعلى كل ، فقد وجد أبو سفيان ومن معه من الطلقاء نافذتهم هذه بتعيين ابنه يزيد عاملا " على الشام ، فأصبحت هذه البقعة قاعدتهم التي إنطلقوا منها لتحقيق شهوتهم في الحكم وأحلامهم الجاهلية في الزعامة والملك .
4 - وأما الخليفة عمر فقد امتد حزمه وخشونته لدرجة أعطى فيها لنفسه الصلاحية بالاجتهاد في أحكام الشريعة ، مع أن بعضها كان على حساب نصوص الكتاب والسنة . أوليس هو
الذي كان يعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية ، وبالصلاة على أحد المنافقين ، وخالفه حينما طلب منه أن يستر إسلامه إلى أن ختم شريط حياته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوداعه له قائلا " بحقه ( إن الرسول يهجر وحسبنا كتاب الله ) ؟ !
وهكذا كان ، فقد منع تدوين أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو حتى التحدث بها ، فحرق ما كان قد كتب منها ، وسجن عبد الله بن مسعود وضرب أبا هريرة لتحدثهما بها
وقال : ( . . . وأخلوا الرواية عن رسول الله . . . والله لا أشوب كتاب الله بشئ ) ! .
أو ليس هو القائل أيضا " : ( متعتان على عهد رسول الله وأنا ( ! ) أنهى عنهما ) ففي المتعة الأولى ( النساء ) قال ابنه عبد الله لأحد الناس : ( أرأيت أن
( 1 ) خالد محمد خالد ، خلفاء الرسول ، ص 418 . ( * )
كان أبي ينهى عنها وصنعها رسول الله ، تترك السنة وتتبع قول أبي ؟ ) .
وفي المتعة الثانية ( الحج ) قال الإمام علي عليه السلام لعثمان : ( ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله . . . ما كنت لأدع السنة لقول أحد ) .
أو ليس هو القائل أيضا " بشأن تشريعه لصلاة التراويح : ( نعمت البدعة هذه ! ) ( 1 ) . وما فارق الدنيا حتى أجبر الناس على العمل بكل البدع التي أحدثها أو قل ( الاجتهادات ) التي
أدخلها والمميزة بشدة التعسير والتزمت خلافا لمرونة الشريعة وسماحتها ، وجمع كل ذلك إلى ما اجتهده أبو بكر ، وسميت مجتمعة سيرة أو سنة الشيخين ، وقد أوجب على المسلمين العمل
بها إلى جانب العمل بكتاب الله وسنة نبيه . بل أنه جعل القبول بهذا التثليث شرطا " لكل من يبايع له خليفة بعده .
5 - وهكذا جاء عثمان بن عفان ، وهو الصحابي العديم الخبرة والدراية بشؤون السياسة والإدارة ، فضلا " عن ضعفه بتحمل أعبائهما ، وجهله بأحكام الشريعة ، وقد بويع له على
يد عبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى الذي كان قد عينه عمر قائلا " : ( أبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الخليفتين من بعده ) .
وليته سار على سيرة الشيخين ، فقد سارت خلافته ( غفر الله له ) على سيرة الجاهلية وسننها أكثر من أي سنن أخرى ، وقد دخل أبناء قبيلته عليه بعد مبايعته مهللين : ( يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة . . . ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة . . . فما هناك جنة ولا نار ) ! ! .
ثم قام عثمان بعزل فضلاء الصحابة الذين عينهم عمر ، وآذى بعضهم شر إيذاء ، وعين بدلا " منهم أقاربه وبني عشيرته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم محذرا " :
( 1 ) راجع قسم 2 فصل من هذا الكتاب . ( * )
- ص 205 -
( من ولي من أمور المسلمين شيئا " ، فأمر عليهم أحدا " محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل منه حرفا " ولا عدلا " حتى يدخله جهنم ) ( 1 ) .
ويقول المودودي في انتهاكات عثمان : ( لا شك أن هذا الجانب من سياسة عثمان ( رض ) كان خطأ ، والخطأ خطأ على أي حال أيا " كان فاعله .
أما محاولة إثبات صحته باصطناع الكلام لغوا " وعبثا " فهو أمر لا يقتضيه العقل ولا يرضاه الإنصاف ، كما أن الدين لا يطالبنا بعدم الاعتراف بخطأ صحابي من الصحابة ) ( 2 ) .
6 - وعندما قام الإمام علي عليه السلام خليفة وأراد أن يحملهم على الكتاب والسنة الأصيلة ، ثاروا عليه وحاربوه حسدا " وبغيا " .
وقد عد المودودي خروج معاوية وعائشة على الإمام علي مطالبين بدم عثمان من فعل الجاهلية بقوله : ( وموقفهما من الناحية القانونية يمكن استصوابه بأي حال الأحوال ، فذلك
العصر لم يكن عصر النظام القبلي المعهود عن الجاهلية حتى يطالب بدم المقتول فيه من شاء وكيف شاء ، ويستخدم في ذلك ما يروق من طرق وأساليب ، وإنما كان هناك حكومة ) ( 3 ).
ثم يضيف مؤكدا " أن كل ذلك شبيها " بالفوضى التي كانت سائدة في الجاهلية قبل الإسلام .
فنتج عن خروج عائشة إهراق دم عشرة آلاف مسلم ، واضطراب نظام الدولة وعمتها الفوضى ، فلعمري أن هذا لا يمكن اعتباره إجراءا " شرعيا " لا في نظر قانون الله وشرعه فقط ، بل حتى في نظر أي قانون من القوانين الدنيوية ) ( 4 ) .
حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي وصف كراهية عائشة للإمام بقصيدة نقتطف منها الأبيات التالية :
( 1 ) مسند أحمد ، ج 1 ص 6 . ( 2 ) أبو الأعلى المودودي ، الخلافة والملك ، ص 71 .
( 3 ) المصدر السابق ، ص 77 . ( 4 ) المصدر نفسه ، ص 78 . ( * )
- ص 206 -
يا جبلا " تأبى الجبال ما حمل * ماذا رمت عليك ربة الجمل
أثأر عثمان الذي شجاها * أم غصة لم ينتزع شجاها
ذلك فتق لم يكن بالبال * كيد النساء موهن الجبال
وإن أم المؤمنين لامرأة * وإن تلك الطاهرة المبرأة
أخرجها من كنها وسنها * ما لم يزل طول المدى من ضغنها
ويجز الشيخ محمد الغزالي على ترسخ وجود مثل تلك الحمية الجاهلية في سلوك معاوية بقوله : ( وجمهور الفقهاء والمؤرخين والدعاة يؤكد على أن علي بن أبي طالب كان إمام حق ، وأن معاوية بن أبي سفيان كان يمثل نفسه وعصبيته في خروجه على علي ) ( 1 ) .
وقد اشتمل مسلسل الانحراف هذا الذي أصاب الأمة من كانوا في صف الإمام علي أيضا " ، وقد عبر عما أصابه في قلبه تجاههم قبل مفارقته لهم : ( قبحكم الله ، لقد ملأتم قلبي قيحا " ، وشحنتم صدري غيظا " ، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ) ( 2 ) .
7 - ثم جاء النظام الأموي وتوسع في العبث بدين الإسلام وترسيخ نمط الحياة الجاهلية ، وكانت له اليد الطولى في تدعيم أركان التفرق والتمذهب لأغراض سياسية فمعاوية يعلم أنه
أخذ الخلافة بغيا " وقهرا " من صاحبها الشرعي علي وابنه الحسن من بعده ، وقام بتسمية حاشيته ومن وافقه من عامة المسلمين بأهل السنة والجماعة ، في الوقت ذات أطلق على
معارضيه من شيعة أهل البيت عليه السلام بالرافضة ، ثم جعل سب الإمام علي عليه السلام على المنابر ( سنة ) واجبة .
فكيف يتصور اعتبار معاوية خليفة شرعيا " لرسول الله وبأمره كان يسب الإمام على ألف منبر بالجمع والأعياد على طول الدولة الإسلامية وعرضها ؟
( 1 ) محمد الغزالي ، مئة سؤال وجواب ، ج 2 ، ص 353 .
( 2 ) راجع قسم 2 فصل 4 من هذا الكتاب . ( * )
- ص 207 -
ولقد بقي تطبيق هذه ) السنة ) مستمرا " زمن الخلفاء الأمويين حتى منعها الخليفة عمر بن عبد العزيز .
8 - ولقد توج ( أمير المؤمنين ) يزيد مسلسل الأحداث والتبديل في سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإرجاع الأمة تماما " إلى ما كانت عليه قبل الإسلام بقتله الإمام الحسين ومن معه
من أهل بيت النبي والذين جعل الله سبحانه وتعالى التمسك بهم واتباعهم شرطا " للهداية والنجاة . فأين يكون موقع يزيد ومن بايعه أو سكت على شنيع فعله من شريعة الإسلام ؟
ويمكن تلخيص موقف يزيد والحال التي وصلت إليه خلافة المسلمين بأبيات شعرية أنشدها يزيد نفسه :
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندق إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل ! !
وبأبياته التي أنشدها عندما جئ بنساء آل البيت سبايا وبرؤوس شهداء كربلاء معلقة على رؤوس الرماح :
لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح * فلقد قضيت من الرسول ديوني ! !
فيا له من إسلام يقتضي فيه الخليفة ديونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى ثأره لقتل أجداده في بدر بالانتقام من أحفاد النبي ( بني أحمد ) في كربلاء !
9 - ولم يختلف الوضع كثيرا " فيمن جاء من الخلفاء بعد يزيد ، فهذا عبد الملك بن مروان عند تسلم الخلافة وكان في يده مصحف فأطبقه قائلا " : ( هذا فراق بيني وبينك ! ( 1 ) ،
وأما ابنه الوليد فإنه قام بتمزيق المصحف الشريف بسهام وذلك عندما حاول استفتاح آياته ، وقد خيبت ظنه وفضحت جبروته وعناده كما هو معروف من هذه الحادثة .
( 1 ) راجع قسم 2 فصل 8 من هذا الكتاب . ( * )
- ص 208 -
وهذه الحالة الجاهلية التي عاشها المسلمون في عهود معاوية ويزيد والمروانيين قد امتدت في الحقيقة لتشعل عهود بقية الخلفاء الأمويين ومن جاء بعدهم من الملوك والسلاطين الذين تسنموا منصب الخلافة الإسلامية على مر تاريخها .
ويحلو لبعضهم الدفاع عن هؤلاء الخلفاء بسبب تحقيقهم لفتوحات واسعة في الشرق والغرب ونشر الإسلام في هذه المناطق .
ولكننا نسأل : ماذا كان هدف هؤلاء الملوك والسلاطين من تلك الفتوحات ؟ فباستثناء القلة القليلة منها لا سيما في بدايتها ، فإن الفتوحات كانت تعني عند أولئك الحكام مجرد وسيلة
لتوسيع وقعة الملك وتكثير الخراج . وكانت غاياتهم هذه تتضح من حالة البذخ والإسراف في اللهو والملذات التي كانوا يعيشونها ، وما ظهر من تأثير ذلك في نشر القيم الفاسدة والمنحرفة
بين عامة المسلمين . وحتى ذلك الخليفة - على سبيل المثال - الذي قيل أنه كان يحج عاما " ويغزو عاما " ، كان ( بيوت الحريم ) بقصوره العديدة ما لا يقل عن 2000 ألفي جارية
جمعها من مختلف أقاليم إمبراطوريته الواسعة ، فلو أريد من تلك الفتوحات وجه الله وما يعني ذلك من ضرورة نشر العدالة والقيم الإسلامية ، لكان الأولى بالخلفاء أنفسهم أن يجسدوا تلك
المعاني والقيم في سلوكهم ، وكيف يكون ذلك ، وقد كان كثير منهم لا يتوانى عن قتل أبيه أو أخيه من أجل الوصول إلى سدة الحكم . فالرشيد مثلا " لم يكتف بقتل أخيه الخليفة السابق ،
بل قام أيضا " بحبس الإمام موسى بن جعفر ( الكاظم ) المستحق الحقيقي لمنصب الخلافة ! ؟ بل أنه سجن أيضا " أبا حنيفة النعمان ، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة لمجرد تعاطفه مع أهل البيت عليه السلام ورفضه استلام منصب القضاء في عهده .
ويعلق الشهيد سيد قطب بشأن تلك الفتوحات وما جرى على الإسلام على يد خلفاء المسلمين بقوله : ( لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت
- ص 209 -
روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس ، ولو قدر لعلي أن ينتصر ، لكان انتصاره فوزا " لروح الإسلام الحقيقية ، الروح الخليقة العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في
النضال ، ولكن انهزام هذه الروح ولم يمض عليها نصف قرن كامل ، وقد قضي عليها فلم تقم لها قائمة بعد - إلا سنوات على يد عمر بن عبد العزيز - ثم انطفأ ذلك السراج ، وبقيت
الشكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية . قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده ، ولكن روح الإسلام قد تقلصت ، وهزمت ، بل انطفأت ، فإن يهش
إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضوض ، فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها ) ( 1 ) .
ثم يبدد الشهيد قطب أوهام المتعلقين بأهداب التعصب المذهبي الأعمى في دفاعهم عن معاوية بقوله : ( وبعد ، فلست ( شيعيا " ) لأقرر هذا الذي أقول ، إنما أنظر إلى المسألة من جانبها
الروحي الخلقي ، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا " لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية ، ولينتصر لعلي بن أبي طالب على معاوية وعمرو ، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة . . . ) ( 2 ) .
( 1 ) سعيد أيوب ، معالم الفتن ج 2 ص 458 - 459 ، نقلا " عن سيد قطب ، كتب وشخصيات . ( * )
ومن الشواهد التي تشير إلى تضاؤل ذلك التوهج العاطفي الحار عند الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل وانطفائه تماما في مواقع عديدة حتى تحول في بعضها إلى سواد وأداة تحاول إطفاء ما تبقى من نور الرسالة :
1 - مجريات السقيفة وكل ما فيها من تبادل الشتائم والتهديد وظهور النعرات القبلية مجددا " بين المهاجرين والأنصار من جهة ، وبين قبائل كل منهما من جهة أخرى ، علاوة على ظهور حب الجاه والزعامة في بعض الصحابة ذوي المكانة والمرتبة .
ولو كان تصرف أهل السقيفة إسلاميا " وليس قبليا " جاهليا " لما تخلف علي ومعه ستة عشر من أجلاء الصحابة عن البيعة لقائد الأمة الجديد ( 1 ) .
2 - ظهور الغطرسة من جديد في خالد بن الوليد عندما أقدم على سلوك بعيد كل البعد عن تعاليم دين الإسلام وأخلاقه وإنسانيته ، وذلك بقتله للمسلم مالك بن نويرة وأصحابه وما فعله
بزوجته ( 2 ) ، كل ذلك يظهر الطبيعة الجاهلية التي ما زالت مترسخة في نفوس بعضهم ، حتى إن عمر بن الخطاب طالب بإقامة حدي القتل والزنا على خالد والذي زعم بعضهم أنه
سيف الله المسلول ( ! ! ) ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال فيه : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) .
3 - تعيين الخليفة أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان عاملا " على الشام مقابل تأييد بني أمية لخلافته ، حيث تم بموجب هذه الاتفاقية كما يذكر المؤرخون أن تكون الشام من حصة آل
أبي سفيان على الدوام ، الأمر الذي ألزم الخليفة عمر لاحقا " ليس فقط أن يعين معاوية خلفا " لأخيه يزيد بعد موته ، بل والتهاون
معه أيضا " ، خلافا لشدته وحزمه مع غيره من العمال والولاة .
ومما يجدر ذكره أن أبا سفيان كان قد حاول تقديم ( خدماته ) أولا " لعلي عشية صراع السقيفة قائلا له أكثر من مرة : ( إن شئت لأملأنها عليهم خيلا " ورجالا " ولأسدنها عليهم
من أقطارها ) ( 1 ) ، ولكن الإمام عليا " رفض هذا النوع من المساندة ، لعلمه أن ما كان يسعى له أبو سفيان هو الدخول إلى دائرة الأضواء وما فيها من نفوذ وسلطة من أي نافذة
ممكنة ، فضلا " عن محاولته إذكاء نار الفتة والصراع بين المسلمين لأنه سيكون المستفيد الأول من ذلك .
وعلى كل ، فقد وجد أبو سفيان ومن معه من الطلقاء نافذتهم هذه بتعيين ابنه يزيد عاملا " على الشام ، فأصبحت هذه البقعة قاعدتهم التي إنطلقوا منها لتحقيق شهوتهم في الحكم وأحلامهم الجاهلية في الزعامة والملك .
4 - وأما الخليفة عمر فقد امتد حزمه وخشونته لدرجة أعطى فيها لنفسه الصلاحية بالاجتهاد في أحكام الشريعة ، مع أن بعضها كان على حساب نصوص الكتاب والسنة . أوليس هو
الذي كان يعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية ، وبالصلاة على أحد المنافقين ، وخالفه حينما طلب منه أن يستر إسلامه إلى أن ختم شريط حياته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوداعه له قائلا " بحقه ( إن الرسول يهجر وحسبنا كتاب الله ) ؟ !
وهكذا كان ، فقد منع تدوين أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو حتى التحدث بها ، فحرق ما كان قد كتب منها ، وسجن عبد الله بن مسعود وضرب أبا هريرة لتحدثهما بها
وقال : ( . . . وأخلوا الرواية عن رسول الله . . . والله لا أشوب كتاب الله بشئ ) ! .
أو ليس هو القائل أيضا " : ( متعتان على عهد رسول الله وأنا ( ! ) أنهى عنهما ) ففي المتعة الأولى ( النساء ) قال ابنه عبد الله لأحد الناس : ( أرأيت أن
( 1 ) خالد محمد خالد ، خلفاء الرسول ، ص 418 . ( * )
كان أبي ينهى عنها وصنعها رسول الله ، تترك السنة وتتبع قول أبي ؟ ) .
وفي المتعة الثانية ( الحج ) قال الإمام علي عليه السلام لعثمان : ( ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله . . . ما كنت لأدع السنة لقول أحد ) .
أو ليس هو القائل أيضا " بشأن تشريعه لصلاة التراويح : ( نعمت البدعة هذه ! ) ( 1 ) . وما فارق الدنيا حتى أجبر الناس على العمل بكل البدع التي أحدثها أو قل ( الاجتهادات ) التي
أدخلها والمميزة بشدة التعسير والتزمت خلافا لمرونة الشريعة وسماحتها ، وجمع كل ذلك إلى ما اجتهده أبو بكر ، وسميت مجتمعة سيرة أو سنة الشيخين ، وقد أوجب على المسلمين العمل
بها إلى جانب العمل بكتاب الله وسنة نبيه . بل أنه جعل القبول بهذا التثليث شرطا " لكل من يبايع له خليفة بعده .
5 - وهكذا جاء عثمان بن عفان ، وهو الصحابي العديم الخبرة والدراية بشؤون السياسة والإدارة ، فضلا " عن ضعفه بتحمل أعبائهما ، وجهله بأحكام الشريعة ، وقد بويع له على
يد عبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى الذي كان قد عينه عمر قائلا " : ( أبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الخليفتين من بعده ) .
وليته سار على سيرة الشيخين ، فقد سارت خلافته ( غفر الله له ) على سيرة الجاهلية وسننها أكثر من أي سنن أخرى ، وقد دخل أبناء قبيلته عليه بعد مبايعته مهللين : ( يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة . . . ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة . . . فما هناك جنة ولا نار ) ! ! .
ثم قام عثمان بعزل فضلاء الصحابة الذين عينهم عمر ، وآذى بعضهم شر إيذاء ، وعين بدلا " منهم أقاربه وبني عشيرته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم محذرا " :
( 1 ) راجع قسم 2 فصل من هذا الكتاب . ( * )
- ص 205 -
( من ولي من أمور المسلمين شيئا " ، فأمر عليهم أحدا " محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل منه حرفا " ولا عدلا " حتى يدخله جهنم ) ( 1 ) .
ويقول المودودي في انتهاكات عثمان : ( لا شك أن هذا الجانب من سياسة عثمان ( رض ) كان خطأ ، والخطأ خطأ على أي حال أيا " كان فاعله .
أما محاولة إثبات صحته باصطناع الكلام لغوا " وعبثا " فهو أمر لا يقتضيه العقل ولا يرضاه الإنصاف ، كما أن الدين لا يطالبنا بعدم الاعتراف بخطأ صحابي من الصحابة ) ( 2 ) .
6 - وعندما قام الإمام علي عليه السلام خليفة وأراد أن يحملهم على الكتاب والسنة الأصيلة ، ثاروا عليه وحاربوه حسدا " وبغيا " .
وقد عد المودودي خروج معاوية وعائشة على الإمام علي مطالبين بدم عثمان من فعل الجاهلية بقوله : ( وموقفهما من الناحية القانونية يمكن استصوابه بأي حال الأحوال ، فذلك
العصر لم يكن عصر النظام القبلي المعهود عن الجاهلية حتى يطالب بدم المقتول فيه من شاء وكيف شاء ، ويستخدم في ذلك ما يروق من طرق وأساليب ، وإنما كان هناك حكومة ) ( 3 ).
ثم يضيف مؤكدا " أن كل ذلك شبيها " بالفوضى التي كانت سائدة في الجاهلية قبل الإسلام .
فنتج عن خروج عائشة إهراق دم عشرة آلاف مسلم ، واضطراب نظام الدولة وعمتها الفوضى ، فلعمري أن هذا لا يمكن اعتباره إجراءا " شرعيا " لا في نظر قانون الله وشرعه فقط ، بل حتى في نظر أي قانون من القوانين الدنيوية ) ( 4 ) .
حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي وصف كراهية عائشة للإمام بقصيدة نقتطف منها الأبيات التالية :
( 1 ) مسند أحمد ، ج 1 ص 6 . ( 2 ) أبو الأعلى المودودي ، الخلافة والملك ، ص 71 .
( 3 ) المصدر السابق ، ص 77 . ( 4 ) المصدر نفسه ، ص 78 . ( * )
- ص 206 -
يا جبلا " تأبى الجبال ما حمل * ماذا رمت عليك ربة الجمل
أثأر عثمان الذي شجاها * أم غصة لم ينتزع شجاها
ذلك فتق لم يكن بالبال * كيد النساء موهن الجبال
وإن أم المؤمنين لامرأة * وإن تلك الطاهرة المبرأة
أخرجها من كنها وسنها * ما لم يزل طول المدى من ضغنها
ويجز الشيخ محمد الغزالي على ترسخ وجود مثل تلك الحمية الجاهلية في سلوك معاوية بقوله : ( وجمهور الفقهاء والمؤرخين والدعاة يؤكد على أن علي بن أبي طالب كان إمام حق ، وأن معاوية بن أبي سفيان كان يمثل نفسه وعصبيته في خروجه على علي ) ( 1 ) .
وقد اشتمل مسلسل الانحراف هذا الذي أصاب الأمة من كانوا في صف الإمام علي أيضا " ، وقد عبر عما أصابه في قلبه تجاههم قبل مفارقته لهم : ( قبحكم الله ، لقد ملأتم قلبي قيحا " ، وشحنتم صدري غيظا " ، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ) ( 2 ) .
7 - ثم جاء النظام الأموي وتوسع في العبث بدين الإسلام وترسيخ نمط الحياة الجاهلية ، وكانت له اليد الطولى في تدعيم أركان التفرق والتمذهب لأغراض سياسية فمعاوية يعلم أنه
أخذ الخلافة بغيا " وقهرا " من صاحبها الشرعي علي وابنه الحسن من بعده ، وقام بتسمية حاشيته ومن وافقه من عامة المسلمين بأهل السنة والجماعة ، في الوقت ذات أطلق على
معارضيه من شيعة أهل البيت عليه السلام بالرافضة ، ثم جعل سب الإمام علي عليه السلام على المنابر ( سنة ) واجبة .
فكيف يتصور اعتبار معاوية خليفة شرعيا " لرسول الله وبأمره كان يسب الإمام على ألف منبر بالجمع والأعياد على طول الدولة الإسلامية وعرضها ؟
( 1 ) محمد الغزالي ، مئة سؤال وجواب ، ج 2 ، ص 353 .
( 2 ) راجع قسم 2 فصل 4 من هذا الكتاب . ( * )
- ص 207 -
ولقد بقي تطبيق هذه ) السنة ) مستمرا " زمن الخلفاء الأمويين حتى منعها الخليفة عمر بن عبد العزيز .
8 - ولقد توج ( أمير المؤمنين ) يزيد مسلسل الأحداث والتبديل في سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإرجاع الأمة تماما " إلى ما كانت عليه قبل الإسلام بقتله الإمام الحسين ومن معه
من أهل بيت النبي والذين جعل الله سبحانه وتعالى التمسك بهم واتباعهم شرطا " للهداية والنجاة . فأين يكون موقع يزيد ومن بايعه أو سكت على شنيع فعله من شريعة الإسلام ؟
ويمكن تلخيص موقف يزيد والحال التي وصلت إليه خلافة المسلمين بأبيات شعرية أنشدها يزيد نفسه :
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندق إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل ! !
وبأبياته التي أنشدها عندما جئ بنساء آل البيت سبايا وبرؤوس شهداء كربلاء معلقة على رؤوس الرماح :
لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح * فلقد قضيت من الرسول ديوني ! !
فيا له من إسلام يقتضي فيه الخليفة ديونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى ثأره لقتل أجداده في بدر بالانتقام من أحفاد النبي ( بني أحمد ) في كربلاء !
9 - ولم يختلف الوضع كثيرا " فيمن جاء من الخلفاء بعد يزيد ، فهذا عبد الملك بن مروان عند تسلم الخلافة وكان في يده مصحف فأطبقه قائلا " : ( هذا فراق بيني وبينك ! ( 1 ) ،
وأما ابنه الوليد فإنه قام بتمزيق المصحف الشريف بسهام وذلك عندما حاول استفتاح آياته ، وقد خيبت ظنه وفضحت جبروته وعناده كما هو معروف من هذه الحادثة .
( 1 ) راجع قسم 2 فصل 8 من هذا الكتاب . ( * )
- ص 208 -
وهذه الحالة الجاهلية التي عاشها المسلمون في عهود معاوية ويزيد والمروانيين قد امتدت في الحقيقة لتشعل عهود بقية الخلفاء الأمويين ومن جاء بعدهم من الملوك والسلاطين الذين تسنموا منصب الخلافة الإسلامية على مر تاريخها .
ويحلو لبعضهم الدفاع عن هؤلاء الخلفاء بسبب تحقيقهم لفتوحات واسعة في الشرق والغرب ونشر الإسلام في هذه المناطق .
ولكننا نسأل : ماذا كان هدف هؤلاء الملوك والسلاطين من تلك الفتوحات ؟ فباستثناء القلة القليلة منها لا سيما في بدايتها ، فإن الفتوحات كانت تعني عند أولئك الحكام مجرد وسيلة
لتوسيع وقعة الملك وتكثير الخراج . وكانت غاياتهم هذه تتضح من حالة البذخ والإسراف في اللهو والملذات التي كانوا يعيشونها ، وما ظهر من تأثير ذلك في نشر القيم الفاسدة والمنحرفة
بين عامة المسلمين . وحتى ذلك الخليفة - على سبيل المثال - الذي قيل أنه كان يحج عاما " ويغزو عاما " ، كان ( بيوت الحريم ) بقصوره العديدة ما لا يقل عن 2000 ألفي جارية
جمعها من مختلف أقاليم إمبراطوريته الواسعة ، فلو أريد من تلك الفتوحات وجه الله وما يعني ذلك من ضرورة نشر العدالة والقيم الإسلامية ، لكان الأولى بالخلفاء أنفسهم أن يجسدوا تلك
المعاني والقيم في سلوكهم ، وكيف يكون ذلك ، وقد كان كثير منهم لا يتوانى عن قتل أبيه أو أخيه من أجل الوصول إلى سدة الحكم . فالرشيد مثلا " لم يكتف بقتل أخيه الخليفة السابق ،
بل قام أيضا " بحبس الإمام موسى بن جعفر ( الكاظم ) المستحق الحقيقي لمنصب الخلافة ! ؟ بل أنه سجن أيضا " أبا حنيفة النعمان ، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة لمجرد تعاطفه مع أهل البيت عليه السلام ورفضه استلام منصب القضاء في عهده .
ويعلق الشهيد سيد قطب بشأن تلك الفتوحات وما جرى على الإسلام على يد خلفاء المسلمين بقوله : ( لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت
- ص 209 -
روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس ، ولو قدر لعلي أن ينتصر ، لكان انتصاره فوزا " لروح الإسلام الحقيقية ، الروح الخليقة العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في
النضال ، ولكن انهزام هذه الروح ولم يمض عليها نصف قرن كامل ، وقد قضي عليها فلم تقم لها قائمة بعد - إلا سنوات على يد عمر بن عبد العزيز - ثم انطفأ ذلك السراج ، وبقيت
الشكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية . قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده ، ولكن روح الإسلام قد تقلصت ، وهزمت ، بل انطفأت ، فإن يهش
إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضوض ، فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها ) ( 1 ) .
ثم يبدد الشهيد قطب أوهام المتعلقين بأهداب التعصب المذهبي الأعمى في دفاعهم عن معاوية بقوله : ( وبعد ، فلست ( شيعيا " ) لأقرر هذا الذي أقول ، إنما أنظر إلى المسألة من جانبها
الروحي الخلقي ، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا " لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية ، ولينتصر لعلي بن أبي طالب على معاوية وعمرو ، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة . . . ) ( 2 ) .
( 1 ) سعيد أيوب ، معالم الفتن ج 2 ص 458 - 459 ، نقلا " عن سيد قطب ، كتب وشخصيات . ( * )