أحلى بحراني
26-06-2013, 11:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
http://im18.gulfup.com/ulyg3.jpg (http://www.gulfup.com/?j6v7ry)
:: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::
(إحسان الفضلي)
المراجعة والتدقيق : الأديب حيدر السلامي
====
الإهداء:
إلى إمامي وسيدي ومولاي صاحب العصر والزمان ؛ الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه ؛ وجعلنا من أنصاره) .
قالت اُمّ المصائب زينب (عليها السّلام) : فكد كيك ؛ واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فند ؛ وأيامك إلاّ عدد ؛ وجمعك إلاّ بدد ؛ يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ؛ ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
====
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اعتاد الباحث في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) أن يجد إشاراتهم ومعطياتهم في كافة مجالات الحياة ؛ سواء العلميّة منها أو غير العلميّة ، فلا بدّ أن يكون هناك توضيح لطالب العلم وللمتحير في كيفية النهج الواجب اتخاذه لبلوغ الحق والرسوّ في شاطئ اليقين .
ومن هنا يتسائل الباحث عمّا أوضحته لنا مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) في المنهج الإعلامي ؛ وكيف لنا أن نستقي المعرفة منها في هذا المجال ؟
والمتتبع لتاريخ أهل البيت (عليهم السّلام) يستطيع أن يجد الإشارات الإعلاميّة واضحة بيّنة . ولعل من أوضحها سلاح البكاء الذي استخدمته الزهراء (عليها السّلام) ليكون رسالة إعلاميّة واضحة وصريحة الدلالة على سلب الحقوق ؛ وصرخة مدويّة بوجه الظالمين .
وإنّ هذا السلاح هو نفسه الذي استخدمه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) (1) أمام الطغيان الاُموي ؛ فنحن نرى أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) العديدة في الحث على البكاء والتباكي ؛ وما هي في الحقيقة إلاّ دعوة صريحة لاستخدام هذا السلاح بوجه الطغاة والمتجبرين في كلِّ زمان ومكان .
والغريب أننا نرى اليوم بعض الدعوات والنداءات على ترك هذا السلاح الذي حثّ عليه أهل البيت (عليهم السّلام) في المناسبة تلو الاُخرى ، ونرى أصحاب هذه الدعوات أنفسهم يتقبّلون أساليب الإعلام الغربية بكل رحابة صدر ، في حين إنك ترى الغربيِّين يستخدمون للدلالة على الاحتجاج من وقوع ظلم معين الاعتصام مثلاً . وهو إن تأملت فيه تجده يقع في سياق البكاء للدلالة على الظلم , بل هما من قبيل وجهين لعملة واحدة تصب في مقام إيقاع الألم على النفس للدلالة على أنها تتعرض لألم أكبر هو الظلم .
وعندما يقع الاعتصام من أحد الأشخاص ترى الدنيا تقوم وتقعد ؛ لما يشير إليه الاعتصام من دلالة واضحة على سوء الإدارة المعنية ، وأنها مارست الظلم بحق الشخص المعتصم . وهذا ما نتلمسه كذلك من سلاح البكاء الذي هو من الاُمور الفطرية التي جعلها المولى (عزّ وجلّ) من طبيعة الجنس البشري ، وأنه عند تعرضه للألم يبكي .
والألم تارة يكون مادياً واُخرى يكون معنوياً ؛ فالإنسان عندما يتعرّض لفقد عزيز ؛ أو يُهضم حقه تراه يبكي بطبيعة الفطرة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه ، وهذا الألم المعنوي . وأمّا المادي فهو ما يتعرّض له من حوادث تؤدّي إلى تلف في جسمه ؛ من كسر أو جرح أو قرح وغيرها ، وبنفس الفطرة تراه يبكي عند التعرّض لمثل هذه الحوادث . ويتحول البكاء رمزاً ومتنفساً عندما يكون الألم ـ معنوياً كان أو مادياً ـ من الشدة بمكان .
وفي إطار تبيين فلسفة الشعائر الحسينيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الشعائر الحسينيّة هي رمز من رموز الاحتجاج الواضحة في وجه الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السّلام) ، ونرجو أن يكون لهذا العمل المتواضع ثقلاً في الميزان ، وأن يهدي إلى الحق .
كما وأرجو من جميع إخوتي في الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن العثرات والزلات ، وأن لا ينسونا من الدعاء بالتوفيق ؛ لكي نكون جميعاً من أنصار سيدة نساء العالمين ، المواسين لها في مصابها الجلل بما جرى عليها وعلى آل البيت (عليهم السّلام) (2) .
1 ـ قال الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاؤون خمسة : آدم ؛ ويعقوب ؛ ويوسف ؛ وفاطمة بنت محمد ؛ وعلي بن الحسين (عليهم السّلام) ؛ فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية ؛ وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره ؛ وحتّى قيل له : (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) .
وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهلُ السجن ؛ فقالوا له : إمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار ؛ وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل . فصالحهم على واحدة منهما ؛ وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى به أهل المدينة ؛ فقالوا لها : قد آذيتينا بكثرة بكائك . فكانت تخرج إلى المقابر ؛ مقابر الشهداء ؛ فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السّلام) عشرين سنة ؛ أو أربعين سنة ؛ ما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى ؛ حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله ! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة لي )) (بحار الأنوار43 / 155 ـ باب 7) .
2 ـ عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) اُحدّثه فدخل عليه ابنهُ ؛ فقال له : (( مرحباً )) . وضمّه وقبّله ؛ وقال : (( حقّر الله مَن حقّركم ؛ وانتقم الله ممّن وتركم ؛ وخذل الله مَن خذلكم ؛ ولعن الله مَن قتلكم ؛ وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ؛ فقد طال بكاء النساء ؛ وبكاء الأنبياء والصدّيقين ؛ والشهداء وملائكة السماء )) .
ثمَّ بكى ؛ وقال : (( يا أبا بصير ؛ إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السّلام) أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وآلهم . يا أبا بصير ؛ إنّ فاطمة (عليها السّلام) لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها ؛ وقد استعدّوا لذلك ؛ مخافة أن يخرج منها عنق ... إلى أن قال : فلا تزال الملائكة مشفقين ؛ يبكون لبكائها ؛ ويدعون الله ويتضرعون إليه ... )) .
إلى أن قال : قلتُ : جُعلت فداك ! إنّ هذا الأمر عظيم !
قال : (( غيره أعظم منه ما لم تسمعه )) .
ثم قال : (( يا أبا بصير ؛ أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة (عليها السّلام) ؟ )) .
فبكيت حين قالها ؛ فما قدرت على المنطق ؛ وما قدرت على كلامي من البكاء . (مستدرك الوسائل 10 / 314 ـ 315) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) لزرارة : (( وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ . وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه ؛ ووصل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ وأدّى حقّنا . وما من عبد يُحشر إلاّ وعيناه باكيةٌ إلاّ الباكين على جدي الحسين (عليه السّلام) ؛ تحت العرش ؛ وفي ظل العرش ؛ لا يخافون سوء يوم الحساب )) . (مستدرك الوسائل 10 / 314) .
====
فلسفة الشعائر الحسينيّة:
كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة ، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام ، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة ؛ ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة ؛ وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي ؛ وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير .
ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين :
الشق الأوّل :
حول الجانب الفقهي ؛ ومدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها . والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس ؛ وإبداء الآراء الشخصية فيه ، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور ، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة . وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد ؛ رحم الله الماضين منهم ؛ وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة ؛ ولنصرة هذا الدين .
والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا ؛ وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم ؛ لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر ؛ بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها ؛ والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً ؛ وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) .
كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة ، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به . أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار ؛ وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ ؛ وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها . كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة .
والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده ، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي . فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية : عمل العامي بلا تقليد باطل .
وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات .
ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر ؛ وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ومدى تفاعله الشخصي معها . وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها ؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم ؛ وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى .
ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة ؛ وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم) ؛ ففيهم الكفاية لمَن يطلب ذلك ؛ ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك .
أما الشقّ الثاني :
فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر ؛ وما هو الغرض منها ؛ وماذا تمثل هذه الشعائر ؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب ؛ محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها ؛ سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك .
ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج ؛ ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة ؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها .
اللطم (اللدم) ، الزنجيل ، التطبير.
وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً ؛ والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش . ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر ؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود . على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ) .
وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث ، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر ؛ مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم ؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها .
ثمرة ممارسة الشعائر الحسينيّة.
إنّ العلة الرئيسة التي لأجلها كانت الشعائر الحسينيّة هي الممارسة الإعلاميّة الواضحة والمشيرة إلى الحق المسلوب ، وأنّ جميع الغايات والأهداف الاُخرى تتفرع منها .
ويمكن إجمال تلك الأهداف بالنقاط التالية :
1 ـ نشر تاريخ وعلوم أهل البيت (عليهم السّلام) وبيان فضلهم . ولا يخفى عظيم الحاجة إلى ذلك ؛ لما تعرّض له هذا التاريخ من تشويه ودس , لا سيما في العصرين الاُموي والعباسي ، وما عملته وتعمله الأقلام المأجورة والضالة إلى يومنا .
2 ـ خلق الترابط العاطفي مع أهل بيت العصمة (عليهم السّلام) والذي هو نص صريح في القرآن الحكيم : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (1) .
3 ـ تربية وتوعية الجيل الجديد ، وبناء أساس فطري عقائدي متين يستند إليه .
ونستطيع تلمّس الحاجة إلى ذلك من خلال مناهج الدراسة في المدارس الأكاديمية ؛ ووسائل الإعلام المرئية على وجه التحديد التي تفتقر إلى ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ وما تخلفه من تأثيرات أساسية في التشكيل العقائدي للجيل الصاعد . ومن هذه النقطة ندرك مدى الحاجة للتمسّك الشديد بهذه الشعائر وتوجيه أجيال المستقبل نحوها .
4 ـ تربية النفوس وإعدادها لنصرة إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه) من خلال ترسيخ القيم والمبادئ السامية ؛ مثل التضحية ؛ والمواساة ؛ ونصرة الحق وغيرها ، والتحقير والتنفير للصفات المذمومة ؛ مثل الطمع ؛ والظلم ؛ وقسوة القلب وغيرها (2) .
5 ـ مخاطبة البشر كافة ، وبغض النظرعن الاختلاف والتباين الثقافي بينهم .
ومن المعلوم أنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ على سبيل المثال ـ تضم العديد من القوميات والأعراق والجنسيات التي هي بدورها تختلف من حيث الموروث الحضاري والثقافي ، ومخاطبتهم بالإعلام المكتوب لا تتيسر للجميع حتّى في عصر العولمة . أمّا الشعائر فإنها أشبه ما تكون في خطابها إلى اللوحة الفنية التي يستطيع الجميع أن يدرك مدى روعتها وجمال تعبيراتها وإن كان هذا الإدراك يختلف بالدرجة وفقاً للوعي الثقافي .
6 ـ خلق عامل وحدوي من خلال المشاركة الجماهيرية في المواساة لأهل البيت (عليهم السّلام) .
ولعل هذا العامل من أهم العوامل المستبطنة في أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) التي تحثّ على المواساة والحزن في مصابهم . فمن المعلوم في علم النفس أنّ الإنسان عندما يكون في حالة الحزن يصبح تأثره العاطفي سريعاً ؛ فيكون على سبيل المثال سريع الرضا والحب والانفعال ، وكذلك إنّ وجود شخص آخر يشاركه المصاب معه يؤدّي مع ما ذكرناه إلى زيادة الاُلفة والمحبة والتودد بين المشاركين في الشعائر الحسينيّة ؛ وتقوية أنفسهم على تحمّل أعباء الحياة ، وهذا ما يخلق جو الوحدة بين المشاركين ؛ الوحدة في المصاب ؛ والوحدة في الهدف ؛ والوحدة في التسابق لتحصيل الأجر والثواب في المواساة (3) .
ومن هنا كانت هذه الشعائر تمثّل أحد الأعمدة التي يقوم عليها المذهب جنباً إلى جنب مع المرجعيّة التي تمثّل الإدارة والعقل الموجّه ؛ في حين أنّ الشعائر تمثّل العنصر الجامع والموحّد بين أبناء المذهب على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم .
وعليه ندرك أن المحارب لهذه الشعائر لا يخلو من أحد أمرين : إمّا جاهل مغرور أو طامع معادي يهدف إلى تمزيق وحدة أبناء المذهب . قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : (( قصم ظهري رجلان ؛ جاهل متنسك ؛ وعالم متهتّك )) (4) .
ــــــــــــ
(1) سورة الشورى / 23 .
(2) عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال : (( يا علقمة ؛ واندبوا الحسين (عليه السّلام) وابكوه ؛ وليأمر أحدكم مَن في داره بالبكاء عليه ؛ وليقم عليه في داره المصيبة بإظهار الجزع والبكاء ؛ وتلاقوا يومئذ بالبكاء بعضكم إلى بعض في البيوت ؛ وحيث تلاقيتم ؛ وليعزِّ بعضكم بعضاً بمصاب الحسين (عليه السّلام) )) .
قلتُ : أصلحك الله ! كيف يعزَّي بعضنا بعضاً ؟
قال : (( تقولون : أحسن الله أجورنا بمصابنا بأبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ وجعلنا من الطالبين بثأره مع الإمام المهدي إلى الحقِّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين) . وإن استطاع أحدكم أن لا يمضي يومه في حاجة فافعلوا ؛ فإنه يوم نحس لا تُقضى فيه حاجة مؤمن ؛ وإن قُضيت لم يُبارك فيها ؛ ولم يُرشد . ولا يدّخرن أحدكم لمنزله في ذلك اليوم شيئاً ؛ فإنه مَن فعل ذلك لم يُبارك فيه )) .
قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( أنا ضامن لمَن فعل ذلك له عند الله (عزّ وجلّ) ما تقدم به الذكر من عظيم الثواب ؛ وحشره الله في جملة المستشهدين مع الحسين (عليه السّلام) )) . (مستدرك الوسائل 10 / 316 ـ 317) .
(3) عن ابن خارجة ؛ عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) ؛ قال : كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي (عليه السّلام) ؛ وعلى قاتله لعنة الله ؛ فبكى أبو عبد الله (عليه السّلام) وبكينا ؛ قال : ثم رفع رأسه فقال : (( قال الحسين بن علي (عليه السّلام) : أنا قتيل العبرة ؛ لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى )) . (مستدرك الوسائل 10 / 311) .
(4) شرح نهج البلاغة 20 / 284 .
====
أولاً: اللطم (اللدم).
وهو من أقدم الشعائر التي مارستها الشيعة لإظهار حالة التفجّع والحزن لمصيبة سيد الشهداء الحسين ؛ ومصائب الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) .
إذ يجتمع حشد من الموالين في مكان مقدس ؛ كالمسجد أو الحسينيّة أو بعض الأوقاف ؛ فيجرّدون نصف أبدانهم ويبدؤون بلدم الصدور ؛ ولطم الخدود ؛ وضرب الرؤوس بأساليب منسقة حزينة .
ولتنسيق الضربات التي ينهالون بها على صدورهم يصعد شاعر أو حافظ للشعر وينشد قصائد منظمة باُسلوب خاص تذكّر اللاطمين بمصائب أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ وتحافظ نبراتها على وحدة الضرب ؛ وهم يتجاوبون مع الراثي في ترديد بعض الأبيات الشعرية (1) ؛ والضرب باليد يكون على الجانب الأيسر من الصدر ؛ أي فوق منطقة القلب .
واللطم هو أحد أهم وسائل إظهار الجزع على المعصومين (عليهم السّلام) وأكثرها انتشاراً ؛ ولتوضيح ذلك يجب علينا أن نعرف أنّ من طبيعة الجسم البشري أنه عندما يتعرّض إلى الألم المعنوي ـ الظلم تحديداً ـ يفرز هرمونات تعمل على زيادة الطاقة لديه ؛ ليكون مستعداً للدفاع عن نفسه .
واللطم هو إحدى الوسائل للتنفيس عن هذه الطاقة والتي بدورها تشير إلى أن هناك ظلماً واقعاً وحقاً مسلوباً . وإنّ الذين يلطمون يشيرون من خلال اللطم إلى ذلك الظلم والحق .
وجُعل ليكون جزءاً مهماً من الشعائر الحسينيّة كونه يمثل مواساة للزهراء (عليها السّلام) ، كما أن فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبض بالحياة ـ القلب ـ ليرخص ويحزن لما جرى على آل محمد (عليهم السّلام) ، وأنّ مصدر الحياة هذا أضربه بنفسي دون خوف أو وجل ؛ دلالة على عظيم المصاب ؛ أي عظيم الحق المسلوب والظلم الواقع .
ومن الأدلة على ذلك ما يشير إليه علم الأدلة الجنائية ، أنّ المجني عليه إذا كان مضروباً في قلبه ؛ أو في منطقة قريبة عليه يُعرف أنّ الجاني كان ينوي قتل المجني عليه ، بخلاف ما لو كانت الإصابة في البطن أو الأطراف .
كما وأنّ التركيبة الجماعية في اللطم تشير إلى الوحدة والاشتراك في الإشارة إلى الحقِّ والمطالبة به . هذا هو الجانب الفلسفي لللطم بأبسط صورة ممكنة أستطيع أن اُقدّمها لك أخي القارئ .
ـــــ
(1) قاموس الشعائر الحسينيّة ـ لمؤلفه حيدر السلامي .
ثانياً: الزنجيل (ضرب السلاسل).
موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ ثمّ يجردون ظهورهم ـ بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض ـ ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة ؛ فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج ؛ بطور حربي عنيف ؛ وينطلقون من مركز تجمعهم ؛ ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه ؛ وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة ؛ أو يهتفون : (مظلوم .. حسين .. شهيد .. عطشان .. يا حسين) (1) .
والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم .
والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد ؛ ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين ؛ وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً . فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم ، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا ؛ ولا قيمة له ؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور .
كما أنه يبعث بالرسالة الآتية : أيها الظالمون ؛ إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد ، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم ؛ واضطهادكم لنا ؛ في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيت (عليهم السّلام) .
هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم .
ــــــ
(1) المصدر السابق نفسه .
====
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
http://im18.gulfup.com/ulyg3.jpg (http://www.gulfup.com/?j6v7ry)
:: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::
(إحسان الفضلي)
المراجعة والتدقيق : الأديب حيدر السلامي
====
الإهداء:
إلى إمامي وسيدي ومولاي صاحب العصر والزمان ؛ الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه ؛ وجعلنا من أنصاره) .
قالت اُمّ المصائب زينب (عليها السّلام) : فكد كيك ؛ واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فند ؛ وأيامك إلاّ عدد ؛ وجمعك إلاّ بدد ؛ يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ؛ ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
====
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اعتاد الباحث في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) أن يجد إشاراتهم ومعطياتهم في كافة مجالات الحياة ؛ سواء العلميّة منها أو غير العلميّة ، فلا بدّ أن يكون هناك توضيح لطالب العلم وللمتحير في كيفية النهج الواجب اتخاذه لبلوغ الحق والرسوّ في شاطئ اليقين .
ومن هنا يتسائل الباحث عمّا أوضحته لنا مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) في المنهج الإعلامي ؛ وكيف لنا أن نستقي المعرفة منها في هذا المجال ؟
والمتتبع لتاريخ أهل البيت (عليهم السّلام) يستطيع أن يجد الإشارات الإعلاميّة واضحة بيّنة . ولعل من أوضحها سلاح البكاء الذي استخدمته الزهراء (عليها السّلام) ليكون رسالة إعلاميّة واضحة وصريحة الدلالة على سلب الحقوق ؛ وصرخة مدويّة بوجه الظالمين .
وإنّ هذا السلاح هو نفسه الذي استخدمه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) (1) أمام الطغيان الاُموي ؛ فنحن نرى أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) العديدة في الحث على البكاء والتباكي ؛ وما هي في الحقيقة إلاّ دعوة صريحة لاستخدام هذا السلاح بوجه الطغاة والمتجبرين في كلِّ زمان ومكان .
والغريب أننا نرى اليوم بعض الدعوات والنداءات على ترك هذا السلاح الذي حثّ عليه أهل البيت (عليهم السّلام) في المناسبة تلو الاُخرى ، ونرى أصحاب هذه الدعوات أنفسهم يتقبّلون أساليب الإعلام الغربية بكل رحابة صدر ، في حين إنك ترى الغربيِّين يستخدمون للدلالة على الاحتجاج من وقوع ظلم معين الاعتصام مثلاً . وهو إن تأملت فيه تجده يقع في سياق البكاء للدلالة على الظلم , بل هما من قبيل وجهين لعملة واحدة تصب في مقام إيقاع الألم على النفس للدلالة على أنها تتعرض لألم أكبر هو الظلم .
وعندما يقع الاعتصام من أحد الأشخاص ترى الدنيا تقوم وتقعد ؛ لما يشير إليه الاعتصام من دلالة واضحة على سوء الإدارة المعنية ، وأنها مارست الظلم بحق الشخص المعتصم . وهذا ما نتلمسه كذلك من سلاح البكاء الذي هو من الاُمور الفطرية التي جعلها المولى (عزّ وجلّ) من طبيعة الجنس البشري ، وأنه عند تعرضه للألم يبكي .
والألم تارة يكون مادياً واُخرى يكون معنوياً ؛ فالإنسان عندما يتعرّض لفقد عزيز ؛ أو يُهضم حقه تراه يبكي بطبيعة الفطرة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه ، وهذا الألم المعنوي . وأمّا المادي فهو ما يتعرّض له من حوادث تؤدّي إلى تلف في جسمه ؛ من كسر أو جرح أو قرح وغيرها ، وبنفس الفطرة تراه يبكي عند التعرّض لمثل هذه الحوادث . ويتحول البكاء رمزاً ومتنفساً عندما يكون الألم ـ معنوياً كان أو مادياً ـ من الشدة بمكان .
وفي إطار تبيين فلسفة الشعائر الحسينيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الشعائر الحسينيّة هي رمز من رموز الاحتجاج الواضحة في وجه الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السّلام) ، ونرجو أن يكون لهذا العمل المتواضع ثقلاً في الميزان ، وأن يهدي إلى الحق .
كما وأرجو من جميع إخوتي في الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن العثرات والزلات ، وأن لا ينسونا من الدعاء بالتوفيق ؛ لكي نكون جميعاً من أنصار سيدة نساء العالمين ، المواسين لها في مصابها الجلل بما جرى عليها وعلى آل البيت (عليهم السّلام) (2) .
1 ـ قال الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاؤون خمسة : آدم ؛ ويعقوب ؛ ويوسف ؛ وفاطمة بنت محمد ؛ وعلي بن الحسين (عليهم السّلام) ؛ فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية ؛ وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره ؛ وحتّى قيل له : (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) .
وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهلُ السجن ؛ فقالوا له : إمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار ؛ وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل . فصالحهم على واحدة منهما ؛ وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى به أهل المدينة ؛ فقالوا لها : قد آذيتينا بكثرة بكائك . فكانت تخرج إلى المقابر ؛ مقابر الشهداء ؛ فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السّلام) عشرين سنة ؛ أو أربعين سنة ؛ ما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى ؛ حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله ! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة لي )) (بحار الأنوار43 / 155 ـ باب 7) .
2 ـ عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) اُحدّثه فدخل عليه ابنهُ ؛ فقال له : (( مرحباً )) . وضمّه وقبّله ؛ وقال : (( حقّر الله مَن حقّركم ؛ وانتقم الله ممّن وتركم ؛ وخذل الله مَن خذلكم ؛ ولعن الله مَن قتلكم ؛ وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ؛ فقد طال بكاء النساء ؛ وبكاء الأنبياء والصدّيقين ؛ والشهداء وملائكة السماء )) .
ثمَّ بكى ؛ وقال : (( يا أبا بصير ؛ إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السّلام) أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وآلهم . يا أبا بصير ؛ إنّ فاطمة (عليها السّلام) لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها ؛ وقد استعدّوا لذلك ؛ مخافة أن يخرج منها عنق ... إلى أن قال : فلا تزال الملائكة مشفقين ؛ يبكون لبكائها ؛ ويدعون الله ويتضرعون إليه ... )) .
إلى أن قال : قلتُ : جُعلت فداك ! إنّ هذا الأمر عظيم !
قال : (( غيره أعظم منه ما لم تسمعه )) .
ثم قال : (( يا أبا بصير ؛ أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة (عليها السّلام) ؟ )) .
فبكيت حين قالها ؛ فما قدرت على المنطق ؛ وما قدرت على كلامي من البكاء . (مستدرك الوسائل 10 / 314 ـ 315) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) لزرارة : (( وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ . وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه ؛ ووصل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ وأدّى حقّنا . وما من عبد يُحشر إلاّ وعيناه باكيةٌ إلاّ الباكين على جدي الحسين (عليه السّلام) ؛ تحت العرش ؛ وفي ظل العرش ؛ لا يخافون سوء يوم الحساب )) . (مستدرك الوسائل 10 / 314) .
====
فلسفة الشعائر الحسينيّة:
كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة ، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام ، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة ؛ ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة ؛ وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي ؛ وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير .
ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين :
الشق الأوّل :
حول الجانب الفقهي ؛ ومدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها . والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس ؛ وإبداء الآراء الشخصية فيه ، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور ، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة . وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد ؛ رحم الله الماضين منهم ؛ وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة ؛ ولنصرة هذا الدين .
والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا ؛ وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم ؛ لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر ؛ بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها ؛ والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً ؛ وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) .
كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة ، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به . أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار ؛ وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ ؛ وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها . كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة .
والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده ، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي . فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية : عمل العامي بلا تقليد باطل .
وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات .
ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر ؛ وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ومدى تفاعله الشخصي معها . وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها ؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم ؛ وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى .
ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة ؛ وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم) ؛ ففيهم الكفاية لمَن يطلب ذلك ؛ ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك .
أما الشقّ الثاني :
فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر ؛ وما هو الغرض منها ؛ وماذا تمثل هذه الشعائر ؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب ؛ محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها ؛ سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك .
ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج ؛ ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة ؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها .
اللطم (اللدم) ، الزنجيل ، التطبير.
وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً ؛ والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش . ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر ؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود . على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ) .
وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث ، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر ؛ مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم ؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها .
ثمرة ممارسة الشعائر الحسينيّة.
إنّ العلة الرئيسة التي لأجلها كانت الشعائر الحسينيّة هي الممارسة الإعلاميّة الواضحة والمشيرة إلى الحق المسلوب ، وأنّ جميع الغايات والأهداف الاُخرى تتفرع منها .
ويمكن إجمال تلك الأهداف بالنقاط التالية :
1 ـ نشر تاريخ وعلوم أهل البيت (عليهم السّلام) وبيان فضلهم . ولا يخفى عظيم الحاجة إلى ذلك ؛ لما تعرّض له هذا التاريخ من تشويه ودس , لا سيما في العصرين الاُموي والعباسي ، وما عملته وتعمله الأقلام المأجورة والضالة إلى يومنا .
2 ـ خلق الترابط العاطفي مع أهل بيت العصمة (عليهم السّلام) والذي هو نص صريح في القرآن الحكيم : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (1) .
3 ـ تربية وتوعية الجيل الجديد ، وبناء أساس فطري عقائدي متين يستند إليه .
ونستطيع تلمّس الحاجة إلى ذلك من خلال مناهج الدراسة في المدارس الأكاديمية ؛ ووسائل الإعلام المرئية على وجه التحديد التي تفتقر إلى ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ وما تخلفه من تأثيرات أساسية في التشكيل العقائدي للجيل الصاعد . ومن هذه النقطة ندرك مدى الحاجة للتمسّك الشديد بهذه الشعائر وتوجيه أجيال المستقبل نحوها .
4 ـ تربية النفوس وإعدادها لنصرة إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه) من خلال ترسيخ القيم والمبادئ السامية ؛ مثل التضحية ؛ والمواساة ؛ ونصرة الحق وغيرها ، والتحقير والتنفير للصفات المذمومة ؛ مثل الطمع ؛ والظلم ؛ وقسوة القلب وغيرها (2) .
5 ـ مخاطبة البشر كافة ، وبغض النظرعن الاختلاف والتباين الثقافي بينهم .
ومن المعلوم أنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ على سبيل المثال ـ تضم العديد من القوميات والأعراق والجنسيات التي هي بدورها تختلف من حيث الموروث الحضاري والثقافي ، ومخاطبتهم بالإعلام المكتوب لا تتيسر للجميع حتّى في عصر العولمة . أمّا الشعائر فإنها أشبه ما تكون في خطابها إلى اللوحة الفنية التي يستطيع الجميع أن يدرك مدى روعتها وجمال تعبيراتها وإن كان هذا الإدراك يختلف بالدرجة وفقاً للوعي الثقافي .
6 ـ خلق عامل وحدوي من خلال المشاركة الجماهيرية في المواساة لأهل البيت (عليهم السّلام) .
ولعل هذا العامل من أهم العوامل المستبطنة في أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) التي تحثّ على المواساة والحزن في مصابهم . فمن المعلوم في علم النفس أنّ الإنسان عندما يكون في حالة الحزن يصبح تأثره العاطفي سريعاً ؛ فيكون على سبيل المثال سريع الرضا والحب والانفعال ، وكذلك إنّ وجود شخص آخر يشاركه المصاب معه يؤدّي مع ما ذكرناه إلى زيادة الاُلفة والمحبة والتودد بين المشاركين في الشعائر الحسينيّة ؛ وتقوية أنفسهم على تحمّل أعباء الحياة ، وهذا ما يخلق جو الوحدة بين المشاركين ؛ الوحدة في المصاب ؛ والوحدة في الهدف ؛ والوحدة في التسابق لتحصيل الأجر والثواب في المواساة (3) .
ومن هنا كانت هذه الشعائر تمثّل أحد الأعمدة التي يقوم عليها المذهب جنباً إلى جنب مع المرجعيّة التي تمثّل الإدارة والعقل الموجّه ؛ في حين أنّ الشعائر تمثّل العنصر الجامع والموحّد بين أبناء المذهب على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم .
وعليه ندرك أن المحارب لهذه الشعائر لا يخلو من أحد أمرين : إمّا جاهل مغرور أو طامع معادي يهدف إلى تمزيق وحدة أبناء المذهب . قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : (( قصم ظهري رجلان ؛ جاهل متنسك ؛ وعالم متهتّك )) (4) .
ــــــــــــ
(1) سورة الشورى / 23 .
(2) عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال : (( يا علقمة ؛ واندبوا الحسين (عليه السّلام) وابكوه ؛ وليأمر أحدكم مَن في داره بالبكاء عليه ؛ وليقم عليه في داره المصيبة بإظهار الجزع والبكاء ؛ وتلاقوا يومئذ بالبكاء بعضكم إلى بعض في البيوت ؛ وحيث تلاقيتم ؛ وليعزِّ بعضكم بعضاً بمصاب الحسين (عليه السّلام) )) .
قلتُ : أصلحك الله ! كيف يعزَّي بعضنا بعضاً ؟
قال : (( تقولون : أحسن الله أجورنا بمصابنا بأبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ وجعلنا من الطالبين بثأره مع الإمام المهدي إلى الحقِّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين) . وإن استطاع أحدكم أن لا يمضي يومه في حاجة فافعلوا ؛ فإنه يوم نحس لا تُقضى فيه حاجة مؤمن ؛ وإن قُضيت لم يُبارك فيها ؛ ولم يُرشد . ولا يدّخرن أحدكم لمنزله في ذلك اليوم شيئاً ؛ فإنه مَن فعل ذلك لم يُبارك فيه )) .
قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( أنا ضامن لمَن فعل ذلك له عند الله (عزّ وجلّ) ما تقدم به الذكر من عظيم الثواب ؛ وحشره الله في جملة المستشهدين مع الحسين (عليه السّلام) )) . (مستدرك الوسائل 10 / 316 ـ 317) .
(3) عن ابن خارجة ؛ عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) ؛ قال : كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي (عليه السّلام) ؛ وعلى قاتله لعنة الله ؛ فبكى أبو عبد الله (عليه السّلام) وبكينا ؛ قال : ثم رفع رأسه فقال : (( قال الحسين بن علي (عليه السّلام) : أنا قتيل العبرة ؛ لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى )) . (مستدرك الوسائل 10 / 311) .
(4) شرح نهج البلاغة 20 / 284 .
====
أولاً: اللطم (اللدم).
وهو من أقدم الشعائر التي مارستها الشيعة لإظهار حالة التفجّع والحزن لمصيبة سيد الشهداء الحسين ؛ ومصائب الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) .
إذ يجتمع حشد من الموالين في مكان مقدس ؛ كالمسجد أو الحسينيّة أو بعض الأوقاف ؛ فيجرّدون نصف أبدانهم ويبدؤون بلدم الصدور ؛ ولطم الخدود ؛ وضرب الرؤوس بأساليب منسقة حزينة .
ولتنسيق الضربات التي ينهالون بها على صدورهم يصعد شاعر أو حافظ للشعر وينشد قصائد منظمة باُسلوب خاص تذكّر اللاطمين بمصائب أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ وتحافظ نبراتها على وحدة الضرب ؛ وهم يتجاوبون مع الراثي في ترديد بعض الأبيات الشعرية (1) ؛ والضرب باليد يكون على الجانب الأيسر من الصدر ؛ أي فوق منطقة القلب .
واللطم هو أحد أهم وسائل إظهار الجزع على المعصومين (عليهم السّلام) وأكثرها انتشاراً ؛ ولتوضيح ذلك يجب علينا أن نعرف أنّ من طبيعة الجسم البشري أنه عندما يتعرّض إلى الألم المعنوي ـ الظلم تحديداً ـ يفرز هرمونات تعمل على زيادة الطاقة لديه ؛ ليكون مستعداً للدفاع عن نفسه .
واللطم هو إحدى الوسائل للتنفيس عن هذه الطاقة والتي بدورها تشير إلى أن هناك ظلماً واقعاً وحقاً مسلوباً . وإنّ الذين يلطمون يشيرون من خلال اللطم إلى ذلك الظلم والحق .
وجُعل ليكون جزءاً مهماً من الشعائر الحسينيّة كونه يمثل مواساة للزهراء (عليها السّلام) ، كما أن فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبض بالحياة ـ القلب ـ ليرخص ويحزن لما جرى على آل محمد (عليهم السّلام) ، وأنّ مصدر الحياة هذا أضربه بنفسي دون خوف أو وجل ؛ دلالة على عظيم المصاب ؛ أي عظيم الحق المسلوب والظلم الواقع .
ومن الأدلة على ذلك ما يشير إليه علم الأدلة الجنائية ، أنّ المجني عليه إذا كان مضروباً في قلبه ؛ أو في منطقة قريبة عليه يُعرف أنّ الجاني كان ينوي قتل المجني عليه ، بخلاف ما لو كانت الإصابة في البطن أو الأطراف .
كما وأنّ التركيبة الجماعية في اللطم تشير إلى الوحدة والاشتراك في الإشارة إلى الحقِّ والمطالبة به . هذا هو الجانب الفلسفي لللطم بأبسط صورة ممكنة أستطيع أن اُقدّمها لك أخي القارئ .
ـــــ
(1) قاموس الشعائر الحسينيّة ـ لمؤلفه حيدر السلامي .
ثانياً: الزنجيل (ضرب السلاسل).
موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ ثمّ يجردون ظهورهم ـ بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض ـ ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة ؛ فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج ؛ بطور حربي عنيف ؛ وينطلقون من مركز تجمعهم ؛ ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه ؛ وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة ؛ أو يهتفون : (مظلوم .. حسين .. شهيد .. عطشان .. يا حسين) (1) .
والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم .
والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد ؛ ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين ؛ وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً . فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم ، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا ؛ ولا قيمة له ؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور .
كما أنه يبعث بالرسالة الآتية : أيها الظالمون ؛ إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد ، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم ؛ واضطهادكم لنا ؛ في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيت (عليهم السّلام) .
هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم .
ــــــ
(1) المصدر السابق نفسه .
====