مرتضى علي الحلي
11-07-2013, 06:55 PM
البُنيويَّةُ الإنشعابيَّة لمفهوم الإيمان
في نَظرِ الإمام علي :عليه السلام:
==================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ مفهوم الإيمان في حدوده وإنشعاباته الإرتكازية لا ينحصر عند الإدِّعاء قطعاً
بل يجب أن يُباشر بوجوده ليدخلَ القلبَ ويقرَّ فيه ثبوتاً وتصديقا .
لذا لايكفي في التعبير عن الإيمان بالقول فقط مالم يأخذ في سريانه النفوذَ والإذعانَ في القلب عند مُدعيه .
من هنا ردَّ اللهُ تعالى على الأعراب إدعائهم الإيمانَ والتلبس به مُصححاً مسارهم وإعتقادهم
كونهم لم يبلغوا رتبته واقعاً وإذعانا
قال اللهُ تعالى
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الحجرات14
-و سُئِلَ الإمام علي :عليه السلام :
عَنِ الإيِمَانِ،
فَقَالَ:
الإيِمَان عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ، والْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجِهَادِ.
وَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَربَعِ شُعَب: عَلَى الشَّوْقِ، وَالشَّفَقِ ، وَالزُّهْدِ، والتَّرَقُّبِ:
فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ;
وَمَنْ أشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ;
وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ;
وَمَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ.
وَالْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب:
عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ ، وَسُنَّةِ الأوَّلِينَ.
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ
وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ;
وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأوَّلِينَ.
والعدل مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ ; وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ ; وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ،
فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ;
وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ ;
وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاس حَمِيداً.
وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الأمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وَشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ:
فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْكَافِرِينَ;
وَمَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ
وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ للهِ، غَضِبَ اللهُ لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
:نهج البلاغة:ج4:ص7:
ولو لحظنا مفهوم الإيمان وإنشعاباته بحسب ما روي عن الإمام علي :عليه السلام:
لوجدناه قد هيمَنَ في كل الإنشعابات عن الدعائم الأربع الأوُل
(الصبر واليقين والعدل والجهاد)
على كافة مفاصل الحياة الإنسانية في ما يقدر عليه الإنسان المؤمن وتناله يده
لتنفتق عن كل دعامة أربعة شعب
رتقاً لأضداد كل شعبة شعبة .
مُترتبة ترتباً بنيوياً يرص بعضه بعضا
فأول ما يكون من النبى الدعائمية لمفهوم الإيمان هو الصبر
ذلك الإرتكاز المنيع والذي هو ذاته قد بُنيَّ على شعب أربع أساسية
قال الإمام علي :عليه السلام:
وَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَربَعِ شُعَب: عَلَى الشَّوْقِ، وَالشَّفَقِ ، وَالزُّهْدِ، والتَّرَقُّبِ:
فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ;
وَمَنْ أشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ;
وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ;
وَمَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ.
أي أنَّ كون الصبر هو واحد من دعائم أربع
هو الآخر قد بُني على أربع شعب
أولها:الشوق:
ويعني به ذلك الميل النفساني والقلبي الذي ينبغي تحققه في نفس المؤمن إلى عشق الجنة
ليستتبع ذلك عملا صالحاً وملكةً قارةً في نفس المؤمن تمنعه من مباشرة الشهوات مما حرّم الله تعالى
فالذي يُفكّر مُذعنا ومصدقاً بالجنة يلزم عليه أن يُطهر نفسه وسلوكه بتركه مايجب تركه شرعا وعقلا.
وثانيها:الشفق:
وهو الخوف من الله تعالى وحذره لما أعدّه من عذاب سيحل بفاعل المحرمات.
وإذا ما أنوجد الشفق والخوف في نفس المؤمن فيقيناً سيجتنب ماحرمه اللهُ تعالى تشريعا .
وثالثها:الزهد:
وهو مفهوم يُضاد الرغبة والحرص على الأشياء ويستبطن معنى الكفاف والقناعة والرضا بالقليل
والشكر على واقع الحال الذي يكون فيه .
ووجه كون الإنسان المؤمن زاهداً في هذه الدنيا لأنّه يقدر على الصبر ويتحمل مايقع عليه من مصائب وبلاآت
إذ أنه أدرك ماله في هذه الحياة الدنيا وما عليه
وعَرفَ التقلُّبَ في أحوالها سنةً ومنهجا
فما يُفاجئه من الأقدار يزهدُ فيه ويقبله مُحتسباً أجره على الله تعالى .
ورابعها:الترقُب:
وقد حدد الإمام علي :عليه السلام: موضوع الترقب وحصره في الموت ذلك الأمرُ الخطير
والذي ينتظر الإنسان وقوعا ومصيرا
وإذا ما أرتقبه الإنسان المؤمن وتنظّره وأستشرفه في وعيه ومُخيلته
فسيحدثُ في نفسه إرشاداً عقليا حسناً إلى عمل الخير مطلقا على مستوى ذاته ومجتمعه ودنياه وآخرته .
والموتُ في الواقع يُمثّل أنجع رادع للإنسان في مساراته وخيارته الحياتية
وإذا ما وضعه نصب عينيه وفي لب ذهنه سينصلح حاله ويرتدع ويعمل صالحا وخيرا .
ثمَّ يأتي الحديث عن الدعامة الثانية
وهي (اليقين)
والذي يُمثّل في مفهومه ومفاده بل وحتى أثره أعلى درجات العلم وتحققاته
ليزيح بأثره وإنعقاده الشك ويُحقق الإيقان
ونفس هذا المفهوم العملاق هو الآخر أيضا يرتكز على شعب ذاتية
وكما عبّرَ الإمام علي :عليه السلام: وقال:
وَالْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب:
عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ ، وَسُنَّةِ الأوَّلِينَ.
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ
وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ;
وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأوَّلِينَ.
وإن إنشعابات اليقين وتمثلاته قد ترابطتْ وتداخلتْ في معطياتها ببعضها البعض
أولها:تبصرة الفطنة:
وتعني التبيّن للأشياء حال التعاطي معها وفهمها فهماً سليما
بحيث تنزاح الغباوة والغموضية عنها
ليتحدد الفهم في محدده الصحيح عقلانيا وعرفيا
والتبصرة هنا قد أُخذَت في إطلاقها وتوسعها لتشمل كل ما أمكن أن يقع تحت مورد التبين والفهم .
وهذه التبصرة الفطنية قد إرتبطت بتأول الحكمة فناً وذوقا ومنهجا وسلوكا وصولاً إلى دقائق الحقيقة والوقوف عليها.
لذا قال الإمام علي:عليه السلام:
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ
ليكون الإنسان المؤمن بذلك مدققا ومتفقهاً في تلقي الحقائق والإيمان بها عن فطنة وعلم ومذاق حكيم .
وثانيها: تأول الحكمة:
وقد ذكرنا ترابطها بماقبلها وهي(تبصرة الفطنة) لتعطيا معاً نتاجاً واحداً مُثمرا.
وبعد معرفة فن الحكمة وتأولها والتدقيق فيها
يأتي معنى قوله:عليه السلام:
وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ;
ليكون الأمر الثالث وهومعرفة
أو
(موعظة العِبرَة)
نتاجاً آخراً لتأول وتبيُّن ومعرفة الحكمة ذاتها
ذلك لما للإعتبار من دخالة في صيانة سلوك الإنسان المؤمن ورفده بمزيد وعي وتجربة وعلماً
يضعه في حالٍ كأنما كان في الأولين كما ذكر الإمام :عليه السلام:
الذي حلَّ ما حلَّ بهم من سراء أوضرّاء رخاءٍ أوبلاء
كل ذلك ينتج الإعتبار والإتعاظ لامحالة
وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأوَّلِينَ.
وأما الدعامة الثالثة :العدل:
فهو مفهوم يشتمل على معنى الإستقامة والإعتدال ومجانبة الظلم والمساواة والإنصاف ووضع الشيء في موضعه الصحيح .
لذلك تعمّق الإمام علي:عليه السلام:
في مفهوم العدل وربطه بالإرتكاز الأساس على الفهم العميق والعلم الدقيق ونور الحكم ووضوحه وثبوت الحلم وقراره.
وقال:عليه السلام:
والعدل مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ ; وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ،
فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ
وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ
وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاس حَمِيداً.
ولولحظنا بدقة أسس العدلُ هذا لوجدناها جامعة مانعة
جامعة لثقافة الفهم العميق والعلم الدقيق والحكم المبين والحلم المكين
ومانعة لمايُضادها من عدم الفهم والجهل والظلم والغضب
وعلى ذلك تبتني كل أنظمة الحياة في مدارها الإجتماعي والعلمي والإقتصادي والسياسي
وغيرها.
إذ ما من مفصل من مفاصل الحياة الإنسانية إلاَّ وهو بحاجة إلى العدل مطلقا في جميع إنشعاباته
وذات مرة : سُئِلَ الإمام علي :ع:
أيهما أفضل العدل أو الجود؟
فقال:ع:العدل يضع الأمورَ مواضعها والجود يخرجها من جهتها.
العدلُ سائسٌ عام والجود عارضٌ خاص
فالعدلُ أشرفهما وأفضلهما :
:نهج البلاغة:ج4:ص102:
وقال:عليه السلام: أيضا
(وكفى بالعدل سائسا)
:غرر الحِكَم:ص242:
ومايُلفتْ الذهن والتأمل هنا هو الدقة والعمق والضبط في إعمال معايير الفهم والعلم والحكم والحلم
فكل مقولة إذا ما أُتقِنَتْ على وجهها الصحيح أعطتْ أثرا صالحا ونافعا
وأوجدتْ توزاناً في كل متعلقات التعايش البشري لتعطِ في النهاية مصداقاً تاماً عن مفهوم العدل وتطبيقه
وأما الدعامة الرابعة لمفهوم الإيمان هو
:الجهاد:
ذلك المفهوم الوسيع في مُنطبقاته والذي يعني بذل كل ما بالوسع والجهد لأجل تحصيل الممكن والمطلوب .
قال الإمام علي:ع: في إنشعاباته
وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الأمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وَشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ:
فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْكَافِرِينَ;
وَمَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ
وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ للهِ، غَضِبَ اللهُ لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فقدّم المصداق الأجلى للجهاد وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وهي مجاهدة الأعداء
ولعلّه :عليه السلام: قدّمَ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر على غيره
حتى يرشدنا إلى أس التغيير الذاتي في بنيوية النفس الإنسانية ومجالاتها وضرورته الأولية
والتغيير الغيري في صلب المجتمع وشؤوناته الأساسية
ثم يوجه:عليه السلام: بأنَّ تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف
فيه شدٌ وتقوية لنظام المؤمنين الرساليين
العاملين في هذه الحياة الدنيا على مستوى العقيدة أو التشريع أوكافة المناشط الأخرى.
وكذلك الحال في تفعيل مبدأ النهي عن المنكر ورفضه
ففيه كسرٌ لأطواق الإنحراف والكفر والزيع مطلقا.
وأما بغضٌ الفاسقين فهو يحقق رضا الله تعالى يوم القيامة
ذلك لأنَّ المؤمن لايُواد الفاسقين وأضرابهم
قال الله تعالى
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }المجادلة22
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
في نَظرِ الإمام علي :عليه السلام:
==================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ مفهوم الإيمان في حدوده وإنشعاباته الإرتكازية لا ينحصر عند الإدِّعاء قطعاً
بل يجب أن يُباشر بوجوده ليدخلَ القلبَ ويقرَّ فيه ثبوتاً وتصديقا .
لذا لايكفي في التعبير عن الإيمان بالقول فقط مالم يأخذ في سريانه النفوذَ والإذعانَ في القلب عند مُدعيه .
من هنا ردَّ اللهُ تعالى على الأعراب إدعائهم الإيمانَ والتلبس به مُصححاً مسارهم وإعتقادهم
كونهم لم يبلغوا رتبته واقعاً وإذعانا
قال اللهُ تعالى
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الحجرات14
-و سُئِلَ الإمام علي :عليه السلام :
عَنِ الإيِمَانِ،
فَقَالَ:
الإيِمَان عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ، والْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجِهَادِ.
وَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَربَعِ شُعَب: عَلَى الشَّوْقِ، وَالشَّفَقِ ، وَالزُّهْدِ، والتَّرَقُّبِ:
فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ;
وَمَنْ أشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ;
وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ;
وَمَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ.
وَالْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب:
عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ ، وَسُنَّةِ الأوَّلِينَ.
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ
وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ;
وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأوَّلِينَ.
والعدل مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ ; وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ ; وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ،
فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ;
وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ ;
وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاس حَمِيداً.
وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الأمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وَشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ:
فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْكَافِرِينَ;
وَمَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ
وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ للهِ، غَضِبَ اللهُ لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
:نهج البلاغة:ج4:ص7:
ولو لحظنا مفهوم الإيمان وإنشعاباته بحسب ما روي عن الإمام علي :عليه السلام:
لوجدناه قد هيمَنَ في كل الإنشعابات عن الدعائم الأربع الأوُل
(الصبر واليقين والعدل والجهاد)
على كافة مفاصل الحياة الإنسانية في ما يقدر عليه الإنسان المؤمن وتناله يده
لتنفتق عن كل دعامة أربعة شعب
رتقاً لأضداد كل شعبة شعبة .
مُترتبة ترتباً بنيوياً يرص بعضه بعضا
فأول ما يكون من النبى الدعائمية لمفهوم الإيمان هو الصبر
ذلك الإرتكاز المنيع والذي هو ذاته قد بُنيَّ على شعب أربع أساسية
قال الإمام علي :عليه السلام:
وَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَربَعِ شُعَب: عَلَى الشَّوْقِ، وَالشَّفَقِ ، وَالزُّهْدِ، والتَّرَقُّبِ:
فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ;
وَمَنْ أشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ;
وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ;
وَمَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ.
أي أنَّ كون الصبر هو واحد من دعائم أربع
هو الآخر قد بُني على أربع شعب
أولها:الشوق:
ويعني به ذلك الميل النفساني والقلبي الذي ينبغي تحققه في نفس المؤمن إلى عشق الجنة
ليستتبع ذلك عملا صالحاً وملكةً قارةً في نفس المؤمن تمنعه من مباشرة الشهوات مما حرّم الله تعالى
فالذي يُفكّر مُذعنا ومصدقاً بالجنة يلزم عليه أن يُطهر نفسه وسلوكه بتركه مايجب تركه شرعا وعقلا.
وثانيها:الشفق:
وهو الخوف من الله تعالى وحذره لما أعدّه من عذاب سيحل بفاعل المحرمات.
وإذا ما أنوجد الشفق والخوف في نفس المؤمن فيقيناً سيجتنب ماحرمه اللهُ تعالى تشريعا .
وثالثها:الزهد:
وهو مفهوم يُضاد الرغبة والحرص على الأشياء ويستبطن معنى الكفاف والقناعة والرضا بالقليل
والشكر على واقع الحال الذي يكون فيه .
ووجه كون الإنسان المؤمن زاهداً في هذه الدنيا لأنّه يقدر على الصبر ويتحمل مايقع عليه من مصائب وبلاآت
إذ أنه أدرك ماله في هذه الحياة الدنيا وما عليه
وعَرفَ التقلُّبَ في أحوالها سنةً ومنهجا
فما يُفاجئه من الأقدار يزهدُ فيه ويقبله مُحتسباً أجره على الله تعالى .
ورابعها:الترقُب:
وقد حدد الإمام علي :عليه السلام: موضوع الترقب وحصره في الموت ذلك الأمرُ الخطير
والذي ينتظر الإنسان وقوعا ومصيرا
وإذا ما أرتقبه الإنسان المؤمن وتنظّره وأستشرفه في وعيه ومُخيلته
فسيحدثُ في نفسه إرشاداً عقليا حسناً إلى عمل الخير مطلقا على مستوى ذاته ومجتمعه ودنياه وآخرته .
والموتُ في الواقع يُمثّل أنجع رادع للإنسان في مساراته وخيارته الحياتية
وإذا ما وضعه نصب عينيه وفي لب ذهنه سينصلح حاله ويرتدع ويعمل صالحا وخيرا .
ثمَّ يأتي الحديث عن الدعامة الثانية
وهي (اليقين)
والذي يُمثّل في مفهومه ومفاده بل وحتى أثره أعلى درجات العلم وتحققاته
ليزيح بأثره وإنعقاده الشك ويُحقق الإيقان
ونفس هذا المفهوم العملاق هو الآخر أيضا يرتكز على شعب ذاتية
وكما عبّرَ الإمام علي :عليه السلام: وقال:
وَالْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب:
عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ ، وَسُنَّةِ الأوَّلِينَ.
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ
وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ;
وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأوَّلِينَ.
وإن إنشعابات اليقين وتمثلاته قد ترابطتْ وتداخلتْ في معطياتها ببعضها البعض
أولها:تبصرة الفطنة:
وتعني التبيّن للأشياء حال التعاطي معها وفهمها فهماً سليما
بحيث تنزاح الغباوة والغموضية عنها
ليتحدد الفهم في محدده الصحيح عقلانيا وعرفيا
والتبصرة هنا قد أُخذَت في إطلاقها وتوسعها لتشمل كل ما أمكن أن يقع تحت مورد التبين والفهم .
وهذه التبصرة الفطنية قد إرتبطت بتأول الحكمة فناً وذوقا ومنهجا وسلوكا وصولاً إلى دقائق الحقيقة والوقوف عليها.
لذا قال الإمام علي:عليه السلام:
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ
ليكون الإنسان المؤمن بذلك مدققا ومتفقهاً في تلقي الحقائق والإيمان بها عن فطنة وعلم ومذاق حكيم .
وثانيها: تأول الحكمة:
وقد ذكرنا ترابطها بماقبلها وهي(تبصرة الفطنة) لتعطيا معاً نتاجاً واحداً مُثمرا.
وبعد معرفة فن الحكمة وتأولها والتدقيق فيها
يأتي معنى قوله:عليه السلام:
وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ;
ليكون الأمر الثالث وهومعرفة
أو
(موعظة العِبرَة)
نتاجاً آخراً لتأول وتبيُّن ومعرفة الحكمة ذاتها
ذلك لما للإعتبار من دخالة في صيانة سلوك الإنسان المؤمن ورفده بمزيد وعي وتجربة وعلماً
يضعه في حالٍ كأنما كان في الأولين كما ذكر الإمام :عليه السلام:
الذي حلَّ ما حلَّ بهم من سراء أوضرّاء رخاءٍ أوبلاء
كل ذلك ينتج الإعتبار والإتعاظ لامحالة
وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأوَّلِينَ.
وأما الدعامة الثالثة :العدل:
فهو مفهوم يشتمل على معنى الإستقامة والإعتدال ومجانبة الظلم والمساواة والإنصاف ووضع الشيء في موضعه الصحيح .
لذلك تعمّق الإمام علي:عليه السلام:
في مفهوم العدل وربطه بالإرتكاز الأساس على الفهم العميق والعلم الدقيق ونور الحكم ووضوحه وثبوت الحلم وقراره.
وقال:عليه السلام:
والعدل مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى غائِص الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ ; وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ،
فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ
وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ
وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاس حَمِيداً.
ولولحظنا بدقة أسس العدلُ هذا لوجدناها جامعة مانعة
جامعة لثقافة الفهم العميق والعلم الدقيق والحكم المبين والحلم المكين
ومانعة لمايُضادها من عدم الفهم والجهل والظلم والغضب
وعلى ذلك تبتني كل أنظمة الحياة في مدارها الإجتماعي والعلمي والإقتصادي والسياسي
وغيرها.
إذ ما من مفصل من مفاصل الحياة الإنسانية إلاَّ وهو بحاجة إلى العدل مطلقا في جميع إنشعاباته
وذات مرة : سُئِلَ الإمام علي :ع:
أيهما أفضل العدل أو الجود؟
فقال:ع:العدل يضع الأمورَ مواضعها والجود يخرجها من جهتها.
العدلُ سائسٌ عام والجود عارضٌ خاص
فالعدلُ أشرفهما وأفضلهما :
:نهج البلاغة:ج4:ص102:
وقال:عليه السلام: أيضا
(وكفى بالعدل سائسا)
:غرر الحِكَم:ص242:
ومايُلفتْ الذهن والتأمل هنا هو الدقة والعمق والضبط في إعمال معايير الفهم والعلم والحكم والحلم
فكل مقولة إذا ما أُتقِنَتْ على وجهها الصحيح أعطتْ أثرا صالحا ونافعا
وأوجدتْ توزاناً في كل متعلقات التعايش البشري لتعطِ في النهاية مصداقاً تاماً عن مفهوم العدل وتطبيقه
وأما الدعامة الرابعة لمفهوم الإيمان هو
:الجهاد:
ذلك المفهوم الوسيع في مُنطبقاته والذي يعني بذل كل ما بالوسع والجهد لأجل تحصيل الممكن والمطلوب .
قال الإمام علي:ع: في إنشعاباته
وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الأمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وَشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ:
فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْكَافِرِينَ;
وَمَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ
وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ للهِ، غَضِبَ اللهُ لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فقدّم المصداق الأجلى للجهاد وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وهي مجاهدة الأعداء
ولعلّه :عليه السلام: قدّمَ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر على غيره
حتى يرشدنا إلى أس التغيير الذاتي في بنيوية النفس الإنسانية ومجالاتها وضرورته الأولية
والتغيير الغيري في صلب المجتمع وشؤوناته الأساسية
ثم يوجه:عليه السلام: بأنَّ تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف
فيه شدٌ وتقوية لنظام المؤمنين الرساليين
العاملين في هذه الحياة الدنيا على مستوى العقيدة أو التشريع أوكافة المناشط الأخرى.
وكذلك الحال في تفعيل مبدأ النهي عن المنكر ورفضه
ففيه كسرٌ لأطواق الإنحراف والكفر والزيع مطلقا.
وأما بغضٌ الفاسقين فهو يحقق رضا الله تعالى يوم القيامة
ذلك لأنَّ المؤمن لايُواد الفاسقين وأضرابهم
قال الله تعالى
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }المجادلة22
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :