المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المرجعية الدينية في النجف الأشرف وموقفها من العملية السياسية الجارية في العراق


عبدالله الجزائري
12-07-2013, 03:21 PM
الاخوة الاعضاء الاعزاء ارفق لكم هذا البحث ارجوا قراءته بدقة للاستفادة منه لأهمية الموضوع والاطلاع على بعض الحقائق والمعطيات الغائبة على البعض واسالكم الدعاء

المرجعية الدينية في النجف الأشرف
وموقفها من العملية السياسية الجارية في العراق

حامد الخفاف*: مدير مكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله في لبنان.

لا يختلف كثيرون في أن الدور الذي لعبته المرجعية الدينية في النجف الأشرف بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق في العراق، رسم ملامح المرحلة الراهنة، واستطاع أن يتحكم بالمفاصل الرئيسية لها، ورسخ المرتكزات الأساسية للعملية السياسية الجارية على أسس سليمة، تمثلث في تعميق مبادئ السيادة والاستقلال، على قاعدة مشاركة الشعب العراقي في تقرير مصيره، والحفاظ على هويته الثقافية الإسلامية.

ويمكن تفصيل ذلك بالحديث عن ثلاثة محاور:

المحور الأول: الموقف من الاحتلال.

المحور الثاني: الانتخابات رؤية ومشروع بنيوي تأسيسي.

المحور الثالث: الموقف من قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية.

هذه المحاور الثلاثة يمكن أن تسلط الضوء على جزء رئيسي من حركة المرجعية الدينية خلال السنتين الماضيتين.

* المحور الأول: الموقف من الاحتلال:

ليس خافيًا على أحد ما تجرعه الشعب العراقي من غصص وآلام طيلة عقود من الزمن، وعانى من الظلم والقهر ما تشهد به المقابر الجماعية، والملايين المشردة من أبنائه في بقاع العالم، على يد نظام دكتاتوري أجمع العالم على عدوانيته وضلاله، وشاءت الظروف أن يسقط هذا النظام في ظروف لم يكن للشعب العراقي أي رأي فيها، وسقطت معه مقومات الدولة، وانهارت ركائزها، وتكشفت الساحة عن فراغ سياسي هائل، لأن القوى والفعاليات السياسية برمّتها كانت تعيش خارج العراق نتيجة لبطش النظام وإرهابه، وتوجّه الناس إلى المرجعية الدينية في النجف الأشرف، التي تماهت مع معاناتهم طيلة تلك السنين، وصمدت معهم تواجه الظلم والحرمان والفقر في زمن عز فيه الناصر، وقل فيه الصديق، ليس لهم إلا الله، وبقايا من تراث علَّمهم الصبر على المصائب والمحن، وكيفية العيش مع الظالمين ومواجهتهم.

ولم تتردد المرجعية في إبداء رأيها حول الشكل الذي سقط به النظام فهي ترى أنه «لم يكن المنشود تغيير النظام الاستبدادي عن طريق الغزو والاحتلال بما استتبع ذلك من مآسٍ كثيرة، ومنها انهيار مقومات الدولة العراقية، وانعدام الأمن والاستقرار، وتفاقم الجرائم، وتلف الكثير من الممتلكات العامة حرقًا ونهبًا وتدميرًا وغير ذلك »(1).

وبناءً على ذلك، فإن أول تصريح أصدرته المرجعية بعد انهيار النظام، ودخول قوات الاحتلال إلى العراق، هو أن «العراق للعراقيين، وأن على أفضل أبناء العراق أن يتصدوا لإدارة البلاد، وليس عليهم أن يفعلوا ذلك تحت أية سلطة أجنبية »(2)، وذكّرت بأن « تاريخ علماء الشيعة من مطلع القرن الماضي كان الخروج مع أولادهم للقتال ضد الاحتلال البريطاني على رغم أنهم كانوا ذاقوا الأمرّين من الاحتلال العثماني»(3).

إن هذه الصرخة، وفي الأيام الأولى لسقوط النظام البائد، نبّهت العراقيين إلى أهمية مبدأ السيادة والاستقلال، فقد «رفضت المرجعية العليا وجود القوات الأجنبية على الأرض العراقية»(4) وهي «تشعر بقلق بالغ تجاه أهدافهم»(5)، وترتفع حساسية المرجعية تجاه هذا الموضوع إلى درجة أنها «ترفض التدخل الأجنبي لحكم العراق ولو للحظة واحدة»(6).

يقول السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع الديني السيستاني دام ظله:

«لقد جاءني عراقيون يسألون إذا جاءنا جندي أميركي أو غيره، طالبًا شراء حاجة له، هل يجوز ذلك شرعًا؟

قلنا له: بناءً على رأي السيد السيستاني: بِعْه ما يريد، ولكن وأنت تسلمه ما اشتراه قل له بلطف: متى ترحل عن أرضنا؟ لقد أردنا من هذا السؤال البسيط أن يشعر هذا الجندي أن وجوده هنا فوق أرضنا غير مرغوب فيه»(7).

لقد رأت المرجعية بنظرها الثاقب أن البديل عن حالة الاحتلال، هو أن تلعب الأمم المتحدة دورًا رئيسيًا في العراق، وبذلت في هذا الإطار جهودًا حثيثة، ولم تتوانَ عن التصريح برغبتها تلك، فقد سُئلت عن رأيها بخصوص القوات التي تعمل في العراق لحِفْظ الأمن والاستقرار كالبلغار والبولنديين؟

أجابت: «إذا كان هناك حاجة اليهم فليكن عملهم بإشراف الامم المتحدة لا قوات الاحتلال»(8).

كما أن المرجعية أَملت في رسالة التعزية التي وجهتها إلى السيد [كوفي أنان] الأمين العام للأمم المتحدة بمناسبة وفاة ممثله الخاص في العراق السيد سيرجيو دي ميلو، أَملت «أن لا يعيق هذا الحادث المؤسف جهود المنظمة الدولية في مساعدة الشعب العراقي في هذا الظرف العصيب، بل نأمل أن تتولى دورًا مركزيًا في إقامة الأمن والاستقرار في العراق خلال المرحلة الانتقالية، وتقوم بالإشراف على الخطوات اللازمة لتمكين العراقيين من أن يحكموا بلدهم بأنفسهم وتعود إليهم السيادة عليه...» (9).

إن الدعوة لدور أساسي ومركزي للأمم المتحدة في العراق كبديل عن حالة الاحتلال، رافقه دعوات مكثفة لبناء المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتمكينها من أن تأخذ بزمام المبادرة لحفظ الأمن، وبناء على ذلك فقد أكّدت المرجعية على «دعم الشرطة العراقية، بالعناصر الكفوءة والمعدات اللازمة لتأخذ دورها الطبيعي في حماية المجتمع من بروز أيّ ظاهرة مخلّة بالأمن...» (10)، وفي سياق رفضها لتشكيل أيّة ميلشيات، رأت المرجعية أنّه يلزم: «تعزيز القوات الوطنية العراقية، المكلّفة بتوفير الأمن والاستقرار ودعمها بالعناصر الكفوءة والمعدّات الضرورية»(11).

إن هذه النصوص وغيرها تشير إلى وجود منهج متكامل لدى المرجعية الدينية للتعامل مع الاحتلال، يقوم على أساس إشاعة ثقافة الممانعة الشعبية، والدعوة للمقاومة السلمية، حتى الحصول على السيادة الكاملة، وهي تعتقد أن الأمم المتحدة كمنظمة دولية ليست ذات أهداف خاصة في العراق، ويمكن بتفعيل دورها، وبناء مؤسسات العراق الإدارية والأمنية الوصول إلى إنهاء حالة الاحتلال، ويعتبر مشروع الانتخابات أهم المرتكزات التي يقوم عليها هذا المنهج، باعتباره الآلية الأفضل والأنسب لمشاركة الشعب العراقي في أخذ زمام المبادرة، وفرض رؤاه في كل ما يجري.

يتبع=
______________
الهوامش:
* مدير مكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله في لبنان.
(1) الجواب على السؤال الأول من أسئلة وردت لسماحة السيد السيستاني دام ظله من مجلة دير شبيغل الإلمانية.
(2) جريدة الحياة العدد 14634، 18/4/2003 مقابلة مع السيد محمد رضا السيستاني نجل السيد علي السيستاني دام ظله.
(3) المصدر نفسه.
(4) الجواب على السؤال التاسع من أسئلة وجهتها جريدة الواشنطن بوست لسماحة السيد السيستاني دام ظله.
(5) الجواب على السؤال التاسع من أسئلة وجهتها جريدة الواشنطن بوست لسماحة السيد السيستاني دام ظله.
(6) جريدة المستقبل 28/5/2003، مقابلة مع السيد محمد رضا السيستاني.
(7) نفس المصدر.
(8) الجواب على السؤال الرابع الذي وجهته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، 27شعبان 1424 هـ
(9) من رسالة التعزية التي أرسلها مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله في النجف الأشرف للأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي أنان بمناسبة وفاة ممثله الشخصي في العراق السيد سيرجيو دي ميلو، 22 جمادى الآخرة 1424هـ
(10) ضمن الجواب على السؤال الأول من أسئلة وجهتها وكالة أنباء اسوشيتد برس الأمريكية في بغداد، 21 شعبان 1424 .
(11) الجواب على السؤال الثاني من أسئلة وجهتها شبكة فوكس نيوز لسماحة السيد دام ظله، 27 شعبان 1424 .

عبدالله الجزائري
12-07-2013, 03:32 PM
المحور الثاني: الانتخابات رؤية ومشروع بنيوي وتأسيسي


في أواخر شهر حزيران 2003 أي بعد حوالى الشهرين من سقوط النظام البائد، قرّرت الإدارة الأمريكية تشكيل مجلس معين لكتابة دستور العراق، فتوجه جمع من المؤمنين باستفتاء لسماحة السيد السيستاني دام ظله، بما نصه:

« السؤال:

أعلنت سلطات الاحتلال في العراق أنها قرّرت تشكيل مجلس لكتابة الدستور العراقي القادم، وأنها ستعين أعضاء هذا المجلس بالمشاورة مع الجهات السياسية والاجتماعية في البلد، ثم تطرح الدستور الذي يقرّه المجلس للتصويت عليه في استفتاء شعبي عام.

نرجو التفضل ببيان الموقف الشرعي من هذا المشروع وما يجب على المؤمنين أن يقوموا به في قضية إعداد الدستور العراقي.

الجواب:

إن تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور، كما لا ضمان أن يضع هذا المجلس دستورًا يطابق المصالح العليا للشعب العراقي ويعبّر عن هويته الوطنية التي من ركائزها الأساس الدين الإسلامي الحنيف والقيم الاجتماعية النبيلة، فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولا بد أولاً من إجراء انتخابات عامة لكي يختار كل عراقي مؤهل للانتخاب من يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجري التصويت العام على الدستور الذي يقرّه هذا المجلس، وعلى المؤمنين كافة المطالبة بتحقيق هذا الأمر المهم والمساهمة في إنجازه على أحسن وجه، أخذ الله تبارك وتعالى بأيدي الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح.

علي الحسيني السيستاني 25/ربيع2/1424»(12)

لقد أثارت هذه الفتوى جدلاً واسعًا في الأوساط العراقية، ويمكننا القول أنها طرحت أول نقاش فكري حضاري واسع النطاق بعد سقوط النظام شهدته جامعات العراق ومنتدياته الثقافية والسياسية والإعلامية، ففي الوقت الذي رفضت الإدارة المدنية الأمريكية في العراق مشروع الانتخابات، وأصرّت على السير في مشروعها الرامي إلى تعيين أعضاء المجلس الدستوري، كانت فتوى المرجعية الدينية قد تحولت إلى مشروع نهضوي يحلم به العراقيون، ويرونه الخطوة الأولى لإنهاء حالة الاحتلال، ورغم الضغوط التي مورست على المرجعية لتغيير رأيها فهي لم تكن « ترى بديلاً عن إجراء انتخابات عامة لاختيار أعضاء المؤتمر الدستوري»(13)، وطُرحت بدائل عقيمة، ولكن المرجعية أجابت أنه: «في وضع العراق الحالي لا توجد أية جهة يمكنها أن تقوم باختيار أعضاء مجلس كتابة الدستور بصورة مقبولة من الجميع بحيث يتمثل في المجلس المشكل جميع شرائح المجتمع العراقي تمثيلاً عادلاً، بل إن من المؤكد أن المصالح الشخصية والفئوية والعرقية والحسابات الحزبية والطائفية ستتدخل بصورة أو بأخرى في عملية الاختيار، ويكون المجلس المشكل فاقدًا للشرعية، ولا يجدي عندئذ إجراء الاستفتاء على ما يضعه من الدستور بـ(نعم) أو (لا)، فلا بديل عن إجراء انتخابات عامة لاختيار أعضاء المؤتمر الدستوري»(14).

وخلال فترة أربعة أشهر تلت الفتوى، بلغ الجدال داخل أروقة مجلس الحكم أوجّه، ولم يكن يتوقع الحاكم المدني للعراق (بول بريمر) أن المسألة سوف تصل إلى ما وصلت إليه، فاضطر مرغمًا لتغيير استراتيجيته، وسافر إلى واشنطن ومعه السيد جلال الطالباني رئيس مجلس الحكم الدوري آنذاك، ليعودا باتفاق جديد يؤطّر العملية السياسية، عرف باتفاق 15/11/2003، في محاولة لتخفيف الضغط المرجعي واحتوائه، وهذا الاتفاق يحتوي على خطة جديدة تقوم على أساس التراجع عن تعيين أعضاء المجلس الدستوري، وطرح آلية جديدة معقدة نوعًا ما تعرف بآلية [الكوكس] أو [التجمعات الانتخابية]، كحالة وسط بين التعيين وبين الانتخابات الحرة العامة، وأناطت لمجلس الحكم الانتقالي مهمة كتابة قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية.

ولكن المرجعية الدينية عارضت هذه الخطة وأصرت على آلية الانتخابات وقالت في اعتراضها:

«إن الآلية الواردة فيها لانتخاب أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي لا تضمن تشكيل مجلس يمثل الشعب العراقي تمثيلاً حقيقيًا، فلا بد من استبدالها بآلية أخرى تضمن ذلك وهي الانتخابات، ليكون المجلس منبثقًا عن إرادة العراقيين ويمثلّهم بصورة عادلة، ويكون بمنأى عن أيّ طعن في شرعيته، ولعلّ بالإمكان إجراء الانتخابات اعتمادًا على البطاقة التموينية مع بعض الضمائم الأخرى»(15).

إن الصراحة والوضوح الذي تعاطت به المرجعية مع هذه الأحداث الخطيرة، لم تدع مجالاً للشك والتأويل في مواقفها، فتعبير (لا بد من استبدالها بآلية أخرى...)، ألهب حماس الجماهير العراقية التي واجهت الرفض الأمريكي لآراء المرجعية، بالنزول إلى الشارع، وفوجئ الجميع بتظاهرة النصف مليون التي قادها السيد علي عبد الحكيم الصافي وكيل سماحة السيد السيستاني دام ظله في مدينة البصرة، وهي تطالب بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتهدد قوات الاحتلال في حال رفضها الرضوخ لمطالب المرجعية، وسرت العدوى إلى كل محافظات العراق، وبدا المارد الشعبي المتمسك بمرجعيته يقض مضاجع أصحاب القرار، ويجبرهم على إعادة النظر في إصرارهم اللامنطقي في مواجهة الشعب العراقي وخياره في إجراء الانتخابات.

إن الجدل الذي كان يدور في تلك الفترة هو هل يمكن إجراء انتخابات قبل موعد 30/6/2004، الذي حدد في اتفاق 15/11/2003، كموعد لنقل السيادة للعراقيين، أو لا يمكن ذلك؟

واقترحت المرجعية الدينية أن يأتي فريق من خبراء الأمم المتحدة لبحث المسألة وإبداء الرأي فيها، وفيما يلي نص السؤال الموجه والجواب الذي يحتوي على رأي المرجعية الدينية بالموضوع:

«السؤال:

ما هي رؤية سماحة السيد بشأن إجراء الانتخابات لتشكيل المجلس الوطني الذي يفترض أن تنبثق منه الحكومة العراقية الجديدة ذات السيادة، وإذا لم يمكن إجراء الانتخابات فما هي الآلية البديلة الأكثر عدالة في نظر السيد السيستاني؟

الجواب:

إن تقارير الخبراء العراقيين المقدمة إلى سماحة السيد_ دام ظله_ تؤكد إمكان إجراء الانتخابات بدرجة مقبولة من المصداقية والشفافية خلال الأشهر المتبقية إلى التاريخ المقرر لنقل السيادة إلى ممثلي الشعب العراقي، ولكن هناك في مجلس الحكم وسلطة الاحتلال من يدعي عدم إمكان ذلك، ومن هنا كان اقتراح مجيء فريق من خبراء الأمم المتحدة إلى العراق للتحقق من هذا الأمر ودراسة الموضوع من كافة جوانبه، وقد قدّم مجلس الحكم طلبًا بذلك إلى السيد [كوفي عنان] الأمين العام للأمم المتحدة.

وإذا جاء فريق الخبراء وتوصلوا بعد العمل مع نظرائهم العراقيين إلى عدم إمكان إجراء الانتخابات فعليهم التعاون معهم في إيجاد آلية أخرى تكون الأصدق تعبيرًا عن إرادة الشعب العراقي، وأما الآلية المذكورة في اتفاق مجلس الحكم وسلطة الاحتلال فلا تضمن أبدًا تمثيل العراقيين بصورة عادلة في المجلس الوطني الموقت»(16).

إن مشروع السيد السيستاني دام ظله الرامي إلى عودة الأمم المتحدة للعراق بعد مغادرتها التي أعقبت قتل ممثل الأمين العام في بغداد سيرجيو دي ميلو، كانت تواجه برفض شديد من قبل الحاكم المدني (بول بريمر)، خصوصًا وان الأخير كان يطبق سياسة الانفراد الأمريكي بالعملية السياسية الجارية في العراق، وجرت نقاشات ساخنة في أروقة مجلس الحكم بين بريمر من جهة وبين أعضاء في مجلس الحكم كانوا يتبنون وجهة نظر المرجعية الدينية، ومحاضر جلسات مجلس الحكم تشهد بشدة الصراع الذي رافقه هدير المظاهرات الشعبية في أغلب محافظات العراق.

وللحقيقة والتاريخ أقول: إن المرجعية الدينية وجماهيرها المليونية ونزولها إلى الشارع هي التي هزمت المشروع الأمريكي وأجبرته على الموافقة لدعوة الأمم المتحدة للمجيء ثانية إلى العراق.

نعم لقد وافقت الإدارة الأمريكية أخيرًا بالاستعانة بالأمم المتحدة، والرضوخ لمطالب المرجعية الدينية، وجاء السيد الأخضر الإبراهيمي، على رأس وفد تقني، لدراسة الموضوع، وكانت المرجعية قد هيأت فريقًا من الخبراء في شؤون الإحصاء والانتخابات ليتدارس مع الفريق القادم حيثيات الأمور.

بعد عدّة أشهر قضاها الفريق الدولي في دراسة المسألة صدر تقرير من البعثة الدولية لتقصي الحقائق في العراق، وهو يقول بإمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة في فترة أقصاها 30/1/2005، وبعد صدور التقرير المذكور، أصدرت المرجعية الدينية بيانًا من مكتبها في النجف الأشرف بينت رأيها فيه، بما نصه:

«نشر يوم أمس في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك التقرير الذي أعدّه فريق المنظمة الدولية لتقصّي الحقائق، الذي زار العراق مؤخرًا، وقد لوحظ اشتمال التقرير على العديد من النقاط التي توافق رؤى المرجعية الدينية التي تم بيانها سابقًا».

فقد أكّد التقرير على أن [إنشاء حكومة مكتملة الأهلية] يتوقف على إجراء [انتخابات وطنية مباشرة]، وأن [فكرة نظام المجمعات] التي بني عليها اتفاق 15/ تشرين الثاني [ليست عملية] و[لا تتمتع بدعم كافٍ من العراقيين] و[ليست بديلاً عن الانتخابات].

كما أوضح التقرير انه [بغضّ النظر عن الآلية التي ستقرر لتشكيل الحكومة الانتقالية في 30 حزيران، فلا بد من فهم أن هذه الحكومة ستكون لمدة قصيرة، ويتعين أن تحلّ محلّها في أسرع وقت ممكن حكومة منتخبة ديمقراطيًا ومكتملة الأهلية]، وفي الوقت الذي قرّر الفريق الدولي أنه [لا يمكن إجراء انتخابات موثوقة بحلول 30 حزيران] أكدّ على إمكانية إجرائها بعد بضعة أشهر من ذلك التاريخ بحلول نهاية عام 2004 أو بعد ذلك بقليل إذا تمّ [الشروع فورًا بالأعمال التحضيرية لها]، وبهذا الصدد أوصى الفريق [بالعمل فورًا على إنشاء هيئة انتخابية عراقية مستقلة بدون مزيد من الإبطاء] للقيام بهذه المهمة.

وقد أشار التقرير إلى العديد من العيوب الخطيرة في اتفاق 15/ تشرين الثاني، ومنها ابتناؤه على [قيام مجلس الحكم بصياغة القانون الأساسي على أساس تشاور وثيق مع سلطة التحالف] وتضمّنه [تفاصيل محددة تنصّ على أحكام رئيسية في القانون الأساسي تُلزم مشرّعي المستقبل] وما نصّ عليه من أن [ما يتفق عليه مجلس الحكم وسلطة التحالف لا يمكن أن يعدّل لاحقًا]، وأيضًا ابتناؤه على إقرار [ترتيبات أمنية غير محددة تلزم الحكومة التي ستقام في المستقبل باتفاقيات غير معروفة بعد بين سلطة التحالف ومجلس الحكم] وغير ذلك من [مسائل لم تناقش ولم يتفق عليها لا على مستوى الشعب العراقي ولا على مستوى ممثليه المنتخبين].

وعلى الرغم من استبعاد الفريق الدولي فكرة نقل السيادة إلى حكومة منتخبة بصورة مباشرة، إلا أن ما قررّه من إمكانية إجراء الانتخابات في نهاية عام 2004 يحظى بأهمية بالغة، ولا سيما مع اقتراح [إجرائها لاختيار جمعية وحيدة تناط بها مهمتان هما وضع دستور البلد والعمل في الوقت نفسه بوصفها الهيئة التشريعية] إلى حين إقرار الدستور الدائم، مما يعني ذلك كله تقليص المدة التي ستتولى فيها حكومة غير منتخبة زمام الأمور في البلد إلى بضعة اشهر فقط، خلافًا لما ورد في اتفاق 15/ تشرين الثاني من استمرارها في العمل إلى نهاية عام 2005.

وأن المرجعية الدينية تطالب بضمانات واضحة -كقرار من مجلس الأمن الدولي- بإجراء انتخابات وفق ذلك التاريخ، ليطمئن الشعب العراقي بأن الأمر لا يخضع مرة أخرى لمزيد من التسويف والمماطلة لذرائع مشابهة للتي تطرح اليوم.

كما تطالب المرجعية بان تكون (الهيئة غير المنتخبة) التي تسلّم لها السلطة في الثلاثين من حزيران [إدارة مؤقتة ذات صلاحيات واضحة ومحدودة تهيئ البلد لانتخابات نزيهة وحرة، وتدير شؤونه خلال الفترة الانتقالية] من دون تمكينها من اتخاذ قرارات مهمة تلزم الحكومة المنبثقة من مجلس منتخب.

وأما فيما يتعلق بالآلية التي سيتقرر اعتمادها في عملية نقل السلطة فإن هناك قلقًا متزايدًا من أن لا يتيسّر للأطراف المعنيّة التوصّل في المدة المتبقية إلى آلية [تتمتع بتأييد الشعب العراقي على أوضح نطاق] كما طالبت بذلك الأمم المتحدة، وأن تجد هذه الأطراف نفسها في مطبّ المحاصصات العرقية والطائفية والسياسية، التي سعت المرجعية في تجاوزها بالدعوة إلى الاعتماد على آلية الانتخابات العامة.

نسأل الله العليّ القدير أن يوفق الجميع لما فيه خير الشعب العراقي العزيز ورفعته واستقراره، انه سميع مجيب»(17).

لم تكن موافقة المرجعية الدينية على محتويات تقرير فريق الأمم المتحدة لقناعتها بما جاء فيه من تأجيل الانتخابات، ولكنها أرادت أن تتجاوب إيجابيًا مع رغبة الأمم المتحدة وفريق من شركائنا في الوطن في التأجيل، وكي لا يبدو مطلب المرجعية الدينية مطلبًا طائفيًا، وهي التي تعتقد أنه مطلب كافة العراقيين على تنوع أعراقهم ومذاهبهم.

والمفارقة أن رغبة هذا الفريق الذي أشرت إليه في تأجيل الانتخابات آنذاك تطابقت مع رغبة مجلس الحكم والإدارة الأمريكية في التأجيل!! ولم ننظر حينها إلى الموضوع إلا من زاوية أنها وجهة نظر، يمكن أن تتطابق مع وجهة نظر مماثلة في فترات محددة لا أكثر ولا أقل.

ولكن هذا الفريق نفسه -وبعد أقل من سنة- اتهم من يطالب بإجراء الانتخابات أنه سائر في المشروع الأمريكي!! بحجة أن وجهة نظره تتطابق مع وجهة نظر الإدارة الأمريكية!!

ومرت الأيام، والعراقيون ينتظرون بفارغ الصبر يوم الانتخابات، وفوجئوا قبل الموعد الشهير بشهرين تقريبًا بازدياد الحملات الداعية لتأجيل الانتخابات مرة أخرى، في ظل تدهور أمني لم يشهد العراق له مثيلاً، وأخذت هذه الدعوات -وللأسف- بعدًا طائفيًا، وبدأت الضغوط الشديدة على المرجعية تطالبها بالموافقة على تأجيل الانتخابات لمدة ستة أشهر، بحجة التدهور الأمني، ومقاطعة بعض شرائح المجتمع العراقي للانتخابات، وكان موقف المرجعية غاية في الحكمة والرصانة، ففي الوقت الذي لم تصدر فيه أي تعليق عما يدور، قناعة منها بأن صدور أي شيء في هذه المرحلة يعمق حالة الشرخ الحاصلة في الاجتماع السياسي العراقي في وقت نحن بأمس الحاجة إلى الوحدة والتكاتف وتهدئة الأجواء، كانت المرجعية توجه سؤالين لمن يطرح عليها فكرة التأجيل:

السؤال الأول: هل هناك من يضمن تحسن الوضع الأمني بعد ستة أشهر؟!

السؤال الثاني: هل هناك من يضمن مشاركة الأخوة الذين يقاطعون الآن بعد ستة أشهر؟!

وفي الحقيقة لم تحصل المرجعية الدينية على إجابة مقنعة للسؤالين، فكانت تقول: إذن لماذا التأجيل؟ لقد وافقنا على التأجيل قبل ثمانية أشهر بناء على معطيات علمية لفريق الأمم المتحدة مع عدم قناعتنا، وانتظر الشعب العراقي كل هذه الفترة، فلماذا نؤجل الآن؟! علمًا أن المرجعية ليست هي من حدد موعد الانتخابات، ولا هي من وضع قانون الانتخابات، كل ذلك كان من قبل الأمم المتحدة، ومجلس الحكم الذي تمثلت فيه كافة شرائح المجتمع العراقي، فلماذا تقرّرون شيئًا وتطالبون المرجعية بالتراجع عنه؟!

وبرغم التشكيك والتهويل والتهديد، ثبتت صوابية رؤية المرجعية، فقد اندفع الشعب العراقي -أمام مرأى العالم بأسره- إلى صناديق الاقتراع، متحديًا الموت، إيمانًا منه بأن الانتخابات هي الخطوة الأولى الصحيحة لبناء مؤسسات الدولة القادرة والقوية.

إن مشروع الانتخابات الذي قادته المرجعية الدينية وجاهدت مع جماهيرها المؤمنة من أجل تحقيقه، رغم الرفض الأمريكي له ابتداءً بكل ما أوتي من قوة، يستبطن في مطاويه استيلاد قيادات عراقية تحظى بثقة الشعب، لتمارس دورها في كتابة دستور للعراق يحفظ هويته الإسلامية وقيمه النبيلة، ولتبني المؤسسات على أساس من احترام القانون، وصولاً إلى الدعوة لخروج كافة القوات الأجنبية من العراق بعد تشكيل مؤسسات أمنية قادرة على ضبط الوضع الداخلي.

إن الانتخابات في مشروع المرجعية هي الخطوة الأولى للتحرير، وهو مشروع بنيوي، بمعنى انه مشروع تأسيسي لفكرة الدولة المستقلة المرتكزة على شعبها وقراره في الحرية والاستقلال.


يتبع =
ـــــــــــــــ
(12) أرشيف خاص.
(13) جواب على السؤال الأول من صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، 27 شعبان 1424 .
(14) الجواب على السؤال الثاني من وكالة أنباء اسوشيتد برس الأمريكية في بغداد، 21 شعبان 1424هـ.
(15) في جواب على سؤال موجه من جريدة واشنطن بوست، بتاريخ 3 شوال 1424 هـ، أرشيف خاص.
(16) أسئلة موجهة من شبكة CNN الأمريكية – مكتب بغداد، بتاريخ 5/1/2004، ارشيف خاص.
(17) بيان صادر من مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله في النجف الأشرف بتاريخ 5 محرم الحرام 1425 هـ.

عبدالله الجزائري
12-07-2013, 03:41 PM
المحور الثالث: الموقف من قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية:

إن [قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية] هو بمثابة دستور مؤقت للعراق، وقد أناط اتفاق 15/11/2003، مهمة إعداده لمجلس الحكم الانتقالي بالاتفاق مع مجلس الحكم، وقد عارضت المرجعية هذا الأمر بوضوح، وقالت في تحفظها على هذه الخطة:

«إنها تبتني على إعداد قانون الدولة العراقية للفترة الانتقالية من قبل مجلس الحكم بالاتفاق مع سلطة الاحتلال، وهذا لا يضفي عليه صفة الشرعية، بل لا بد لهذا الغرض من عرضه على ممثلي الشعب العراقي لإقراره...»(18).

كما أجابت المرجعية على استفتاء لجمع من المؤمنين يتساءلون عن الموقف من قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية، فقالت:

«لقد سبق لسماحة السيد مدّ ظله أن أوضح في تحفظه على اتفاق 15/ تشرين الثاني إن أي قانون يعدّ للفترة الانتقالية لن يكتسب الشرعية إلاّ بعد المصادقة عليه في الجمعية الوطنية المنتخبة، ويضاف إلى ذلك أن هذا (القانون) يضع العوائق أمام الوصول إلى دستور دائم للبلد يحفظ وحدته وحقوق أبنائه من جميع الأعراق والطوائف»(19).

لقد تأسست هذه التحفظات على قاعدة أن للشعب العراقي عبر ممثليه المنتخبين فقط الحق في كتابة دستوره، ولا يمكن أن يكتسب هذا النص شرعية دون الرجوع إلى الشعب،إضافة إلى هواجس كثيرة لدى المرجعية من أن يتحول هذا الدستور المؤقت إلى دائم بحكم الأمر الواقع، ولدينا من التجارب القريبة والبعيدة ما يشير إلى ذلك.

ولكي لا تبدو المرجعية وكأنها تعرقل سير العملية السياسية في وقت تمر به البلاد في مخاض عسير آثرت الصمت والاكتفاء بالمراقبة، لعل نصّ القانون يبدد الهواجس ويرفع التحفظات، ولكنها بعد إطّلاعها على مضمون نصّ هذا القانون، رأت فيه ثغرات كبيرة عمّقت هواجسها وزادت تحفّظاتها، وقد وضحت المرجعية إشكالاتها على قانون إدارة الدولة، وذلك في رسالة وجهت من مكتب سماحة السيد السيستاني للسيد الأخضر الإبراهيمي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، جوابًا على رسالة منه لسماحة السيد يستوضح فيها موقف المرجعية الدينية من الدور القادم للأمم المتحدة في العراق، وقد جاء في الرسالة:

1- إن المرجعية الدينية التي بذلت جهودًا مضنية في سبيل عودة الأمم المتحدة إلى العراق وإشرافها على العملية السياسية وإجراء الانتخابات العامة، كانت تتوقع أن يترك لممثلي الشعب العراقي في الجمعية الوطنية المنتخبة حرية إدارة البلد في المرحلة الانتقالية وكتابة الدستور الدائم والاستفتاء عليه وفق الآلية التي يقررها المندوبون أنفسهم.

ولكن بعد إقرار ما يسمى بـ( قانون الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية) ستكون الجمعية الوطنية القادمة مكبّلة بقيود كثيرة لا تسمح لها باتخاذ ما تراه مطابقًا لمصلحة الشعب العراقي، حيث أملى عليها مجلس غير منتخب هو مجلس الحكم الانتقالي وبالتنسيق مع سلطة الاحتلال قانونًا (غريبًا) لإدارة الدولة في المرحلة الانتقالية، كما أملى عليها -وهو الأخطر- مبادئ وأحكامًا وآليات معينة فيما يخصّ كتابة الدستور الدائم وإجراء الاستفتاء عليه.

إن هذا (القانون) الذي لا يتمتع بتأييد معظم الشعب العراقي -كما تؤكّد ذلك استطلاعات الرأي العام وملايين التوقيعات التي جمعت خلال الأيام القليلة الماضية في رفضه أو المطالبة بتعديله- يصادر حقّ ممثلي الشعب العراقي المنتخبين بصورة لا نظير لها في العالم، وبذلك تفقد الانتخابات التي طالما طالبت بها المرجعية الدينية الكثير من معناها وتصبح قليلة الجدوى.

إن هذا (القانون) الذي يعهد بمنصب الرئاسة في العراق إلى مجلس يتشكّل من ثلاثة أشخاص -سيكون أحدهم من الكرد والثاني من السنة العرب والثالث من الشيعة العرب- يكرس الطائفية والعرقية في النظام السياسي المستقبلي للبلد ويعيق اتخاذ أي قرار في مجلس الرئاسة إلا بحصول حالة التوافق بين الأعضاء الثلاثة وهي ما لا تتيسر عادة من دون وجود قوة أجنبية ضاغطة -كما وجدنا مثل ذلك في حالات مماثلة- وإلا يصل الأمر إلى طريق مسدود ويدخل البلد في وضع غير مستقر وربما يؤدي إلى التجزئة والتقسيم لا سمح الله تعالى.

2- إن المرجعية الدينية التي سبق لها أن طالبت بصدور قرار من مجلس الأمن الدولي يحدد موعد الانتخابات العامة تخشى أن تعمل سلطة الاحتلال على إدراج هذا ( القانون)في القرار الجديد في مجلس الأمن ليكتسب صفة الشرعية الدولية ويلزم به الشعب العراقي رغمًا عليه.

إننا نحذّر من أيّ خطوة من هذا القبيل لن تكون مقبولة من عامة العراقيين وستكون له نتائج خطيرة في المستقبل ونرجو إبلاغ أعضاء مجلس الأمن بهذا الأمر.

3- في ضوء ما تقدّم وبالرغم مما يتمتع به شخصكم من احترام وتقدير لدى سماحة السيد إلا أنه لا يرغب أن يكون طرفًا في أية لقاءات واستشارات تجريها البعثة الدولية في مهمتها القادمة في العراق ما لم يصدر من الأمم المتحدة موقف واضح بأن هذا (القانون) لا يلزم الجمعية الوطنية المنتخبة بشيء، ولن يذكر في أي قرار جديد لمجلس الأمن الدولي بشأن العراق)(20)، انتهت الرسالة.

كما أن من الأمور المثيرة للقلق في القانون المذكور هو الفقرة ج من المادة 61 التي تقول:

«يكون الاستفتاء العام ناجحًا، ومسودة الدستور مصادقًا عليها، عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق، وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر»(21).

وهذا يعني أن لأقلية محدودة بغض النظر عن نسبتها العددية حقّ إيقاف العمل بالدستور، وحلّ الجمعية الوطنية ليعاد انتخابها مرّة؟! لقد كان البعض يشكو من دكتاتورية الأغلبية، فوقعنا في دكتاتورية الأقلية!! إن هذا البند العجيب ثُبّت في الدستور المؤقت بناءً على إصرار الأخوة الأكراد ظنًا منهم أنه سيكون الضامن لحقوقهم في الفيدرالية وغيرها، وفي حال تجاوز هذه الحقوق فإن بإمكانهم تجميع أصوات ثلثي سكان ثلاث محافظات لترفض الدستور في الاستفتاء العام.

في حين رأت فيه المرجعية الدينية بندًا لا منطقيًا، سوف يجعل العملية السياسية تدور في فلك الفراغ الدستوري، لأن كل طائفة مذهبية أو عرقية (الأكراد، الشيعة، السنة) تستطيع إيقاف العمل بالدستور، وحلّ الجمعية الوطنية ليعاد انتخابها ثانية، وهذه المسألة تستلزم الدور.

ولم تكن معارضة المرجعية الدينية لهذه الفقرة معارضة لحقوق الشعب الكردي، التي نتفهمها بشكل كامل، فهم شركاؤنا في مسيرة العذاب والألم طيلة عقود من الزمن، ولكن اعتراضها على لا قانونية هذا البند، فضلاً عن أنه لا يحق لهيئة غير منتخبة كمجلس الحكم أن تفرض قيودًا مسبقة على جمعية منتخبة كالجمعية الوطنية القادمة، وهذا ما يجمع عليه أهل القانون.

هذا الموضوع أثار جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية العراقية والعالمية، وبلغ ذروته عندما حاول الأخوة الأكراد إدراج فقرة تشير إلى قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية في القرار الدولي 1546 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بالشأن العراقي، خصوصًا وأن وزير خارجية العراق هو الأستاذ هوشيار زيباري، وطرح الموضوع بقوة في أروقة الأمم المتحدة، رغم تحذيرات المرجعية الدينية الواردة في رسالتها للأخضر الإبراهيمي من ضرورة عدم إدراج أي فقرة تشير إلى هذا القانون في القرار الجديد.

رافق ذلك توجيه السيدين جلال الطالباني ومسعود البارزاني رسالة مباشرة إلى جورج بوش يؤكدان على أهمية إدراج هذه الفقرة.

وفي خضم هذه الظروف ولحساسية المسألة وجهت المرجعية الدينية رسالة شهيرة إلى رئيس مجلس الأمن الدولي، تحذره من مخاطر إدراج هذه الفقرة، وهذا نص الرسالة:

«السيد رئيس مجلس الأمن الدولي المحترم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: بلغنا أن هناك من يسعى إلى ذكر ما يسمّى بـ(قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية) في القرار الجديد لمجلس الأمن الدولي حول العراق بغرض إضفاء الشرعية الدولية عليه.

إن هذا (القانون) الذي وضعه مجلس غير منتخب وفي ظل الاحتلال وبتأثير مباشر منه يقيّد الجمعية الوطنية المقرّر انتخابها في بداية العام الميلادي القادم لغرض وضع الدستور الدائم للعراق.

وهذا أمر مخالف للقوانين ويرفضه معظم أبناء الشعب العراقي، ولذلك فان أيّ محاولة لإضفاء الشرعية على هذا (القانون) من خلال ذكره في القرار الدولي يعدّ عملاً مضادًا لإرادة الشعب العراقي وينذر بنتائج خطيرة.

يرجى إبلاغ موقف المرجعية الدينية بهذا الشأن إلى السادة أعضاء مجلس الأمن المحترمين، وشكرًا »(22).

إن معارضة المرجعية لإدراج فقرة تشير إلى هذا القانون، انطلقت من فهمها لمسألة (الشرعية) التي لا يمكن أن يكتسبها قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية إلا بطريقين، وهما:

الأول: الشرعية الانتخابية، وهو فاقد لها، باعتبار انه كتب من قبل هيئة غير منتخبة، وهي مجلس الحكم الانتقالي، وبتأثير من سلطة الاحتلال.

الثاني: الشرعية الدولية، بمعنى أن يتضمن أي قرار دولي إشارة له، وبذلك يكتسب الشرعية الدولية الممنوحة من قبل مجلس الأمن الدولي، وهنا تدخلت المرجعية لإيقاف إعطاء هذه الشرعية.

وبعد نقاشات حادة استجاب مجلس الأمن الدولي لطلب المرجعية الدينية ولم يذكر قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية في القرار الدولي الذي صدر عنه.

ورغم امتعاض الاخوة الأكراد، وشعورهم بأن المرجعية الدينية وقفت حائلاً أمام تحقيق أهدافهم وطموحاتهم، فإن الزمن سوف يثبت صوابية رؤية المرجعية، وأنها لا تستهدف حقوق الشعب الكردي الذي تحرص عليها حرصها على حقوق كافة العراقيين، فالمرجعية حالة أبويّة، ولا تفرّق بين أحد من أبنائها، وسيرون أن هذه الفقرة المثيرة للجدل التي أصرّوا عليها، سيكونون أول ضحاياها!! ماذا لو قاطعت ثلاث محافظات سنيّة نتيجة الضغط الإرهابي عليها وأسقطت الدستور بالاستفتاء العام، ماذا سيفعل الاخوة الأكراد حينها؟ وما هو مصير العملية السياسية؟ وكيف تشكل الدولة؟ كل هذا يؤكد أن إشكال المرجعية كان إشكالاً قانونيًا، وليس إشكالاً موجّهًا ضد طائفة أو عرق معين.

خاتمة:

إن حديثنا آنف الذكر كان يهدف إلى تأكيد استراتيجية رؤى المرجعية الدينية في النجف الأشرف حول مسائل غاية في الأهمية، وهي تبتني على منطلقات وأسس، ولم تأتِ وليدة ساعتها -كما يتصور البعض- ففي موضوعة الاحتلال ارتأت المرجعية أن المقاومة السلمية هي السبيل العملي والممكن لإنهائه، وعلى ذلك طرحت مشروع الانتخابات الذي يهدف إلى انتزاع السيادة من يد المحتلين وإعادتها للعراقيين، الذين لهم الحق -وحدهم- في تقرير مصيرهم، وكتابة دستورهم، وقد كتب بعض من نحترم فيما سبق [أن الانتخابات هو خيال سياسي]، واستطاعت المرجعية بإصرارها وعزيمتها ورؤيتها المنطقية والاستراتيجية أن تحوّل الخيال إلى حقيقة.

العراقيّون -فقط- هم من يعطي الشرعية لكل ما يخصهم، ومن هنا عارضت المرجعية قانون إدارة الدولة العراقيّة للفترة الانتقالية، عارضته في النجف الأشرف وأسقطت عنه الشرعية الشعبية، ولاحقته في مجلس الأمن الدولي لتسقط عنه الشرعية الدولية، ونجحت في ذلك.

لا أذكر ذلك لأرفع وتيرة التحدي، ولكنني أريد أن أقول: إن ما تقوله المرجعية الدينية ليس آراءً تنظّم للأرشيف، وإنما رؤى عملية تدخل في سياق مشروعها الرامي لتأسيس عراق جديد، حرّ مستقل، يقوم على أساس احترام القانون والمؤسسات، يتساوى فيه جميع العراقيين، فكلهم مواطنون من الدرجة الأولى، وتفاضلهم على بعضهم يستند على أساس الكفاءة والإخلاص للوطن.

هذه المحاور الثلاثة التي تحدثنا عنها لا تختزل حركة المرجعية الدينية، وتبقى محاور لا تقل أهمية، كالموقف من الوحدة الإسلامية، والاجتماع السياسي الداخلي، والعلاقة بين الدين والدولة، وغيرها، نأمل أن نوفق في الحديث عنها.

والحمد لله رب العــالميـــن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) في جواب على سؤال موجه من جريدة واشنطن بوست لسماحة السيد السيستاني دام ظله بتاريخ 3 شوال 1424 هـ، أرشيف خاص.
(19) استفتاء صادر بتاريخ 16 محرم 1425هـ، أرشيف خاص.
(20) صدرت الرسالة عن مكتب سماحة السيد السيستاني في النجف الأشرف بتاريخ 19/3/2004 المصادف يوم الجمعة 27 محرم 1425هـ، أرشيف خاص.
(21) قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية، المادة 61، الفقرة ج.
(22) صدرت الرسالة بتاريخ 6/6/2004، المصادف 17/4/1425 هـ، من مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله في النجف الأشرف.

حسين ال دخيل
13-07-2013, 02:33 PM
الاخ العزيز
موضوع في غاية الاهميه
جزيت خيرا بارك الله فيك

عبدالله الجزائري
13-07-2013, 04:55 PM
الاخ العزيز
موضوع في غاية الاهميه
جزيت خيرا بارك الله فيك

ايها الاخ الاعز اشكر مداخلتك واهتمامك وتقديرك للموضوع

نعم هو في غاية الاهمية ان يفهم الناس دور وثقل المرجعية وسياستها المستنده والمستمدة من سياسات اهل البيت ومن تبعهم باحسان واذعان من علماءنا الربانيين الماضين منهم والباقين الذين هم امناء الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وبعد غياب الحجة المنتظر الذي قال (ان هؤلاء حجتي عليكم وانا حجة الله عليهم والراد عليهم كالراد علي ).

ولو يعلم الناس ما خفي من الطاف ربانية وتسديد الهي ودعم الامام المهدي الذي لم يتركنا على البيضاء ليلها كنهارها بل شمسا خلف السحاب نستضيء بشعاعها ونستفاد من ضوءها وان سترها سحاب الظلم والجور والعدوان

واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

صفاء العامري
13-07-2013, 09:36 PM
احسنت بارك الله بيك