لبيك داعي الله
24-10-2007, 11:08 PM
السؤال:
ما مدى صحة نسبة العبوس إلى النبي الأقدس [صلى الله عليه وآله]، الذي يتبناه ذلك البعض، ويستشهد له برأي صاحب الأمثل في تفسيره؟!
الجواب:
قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} سورة عبس الآية 1 / 10.
أولاً: إنه إذا دل الدليل القاطع على عصمة الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله] في كل شيء، ثم جاء في الآيات ما ربما يظهر منه في بادىء الرأي خلاف ذلك، فلا بد من اتهام أنفسنا في فهم معناه. ومحاولة اكتشاف منشأ الإشتباه، فإن لم يمكنا ذلك، فعلينا أن نرد علمه إلى أهله. ولا يجوز لنا نقض ذلك الدليل القطعي على العصمة، لمجرد شبهة ناشئة عن قصورنا في فهم النص.
ثانياً: إن من وسائل دفع الشبهة في فهم النص الرجوع إلى الأئمة الطاهرين [سلام الله عليهم]، الذين هم أهل بيت النبوة, ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، وعليهم وفي بيوتهم نزل القرآن، وهم الذين خوطبوا به، وهم الكتاب الناطق، والإمام المبين.. {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} سورة يس الآية 12.
وقد ورد عنهم [صلوات الله وسلامه عليهم] ما يدفع الشبهة في مورد السؤال، وبينوا [عليهم السلام] أن الآيات قد نزلت في رجل من بني أمية، وبعض الروايات قد صرحت باسمه أيضاً(1).
وروى الطبرسي عن الإمام الصادق [عليه السلام]: أن النبي [صلى الله عليه وآله] كان إذا رأى ابن أم مكتوم، قـال: مـرحباً، مـرحباً: لا والله، لا يعاتبني الله فيك أبداً.
حيث يظهر من هذا النص الشريف: أنه [صلى الله عليه وآله] كان يريد بقوله هذا التعريض بمن صدر منه في حق ابن أم مكتوم ما أوجب نزول العتاب الإلهي له فيه.. فكأنه [صلى الله عليه وآله] يقول لابن أم مكتوم: إني لا أعاملك كما عاملك فلان.
ثالثاً: إن الروايات التي تحدثت عن أن النبي [صلى الله عليه وآله] هو الذي عبس في وجه ابن أم مكتوم إنما رواها غير الشيعة, وقد طرحها الرازي، معللاً ذلك بأنها أخبار آحاد، وبأنها تخالف القواعد العقلية(2).
وقد ناقشنا تلك الروايات، وبيَّنا تناقضاتها، وبعض وجوه الخلل فيها في كتابنا: «الصحيح من سيرة النبي الأعظم [صلى الله عليه وآله] ج2 ص155ـ 165».
رابعاً: إن الآيات الشريفة في سورة عبس نفسها ليس فيها ما يدل على أن العابس هو شخص رسول الله [صلى الله عليه وآله].. فلماذا الإصرار على توجيه التهمة إليه بما يوجب الإنتقاص من شأنه [صلى الله عليه وآله] ؟.
بل إن التأمل في تلك الآيات المباركة يعطي: أن اتهام رسول الله [صلى الله عليه وآله] بهذا الأمر محض تجنٍّ عليه [صلى الله عليه وآله].. فلاحظ ما يلي:
ألف: إن الآيات التي نتحدث عنها هي التالية:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى..} سورة عبس الآيات 1 / 10.
فقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} ليس خطاباً لرسول الله [صلى الله عليه وآله]، بل هو التفات من الغيبة إلى الخطاب مع العابس نفسه، فهو مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حيث كان يتحدث عنه تعالى بضمير الغائب ثم التفت موجهاً الخطاب إليه تعالى فقال: {إِيَّاكَ}..
والأمر هنا من هذا القبيل، فإنه بعد أن أعلن باللوم للعابس، وتحدث عنه كأنه غير موجود، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى} عاد فالتفت إليه، وقال له: لماذا تريد طرده؟ أتركه يجلس، فلعله يزّكى بما يسمعه من رسول الله [صلى الله عليه وآله]. {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}.
ثم شرع الله سبحانه في بيان حال ذلك العابس، فذكر: أن من عاداته أن يهتم بالأغنياء، ويتصدى لهم، ويحاول جلب انتباههم إليه. ولكنه لا يهتم بتزكية أولئك الأغنياء، بل هو يتصدى لهم، ويهتم بهم لأجل غناهم فقط.
فقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى} يريد به أن بقاء ذلك الغني على صفة الإنحراف والبعد عن الله، ليس بالأمر المهم عند ذلك العابس، لأنه إنما يهتم بماله، ولا يهتم بأن يخرجه من الضلال إلى الهدى. فضلال الغني لا يرتب على ذلك العابس أية مسؤولية، ولا يحركه لأي عمل لإخراجه منها.
وهذا بالذات هو ما ذكرته الآيات الكريمة التي تقول: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى}..
ثم ذكرت الآيات أن ذلك الشخص لا يهتم لغير الغني، ولا يدير له بالاً، بل هو يتلهى عنه.. بل إنه حتى لو أقبل ذلك الفقير عليه بكل جوارحه، وجاء يسعى إليه، فإنه لا يهتم به، ولا يلتفت إليه، رغم أن ذلك الفقير مؤمن بالله، ويخشاه، ويلتزم حدوده: وليس مثل أولئك الأغنياء الذين لا يزكُّون أنفسهم، ولا يخافون الله.. {وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}..
ب ـ إنه قد ظهر مما تقدم: أن في الآيات إشعاراً بأن ذلك الذي ذكرناه هو من عادة ذلك العابس، أي أن من عادته التصدي للأغنياء، والتلهي عن الفقراء..
ومن الواضح: أن ذلك لم يكن من عادة رسول الله [صلى الله عليه وآله] أبداً..
ج ـ إن الله سبحانه لم يقل لنبيه لقد عبست وتوليت، بل تحدث عن العابس بصيغة الغائب؛ فلماذا الإصرار إذن على اتهام النبي [صلى الله عليه وآله] بهذا الأمر؟!
د ـ إن قوله تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى} لا يناسب رسـول الله [صلى الله عليه وآله]، بأي معنى فسره المفسرون.. أي سواء فُسِّر على النحو الذي ذكرناه آنفاً، أو فُسِّر بما هو معروف ومشهور في كتب التفسير..
هـ ـ لقد جاء التعبير في الآيات الكريمة بكلمة {تَلَهَّى} واللهو مذموم في القرآن الكريم في مختلف المواضع، ومعناه في هذا المورد بالذات أولى بالذم، إذ أن معناه هو: أن النبي [صلى الله عليه وآله] كان يتطلب اللهو ويسعى إليه.. مع أن الروايات التي تدّعي نزول الآيات في رسول الله لا تعترف بهذا الأمر، بل هي تتحاشاه، كما أن الذين أخذوا بها، وزعموا أن الآيات تدل على ذلك لـم يجرؤوا على الاعتراف بهذه الحقيقة، بل زعموا أن عبوسه إنما كان لأجل انشغاله بما هو ـ بنظره ـ أهم.
مع أن الله سبحانه يقول: إن هذا العابس كان يتلهّى عن ذلك الفقير.. أي يبحث عن اللهو والعبث، ولم يكن النبي [صلى الله عليه وآله] ليفعل ذلك، ونسبة ذلك إليه [صلى الله عليه وآله] إساءة ظاهرة، ومرفوضة من الجميع.
و ـ ويكذِب كلامهم أيضاً، أن الله تعالى يلوم ذلك العابس، ويذمه، فلو كان عبوس النبي [صلى الله عليه وآله] لأجل أنه كان يرجو إسلام ذلك الغني؛ ليتقوى به الدين كما يدّعون لم يكن معنى لهذا اللوم والتأنيب، بل كان اللازم هو المدح والإطراء.
وليلاحظ أيضاً: أن ثمة إمعاناً في إظهار المقت لما جرى، وذلك من خلال التعبير بكلمة عبس، التي لم ترد في القرآن إلا وصفاً في مقام الذم والإدانة، والمقت والإهانة، قال تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}..
خامساً: لقد نزل قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة الشعراء الآية 215. قبل نزول سورة عبس بسنتين، فكيف خالف النبي [صلى الله عليه وآله] هذا الأمر الصريح. كما يزعم هؤلاء الناس؟!
وأخيراً، نعود فنقول: لنفترض: أن ما ذكرناه ليس هو الأظهر والأقوى في معنى الآيات.
فإننا نقول: إنه ولا شك احتمال قوي يسقط به ما ذكروه عن صلاحية الإعتماد عليه.
بل إن ما ذكروه يسقط بسبب قيام الأدلة القاطعة الدالة على عصمة النبي [صلى الله عليه وآله] عن صدور ما يوجب اللوم والإدانة، وذلك يمنع حتى من توهم كون المقصود بالآيات هو النبي المعصوم [صلى الله عليه وآله].. وبعد سقوط ذاك بذلك، يصبح هذا المعنى الذي ذكرناه هو المتعين في معنى الآيات الكريمة..
بل إننا حتى لو لم نستطع أن نقدم في معنى الآيات، ولو احتمالاً واحداً، فإن عقولنا القاصرة تبقى هي المتهمة بلا ريب. ويبقى رسول الله [صلى الله عليه وآله] هو الأطهر والأزكى والأصفى. لأن الأدلة القاطعة قد دلت على ذلك..
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
--
(1) راجع: تفسير القمي ج2 ص405 والبرهان [تفسير] ج4 ص427 و428 ونور الثقلين [تفسير] ج5 ص508 و509 ومجمع البيان ج10 ص437.
(2) راجع كتاب عصمة الأنبياء للرازي
************************************************** ******************
تحياتي لكم جميعا .......................... لبيك داعي الله .
ما مدى صحة نسبة العبوس إلى النبي الأقدس [صلى الله عليه وآله]، الذي يتبناه ذلك البعض، ويستشهد له برأي صاحب الأمثل في تفسيره؟!
الجواب:
قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} سورة عبس الآية 1 / 10.
أولاً: إنه إذا دل الدليل القاطع على عصمة الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله] في كل شيء، ثم جاء في الآيات ما ربما يظهر منه في بادىء الرأي خلاف ذلك، فلا بد من اتهام أنفسنا في فهم معناه. ومحاولة اكتشاف منشأ الإشتباه، فإن لم يمكنا ذلك، فعلينا أن نرد علمه إلى أهله. ولا يجوز لنا نقض ذلك الدليل القطعي على العصمة، لمجرد شبهة ناشئة عن قصورنا في فهم النص.
ثانياً: إن من وسائل دفع الشبهة في فهم النص الرجوع إلى الأئمة الطاهرين [سلام الله عليهم]، الذين هم أهل بيت النبوة, ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، وعليهم وفي بيوتهم نزل القرآن، وهم الذين خوطبوا به، وهم الكتاب الناطق، والإمام المبين.. {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} سورة يس الآية 12.
وقد ورد عنهم [صلوات الله وسلامه عليهم] ما يدفع الشبهة في مورد السؤال، وبينوا [عليهم السلام] أن الآيات قد نزلت في رجل من بني أمية، وبعض الروايات قد صرحت باسمه أيضاً(1).
وروى الطبرسي عن الإمام الصادق [عليه السلام]: أن النبي [صلى الله عليه وآله] كان إذا رأى ابن أم مكتوم، قـال: مـرحباً، مـرحباً: لا والله، لا يعاتبني الله فيك أبداً.
حيث يظهر من هذا النص الشريف: أنه [صلى الله عليه وآله] كان يريد بقوله هذا التعريض بمن صدر منه في حق ابن أم مكتوم ما أوجب نزول العتاب الإلهي له فيه.. فكأنه [صلى الله عليه وآله] يقول لابن أم مكتوم: إني لا أعاملك كما عاملك فلان.
ثالثاً: إن الروايات التي تحدثت عن أن النبي [صلى الله عليه وآله] هو الذي عبس في وجه ابن أم مكتوم إنما رواها غير الشيعة, وقد طرحها الرازي، معللاً ذلك بأنها أخبار آحاد، وبأنها تخالف القواعد العقلية(2).
وقد ناقشنا تلك الروايات، وبيَّنا تناقضاتها، وبعض وجوه الخلل فيها في كتابنا: «الصحيح من سيرة النبي الأعظم [صلى الله عليه وآله] ج2 ص155ـ 165».
رابعاً: إن الآيات الشريفة في سورة عبس نفسها ليس فيها ما يدل على أن العابس هو شخص رسول الله [صلى الله عليه وآله].. فلماذا الإصرار على توجيه التهمة إليه بما يوجب الإنتقاص من شأنه [صلى الله عليه وآله] ؟.
بل إن التأمل في تلك الآيات المباركة يعطي: أن اتهام رسول الله [صلى الله عليه وآله] بهذا الأمر محض تجنٍّ عليه [صلى الله عليه وآله].. فلاحظ ما يلي:
ألف: إن الآيات التي نتحدث عنها هي التالية:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى..} سورة عبس الآيات 1 / 10.
فقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} ليس خطاباً لرسول الله [صلى الله عليه وآله]، بل هو التفات من الغيبة إلى الخطاب مع العابس نفسه، فهو مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حيث كان يتحدث عنه تعالى بضمير الغائب ثم التفت موجهاً الخطاب إليه تعالى فقال: {إِيَّاكَ}..
والأمر هنا من هذا القبيل، فإنه بعد أن أعلن باللوم للعابس، وتحدث عنه كأنه غير موجود، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى} عاد فالتفت إليه، وقال له: لماذا تريد طرده؟ أتركه يجلس، فلعله يزّكى بما يسمعه من رسول الله [صلى الله عليه وآله]. {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}.
ثم شرع الله سبحانه في بيان حال ذلك العابس، فذكر: أن من عاداته أن يهتم بالأغنياء، ويتصدى لهم، ويحاول جلب انتباههم إليه. ولكنه لا يهتم بتزكية أولئك الأغنياء، بل هو يتصدى لهم، ويهتم بهم لأجل غناهم فقط.
فقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى} يريد به أن بقاء ذلك الغني على صفة الإنحراف والبعد عن الله، ليس بالأمر المهم عند ذلك العابس، لأنه إنما يهتم بماله، ولا يهتم بأن يخرجه من الضلال إلى الهدى. فضلال الغني لا يرتب على ذلك العابس أية مسؤولية، ولا يحركه لأي عمل لإخراجه منها.
وهذا بالذات هو ما ذكرته الآيات الكريمة التي تقول: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى}..
ثم ذكرت الآيات أن ذلك الشخص لا يهتم لغير الغني، ولا يدير له بالاً، بل هو يتلهى عنه.. بل إنه حتى لو أقبل ذلك الفقير عليه بكل جوارحه، وجاء يسعى إليه، فإنه لا يهتم به، ولا يلتفت إليه، رغم أن ذلك الفقير مؤمن بالله، ويخشاه، ويلتزم حدوده: وليس مثل أولئك الأغنياء الذين لا يزكُّون أنفسهم، ولا يخافون الله.. {وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}..
ب ـ إنه قد ظهر مما تقدم: أن في الآيات إشعاراً بأن ذلك الذي ذكرناه هو من عادة ذلك العابس، أي أن من عادته التصدي للأغنياء، والتلهي عن الفقراء..
ومن الواضح: أن ذلك لم يكن من عادة رسول الله [صلى الله عليه وآله] أبداً..
ج ـ إن الله سبحانه لم يقل لنبيه لقد عبست وتوليت، بل تحدث عن العابس بصيغة الغائب؛ فلماذا الإصرار إذن على اتهام النبي [صلى الله عليه وآله] بهذا الأمر؟!
د ـ إن قوله تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى} لا يناسب رسـول الله [صلى الله عليه وآله]، بأي معنى فسره المفسرون.. أي سواء فُسِّر على النحو الذي ذكرناه آنفاً، أو فُسِّر بما هو معروف ومشهور في كتب التفسير..
هـ ـ لقد جاء التعبير في الآيات الكريمة بكلمة {تَلَهَّى} واللهو مذموم في القرآن الكريم في مختلف المواضع، ومعناه في هذا المورد بالذات أولى بالذم، إذ أن معناه هو: أن النبي [صلى الله عليه وآله] كان يتطلب اللهو ويسعى إليه.. مع أن الروايات التي تدّعي نزول الآيات في رسول الله لا تعترف بهذا الأمر، بل هي تتحاشاه، كما أن الذين أخذوا بها، وزعموا أن الآيات تدل على ذلك لـم يجرؤوا على الاعتراف بهذه الحقيقة، بل زعموا أن عبوسه إنما كان لأجل انشغاله بما هو ـ بنظره ـ أهم.
مع أن الله سبحانه يقول: إن هذا العابس كان يتلهّى عن ذلك الفقير.. أي يبحث عن اللهو والعبث، ولم يكن النبي [صلى الله عليه وآله] ليفعل ذلك، ونسبة ذلك إليه [صلى الله عليه وآله] إساءة ظاهرة، ومرفوضة من الجميع.
و ـ ويكذِب كلامهم أيضاً، أن الله تعالى يلوم ذلك العابس، ويذمه، فلو كان عبوس النبي [صلى الله عليه وآله] لأجل أنه كان يرجو إسلام ذلك الغني؛ ليتقوى به الدين كما يدّعون لم يكن معنى لهذا اللوم والتأنيب، بل كان اللازم هو المدح والإطراء.
وليلاحظ أيضاً: أن ثمة إمعاناً في إظهار المقت لما جرى، وذلك من خلال التعبير بكلمة عبس، التي لم ترد في القرآن إلا وصفاً في مقام الذم والإدانة، والمقت والإهانة، قال تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}..
خامساً: لقد نزل قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة الشعراء الآية 215. قبل نزول سورة عبس بسنتين، فكيف خالف النبي [صلى الله عليه وآله] هذا الأمر الصريح. كما يزعم هؤلاء الناس؟!
وأخيراً، نعود فنقول: لنفترض: أن ما ذكرناه ليس هو الأظهر والأقوى في معنى الآيات.
فإننا نقول: إنه ولا شك احتمال قوي يسقط به ما ذكروه عن صلاحية الإعتماد عليه.
بل إن ما ذكروه يسقط بسبب قيام الأدلة القاطعة الدالة على عصمة النبي [صلى الله عليه وآله] عن صدور ما يوجب اللوم والإدانة، وذلك يمنع حتى من توهم كون المقصود بالآيات هو النبي المعصوم [صلى الله عليه وآله].. وبعد سقوط ذاك بذلك، يصبح هذا المعنى الذي ذكرناه هو المتعين في معنى الآيات الكريمة..
بل إننا حتى لو لم نستطع أن نقدم في معنى الآيات، ولو احتمالاً واحداً، فإن عقولنا القاصرة تبقى هي المتهمة بلا ريب. ويبقى رسول الله [صلى الله عليه وآله] هو الأطهر والأزكى والأصفى. لأن الأدلة القاطعة قد دلت على ذلك..
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
--
(1) راجع: تفسير القمي ج2 ص405 والبرهان [تفسير] ج4 ص427 و428 ونور الثقلين [تفسير] ج5 ص508 و509 ومجمع البيان ج10 ص437.
(2) راجع كتاب عصمة الأنبياء للرازي
************************************************** ******************
تحياتي لكم جميعا .......................... لبيك داعي الله .