مولى أبي تراب
30-08-2013, 03:49 PM
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ... وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْنَ
------------------
(( موجبات السعادة ))
أو
(( الأربعون في أسباب السعادة ))
أو
(( وصفة المعصومين لنيل السعادة في الدارين ))
الكل يرومُ السعادةَ ويسعى لنيلها والفوز بها والحصول عليها، والكثير نظّر وقنّن لها وكتب فيها وبحث في موجباتها وحاول الوقوف على موانعها وعوائقها ، والكثير تكفّل بتحقيقها وإذاقة الناس طعمها ، ولكن كانت وما زالت السعادة مطمعاً بعيد المنال عن كثير من الناس أفراداً وشعوباً ومجتمعات ، تحول دونها الحوائل وتمنع عنها الموانع فأضحت حلماً دونه خرط القتاد ، ولعل منشأ ذلك أمران :
أولاً / الفهم الخطأ لمفهوم السعادة ومعناها فنحسب أن السعادة تكمن في تلبية الشهوات وتحقيق الملذات والنزول عند الرغبات والخضوع للنزوات وأهواء النفس وحب الدنيا وزخرفها وزبرجها ، والحال أنها التعاسة بعينها والشقاء نفسه ، وهذا الفهم الخاطئ للسعادة والانقلاب في الموازين كفيل بانعدام السعادة الحقيقية ، لأنه ليس الا سير في الاتجاه المعاكس .
ثانياً / قصور القائمين على تحقيق السعادة والمتكفلين بإسعاد الشعوب ومحدودية عقولهم وعجزهم عن إدراك مصالح العباد وخضوعهم للأهواء والمصلحة الشخصية .
الى غير ذلك من الأمور التي تحول دون تحقق السعادة ، ولا غنى للبشر عن الرجوع الى ربهم العالِم بمصالحهم ومفاسدهم وما ينفعهم ويضرهم المقنّن لما فيه سعادتهم ، فشرّع الشرائع وبعث الرسل وأنزل الكتب المقدسة هداية للناس ورحمة بهم ورعاية لمصالحهم وما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ( وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء / 107 ، ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إبراهيم / 1
وقد كشفت الشريعة عن منهاجها القويم وأفصحت عن منهجها العظيم الكفيل بتحقيق السعادة للعالمين على لسان السادة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فأبانوا لنا موجبات السعادة ، ودَلّونا على أسبابها وأناروا لنا طريقها ، وأحاديثهم وما روي عنهم في هذا الباب كثيرة ، لكنها للأسف لآلئ مدفونة وجواهر ضاعت بين من لا يعرف قدرها الا القليل ممن وفى لرعاية الحق فيهم فشمله التوفيق للاهتداء بهديهم والسير على نهجهم القويم وصراطهم المستقيم .
وحاولت ههنا بتوفيق الله تعالى استقصاء هذه المرويات وتدوينها وتصيّد عناوين لها من مضامينها ، وقبل الشروع في ذكرها أنبّه على أمرين :
الأمر الأول / معنى السعادة الذي تناولته هذه الأخبار ليس على سنخ واحد ، فالحديث تارة عن السعادة المادية وأخرى عن السعادة المعنوية والروحية ، وتارة عن السعادة في الدنيا وأخرى عن السعادة في الآخرة ، وهكذا ، ولم نلحظ ذلك في ذكر الأخبار .
الأمر الثاني / الأخبار التي تناولت السعادة وموجباتها كثيرة ، وقد لا يصمد بعضها أمام التدقيق السندي الا أننا لم نلحظ هذا الجانب لأن المقام لمّا لم يكن من الأحكام ولا تكليفاً بالإلزام فالأمر فيه سهل ، مضافاً الى حصول الاطمئنان بصحة صدور أكثرها عنهم عليهم السلام ولو بقرينة مطابقة مضمونها لما صحّ عنهم عليه السلام .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن موجبات السعادة هي :
1. الإيمان وملازمة الحق والوقوف عند حدود الله تعالى وطاعته ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( بالايمان يُرتَقَى إلى ذروة السعادة ونهاية الحُبُور ) عيون الحكم والمواعظ / 189 ، والحُبور السرور ، وعنه عليه السلام ( في لزوم الحق تكون السعادة ) المصدر / 353 ، وعنه عليه السلام ( عصم السعداء بالإيمان ، وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان ، إذ وضح لهم منار الحق وسبيل الهدى ) كنز العمال 16 / 188 ، وعنه عليه السلام ( لا يسعد امرء إلا بطاعة الله سبحانه ، ولا يشقى امرء إلا بمعصية الله ) عيون الحكم والمواعظ / 543 ، وعنه عليه السلام ( لا يسعد أحد إلا بإقامة حدود الله ، ولا يشقى أحد إلا بإضاعتها ) مستدرك الوسائل ج18 ص9 ، وعنه عليه السلام من كتاب له إلى الأشتر ( ... أَمَرَه بتقوى الله ، وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه ، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها ) نهج البلاغة 3 / 83 ، وعنه عليه السلام ( من السعادة التوفيقُ لصالح الأعمال ) عيون الحكم والمواعظ / 467 ، وعنه عليه السلام ( دَرَكُ السعادة بمبادرة الخيرات والأعمال الزاكيات ) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم : حديث / 3279 ، وعنه عليه السلام ( دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة ) غرر الحكم ح 3936 ، وعنه عليه السلام ( سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته ) غرر الحكم ح 2625 ، وعنه عليه السلام ( أسعد الناس العاقل المؤمن ) غرر الحكم ح 3273 ، وعنه عليه السلام ( أسعد الناس بالخير العامل به ) غرر الحكم ح 1874 ، وعنه عليه السلام ( ما أعظم سعادةَ من بُوشِر قلبُه بِبَرْدِ اليقين ) غرر الحكم ح 716 ، وعنه عليه السلام ( أفضل السعادة استقامة الدين ) غرر الحكم ح 1379 ، وعنه عليه السلام ( في لزوم الحق تكون السعادة ) عيون الحكم والمواعظ / 353 .
2. حبُّ آل محمد عموماً وأمير المؤمنين خصوصاً صلّى الله عليهم أجمعين ، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : ( خمسة من السعادة : الزوجة الصالحة ، والبنون الأبرار ، والخلطاء الصالحون ، ورزق المرء في بلده ، والحب لآل محمد ) دعائم الإسلام 2 / 195 ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام : ( إن السعيد كلَّ السعيد حقَّ السعيد من أطاعك وتولاك من بعدي ، وإن الشقي كلَّ الشقي حقَّ الشقي من عصاك ونصب لك عداوةً من بعدي ) الأمالي : الشيخ المفيد / 161 ، وعن علي عليه السلام ( أسعد الناس من عرف فضلنا ، وتقرب إلى الله بنا ، وأخلص حبنا ، وعمل بما إليه نَدَبْنا ، وانتهى عما عنه نهينا ، فذاك منا وهو في دار المقامة معنا ) عيون الحكم والمواعظ / 124 .
3. إيثار الآخرة على الدنيا ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( أسعد الناس من ترك لذة فانية للذة باقية ) عيون الحكم والمواعظ / 122 ، وعنه عليه السلام ( إن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه ) بحار الأنوار 72 / 355 ، وعنه عليه السلام ( أسعد الناس بالدنيا التارك لها ، وأسعدهم بالآخرة العامل لها ) غرر الحكم ، وعنه عليه السلام ( أعظم الناس سعادة أكثرهم زهادة ) عيون الحكم والمواعظ / 112 ، وعنه عليه السلام ( كفى بالمرء سعادة أن يعزف عما يفنى ويتوله بما يبقى ) غرر الحكم ح 3283 ، وعنه عليه السلام ( إن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم ) نهج البلاغة 2 / 215 ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( السعيد من اختار باقيةً يدوم نعيمها على فانيةٍ لا ينفد عذابها ، وقدّم لما يقْدِم عليه مما هو في يديه قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه وقد شقي هو بجمعه ) أعلام الدين في صفات المؤمنين / 345 ، وما يقدم عليه يعني الآخرة ، وما هو في يديه أي المتاع والأموال والمعنى قدّم للآخرة التي سيقدم عليها مما في يديه من الأموال والممتلكات قبل أن يخلفه فيها الورثة الذين سيسعدون بإنفاق تلك الموال ولم يحصل هو الا على الشقاء والتعب من جمعها .
4. محاسبة النفس والسعي في إصلاحها فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( من حاسب نفسه سعد ) عيون الحكم والمواعظ / 424 ، وعنه عليه السلام ( من أجهد نفسه في إصلاحها سعد ، من أهمل نفسه في لذاتها شقي وبَعُد ) المصدر / 445 ، وعنه عليه السلام ( جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكَه و طالبها بحقوق الله مطالبة الخصم خصمَه فإن أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه ) غرر الحكم ح 4737 ، وعنه عليه السلام ( إن أسعد الناس من كان له من نفسه بطاعة الله متقاضٍ ) غرر الحكم ح 3448 ، أي من كانت نفسه تقاضيه على طاعة الله إن قصّر بها .
5. أن يعيش العبد بين الخوف والرجاء في علاقته مع ربه ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام : ( إنما السعيد من خاف العقاب فأمن ، ورجا الثواب فأحسن ، واشتاق إلى الجنة فأدلج ) عيون الحكم والمواعظ / 179 ، وأدلج : سار الليل كله والمراد سعى الى الجنة .
6. أن يكون الإنسان عالماً غير جاهل وعاملاً بما يعلم ، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال ( لا ينبغي لمن لم يكن عالما أن يعد سعيدا ، ولا لمن لم يكن ودودا أن يعد حميدا ، ولا لمن لم يكن صبورا أن يعد كاملا ، ولا لمن لا يتقي ملامة العلماء وذمهم أن يُرجى له خير الدنيا والآخرة ، وينبغي للعاقل أن يكون صدوقا ليؤمن على حديثه ، وشكورا ليستوجب الزيادة ) تحف العقول / 364 ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ( اعملوا بالعلم تسعدوا به ) عيون الحكم والمواعظ / 89 ، وعنه عليه السلام ( إن أحببت أن تكون أسعد الناس بما علمت فاعمل ) غرر الحكم ح 3276 .
7. زيارة الحسين صلوات الله عليه والمداومة عليها ، فعن عبد الملك الخثعمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال لي ( يا عبد الملك لا تدع زيارة الحسين بن علي عليهما السلام ومُرْ أصحابك بذلك ، يمد الله في عمرك ويزيد الله في رزقك ، ويحْييك الله سعيدا ولا تموت الا سعيدا ويكتبك سعيدا ) كامل الزيارات / 286 .
8. حسن العاقبة وأن يُختم للعبد بما عليه في حياته من الصلاح فعن جعفر ابن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال : ( حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة ، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء ) الخصال للشيخ الصدوق / 5 .
9. الاتعاظ بالآخرين فمن خطبة للإمام علي بن الحسين عليهما السلام في الموعظة قال : ( لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم فإن السعيد من وعظ بغيره ) الكافي 8 / 74 ، أي وعظكم بما قصّ عليكم في القرآن من أنباء غيركم وما أصابهم من عذابه تعالى والسعيد من اتعظ بما جرى على من قبله من الأمم الماضية فلم يسلك مسلكهم ولم يقتفِ أثرهم .
10. الموت في سبيل الحق ورفض الباطل بدلاً من حياة الذل والهوان والرضوخ للظلم ، وخير من جسد هذا المعنى سيدنا ومولانا الشهيد السعيد الإمام الحسين عليه السلام وقوله في هذا المعنى مشهور مأثور ( ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما ) تحف العقول / 245 ، ومن روائع أمير المؤمنين عليه السلام في تصوير هذا المعنى قوله ( فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين ) نهج البلاغة 1 / 100 ، أي الموت الحقيقي في أن يحيى الإنسان مقهوراً ذليلاً ، والحياة الحقيقة في أن يموت الإنسان عزيزاً قاهراً لأعدائه ورافضاً لظلمهم .
11. ثواب من مجّد الله بما مجّد به نفسه ، عن زرارة بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( ان الله يمجد نفسه في كل يوم وليلة ثلاث مرات فمن مجد الله بما مجد به نفسه ثم كان في حال شقوة حُوِّلَ إلى سعادة ، فقلت له كيف هو التمجيد ؟ قال تقول : أنت الله لا إله إلا أنت رب العالمين أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم أنت الله لا إله إلا أنت العلي الكبير أنت الله لا إله إلا أنت ملك يوم الدين أنت الله لا إله إلا أنت الغفور الرحيم أنت الله لا إله إلا أنت العزيز الحكيم أنت الله لا إله إلا أنت بدء كل شئ [منك] واليك يعود أنت الله لا إله إلا أنت لم تزل ولا تزال أنت الله لا إله إلا أنت خالق الخير والشر أنت الله لا إله إلا أنت خالق الجنة والنار أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، أنت الله لا إله إلا أنت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ، أنت الله الخالق البارئ المصور لك الأسماء الحسنى يسبح لك ما في السماوات والأرض وأنت العزيز الحكيم ، أنت الله لا إله إلا أنت الكبير ، الكبرياء رداؤك ) ثواب الأعمال / 13 .
12. كثرة التسبيح ، فعن الصادق عليه السلام أنه قيل له : ( إن من سعادة المرء خفة عارضيه فقال : وما في هذا من السعادة ، إنما السعادة خفة ماضغيه بالتسبيح ) علل الشرائع 2 / 580 ، وخفة عارضيه كناية عن قلة شعر اللحية ، والماضغان الحنكان والفكان أي الفم والمراد سهولة التسبيح على لسانه وكثرته .
13. ثواب قراءة سورة قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد في الصلاة ، عن أبي عبد الله عليه السلام ( من قرأ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد في فريضة من الفرايض غفر الله له ولوالديه وما ولد وإن كان شقيا مُحي من ديوان الأشقياء وأُثبت في ديوان السعداء وأحياه الله سعيدا وأماته شهيدا وبعثه شهيدا ) ثواب الأعمال / 127 ، ولا شك أن المراد القراءة المستتبعة لترتيب الأثر .
14. أن يكون الإنسان أنسه مع نفسهفلا يستوحش في خلوته فعن الإمام الصادق عليه السلام : ( السعيد من وجد في نفسه خلوة يشغل بها ) بحار الأنوار 75 / 203 .
15. الإخلاص في طاعة الله تعالى ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( السعيد من أخلص الطاعة ) عيون الحكم والمواعظ / 47 .
16. عدم التحسر على ما قد فات ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( السعيد من استهان بالمفقود ) عيون الحكم والمواعظ / 27 .
17. شكران النعم والاستغفار عند الإقتار والإكثار من الحوقلة عند الشدائد ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( ثلاث من حافظ عليها سعد : إذا ظهرت عليك نعمة فاحمد الله ، وإذا أبطأ عنك الرزق فاستغفر الله ، وإذا أصابتك شدة فأكثر من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " ) تحف العقول / 207 .
18. مجالسة العلماء والأخذ عنهم ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( جالس العلماء تسعد ) عيون الحكم والمواعظ / 221 .
19. التنزه عن الحسد والبغض للناس فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( خُلُوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد ) غرر الحكم ح 6802 .
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ... وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْنَ
------------------
(( موجبات السعادة ))
أو
(( الأربعون في أسباب السعادة ))
أو
(( وصفة المعصومين لنيل السعادة في الدارين ))
الكل يرومُ السعادةَ ويسعى لنيلها والفوز بها والحصول عليها، والكثير نظّر وقنّن لها وكتب فيها وبحث في موجباتها وحاول الوقوف على موانعها وعوائقها ، والكثير تكفّل بتحقيقها وإذاقة الناس طعمها ، ولكن كانت وما زالت السعادة مطمعاً بعيد المنال عن كثير من الناس أفراداً وشعوباً ومجتمعات ، تحول دونها الحوائل وتمنع عنها الموانع فأضحت حلماً دونه خرط القتاد ، ولعل منشأ ذلك أمران :
أولاً / الفهم الخطأ لمفهوم السعادة ومعناها فنحسب أن السعادة تكمن في تلبية الشهوات وتحقيق الملذات والنزول عند الرغبات والخضوع للنزوات وأهواء النفس وحب الدنيا وزخرفها وزبرجها ، والحال أنها التعاسة بعينها والشقاء نفسه ، وهذا الفهم الخاطئ للسعادة والانقلاب في الموازين كفيل بانعدام السعادة الحقيقية ، لأنه ليس الا سير في الاتجاه المعاكس .
ثانياً / قصور القائمين على تحقيق السعادة والمتكفلين بإسعاد الشعوب ومحدودية عقولهم وعجزهم عن إدراك مصالح العباد وخضوعهم للأهواء والمصلحة الشخصية .
الى غير ذلك من الأمور التي تحول دون تحقق السعادة ، ولا غنى للبشر عن الرجوع الى ربهم العالِم بمصالحهم ومفاسدهم وما ينفعهم ويضرهم المقنّن لما فيه سعادتهم ، فشرّع الشرائع وبعث الرسل وأنزل الكتب المقدسة هداية للناس ورحمة بهم ورعاية لمصالحهم وما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ( وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء / 107 ، ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إبراهيم / 1
وقد كشفت الشريعة عن منهاجها القويم وأفصحت عن منهجها العظيم الكفيل بتحقيق السعادة للعالمين على لسان السادة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فأبانوا لنا موجبات السعادة ، ودَلّونا على أسبابها وأناروا لنا طريقها ، وأحاديثهم وما روي عنهم في هذا الباب كثيرة ، لكنها للأسف لآلئ مدفونة وجواهر ضاعت بين من لا يعرف قدرها الا القليل ممن وفى لرعاية الحق فيهم فشمله التوفيق للاهتداء بهديهم والسير على نهجهم القويم وصراطهم المستقيم .
وحاولت ههنا بتوفيق الله تعالى استقصاء هذه المرويات وتدوينها وتصيّد عناوين لها من مضامينها ، وقبل الشروع في ذكرها أنبّه على أمرين :
الأمر الأول / معنى السعادة الذي تناولته هذه الأخبار ليس على سنخ واحد ، فالحديث تارة عن السعادة المادية وأخرى عن السعادة المعنوية والروحية ، وتارة عن السعادة في الدنيا وأخرى عن السعادة في الآخرة ، وهكذا ، ولم نلحظ ذلك في ذكر الأخبار .
الأمر الثاني / الأخبار التي تناولت السعادة وموجباتها كثيرة ، وقد لا يصمد بعضها أمام التدقيق السندي الا أننا لم نلحظ هذا الجانب لأن المقام لمّا لم يكن من الأحكام ولا تكليفاً بالإلزام فالأمر فيه سهل ، مضافاً الى حصول الاطمئنان بصحة صدور أكثرها عنهم عليهم السلام ولو بقرينة مطابقة مضمونها لما صحّ عنهم عليه السلام .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن موجبات السعادة هي :
1. الإيمان وملازمة الحق والوقوف عند حدود الله تعالى وطاعته ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( بالايمان يُرتَقَى إلى ذروة السعادة ونهاية الحُبُور ) عيون الحكم والمواعظ / 189 ، والحُبور السرور ، وعنه عليه السلام ( في لزوم الحق تكون السعادة ) المصدر / 353 ، وعنه عليه السلام ( عصم السعداء بالإيمان ، وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان ، إذ وضح لهم منار الحق وسبيل الهدى ) كنز العمال 16 / 188 ، وعنه عليه السلام ( لا يسعد امرء إلا بطاعة الله سبحانه ، ولا يشقى امرء إلا بمعصية الله ) عيون الحكم والمواعظ / 543 ، وعنه عليه السلام ( لا يسعد أحد إلا بإقامة حدود الله ، ولا يشقى أحد إلا بإضاعتها ) مستدرك الوسائل ج18 ص9 ، وعنه عليه السلام من كتاب له إلى الأشتر ( ... أَمَرَه بتقوى الله ، وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه ، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها ) نهج البلاغة 3 / 83 ، وعنه عليه السلام ( من السعادة التوفيقُ لصالح الأعمال ) عيون الحكم والمواعظ / 467 ، وعنه عليه السلام ( دَرَكُ السعادة بمبادرة الخيرات والأعمال الزاكيات ) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم : حديث / 3279 ، وعنه عليه السلام ( دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة ) غرر الحكم ح 3936 ، وعنه عليه السلام ( سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته ) غرر الحكم ح 2625 ، وعنه عليه السلام ( أسعد الناس العاقل المؤمن ) غرر الحكم ح 3273 ، وعنه عليه السلام ( أسعد الناس بالخير العامل به ) غرر الحكم ح 1874 ، وعنه عليه السلام ( ما أعظم سعادةَ من بُوشِر قلبُه بِبَرْدِ اليقين ) غرر الحكم ح 716 ، وعنه عليه السلام ( أفضل السعادة استقامة الدين ) غرر الحكم ح 1379 ، وعنه عليه السلام ( في لزوم الحق تكون السعادة ) عيون الحكم والمواعظ / 353 .
2. حبُّ آل محمد عموماً وأمير المؤمنين خصوصاً صلّى الله عليهم أجمعين ، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : ( خمسة من السعادة : الزوجة الصالحة ، والبنون الأبرار ، والخلطاء الصالحون ، ورزق المرء في بلده ، والحب لآل محمد ) دعائم الإسلام 2 / 195 ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام : ( إن السعيد كلَّ السعيد حقَّ السعيد من أطاعك وتولاك من بعدي ، وإن الشقي كلَّ الشقي حقَّ الشقي من عصاك ونصب لك عداوةً من بعدي ) الأمالي : الشيخ المفيد / 161 ، وعن علي عليه السلام ( أسعد الناس من عرف فضلنا ، وتقرب إلى الله بنا ، وأخلص حبنا ، وعمل بما إليه نَدَبْنا ، وانتهى عما عنه نهينا ، فذاك منا وهو في دار المقامة معنا ) عيون الحكم والمواعظ / 124 .
3. إيثار الآخرة على الدنيا ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( أسعد الناس من ترك لذة فانية للذة باقية ) عيون الحكم والمواعظ / 122 ، وعنه عليه السلام ( إن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه ) بحار الأنوار 72 / 355 ، وعنه عليه السلام ( أسعد الناس بالدنيا التارك لها ، وأسعدهم بالآخرة العامل لها ) غرر الحكم ، وعنه عليه السلام ( أعظم الناس سعادة أكثرهم زهادة ) عيون الحكم والمواعظ / 112 ، وعنه عليه السلام ( كفى بالمرء سعادة أن يعزف عما يفنى ويتوله بما يبقى ) غرر الحكم ح 3283 ، وعنه عليه السلام ( إن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم ) نهج البلاغة 2 / 215 ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( السعيد من اختار باقيةً يدوم نعيمها على فانيةٍ لا ينفد عذابها ، وقدّم لما يقْدِم عليه مما هو في يديه قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه وقد شقي هو بجمعه ) أعلام الدين في صفات المؤمنين / 345 ، وما يقدم عليه يعني الآخرة ، وما هو في يديه أي المتاع والأموال والمعنى قدّم للآخرة التي سيقدم عليها مما في يديه من الأموال والممتلكات قبل أن يخلفه فيها الورثة الذين سيسعدون بإنفاق تلك الموال ولم يحصل هو الا على الشقاء والتعب من جمعها .
4. محاسبة النفس والسعي في إصلاحها فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( من حاسب نفسه سعد ) عيون الحكم والمواعظ / 424 ، وعنه عليه السلام ( من أجهد نفسه في إصلاحها سعد ، من أهمل نفسه في لذاتها شقي وبَعُد ) المصدر / 445 ، وعنه عليه السلام ( جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكَه و طالبها بحقوق الله مطالبة الخصم خصمَه فإن أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه ) غرر الحكم ح 4737 ، وعنه عليه السلام ( إن أسعد الناس من كان له من نفسه بطاعة الله متقاضٍ ) غرر الحكم ح 3448 ، أي من كانت نفسه تقاضيه على طاعة الله إن قصّر بها .
5. أن يعيش العبد بين الخوف والرجاء في علاقته مع ربه ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام : ( إنما السعيد من خاف العقاب فأمن ، ورجا الثواب فأحسن ، واشتاق إلى الجنة فأدلج ) عيون الحكم والمواعظ / 179 ، وأدلج : سار الليل كله والمراد سعى الى الجنة .
6. أن يكون الإنسان عالماً غير جاهل وعاملاً بما يعلم ، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال ( لا ينبغي لمن لم يكن عالما أن يعد سعيدا ، ولا لمن لم يكن ودودا أن يعد حميدا ، ولا لمن لم يكن صبورا أن يعد كاملا ، ولا لمن لا يتقي ملامة العلماء وذمهم أن يُرجى له خير الدنيا والآخرة ، وينبغي للعاقل أن يكون صدوقا ليؤمن على حديثه ، وشكورا ليستوجب الزيادة ) تحف العقول / 364 ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ( اعملوا بالعلم تسعدوا به ) عيون الحكم والمواعظ / 89 ، وعنه عليه السلام ( إن أحببت أن تكون أسعد الناس بما علمت فاعمل ) غرر الحكم ح 3276 .
7. زيارة الحسين صلوات الله عليه والمداومة عليها ، فعن عبد الملك الخثعمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال لي ( يا عبد الملك لا تدع زيارة الحسين بن علي عليهما السلام ومُرْ أصحابك بذلك ، يمد الله في عمرك ويزيد الله في رزقك ، ويحْييك الله سعيدا ولا تموت الا سعيدا ويكتبك سعيدا ) كامل الزيارات / 286 .
8. حسن العاقبة وأن يُختم للعبد بما عليه في حياته من الصلاح فعن جعفر ابن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال : ( حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة ، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء ) الخصال للشيخ الصدوق / 5 .
9. الاتعاظ بالآخرين فمن خطبة للإمام علي بن الحسين عليهما السلام في الموعظة قال : ( لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم فإن السعيد من وعظ بغيره ) الكافي 8 / 74 ، أي وعظكم بما قصّ عليكم في القرآن من أنباء غيركم وما أصابهم من عذابه تعالى والسعيد من اتعظ بما جرى على من قبله من الأمم الماضية فلم يسلك مسلكهم ولم يقتفِ أثرهم .
10. الموت في سبيل الحق ورفض الباطل بدلاً من حياة الذل والهوان والرضوخ للظلم ، وخير من جسد هذا المعنى سيدنا ومولانا الشهيد السعيد الإمام الحسين عليه السلام وقوله في هذا المعنى مشهور مأثور ( ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما ) تحف العقول / 245 ، ومن روائع أمير المؤمنين عليه السلام في تصوير هذا المعنى قوله ( فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين ) نهج البلاغة 1 / 100 ، أي الموت الحقيقي في أن يحيى الإنسان مقهوراً ذليلاً ، والحياة الحقيقة في أن يموت الإنسان عزيزاً قاهراً لأعدائه ورافضاً لظلمهم .
11. ثواب من مجّد الله بما مجّد به نفسه ، عن زرارة بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( ان الله يمجد نفسه في كل يوم وليلة ثلاث مرات فمن مجد الله بما مجد به نفسه ثم كان في حال شقوة حُوِّلَ إلى سعادة ، فقلت له كيف هو التمجيد ؟ قال تقول : أنت الله لا إله إلا أنت رب العالمين أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم أنت الله لا إله إلا أنت العلي الكبير أنت الله لا إله إلا أنت ملك يوم الدين أنت الله لا إله إلا أنت الغفور الرحيم أنت الله لا إله إلا أنت العزيز الحكيم أنت الله لا إله إلا أنت بدء كل شئ [منك] واليك يعود أنت الله لا إله إلا أنت لم تزل ولا تزال أنت الله لا إله إلا أنت خالق الخير والشر أنت الله لا إله إلا أنت خالق الجنة والنار أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، أنت الله لا إله إلا أنت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ، أنت الله الخالق البارئ المصور لك الأسماء الحسنى يسبح لك ما في السماوات والأرض وأنت العزيز الحكيم ، أنت الله لا إله إلا أنت الكبير ، الكبرياء رداؤك ) ثواب الأعمال / 13 .
12. كثرة التسبيح ، فعن الصادق عليه السلام أنه قيل له : ( إن من سعادة المرء خفة عارضيه فقال : وما في هذا من السعادة ، إنما السعادة خفة ماضغيه بالتسبيح ) علل الشرائع 2 / 580 ، وخفة عارضيه كناية عن قلة شعر اللحية ، والماضغان الحنكان والفكان أي الفم والمراد سهولة التسبيح على لسانه وكثرته .
13. ثواب قراءة سورة قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد في الصلاة ، عن أبي عبد الله عليه السلام ( من قرأ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد في فريضة من الفرايض غفر الله له ولوالديه وما ولد وإن كان شقيا مُحي من ديوان الأشقياء وأُثبت في ديوان السعداء وأحياه الله سعيدا وأماته شهيدا وبعثه شهيدا ) ثواب الأعمال / 127 ، ولا شك أن المراد القراءة المستتبعة لترتيب الأثر .
14. أن يكون الإنسان أنسه مع نفسهفلا يستوحش في خلوته فعن الإمام الصادق عليه السلام : ( السعيد من وجد في نفسه خلوة يشغل بها ) بحار الأنوار 75 / 203 .
15. الإخلاص في طاعة الله تعالى ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( السعيد من أخلص الطاعة ) عيون الحكم والمواعظ / 47 .
16. عدم التحسر على ما قد فات ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( السعيد من استهان بالمفقود ) عيون الحكم والمواعظ / 27 .
17. شكران النعم والاستغفار عند الإقتار والإكثار من الحوقلة عند الشدائد ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( ثلاث من حافظ عليها سعد : إذا ظهرت عليك نعمة فاحمد الله ، وإذا أبطأ عنك الرزق فاستغفر الله ، وإذا أصابتك شدة فأكثر من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " ) تحف العقول / 207 .
18. مجالسة العلماء والأخذ عنهم ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( جالس العلماء تسعد ) عيون الحكم والمواعظ / 221 .
19. التنزه عن الحسد والبغض للناس فعن أمير المؤمنين عليه السلام ( خُلُوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد ) غرر الحكم ح 6802 .