sofiane222dz
20-09-2013, 12:23 AM
عندما أوحي لأوباما برسم خط أحمر للأسد، كان يجهل ما يخفيه القرار من خيوط رمادية، حتى جاءت جهة صديقة تزرع له في غوطة الشام الصاعق المفجر لحرب مفتوحة، قد تجعل منه الرئيس الأسود الذي ينتهي معه "القرن الأمريكي" ما لم يبادر الخصم قبل الصديق لمساعدته على النزول من أعلى الشجرة.
العالم برمته، يقف اليوم على كف عفريت، متأهبا لتلقي ضربة صاروخية أمريكية لسورية لن تكون بالضرورة محدودة، لا في الزمن ولا في المكان، حتى لو أراد أوباما ذلك، ولا أحد يعلم يقينا، إذا ما كان الرئيس الأمريكي سوف يقدم على البر بوعد قطعه على نفسه، يوم استدرج لرسم خط أحمر دون حساب للعواقب، أم أنه سوف يبحث في الدقائق الأخيرة عن مخرج آمن، حتى لو وافق الكونغرس على الضربة، لأنه بات على يقين أنه قد استدرج إلى فخ محكم من أكثر من فريق عدو وصديق.
.
المواقف الرمادية في الخطوط الحمراء
فمن الواضح أن الرئيس الأمريكي حين أعلن في مارس من سنة 2012 "أن اللجوء إلى استعمال الكيمائي خط أحمر" لم تكن موازين القوة في النزاع السوري توحي بالحاجة إلى تفعيل هذا التهديد، وأن الجهة الاستشارية، التي أوحت له وقتها بهذا القرار، تكون قد نصبت له كمينا سوف يورطه بعد سنة في حرب، كانت تتجه وقتها نحو الحسم دون الحاجة إلى التدخل الأمريكي المباشر.
التوريط الفعلي جاء نهاية الشهر الماضي، حين أقدمت "جهة ما" قد تكون جهة صديقة، على صناعة الحالة التي تلزم اليوم أوباما بالوفاء بوعده، ولأن إدارة البيت الأبيض كانت منشغلة بملفات داخلية شائكة ومعقدة ذكرنا ببعضها في المقال السابق، فإن أوباما لم يمنح نفسه ما يكفي من الوقت للتفكير قبل اتخاذ القرار الخطير بالذهاب سريعا نحو تفعيل التهديد، ليتراجع عنه من غير مبرر، ويستجير بالكونغرس بحثا عن غطاء، أو في الحد الأدنى، الاستنجاد بطرف صديق ينزله بكرامة من أعلى الشجرة.
جرس الإنذار جاءه من قرار مجلس العموم البريطاني، الذي جرده من أخلص حليف، كان شريكا في جميع المغامرات الإمبراطورية منذ الحرب الكونية الثانية باستثناء فيتنام، ولم يكن لأوباما أن يتجاهل الخذلان البريطاني، ونأي "أم الإمبريالية العالمية" بالنفس عن المستنقع السوري، فكان القرار بالعودة إلى الكونغرس، وإلقاء الكرة بساحة غرفتي الشيوخ والنواب، هو أفضل وأحكم قرار اتخذه أوباما، مع انعدام الحاجة الدستورية لاستشارة الكونغرس.
.
من يحمي أوباما من حلفاء أمريكا
أسئلة كثيرة تسيطر الآن على حلقات التفكير والتحليل في الدوائر الدبلوماسية والإعلامية حول هذا التخبط الأمريكي، والارتباك الذي أحاط بقرار "التأديب"، تبدأ بالتساؤل عن حقيقة ما جرى في الغوطة الشرقية، ومن كان خلف استعمال الأسلحة الكيمائية، وتنتهي عند طبيعة العدوان الأمريكي بعد مراجعة الكونغرس؟ وبين لحظة زرع الصاعق المفجر، إلى اللحظة التي سوف يفجر فيها الصاروخ الأمريكي الأول حربا مفتوحة قد تتجاوز حدود الإقليم، نشأت أسئلة كثيرة تشغل الآن الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، لن أتوقف عندها كثيرا، وقد شهدنا لها أمثلة سابقة في العدوان الأمريكي الغربي على العراق وأفغانستان وليبيا.
الأسئلة الأهم عندي، ليس لها صلة لا باحتمال حصول الضربة من عدمها، ولا بطبيعتها وحجمها وتقييدها في الزمن والمكان، أو هل هي مؤمنة من رد سوري يستهدف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على رأسهم إسرائيل؟ وكيف سيكون موقف الروس والإيرانيين؟ أو كيف ستتصرف إسرائيل في حال استهدافها؟ وهل أخذ البيت الأبيض بالحسبان تداعيات اشتعال حرب إقليمية لا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد استعدوا لها ولكلفها، وهم على أبواب انفجار أزمة مالية جديدة أخطر من أزمة 2008 التي لم تستوعب بعد؟
هذه الأسئلة كلها كانت حاضرة في مداخلة أعضاء لجنة الاستماع التي استمعت لثلاثي إدارة أوباما: كيري، هيغل، وديمسي، وهي حاضرة بشكل واضح عند أقرب حلفاء الولايات المتحدة. وحدهم السعوديون والإسرائيليون لا يريدون لهذه الأسئلة أن تشوش على صانع القرار الأمريكي، فتحبط آخر محاولة لتوريط الولايات المتحدة في مستنقع سورية، الأكثر تفجيرا من أي مستنقع آخر توحلت فيه أمريكا من قبل.
.
عناق حار في البحيرة المرة
كان ينبغي على من يريد الإحاطة بخلفية هذا التخبط الواضح في الموقف الأمريكي، أن يفحص حركات البوصلة التي توجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مع جميع الإدارات الأمريكية، منذ اللحظة التي استلمت فيها الولايات المتحدة إدارة الشرق الأوسط من الإمبراطورية البريطانية على متن الطراد "كوينسي" العائد بالرئيس الأمريكي روزفلت من مؤتمر "يالطا" ليلتقي سرا، في البحيرة المرة بقناة سويس، بمؤسس الدولة السعودية الملك عبد العزيز.
'' العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية صاغت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على أساس مبدأ دائم مفاده: "ما تتمناه السعودية تحصل عليه السعودية، وما ترغب فيه إسرائيل تناله إسرائيل"
شهادات كثيرة تقاطعت لتروي قصة نشوء العلاقات الأمريكية السعودية، وارتباطها بمشروع بناء الكيان الصهيوني، فبالرغم من أن الموضوع الذي التقى من أجله روزفلت بالملك عبد العزيز كان هو النفط السعودي، إلا أن روزفلت بدأ بسبر موقف الملك السعودي بشأن ما كان يرتب له حول تدبير وطن بديل لليهود، فسأل روزفلت "ضيفه" ابن سعود: "هل سيساند فكرة الدولة اليهودية في فلسطين؟" فكان الرد السعودي وقتها محبطا، اقترح "وجوب البحث لليهود عن وطن بديل في أوروبا التي قمعتهم" ولم يحصل روزفلت على موقف مشجع، فانتقل إلى ملف النفط.
كان ذلك قبل أسابيع من وفاة روزفلت، ووصول هاري ترومان، "بائع الملابس الفاشل" ـ كما كان يعيره خصومه ـ إلى البيت الأبيض، وسقوطه تحت تأثير صديقه وشريكه في تجارة الملابس المفلسة، اليهودي إيدي جاكسن، الذي أقنعه بدعم مشروع تقسيم فلسطين أولا، ثم الاعتراف بالدولة الصهيونية الناشئة، حتى أن الولايات المتحدة كانت أول من اعترف بالدولة الصهيونية بعد 11 دقيقة من الإعلان عن ميلادها.
.
ما تريده السعودية ويرضي إسرائيل
وكما نرى، فإن السياسة الأمريكية القادمة في الشرق الأوسط قد تحددت معالمها في بحر أسابيع قلية، باستعمالها لدولتين وظيفيتين هما المملكة السعودية وإسرائيل، سوف نجدهما في قلب السياسة الأمريكية، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في جميع المواجهات و"الأعمال القذرة" التي عرفتها حقبة الحرب الباردة، من الحرب الكورية ابتداء، إلى العدوان على العراق، مرورا بالدور السعودي في تمويل حرب أفغانستان الأولى التي أسقطت الإمبراطورية السوفييتية، وحروب أمريكا في حديقتها الخلفية بأمريكا الجنوبية، كان السعوديون فيها يوقعون على شيكات التمويل، فيما تتولى الشبكات الصهيونية تنفيذ الأعمال القذرة، وتطهير إسطبلات العم سام.
عندما نجحت السعودية سنة 1981 في التوقيع على صفقة طائرات الأواكس، وجن جنون الصهاينة وحلفائهم في الغرب، رد عليهم بندر بن سلطان قائلا: "لو عرفتم ما الذي نقوم به فعلا من أجل أمريكا لما اكتفيتم بإعطائنا الأواكس، بل لقدمتم إلينا الأسلحة الذرية" تصريح نقله الكاتب والصحفي الأمريكي "ستيفن كنزر" الذي يجمل في كتابه "العودة إلى الصفر" طبيعة العلاقات المتفردة بين الولايات المتحدة من جهة، وإسرائيل والمملكة السعودية من جهة أخرى، ويجملها في عبارة موجزة وصادقة، تغنينا عن البحث في التفاصيل إذ يقول: صاغت هاتان العلاقتان السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط طوال نصف قرن، على أساس مبدأ دائم في واشنطن مفاده: "ما تتمناه السعودية تحصل عليه السعودية، وما ترغب فيه إسرائيل تناله إسرائيل" .
.
يد البيض تعبث بالفتى الأسمر
كان يفترض لهذه العلاقة الثنائية أن تنتج حالة من التوازن المقبول، بين طلبات الكيان الصهيوني، وحاجات ومصالح شعوب ودول المنطقة، لولا أن "ما كانت تتمناه السعودية" كان يتقاطع في كل مرة مع "ما ترغب فيه إسرائيل" والعكس صحيح، حدث ذلك في تقاطع مصالح إسرائيل والسعودية في ضرب نظام صدام حسين في العراق، وفي التحرش الدائم بإيران، والضغط المستمر على الأفرقاء في لبنان، وتصفية فريق حزب الله في حرب 2006، وإخراج السوريين من لبنان، وأخيرا حاجة ومصلحة السعودية وإسرائيل للإطاحة بنظام الأسد، الذي يقود إلى التخلص من حزب الله ثم من إيران، وفي الجملة تقاطعت رغبات ومصالح الحليفين مع المصالح الإستراتجية الأمريكية في المنطقة.
''ما لم يكن أوباما مستعدا لتبعات التدحرج المرتقب للعدوان، فإنه مقبل على هزيمة منكرة لأمريكا تفوق هزيمتها في العراق وأفغانستان، لتعطي معنى لما صرحت به مجلة " فورين بوليسي" بشأن "نهاية القرن الأمريكي"
لأجل ذلك، فإن الرئيس الأمريكي أوباما، الذي انتخب على برنامج إخراج الولايات المتحدة من مستنقعي العراق وأفغانستان، يجد نفسه اليوم رهينة لضغوط حليفين مؤثرين، اعتادت واشنطن على ألا ترد لهما طلبا: السعودية وإسرائيل، وقد يكتشف أوباما لاحقا أن "اليد الخفية" التي تدفع به ليكون ـ وهو القادم من خارج الصفوة الأنغلوسكسونية البيضاء ـ الرئيس الأمريكي الذي يدخل أمريكا في حرب إقليمية منفتحة على صدام مباشر مع القوة الروسية والصينية الصاعدة، تقول جميع الدوائر الإستراتجية الخبيرة أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لها قبل حلول سنة 2020، وأن خصوم الإمبراطورية لا يملكون فرصة أفضل من الفرصة التي وفرها النزاع في سورية، لجر الولايات المتحدة إلى عراق ثاني، قبل أن تنهي خروجها من مستنقع أفغانستان، وقد توفرت في سورية ذات الشروط التي كانت وراء هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام دون الحاجة إلى تدخل مباشر روسي أو صيني.
.
نهاية القرن الأمريكي وأكذوبة نهاية التاريخ
بعض التحليلات المتفائلة، زعمت أو بوتين سوف يلقي بحبل نجاة لأوباما أثناء لقاء نادي العشرين بسانت بترسبورغ، بإعادة صياغة مقاربة مضامين وشروط جنيف 2، غير أن تصريحات بوتين ولافروف لا تحمل هذا القدر من التفاؤل، بل أراها تشجع أوباما على المغامرة، بالإعلان المتكرر عن امتناع روسيا عن القتال بدل السوريين، وعن تجميد صفقة بطاريات "إيس 300" فيما تجتهد لتثبيط عزيمة حلفاء أوباما في العالم، وإشعار جيرانها من حلفائه في النيتو تحديدا، بأن أي تورط للحلف مع الولايات المتحدة سوف يقابل بدخول الروس على الخط، وإلا لا معنى لتحشيد الأسطول البحري الروسي عند سواحل سورية كما لم يحشد حتى في اللحظات الساخنة من حقبة الحرب الباردة.
فالإعلان الروسي السريع عن رصد الصاروخين اللذين أطلقتهما إسرائيل على السواحل السورية، أرسل رسالة غير مشفرة على أن الروس سوف يكونون حاضرين في المواجهة القادمة على محورين: محور التزويد الدائم للجيش السوري بما يحتاج إليه من أسلحة، وتسخير شبكة الرصد والتوجيه بالأقمار الصناعية العسكرية، وهو كل ما يحتاجه الجيش السوري للتعامل مع الضربة الصاروخية الأمريكية المرتقبة، أو مع التدخل الجوي الإسرائيلي لاحقا، وحتى مع تدخل بري لقوى إقليمية مثل تركية.
بقي لأوباما أن يوازن ويحسب وحده العوائد والكلف للعدوان، الذي خسره سياسيا وأخلاقيا حتى قبل أن يبدأ فيه، بامتناع إنتاج تغطية من مؤسسات الشرعية الدولية، بل وحتى من غطاء التحالف الدولي الذي احتمى به سلفه بوش الأب والإبن، وأنه ما لم يكن مستعدا للتدحرج المرتقب للنزاع مثل كرة الثلج، فإنه مقبل على هزيمة منكرة للولايات المتحدة تفوق هزيمتها في العراق وأفغانستان، لتعطي معنى لما صرحت به منذ أسبوع مجلة "فورين بوليسي" وهي الناطق الرسمي باسم أرباب "العقب الحديدي" بشأن "نهاية القرن الأمريكي" وتفتح الطريق أمام بداية لتاريخ يكذب نبوة فوكوياما حول "نهاية التاريخ".
العالم برمته، يقف اليوم على كف عفريت، متأهبا لتلقي ضربة صاروخية أمريكية لسورية لن تكون بالضرورة محدودة، لا في الزمن ولا في المكان، حتى لو أراد أوباما ذلك، ولا أحد يعلم يقينا، إذا ما كان الرئيس الأمريكي سوف يقدم على البر بوعد قطعه على نفسه، يوم استدرج لرسم خط أحمر دون حساب للعواقب، أم أنه سوف يبحث في الدقائق الأخيرة عن مخرج آمن، حتى لو وافق الكونغرس على الضربة، لأنه بات على يقين أنه قد استدرج إلى فخ محكم من أكثر من فريق عدو وصديق.
.
المواقف الرمادية في الخطوط الحمراء
فمن الواضح أن الرئيس الأمريكي حين أعلن في مارس من سنة 2012 "أن اللجوء إلى استعمال الكيمائي خط أحمر" لم تكن موازين القوة في النزاع السوري توحي بالحاجة إلى تفعيل هذا التهديد، وأن الجهة الاستشارية، التي أوحت له وقتها بهذا القرار، تكون قد نصبت له كمينا سوف يورطه بعد سنة في حرب، كانت تتجه وقتها نحو الحسم دون الحاجة إلى التدخل الأمريكي المباشر.
التوريط الفعلي جاء نهاية الشهر الماضي، حين أقدمت "جهة ما" قد تكون جهة صديقة، على صناعة الحالة التي تلزم اليوم أوباما بالوفاء بوعده، ولأن إدارة البيت الأبيض كانت منشغلة بملفات داخلية شائكة ومعقدة ذكرنا ببعضها في المقال السابق، فإن أوباما لم يمنح نفسه ما يكفي من الوقت للتفكير قبل اتخاذ القرار الخطير بالذهاب سريعا نحو تفعيل التهديد، ليتراجع عنه من غير مبرر، ويستجير بالكونغرس بحثا عن غطاء، أو في الحد الأدنى، الاستنجاد بطرف صديق ينزله بكرامة من أعلى الشجرة.
جرس الإنذار جاءه من قرار مجلس العموم البريطاني، الذي جرده من أخلص حليف، كان شريكا في جميع المغامرات الإمبراطورية منذ الحرب الكونية الثانية باستثناء فيتنام، ولم يكن لأوباما أن يتجاهل الخذلان البريطاني، ونأي "أم الإمبريالية العالمية" بالنفس عن المستنقع السوري، فكان القرار بالعودة إلى الكونغرس، وإلقاء الكرة بساحة غرفتي الشيوخ والنواب، هو أفضل وأحكم قرار اتخذه أوباما، مع انعدام الحاجة الدستورية لاستشارة الكونغرس.
.
من يحمي أوباما من حلفاء أمريكا
أسئلة كثيرة تسيطر الآن على حلقات التفكير والتحليل في الدوائر الدبلوماسية والإعلامية حول هذا التخبط الأمريكي، والارتباك الذي أحاط بقرار "التأديب"، تبدأ بالتساؤل عن حقيقة ما جرى في الغوطة الشرقية، ومن كان خلف استعمال الأسلحة الكيمائية، وتنتهي عند طبيعة العدوان الأمريكي بعد مراجعة الكونغرس؟ وبين لحظة زرع الصاعق المفجر، إلى اللحظة التي سوف يفجر فيها الصاروخ الأمريكي الأول حربا مفتوحة قد تتجاوز حدود الإقليم، نشأت أسئلة كثيرة تشغل الآن الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، لن أتوقف عندها كثيرا، وقد شهدنا لها أمثلة سابقة في العدوان الأمريكي الغربي على العراق وأفغانستان وليبيا.
الأسئلة الأهم عندي، ليس لها صلة لا باحتمال حصول الضربة من عدمها، ولا بطبيعتها وحجمها وتقييدها في الزمن والمكان، أو هل هي مؤمنة من رد سوري يستهدف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على رأسهم إسرائيل؟ وكيف سيكون موقف الروس والإيرانيين؟ أو كيف ستتصرف إسرائيل في حال استهدافها؟ وهل أخذ البيت الأبيض بالحسبان تداعيات اشتعال حرب إقليمية لا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد استعدوا لها ولكلفها، وهم على أبواب انفجار أزمة مالية جديدة أخطر من أزمة 2008 التي لم تستوعب بعد؟
هذه الأسئلة كلها كانت حاضرة في مداخلة أعضاء لجنة الاستماع التي استمعت لثلاثي إدارة أوباما: كيري، هيغل، وديمسي، وهي حاضرة بشكل واضح عند أقرب حلفاء الولايات المتحدة. وحدهم السعوديون والإسرائيليون لا يريدون لهذه الأسئلة أن تشوش على صانع القرار الأمريكي، فتحبط آخر محاولة لتوريط الولايات المتحدة في مستنقع سورية، الأكثر تفجيرا من أي مستنقع آخر توحلت فيه أمريكا من قبل.
.
عناق حار في البحيرة المرة
كان ينبغي على من يريد الإحاطة بخلفية هذا التخبط الواضح في الموقف الأمريكي، أن يفحص حركات البوصلة التي توجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مع جميع الإدارات الأمريكية، منذ اللحظة التي استلمت فيها الولايات المتحدة إدارة الشرق الأوسط من الإمبراطورية البريطانية على متن الطراد "كوينسي" العائد بالرئيس الأمريكي روزفلت من مؤتمر "يالطا" ليلتقي سرا، في البحيرة المرة بقناة سويس، بمؤسس الدولة السعودية الملك عبد العزيز.
'' العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية صاغت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على أساس مبدأ دائم مفاده: "ما تتمناه السعودية تحصل عليه السعودية، وما ترغب فيه إسرائيل تناله إسرائيل"
شهادات كثيرة تقاطعت لتروي قصة نشوء العلاقات الأمريكية السعودية، وارتباطها بمشروع بناء الكيان الصهيوني، فبالرغم من أن الموضوع الذي التقى من أجله روزفلت بالملك عبد العزيز كان هو النفط السعودي، إلا أن روزفلت بدأ بسبر موقف الملك السعودي بشأن ما كان يرتب له حول تدبير وطن بديل لليهود، فسأل روزفلت "ضيفه" ابن سعود: "هل سيساند فكرة الدولة اليهودية في فلسطين؟" فكان الرد السعودي وقتها محبطا، اقترح "وجوب البحث لليهود عن وطن بديل في أوروبا التي قمعتهم" ولم يحصل روزفلت على موقف مشجع، فانتقل إلى ملف النفط.
كان ذلك قبل أسابيع من وفاة روزفلت، ووصول هاري ترومان، "بائع الملابس الفاشل" ـ كما كان يعيره خصومه ـ إلى البيت الأبيض، وسقوطه تحت تأثير صديقه وشريكه في تجارة الملابس المفلسة، اليهودي إيدي جاكسن، الذي أقنعه بدعم مشروع تقسيم فلسطين أولا، ثم الاعتراف بالدولة الصهيونية الناشئة، حتى أن الولايات المتحدة كانت أول من اعترف بالدولة الصهيونية بعد 11 دقيقة من الإعلان عن ميلادها.
.
ما تريده السعودية ويرضي إسرائيل
وكما نرى، فإن السياسة الأمريكية القادمة في الشرق الأوسط قد تحددت معالمها في بحر أسابيع قلية، باستعمالها لدولتين وظيفيتين هما المملكة السعودية وإسرائيل، سوف نجدهما في قلب السياسة الأمريكية، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في جميع المواجهات و"الأعمال القذرة" التي عرفتها حقبة الحرب الباردة، من الحرب الكورية ابتداء، إلى العدوان على العراق، مرورا بالدور السعودي في تمويل حرب أفغانستان الأولى التي أسقطت الإمبراطورية السوفييتية، وحروب أمريكا في حديقتها الخلفية بأمريكا الجنوبية، كان السعوديون فيها يوقعون على شيكات التمويل، فيما تتولى الشبكات الصهيونية تنفيذ الأعمال القذرة، وتطهير إسطبلات العم سام.
عندما نجحت السعودية سنة 1981 في التوقيع على صفقة طائرات الأواكس، وجن جنون الصهاينة وحلفائهم في الغرب، رد عليهم بندر بن سلطان قائلا: "لو عرفتم ما الذي نقوم به فعلا من أجل أمريكا لما اكتفيتم بإعطائنا الأواكس، بل لقدمتم إلينا الأسلحة الذرية" تصريح نقله الكاتب والصحفي الأمريكي "ستيفن كنزر" الذي يجمل في كتابه "العودة إلى الصفر" طبيعة العلاقات المتفردة بين الولايات المتحدة من جهة، وإسرائيل والمملكة السعودية من جهة أخرى، ويجملها في عبارة موجزة وصادقة، تغنينا عن البحث في التفاصيل إذ يقول: صاغت هاتان العلاقتان السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط طوال نصف قرن، على أساس مبدأ دائم في واشنطن مفاده: "ما تتمناه السعودية تحصل عليه السعودية، وما ترغب فيه إسرائيل تناله إسرائيل" .
.
يد البيض تعبث بالفتى الأسمر
كان يفترض لهذه العلاقة الثنائية أن تنتج حالة من التوازن المقبول، بين طلبات الكيان الصهيوني، وحاجات ومصالح شعوب ودول المنطقة، لولا أن "ما كانت تتمناه السعودية" كان يتقاطع في كل مرة مع "ما ترغب فيه إسرائيل" والعكس صحيح، حدث ذلك في تقاطع مصالح إسرائيل والسعودية في ضرب نظام صدام حسين في العراق، وفي التحرش الدائم بإيران، والضغط المستمر على الأفرقاء في لبنان، وتصفية فريق حزب الله في حرب 2006، وإخراج السوريين من لبنان، وأخيرا حاجة ومصلحة السعودية وإسرائيل للإطاحة بنظام الأسد، الذي يقود إلى التخلص من حزب الله ثم من إيران، وفي الجملة تقاطعت رغبات ومصالح الحليفين مع المصالح الإستراتجية الأمريكية في المنطقة.
''ما لم يكن أوباما مستعدا لتبعات التدحرج المرتقب للعدوان، فإنه مقبل على هزيمة منكرة لأمريكا تفوق هزيمتها في العراق وأفغانستان، لتعطي معنى لما صرحت به مجلة " فورين بوليسي" بشأن "نهاية القرن الأمريكي"
لأجل ذلك، فإن الرئيس الأمريكي أوباما، الذي انتخب على برنامج إخراج الولايات المتحدة من مستنقعي العراق وأفغانستان، يجد نفسه اليوم رهينة لضغوط حليفين مؤثرين، اعتادت واشنطن على ألا ترد لهما طلبا: السعودية وإسرائيل، وقد يكتشف أوباما لاحقا أن "اليد الخفية" التي تدفع به ليكون ـ وهو القادم من خارج الصفوة الأنغلوسكسونية البيضاء ـ الرئيس الأمريكي الذي يدخل أمريكا في حرب إقليمية منفتحة على صدام مباشر مع القوة الروسية والصينية الصاعدة، تقول جميع الدوائر الإستراتجية الخبيرة أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لها قبل حلول سنة 2020، وأن خصوم الإمبراطورية لا يملكون فرصة أفضل من الفرصة التي وفرها النزاع في سورية، لجر الولايات المتحدة إلى عراق ثاني، قبل أن تنهي خروجها من مستنقع أفغانستان، وقد توفرت في سورية ذات الشروط التي كانت وراء هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام دون الحاجة إلى تدخل مباشر روسي أو صيني.
.
نهاية القرن الأمريكي وأكذوبة نهاية التاريخ
بعض التحليلات المتفائلة، زعمت أو بوتين سوف يلقي بحبل نجاة لأوباما أثناء لقاء نادي العشرين بسانت بترسبورغ، بإعادة صياغة مقاربة مضامين وشروط جنيف 2، غير أن تصريحات بوتين ولافروف لا تحمل هذا القدر من التفاؤل، بل أراها تشجع أوباما على المغامرة، بالإعلان المتكرر عن امتناع روسيا عن القتال بدل السوريين، وعن تجميد صفقة بطاريات "إيس 300" فيما تجتهد لتثبيط عزيمة حلفاء أوباما في العالم، وإشعار جيرانها من حلفائه في النيتو تحديدا، بأن أي تورط للحلف مع الولايات المتحدة سوف يقابل بدخول الروس على الخط، وإلا لا معنى لتحشيد الأسطول البحري الروسي عند سواحل سورية كما لم يحشد حتى في اللحظات الساخنة من حقبة الحرب الباردة.
فالإعلان الروسي السريع عن رصد الصاروخين اللذين أطلقتهما إسرائيل على السواحل السورية، أرسل رسالة غير مشفرة على أن الروس سوف يكونون حاضرين في المواجهة القادمة على محورين: محور التزويد الدائم للجيش السوري بما يحتاج إليه من أسلحة، وتسخير شبكة الرصد والتوجيه بالأقمار الصناعية العسكرية، وهو كل ما يحتاجه الجيش السوري للتعامل مع الضربة الصاروخية الأمريكية المرتقبة، أو مع التدخل الجوي الإسرائيلي لاحقا، وحتى مع تدخل بري لقوى إقليمية مثل تركية.
بقي لأوباما أن يوازن ويحسب وحده العوائد والكلف للعدوان، الذي خسره سياسيا وأخلاقيا حتى قبل أن يبدأ فيه، بامتناع إنتاج تغطية من مؤسسات الشرعية الدولية، بل وحتى من غطاء التحالف الدولي الذي احتمى به سلفه بوش الأب والإبن، وأنه ما لم يكن مستعدا للتدحرج المرتقب للنزاع مثل كرة الثلج، فإنه مقبل على هزيمة منكرة للولايات المتحدة تفوق هزيمتها في العراق وأفغانستان، لتعطي معنى لما صرحت به منذ أسبوع مجلة "فورين بوليسي" وهي الناطق الرسمي باسم أرباب "العقب الحديدي" بشأن "نهاية القرن الأمريكي" وتفتح الطريق أمام بداية لتاريخ يكذب نبوة فوكوياما حول "نهاية التاريخ".