مشاهدة النسخة كاملة : عيد الغدير يوم غلبة العقل على الإحساسات
حيدر القرشي
22-10-2013, 02:32 PM
حيدر القرشي
22-10-2013, 02:36 PM
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة و السلام على سيّدنا و نبينا أبي القاسم محمّد
وعلى أهل بيته الطاهرين المعصومين المكرّمين
واللعن على أعدائهم أجمعين
قال تعالى: { يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس}[1]
اليوم هو يوم عيد الغدير، و يوم عيد الولاية و التمسّك بأهل البيت والأئمّة المعصومين عليهم السلام، و لهذا ورد عندنا أنّه من المستحبّ للشيعة في هذا اليوم عندما يلتقون ببعضهم أن يتصافحوا و يقولوا: "الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين عليهم السلام" ، و ها نحن قد قلنا ذلك لجميع الإخوة و أدّينا تكليفنا بذلك [يبتسم سماحة السيّد]...
إرسال الرسول الأعظم منّة عظمى من الله على أمّته
و واقع المسألة هو هذا فعلاً؛ إذ ينبغي علينا أن نشكر الله تعالى على المنّة التي امتنّ بها علينا، و هي منّة الهداية و الوصول إلى حريمه، و منّة الوصول إلى مقام معرفته، و منّة الوصول إلى مقام السعادة و الفلاح الأبديّيَن، فهذه نعمات تستحقّ الشكر. و قد أشار الله تعالى إلى هذه المسألة في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم}[2] ، فالله يمنّ على المؤمنين إرسالَ رسول الله صلّى الله عليه و آله؛ وذلك أنّ الله كان قادراً أن يرسل شخصاً آخر مكان النبيّ، بل كان قادراً على ألاّ يرسل أيّ رسول، فبين عيسى عليه السلام و بين رسول الله صلّى الله عليه و آله حوالي خمسمائة سنة تقريباً، و قد كان الله تعالى قادراً أن يجعل الفاصلة بينهما ستّمائة سنة أو حتّى ألف سنة ! وليس ذلك بأمر عسير على الله تعالى. أو كان من الممكن أن يرسل رسولاً آخر بدلاً من رسول الله، فلو لاحظنا كلّ الأنبياء السابقين لوجدنا أنّ لهم مراتب متفاوتة و درجات مختلفة، فقد جاء حضرة موسى، و جاء حضرة عيسى، و كذلك جاء نوحٌ و إدريس و يوشع عليهم السلام... فهؤلاء جميعاً كانوا من أنبياء الله ورسله، و كان الله قادراً أن يستمرّ بهذه السلسلة فيرسل لنا شخصاً في رتبة هؤلاء و درجتهم. ألم يكن الله قادراً أن يفعل ذلك؟ بلى كان قادراً؛ فالله قادر على كلّ شيء.
و لكنّه انتخب لنا من بين جميع هذه الاحتمالات الممكنة فرداً خاصاً، و أرسل إلينا شخصاً معيّناً، و عندما أرسل لنا هذا الشخص خصوصاً قال لنا: الآن أنا أمنّ عليكم بإرسالي لهذا الشخص و ببعثته لكم! (هل فهمتم ما هي حقيقة الأمر ؟ و ما هي حقيقة حالنا؟ فنحن نضيّع أنفسنا و نخسرها بالمجان و دون أيّ مقابل!!)، إنّ الله تعالى يقول لنا: إنّني أمنّ عليكم ببعثي لهذا الشخص، و قد فتحت لكم طريقاً لم أفتحه حتّى الآن لأيٍّ من الأمم السالفة، ولم أجعل لأيٍّ منهم هذه المرتبة من المعرفة، و لم أجعل لأيٍّ منهم هذه المرتبة من الفعلية و الكمال، و ذلك كما يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"[3] .. يعني : أنا إنّما بعثت لكي أُوصل تمامَ المراتب الوجوديةِ للمعرفة و جميعَ مراتب الكمال الإنسانيّ إلى آخر درجاتها وأقصى مراتبها، بحيث لا يوجد مرتبةٌ أعلى منها!
ففي زمان حضرة موسى عليه السلام، كان يمكن افتراض شخصٍ ذو مرتبة أعلى، و لكنّه لم يكن موجوداً، و في زمان حضرة عيسى عليه السلام كان يمكن لنا أن نتصوّر مرتبة إنسانية أعلى، غاية الأمر أنّها لم تتحقّق واقعاً و لم تكن موجودة في ذلك الزمان، و كذلك الأمر في زمان نوحٍ و إدريس وسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام، فهؤلاء جميعاً كان لهم مراتب و درجات من المعرفة، و هذا بحدّ ذاته بحثّ مفصّل، و أعتقد أنّنا قد تحدّثنا عن هذه القضية سابقاً، و هي أنّه كيف أنّ مرتبة أمّة النبيّ صلّى الله عليه و آله وسلّم أعلى من مراتب الأمم السابقة من ناحية المعرفة الوجودية، و أنّ أمّة رسول الله تصل إلى مقام معرفة "الله أكبر"، وهو مقامٌ أعلى حتّى من مقام "لا إله إلاّ الله"، و هو مقام الجمع بين الهوهوية وبين الواحدية.
إنّ هذه مسألة مهمّة جداً حتّى أنّه ورد في بعض المجامع الروائية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: "علماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل"، وقد وردت هذه الرواية في كتب أهل السنّة.
إنّ السرّ في هذه الأفضلية هو أنّ تلك المرتبة من المعرفة و الكمال التي فتحها رسول الله لم تكن موجودة في الأمم السابقة، فمقدار معرفتهم، و سعتهم الوجودية و اطّلاعهم على مراتب الأسماء والصفات الإطلاقية اللانهائية للحقّ تعالى كانت محدودةً، وذلك مع أنّهم كانوا أنبياءً و رسلاً دون شكّ؛ و ذلك كما أنّ بين نفس الأنبياء و الرسل مراتب و درجات مختلفة ، يقول تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْض}[4] ، فالله يقول: نحن فضّلنا بعض الرسل على بعضٍ في المقامات المعرفية، فالمقام المعرفي و المرتبة الكمالية لكل واحدٍ يختلف عن مقام الآخر، و في عين أنّهم جميعاً كان يتلقّون الوحي الإلهي إلاّ أنّهم كانوا يمتلكون مراتب مختلفة.
الوحي له معنى واحد ولكن له مراتب متفاوتة
و إذا كان الرفقاء قد طالعوا تلك المقدمة التي كتبها الحقير في كتاب "أفق الوحي" فسيجدون أنّني قد أشرت إلى هذه المسألة، و هي أنّ الوحي مقولةٌ مشكّكة.. أي أنّ لها مراتب مختلفة ومتدرّجة، فمن الممكن أن يوحَى إلى شخص تلك الأحداث التي ستحصل غداً على سبيل المثال، فهذه مرتبة من الوحي... و يمكن أن يوحى إلى شخص آخر الأحداث التي ستحصل بعد شهر من الزمان، كما يمكن أن يوحى إلى شخص ثالث أنّه ما هو الأمر المختفي خلف القضيّة الفلانية و الذي يمثّل سرّ تلك القضية، و هذا النوع من الوحي أعمق قليلاً من السابق... ثمّ ممن الممكن أن يوحى إلى شخص بعض المعاني [المجرّدة]... و يمكن أن يوحى إلى شخصٍ أمورٌ لها علاقة بمراتب الذات الإلهيّة المقدّسة، و هذه المرتبة من الوحي الذي يتجاوز عن مرتبة الصورة وحتّى عن مرتبة المعنى! و من هنا يتبيّن أنّ الوحي ليس بمرتبة واحدة، ولا في جهة واحدة ولا بمنزلة واحدة.
من كان في المرتبة الأدنى لا يدرك ما يجري في المراتب العليا
وإذا كان الرفقاء الأعزّاء يذكرون ما ذكرناه عن قضيّة ذلك العالم الجليل الذي تشرّف بزيارة مدينة مشهد المقدّسة (وهو حالياً قد انتقل إلى رحمة الله)، فجاء لعيادة السيّد الوالد رضوان الله عليه، ففهم من خلال الكشف البرزخي و انكشاف الصورة البرزخية له أنّ السيّد العلاّمة رضوان الله عليه قد ترك أداء صلاة الليل لمدّة معيّنة (و كان ذلك عندما كان سماحته في المستشفى بعد إجراء عملية جراحية له، و كان الحقير في خدمته في تلك الفترة)، و عندما انكشف ذلك لهذا العالم رحمه الله أراد أن يلفت نظر العلاّمة و يذكّره بأنّه ينبغي الاهتمام الشديد بصلاة الليل، و أنّه لا ينبغي ترك صلاة الليل بأيّ حالٍ من الأحوال!
و من الواضح أنّ كلامه كان صحيحاً، فصلاة الليل مهمّة جداً، و لا ينبغي للإنسان أن يتركها طالما أنّه قادر على ذلك، و إذا واجهته مشكلة منعته من أدائها في وقتها قبل أذان الصبح و بعد منتصف الليل، فيستحبّ له أن يصلّيها قبل أن ينام، أو يمكن له أن يقضيها في اليوم التالي!! و هذا يكشف عن الأهميّة الكبيرة لصلاة الليل. واضح؟
عندما نقل الحقير هذه القضية، فقد ذكرت مسألةً هناك (ولا أدري إن كنتم تذكرون أم لا)، و هي أنّ درجة المعرفة التي كانت عند هذا الرجل العظيم (رحمه الله، فأمثال سماحته في هذه المرتبة قد غدَوا في حكم الكيمياء و الإكسير النادر[5]، يعني لقد وصل الحال إلى درجة أنّنا ينبغي أن نعبّر عن مثل هؤلاء الأفراد بأنّهم كالإكسير و الكيمياء ). أجل .. إنّ هذا العالم بالرغم من أنّ كشفه كان صحيحاً، و ما ذكره من أمور كانت صحيحة إلاّ أنّ ذلك يكشف عن كونه في حدود مرتبة معيّنة من الانكشاف و الكشف المعنوي ولميتجاوزها، و هي المرتبة الصورية والمرتبة المثالية البرزخيّة، فهو قد انكشفت له هذه الصورة في المرتبة البرزخية فقط، حيث يظهر في تلك المرتبة بأنّ هذا الشخص هل هو واجدٌ لهذه الصورة [أي صورة أداء صلاة الليل] أم لا؟
لقد كان أحد الأعاظم (و هو ممّن له حقّ التعليم على الحقير) يقول: لقد منّ الله عليَّ ـ بواسطة بعض الحالات و الرياضات التي أديتها ـ بنوعٍ من التنبّه و الإدراك الذي أستطيع من خلاله أن أشخّص الأفراد الذين يلتقون بصاحب الزمان عجّل الله فرجه، و يشاهدونه حضورياً، فأنا أشاهد صورةً خاصّة و حالةً خاصّة في وجه هذا الشخص على إثر لقائه بالإمام عليه السلام!
و هذا الكلام يمكن أن يكون صحيحاً فعلاً، ولا إشكال في ذلك. و قد كان هناك شخصٌ من العلماء يعيش هنا في قم، و كان من السادة المحترمين الأجلاّء، و كان معروفاً عنه بأنّه يلتقي بصاحب الزمان بعض الأحيان، و عندما رأى ذلك العالمُ هذا السيّدَ قال له: أنت قد قابلت حضرة صاحب الزمان! فأنكر السيّدُ الأمرَ، فقال له: لا تنكر فأنا أعرف حقيقة الأمر ولا فائدة من الإنكار! و قد كان بينهما نوعٌ من الصداقة، فلم يتمكّن ذلك السيّد من الإنكار بعد ذلك...
أجل، إنّ حصول مثل هذه الحالات للإنسان، (أي أن يظهر له أثر تلك الحالة المعنوية على وجه الشخص الذي مرّ بتلك الحالة فيعرفها) أمرٌ ممكن، ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يظهر لكلّ شخص، بل لا يفهم ذلك إلاّ الأشخاص الذين حصل لهم مقدارٌ من التنبّه و الإدراك لمثل هذه الأمور.
حسناً.. ولكن هذه مرتبةٌ معينة من الانكشاف والإدراك، و يوجد مراتب أخرى أعمق و أكثر بطوناً وخفاءً، و هؤلاء الأفراد لا يقدرون أن يدركوا هذه المرتبة بل هي خافية عليهم، و هذه هي المرتبة التي يشير إليها الخواجة بابا طاهر بقوله:
خوشا آنان که الله یارشان بی
به حمد و قل هوالله کارشان بی
خوشا آنان که دائم در نمازند
بهشت جاودان بازارشان بی
(يقول: هنيئاً لأولئك الذين كان الله جليساً لهم على كلّ حال ، فهم دوماً مشغولون بـ "الحمد" و "قل هو الله أحد".
هنيئاً لأولئك الذين هم دائماً في حالة صلاة، فتجارتهم ليست إلا جنّة الخلد).
إنّ كونهم في حالة صلاة دائمة يعدّ مرتبةً عاليةً لا يراها من كان محدوداً بتلك المرتبة من الكشف ولا تظهر له؛ فهذا العارف جالسٌ يتحدّث ولكنّه في الواقع في حالة صلاة، أو هو يمشي في الشارع ظاهراً ولكنّه في الواقع في حالة صلاة، و أنت تراه نائماً لكنّه في الواقع في حالة صلاة ، و ما ورد في الرواية أنّه: "حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم" يتحدّث عن هؤلاء...
أو تراه يتناول طعامه ولكنّه في الواقع في حالة صلاة، فهو يأكل الطعام ظاهراً ولكن لو استطعت أن تدقّق في حاله لعرفت أنّه في مكان آخر! و يحلّق في أفق آخر! فهو يتناول الطعام معك ولكنّه يحلّق في أفق آخر، فوجناته تحكي عن كونه في وادٍ آخر، وتجده يتحدّث معك، و لكنّك ترى أنّه فمه هو الذي يتحرّك بالكلمات، ولكنّه في مكان آخر و أفق مختلف...
و من هنا فأولئك الأفراد الذين وصلوا إلى مرتبة الانكشاف الصوري فقط لا يمكنهم إدراك ما يحصل مع هؤلاء! لا يمكنهم ذلك! و بطبيعة الحال فإنّ الإنسان يمكن أن يصل إلى مرتبة بحيث يمكنه أن يدرك هذه المعاني العميقة، و لكنّه لو وصل إلى هذه المرتبة فإنّه لن يعترض على المرحوم السيّد العلاّمة رضوان الله عليه قائلاً: لا ينبغي للإنسان أن يترك صلاة الليل! فاعتراضه يكشف أنّه لم يدرك تلك المرتبة ولم يصل إليها، و بذلك يتبيّن أنّه وصل إلى حدٍّ معيّنٍ فقط و لم يتجاوزه، و ما وصل إليه صحيحٌ، و هو أنّ الحقيقة الصورية للصلاة التي تحصل من خلال أدائها لم تظهر له ولم يشاهدها في عالم البرزخ ؛ لأنّ هذا هو حدود قدرته و استطاعته وطاقته.
اختلاف مراتب الأنبياء و بلوغ رسول الله أعلى المراتب المتصوّرة
إنّ المسألة من هذا القبيل فيما يخصّ الأنبياء السابقين؛ فكلّ واحد منهم له مرتبة معيّنة من الوحي، وحتّى النحل له مرتبة من الوحي، فالله تعالى يقول: {وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتا}[6] ، وليس صحيحاً أنّ الوحي له معنيان أو ثلاثة معانٍ، كلاّ ليس الأمر كذلك، و ليس الأمر من قبيل (عموم المجاز)[7] هنا أيضاً، بل "الوحي" له معنى واحد، و هذا المعنى موجود في النحل، بل في سائر الحيوانات الأخرى؛ فذلك الحيوان الذي يمرض فيبحث عن نوعٍ من الأعشاب مناسبٍ لعلاج مرضه أو إصابته فيجده و يتعالج به.. ذلك الحيوان يتلقّى الوحي أيضاً، حتّى إنّه يقال أنّ البنسيلين اكتشف بهذه الطريقة حيث لاحظوا أنّ بعض الحيوانات عندما كانت تجرح كانت تبحث عن نوع معين من الفطر فتمسح نفسها به، فتتعافى ممّا أصابها، فبحثوا في الأمر حتّى اكتشفوا البنسيلين! فما هو هذا الذي [جعل ذلك الحيوان يعرف هذه المسألة]؟ إنّه الوحي.
فالوحي إذاً ليس مختصّاً بالنحل، بل حتّى غيرها من الحيوانات يوحى إليه أيضاً، و كذلك الإنسان؛ فأنت عندما تجلس لتفكّر في حلّ مسألة معيّنة، ولا تجد حلاً لتلك المعضلة مهما حاولت، ثمّ فجأة ترى أنّ طريق الحلّ قد انكشف أمامك، فتقول: يا للعجب! كم كان الحلّ سهلاً! فما هذا الذي حصل؟ إنّه وحيٌ أيضاً. و ذلك المكتشف و المخترع الذي يعمل على اختراع أمرٍ ما، حتّى يصل إلى نقطة مسدودة بحيث يرى أنّ تفكيره لا يقدر أن يمضي قدماً في حلّ المسألة التي بين يديه، ثمّ فجأة يرى أن الأمر الذي كان يبحث عنه قد انكشف له حتّى كأنه يراه بعينه! فمن أين جاء؟ و كيف حصل ذلك؟ فهو لم يكن يفكّر في هذا الاتّجاه، و لم يتصوّر أن الحلّ من هذه الجهة أبداً؟! إنّ ذلك وحيٌ أيضاً! ولهذا تجد المخترعين و المكتشفين يقولون: إنّ آخر مرحلة من مراحل الوصول إلى الاختراع الذي توصّلوا إليه ، و آخر مرحلة من جهودهم في الاختراع هي الإلهام، فبدون ذلك الإلهام فإنّ جميع جهودهم التي بذلوها في الليل و النهار ستذهب سدىً ولن تصل إلى النتيجة المرجوّة، فهي تمضـي و تتحرّك حتّى تصل إلى نقطة الـ 99 % لتتوقّف هناك دون أن تكلّل هذه الجهود بالنجاح و دون الوصول إلى المطلوب... إنّ هذه جميعاً من مصاديق الوحي. واضح؟
و لدينا من الوحي ما نزل على الأنبياء عليهم السلام، مثلاً يوحى إليهم أنّه ينبغي أن يؤدّى العمل الفلاني في القضية الفلانية، و أمّا القضية الفلانية فيجب أن يُفعل فيها كذا، و أمّا التكليف في هذه المسألة فهو هذا، و التكليف في تلك المسألة هو ذاك... هذا نوعٌ من الوحي النازل على الأنبياء، و هناك نوعٌ آخر من الوحي ، و هو الوحي الذي يبيّن حقائق التكاليف، بمعنى أنّه يبيّن أنّ هذا التكليف هو على أيّ أساس؟ و ما الملاك فيه؟ فيوحى لهذا الشخص لميّة الأحكام و التكاليف و حقيقتها، و على أساس ذلك يتمكّن هذا الشخص أنّ يوسّع هذا المطلب الذي كُشف له إلى المطالب الأخرى التي لم يذكر أمرها بالاسم، و هنا نلاحظ أنّ المسألة صارت أدقّ و أعلى ممّا سبق، ثمّ الأعلى من ذلك هو الوحي المتعلّق بالحقائق النوعية، ثمّ بعد ذلك تأتي مرتبة أعلى هي مرتبة الوحي المتعلّق بالحقائق التوحيدية، و من هنا تصبح تلك المراتب مراتب عالية جداً...
ثمّ إنّ آخر مراتب ظهور الله تعالى، وآخر مرتبةٍ من مراتب إظهار أسماء و صفات الله، و آخر مراتب الفعلية في اكتساب الكمالات الوجودية قد جاءت بواسطة شخص الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، يعني بعد هذه المرتبة لا يمكن تصوّر مرتبة أعلى، بحيث يمكن أن تقول عنها : (يا ربّ، إنّ المرتبة الفلانية هي مرتبة محتملة و يمكن الوصول إليها و لكنّك لم تعطنا تلك المرتبة... إنّ مثل هذه المرتبة يمكن أن نتصوّرها و لكنّك لم تجعلها لنا!) .. إنّ مثل هذه المرتبة لا وجود لها! فلك أن تتصوّر أيّة مرتبة تريد، و أيّة قدرة، و أيّة فعليةّ، و أيّة قوّة.. تصوّر ما شئت من مراتب ذلك، فإنّ كلّ مرتبة من ذلك قد حصلنا عليها [و أتيحت لنا] بمجي رسول الله صلّى الله عليه و آله!! و هنا نقول:
گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست؟
(يقول: إذا كان الشحّاذ مقصّراً فما ذنب صاحب المنزل[8])
ولهذا كنت أقول لكم قبل قليل: إنّنا نخسر أنفسنا و نضيّعها مجاناً و دون أي مقابل!! فنحن في موقعيةٍ يمنّ الله بها علينا ، و يقول: لقد أرسلت لكم رسولاً يأخذ بأيديكم و يوصلكم إلى مقام أعلى من مقام أنبياء بني إسرائيل، فما الذي كان أنبياء بني إسرائيل يفعلونه و ما هي مراتبهم الوجودية؟ و ما هي مراتبهم المعرفية و التوحيدية؟ والحال أنّنا نرى أنّ المرتبة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه و آله تغطّي جميع تلك المراتب، و لا تترك بعد ذلك أيّ نقطة من الخلأ و الفراغ!
لمَ كان يوم الغدير يوم إكمال الدين و تمام النعمة؟
لقد برزت في يوم الغدير هذه المسألة إلى منصّة الظهور. فلماذا حصل ذلك في يوم الغدير؟! و ما القضيّة التي حصلت واقعاً في ذلك اليوم؟ هل فكّرنا في ذلك سابقاً؟ فهل كان أمير المؤمنين عليه السلام أعلى من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم حتّى يأتي الله و يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً}[9]؟! فهذا هو اليوم الذي فرغت فيه من هذا الدين الذي أرسلته لكم و اطمأننت عليه، فأنا اليوم أكملت لكم هذا الدين و أتممت نعمتي...
لقد أرسلت لكم الرسول فقضى بينكم ثلاثةً و عشرين سنة، و قد كان كلّ يومٍ من هذه السنوات الثلاثة و العشرين نعمةً من النعم، و كان كلّ يوم منها كرامةً و أفقاً جديداً يفتح أمامكم، و أنتم قد رأيتم ذلك بأنفسكم! لقد رأيتم كيف كان رسول الله يتصـرّف: كيف كان يصلّي، و كيف كان يتحدّث ، وكيف كان مع الأطفال، و كيف كان مع الشيوخ، و كيف كان يعلّمكم مكارم الأخلاق، و طريقة المعاشرة مع من حولكم، و هذه الأمورٌ كلّها موجودة في كتب سنن النبي صلّى الله عليه وآله و في المجامع الروائية و الأخلاقية، إذ لم يكن ينقضي يوم لرسول الله بين الناس دون أن يبيّن نكتةً ما، أو يطرح مطلباً مفيداً.
فكيف كانت صلاة رسول الله؟ و كيف كان يصوم؟ كيف كان رسول الله يؤدّي صلاته؟ هل كان يصلّي الظهر و العصر معاً كما نفعل نحن الآن؟! أم لا ؟ و هل كان يصلّي المغرب و العشاء معاً أم كان يفرّق بينهما؟ إنّ الرسول صلّى الله عليه و آله كان يفرّق بين الصلّوات.. يعني أنّه كان يصلّي الظهر في وقتها، و يصلّي العصر في وقتها (يعني بعد الظهر بساعتين)، وكان يصلّي المغرب عند غروب الشمس و استتار القرص، و كان يؤدّي صلاة العشاء بعد المغرب بحوالي ساعة و نصف، و أحياناً كان يؤخّرها عن ذلك، لأنّه قد ورد عندنا أنّ تأخير صلاة العشاء قليلاً أفضل...
ضرورة الالتزام بسنة الرسول وأهل بيته عليهم السلام واتّخاذ ذلك شعاراً
حسناً.. فلماذا نحن الآن نصلّيهما معاً دون تفريق؟! حتّى أنّني سمعت أنّ شخصاً من أصحاب الرسالة العملية يقول: إنّ الجمع بين الصلوات قد صار شعاراً للشيعة، و لا ينبغي تركه! فوا عجباً له!! يعني هل ينبغي لنا أن نترك تلك السنّة التي سنّها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و اتّبعها الأئمّة عليهم السلام من بعده، و نجمع بين الصلوات ـ الذي هو خلاف سنّة الرسول ـ بعنوانه شعاراً للشيعة ؟! هل هذا هو شعار الشيعة؟! لا كان مثل هذا شعاراً للشيعة أبداً! فأيّ شعار أعلى من اتّباع سنّة النبيّ صلّى الله عليه و آله؟! هل ينبغي أن نرجّح شعاراً مخترعاً على سنّة رسول الله؟! لهذا السبب ترى الأوضاع كما هي عليه الآن!! هل يمكن للشيعة أن يتّخذوا لأنفسهم شعاراً مخالفاً لسنّة رسول الله و الأئمّة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين؟! أم أنّ الشيعي ينبغي له أن يضع قدمه حيث وضع رسول الله قدمه، و كفى! و أن يضع قدمه حيث وضع الإمام السجّاد قدمه، و ليقل كلّ شخص ما يشاء! فهل كان الإمام السجّاد عليه السلام يصلّي صلواته مجموعة أم مفرّقة؟ هذا هو المهمّ، ولا شيء غيره! فهل كان الإمام السجاد يجمع بين صلاتيه أم لا؟! سواء كان فلان يجمع أم لا، فهذا غير مرتبط بي، لو كان يصلّيهما معاً فليفعل.. ولو كان فلان يفعل ذلك فليفعل.. علينا أن ننظر إلى الإمام السجاد ماذا كان يفعل وكفى، هذا هو الشيء الذي أخطأنا الوجهة فيه! هذه هي خلاصة القضية. هل فهمتم الآن لماذا قال: (اليوم أكملت لكم دينكم)؟ سببه أنّنا تركنا أئمّتنا جانباً!!
لقد قامت سيرة النبي أن يكون حائط المسجد بارتفاع مترين فقط، وأن يكون سقفه من الطين والخشب بالمقدار الذي يمنع من الشمس والمطر والثلج.. وحتى هذا المقدار لم يكن النبي يرغب في وضعه، لكنْ لكثرة إصرار الأصحاب استجاب النبي لهم؛ حيث كانوا يقولون له بأنه ماذا نفعل بالمطر.. فإن أتى الإنسان لصلاة المغرب ينبغي أن يبدّل ثيابه بعدها بسبب البلل، أو ينبغي عليه عندما يرى أن السماء ستمطر، أن يأتي بثياب معه حتى إذا تبللت ثيابه غيّرها هناك، وإلا فسوف يمرض!! فالنبي مراعاةً لحالهم قال لهم: لا بأس.. أسمح ببناء سقف!! لكنّه لم يسمح أن تبنوا قبّة، وبعد ذلك تقولوا بأنّ قبّة مسجدنا لا يوجد مثلها في العالم! ولا أن تبنوا منارة وتقولوا لقد كلّفت هذه المنارة كذا وكذا، ولا أن تعملوا على تذهيب المساجد ـ وهو فعل محرم ـ وتزينوها بالنقوش والزخارف.. بل قال لهم: "عريش كعريش موسى"[10]، اذهبوا وافعلوا ذلك. صحيح؟
فإذا أردنا أن نفعل خلاف ذلك، فما الفرق بين مساجدنا وبين الكنائس وكنس اليهود، إذ عندما يرى الإنسان هذه الكنائس يرى أن جميع همّ باني هذه الكنيسة وهدفه وكذا هدف البنّاء والمهندس وجميع المشاركين.. إنما تبتني على أساس النفسانيات والأنانيات والأهواء.. فهم يريدون أنّه عندما يأتي البابا ليتحدث إلى الناس يجلس في المكان المرتفع المخصّص له، بحيث أن أنظار جميع الناس تتّجه نحوه تلقائياً، ويحكّم فيها تلك الأبهة الجلالية والظاهرية، بحيث أنّ الناس يتأثرّون بتلك العظمة الخاوية والظاهرية.. ما هذه!؟ جميع هذه الأمور هي الدنيا. فهو ليس لديه عظمة معنوية، ولا جلال معنوي، ولا أن بهاءه بهاء الله، ولا جلاله جلال الله، ولا نوره نور الله، ولا عظمته عظمة الله؛ لذا يرى نفسه مجبراً على الاستفادة من الأبّهة الشيطانية والبهاء الشيطاني والعظمة الفارغة الشيطانية لرفع النقص الموجود عنده، ويلفت أنظار الناس إليه، إذ لا بدّ أن يستمعوا له، وإلاّ فلا فائدة في هذا الديكور الذي ابتدعه لنفسه وتلك المسائل الأخرى، لذا فهو مجبر على الاستفادة من هذه المسرحية، وكذا الاستفادة من هذا الديكور.. فتراه يعلي نفسه ويصغّر الآخرين، إلى أن تضعف نفوس الناس أمامه ويخضعون له ويطأطئون رؤوسهم في محضره.. حتّى أنّ بعضهم يتأثر وينفعل، فيبدأ بالبكاء!!
وقد شاهدت بنفسي بعضهم يبكون عندما يأتي البابا لإلقاء خطاب عليهم.. لماذا تبكون أيها الناس؟! لماذا تعظ!مونه إلى هذا الحد!؟! فهو ليس له علم ولا معرفة، وكلّ ما لديه هو هذه العظمة الظاهرية وهذه العظمة الخاوية والدعاية الفارغة، وهذه هي التي تأتي وتتغلّب على إحساساتنا، وبعد غلبة الإحساسات يكون هو المسيطر، وبعد ذلك لا وجود للعقل، بل الموجود في هذه الحالة هو الإحساسات، فتراهم يقولون: فلنذهب لملاقاة البابا، لنذهب إلى الكنيسة لرؤية البابا!! عندما يجلس في ذاك المكان.. فيأتون بالبساط الأحمر والكاميرات وسائر الأمور، فإذا جاء تجد الناس يبدؤون بالبكاء.. يا عزيزي لماذا تبكي؟ وما الذي أثّر فيك؟
حيدر القرشي
22-10-2013, 02:42 PM
يوم الغدير هو يوم غلبة العقل على الإحساسات
يوم الغدير إنّما هو لأجل أن يرفع هذه الإحساسات عنّا، إنّه من أجل ذلك. فالنبي كان قد أتى طوال ثلاثة وعشرين سنة بأحكام وبيّنها للناس، لكن الله تعالى لم يقل: (اليوم أكملت لكم دينكم)، ولم يقل: (أتممت عليكم نعمتي)، والحال أن النبي أعلى من أمير المؤمنين، حيث أنّ النبي كان حائزاً على مقام الولاية الكلية ومقام ختم الرسالة، فضلاً عن كونه مربياً لأمير المؤمنين، فأمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: "كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه"[11]، يقول: كنت أتبع النبي حتى أني كنت أضع قدمي مكان قدم النبي، كما أن الفصيل يتبع أمّه الناقة ويضع قدمه محل قدمها، حتّى أنّي لم أكن أضع قدمي في غير المكان الذي وضع قدمه فيه، وهذا عجيب جداً.. لم أكن أخالفه في شيء أبداً، بحيث أن ذاك الممشى الذي وضعه النبي لي لم أكن أتخطاه إلى هذا الطرف أو ذاك. ألم يقل أمير المؤمنين عليه السلام: "أنا عبد من عبيد محمد"[12]؟ فهل كان يمزح عندما قال ذلك؟! أم هل كان يتواضع؟! كلا هذا الكلام لا يصدر من أمير المؤمنين! نعم، يمكن أن يصدر منّا نحن، فالتواضع والاحتيال والمسخرة والقول بخدمتكم مولانا وما شابه ذلك (بينما من جهة أخرى نعمل ما يحلو لنا!!).. هذه لنا نحن، ولا يصدر هذا الكلام من أئمّتنا عليهم السلام، فالتواضع وخلاف الواقع لا يتّأتى من الأئمة، فعندما يقول الإمام: "أنا عبد من عبيد محمد" فهو يقول الواقع والحقيقة لا أنّه يكذب. لكن مع ذلك يأتي البعض، ويقول بأن أمير المؤمنين كان أعلى من النبي، هذا كله مخالف للصواب؛ فالإفراط مخالف، كما أن التفريط أيضاً خلاف، والواجب علينا أن ننظر إلى رسول الله بعنوان كونه التجلي الأعظم لله والجامع لمقام الواحدية والأحدية وبكونه الظهور الأول للباري.. فهذا كله محفوظ، وبعده أمير المؤمنين.
فالنبي الذي هو علة وجود وتكوين نفس أمير المؤمنين، وهو من الناحية التشريـعية أستاذ أمير المؤمنين ومربّيه الذي أخرجه إلى حالة الفعلية؛ كما كان يقول: "كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثير أمه"، و ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقول : "كان يرفع لي في كل يوم درجة ويعلمني ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب".. فالنبي الأكرم من كلا الطرفين أولى وأرجح من أمير المؤمنين؛ إذ هو أرجح من الناحية التكوينية، ومن الناحية التشريعية والتربوية أيضاً.
و مع ذلك فقد بقي النبي لمدّة ثلاثة وعشرين عاماً بين الناس، إلاّ أنّ الله تعالى لم يقل: (اليوم أكملت لكم دينكم)، فهل أضاف أمير المؤمنين يوم الغدير شيئاً على الدين؟ فهل أضاف حكم الصلاة؟ كلا بل الصلاة كانت مشرعة قبل ذلك. هل أضاف حكم الحج أو غير فيه، هل غيّر حكم الزكاة؟ ما الذي حصل يوم الغدير؟ ماذا قال أمير المؤمنين في ذلك اليوم؟ لم يقل شيئاً، بل الذي حصل هو أنّ النبي أتى وأخذ يده وقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، فكل من كنت مولاه وأقرب إليه من نفسه.. يعني أن النبي بما له من الاختيار بالنسبة إلينا، وبما له من التصرف فينا بما لا نمتلكه نحن بحقّ أنفسنا...
فنحن ليس لدينا الحقّ في أن نجرح يدنا، وإذا فعلنا فسوف يحاسبنا الله على ذلك. ليس لدينا الحق في أن نتصرف في جسدنا كأن نقطع الرجل مثلاً، إذ سنحاسب ونسأل: لماذا قطعت رجلك؟ لا يحق لك ذلك، حتى لو كانت رجلك.. فهذه الرجل أعطاك الله إياها، وهي مرتبطة بك لا أنك مالكها، وسوف تؤخذ منك بعد مدة، وعليك المحافظة عليها طوال هذه المدة، فإن جرحت عليك أن تضع عليها المضادات الحيوية، وإن أصابها وجع فعليك أن تذهب لمعالجتها، فإن لم تذهب إلى الطبيب وأصابها شيء بعد ذلك فأنت مسؤول، وسوف تحاسب على تقصيرك بالمسارعة في الذهاب إلى الطبيب!! لقد أُعطيت هذه اليد، وعليك أن تستخدمها في طريق التكامل؛ تنفق بها، وتكتب بها، وتحمل الكتاب بها، وتساعد الفقير، وتأكل بها.. وهذه الأعمال عليك أن تجعلها في طريق تكاملك. لقد أعطيتك العين والأذن لهذا الهدف أيضاً، وإن لم تستفد منها في ذلك.. كأن تقول: إلهي أنا لا أريد يدين اثنتين، بل تكفيني يد واحدة!! تكفي اليد اليمنى، أو اليد اليسـرى والثانية إسراف [وسوف أقطعها]!! فسوف تحاسب عليها وعليك أن تجيب عليها يوم القيامة، فما علاقتك أنت بذلك حتى تأتي وتقطع يدك؟! وما علاقتك أنت بأن تأتي وتسبب الأذى لبدنك؟ أنا الذي أعطيتك إياه، وعندما أريد آخذه منك.. إذ أحياناً يأخذه الله منه، فإمّا بأن يأخذ جميع البدن، أو بعضه.. هكذا ينبغي أن يتعامل الإنسان مع هذه المسألة.
وإذا أوكلتُ إليك أمر شخص معيّن، أمر زواجه مثلاً، أمر حياته ورفع حاجاته.. مثلاً الله تعالى يقول: لقد جعلت لك أن تتزوّج، فبعد أن تتزوّج تقول أحب الآن أن أطلّق؟! لا يحقّ لك أن تطلق، فمن تكون أنت حتى تطلق؟ الله سيحاسبك على ذلك. أو أن تأتي الزوجة وتقول: أريد الطلاق!! إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تزوّجتِ من الأساس؟ فتارة تكون مسألة الطلاق لأجل أمر أخلاقي أو بسبب عدم تفاهم أو لأي مشكلة أو سبب آخر، فهذا محفوظ في محله، بل قد يصل الطلاق إلى حدّ أن يكون مستحبّاً أيضاً، ولكن إذا كان الأمر من باب الظلم والعدوان، فإن الله سيطالب ويحاسب، ويقول: لا يحق لك الطلاق في هذه الحالة!
نعم، إذا كانت المسألة توجب اختلال الحياة من أساسها فهذا كلام آخر، حيث جعل الله طريق حل لهذه الحالة، وأما إذا كانت المسألة اعتباطية وبحسب الرغبة؛ بأن تقول أحب أن أطلق! أحب أن أذهب، أحب أن لا آتي.. فلا يحق ذلك، لأن المسألة ليست بحسب الرغبة والميل. وكذا الحال في سائر الأمور، إذ ليس لدينا اختيار مطلق حتّى نفعل ما يحلو لنا، بل لا بد من العمل على طبق الضوابط والموازين؛ وهو الطريق الذي وضعه الشارع لنا، والطريق الذي عينه الله، وإذا حصل منّا تخطٍّ فإن الله سيحاسبنا على ذلك، وهو يعلم كيف يحاسب، وكيف يعاقبنا؛ بحيث أنك لا تشعر من أين جاءتك العقوبة و من أين أُخذت!!
وبشكل عامّ لا بد أن يكون العمل صحيحاً، لكن هنا يقول الله: أليس لي حق الاختيار لك؟ فأنا الذي أقول لك لا يجوز قطع يدك، وإذا فعلت سوف أحاسبك على فعلك.. فأنا الآن أقول لك: اذهب إلى محاربة الكفار وقاتلهم ولو كان في ذلك قتلك، وإذا قتلتَ فأنت شهيد! وأنا الذي أقول لك عليك أن تدافع عن إمام زمانك، وإن قتلت فأنت شهيد.. ففي هذه الموارد الاختيار لي، أنا الذي أقول لك اذهب، وعليه فلا يوجد ضرر. عندما أقول لك عليك أن تطلق زوجتك! فلا بد من الطلاق. لماذا؟ لأن الله تعالى أولى منّا بأنفسنا. وكذا في سائر الأمور، وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمام والنبي، لذا يقول تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، يعني أنه في الأفعال التي لا يحق لنا التصرف فيها، ولا اختيار لنا ولا نستطيع القيام بها انطلاقاً من خيالاتنا وتوهّماتنا.. هذه الأفعال إن أتى النبي وقال لنا افعل! فلا ينبغي الكلام في ذلك أبداً، بل يجب العمل دون أي اعتراض. ولو قال: اعدم نفسك! فعليك الامتثال مباشرة، بأن تحمل المسدّس وتطلق النار على نفسك، والسلام، لأنه النبي!
ولو قال عليك أن تطلّق زوجتك، يجب الامتثال دون تردّد. ولو قال للمرأة عليك الابتعاد عن زوجك، لا ينبغي التأمل والتردد في ذلك. وقد ذكرنا هذه المطالب في مباحث عنوان البصري، لو يتذكر الإخوة[13].
حسناً! ماذا تعني هذه المطالب؟ تعني أن اختيار النبي في جميع الأمور وفي جميع مراتب وجود الإنسان مقدّمة على اختيار الإنسان نفسه. والآن يأتي الرسول ويقول هذه الأولوية التي كانت لي عليكم والتي ستبقى إلى يوم القيامة دون أن تنقـضي بموتي.. هذه الأولوية موجودة عند علي أيضاً، هذه هي المسألة! يعني لا تتوهموا أني راحل عنكم بعد شهرين، إذ سأموت بالسم الذي يدسه لي زوجتاي هاتين.. ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنهما اللتان سمّتا رسول الله.. طبعاً بإدارة وتوجيه من الخارج، لذا نحن نعتقد بأن رسول الله مات شهيداً مسموماً...
[يريد رسول الله أن يقول لنا: لا تتوهموا أني راحل عنكم بعد شهرين، لأنّ] هذه الولاية والأولوية سوف تبقى، وهنا يقول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم). وإلاّ فما هو الحكم الذي جاء به أمير المؤمنين ولم يكن قبل ذلك؟ إذ النبي ذكر أحكام الصلاة للجميع قبل ذلك، وكذا أحكام الصوم والخمس والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله، نعم بيّن بعضها بشكل مجمل في الروايات، وتم بيانها بشكل مفصل في زمن الأئمة عليهم السلام، وخصوصاً ما ورد في المجاميع الروائية الواردة عن الصادقَين بالذات. فلو فرضنا أن الله تعالى يريد أن يضيف حكمين بعد مائة سنة أو مائة وخمسين سنة، فهل يقول من أجل ذلك: "اليوم أكملت لكم دينكم"، فهل حقيقة الأمر كذلك؟ هل نتصوّر أنّ الله لم يعتبر جميع جهود النبي طوال ثلاثة وعشرين سنة، أما الأحكام التي سيأتي الأئمة ويبيّنوها فهي التي يكمل الدين بها؟! لا شك أن الأمر ليس كذلك. فما هي المسألة التي هي أعظم من التكليف؟ ما هي القضية التي هي أهم من هذه الثلاثة وعشـرين سنة؟ وما هو الشيء الأخطر والأهم والأرجح الذي جعل الله تعالى يهدّد رسوله بالقول: (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)؟؟ إنّ بيان حكمين إضافيين لا يستدعي تهديداً، إذ مفاد التهديد هو أنه إن لم تفعل هذا الأمر فإن جميع ما قمت به خلال ثلاثة وعشرين عاماً سيذهب هباءً. لماذا هذا التهديد؟ إذ الأحكام الشرعية قد بُيّنت، ومكارم الأخلاق قد عرضت، وسيرته قد كشفها للجميع.. فما الذي بقي حتى يأتي الخطاب الإلهي إليه ويهدّده عبر قوله: (يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)؟! فالله كان قد طلب من النبي إبلاغ ولاية الإمام عليه السلام طوال هذه المدة أكثر من مرة، وكان النبي يخشى من بيانها مباشرة، وإن كان قد أبلغها بعبارات مختلفة ومسائل أخرى: كقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، و "لولا أن أخاف على أمتي..."، و "علي كنفسي..." وغيرها من الروايات، وكان يذكر هذه المسائل بين الأصحاب ويهيئ بذلك الأرضية له، لكنه كان يخشى أن يقول لهم: (لقد نصبت لكم بعدي أمير المؤمنين، وما كان لي من حكم عليكم وأولوية من أنفسكم؛ حيث لا يمكنكم أن ترجحوا إرادتكم على إرادتي، ويجب عليكم شرعاً وعقلاً وتكليفاً أن ترجحوا اختياري وتقدموه على اختياركم وإرادتكم.. فهذا الترجيح والأولوية التي لي تنتقل إلى علي بعدي)، لم يقل ذلك؛ لأنه يعلم بالأوضاع، وكان يرى الناس ويعرف ميولهم وأهواءهم ويشاهدهم كيف يفكرون، وكان يرى المنافقين.. الذين كانوا ينتظرون أن يحصل للنبي أمرٌ كي يأخذوا بزمام الأمور، كانوا ينتظرون حصول شيء حتى ينقضّوا بعد ارتفاع هذا المانع، ألم تروا الأحزاب السياسية كيف تتعامل؟ ينتظرون هذا كي يموت حتى يأتي الآخر مكانه، أو يحصل لذاك أمر حتى يتاح للآخر الفرصة، ويكون مقبولاً لدى الناس.. في ذلك الوقت كان الأمر كذلك أيضاً [ضحك].. كانوا يعدّون أموراً و مكائد لهذا وذاك ويكذبون.. ويتحدثون إلى هذا وذاك ويغيرون رأي الناس فيه.. حتّى يأتي هذا المتآمر مكانه ضمن جو من الإعلام الخاص.. هذه الأمور كانت موجودة في زمن النبي. فهؤلاء كانوا يعدّون أنفسهم كي يحلوا محلّ النبي، ويشيّعون حول علي الإشاعات ويلفقون عليه الأقوال: علي لا يصلح لهذا الأمر، علي رجل حرب فقط، وعلي لا يرغب به أحد من الناس، وهكذا.. إنّ هذه الأمور كانت تحصل في زمن النبي...
والتاريخ دائماً في حالة حركة، وله شكل واحد، غاية الأمر انّ الزمان يختلف فقط.. انظر إلى أحزاب العالم، وتأمل فيما يجري الآن بينهم ترى أن الذي يجري الآن هو عينه الذي شرع منذ خلقة آدم.. لماذا؟ لأن الجميع لديه النفس ذاتها و الجميع يتعامل بأنانية، ولأن للجميع نمط واحد من الفكر، ويمتلكون حالة واحدة، ولهم نفس الخصوصيات الوجودية.. جميعهم يسعى للبقاء المادي فقط، لا يفكر أحد منهم بما وراء المادة، لا يفكّر أحد بما يوجد "هناك". فإن كان الأمر كذلك، فالأمر من هذا القبيل، لكن مع اختلاف الوسائل، فتارة تكون الوسائل متطورة وأخرى متخلفة؛ لكن كلّها تسعى لسحق الآخر وإلغائه، وتتنازع لأجل البقاء، يقول: ارحل أنت لكي أحلّ أنا محلّك! فعندما يرون أنّ فلاناً قد كثر الناس حوله، يبدءون بالسؤال ماذا حصل؟ لماذا الناس حوله؟ وكذا إذا انفض الناس من حوله فإنّهم يسألون لماذا تركه الناس؟ ولماذا لا يأتي إليه أحد؟ ولماذا... يا عزيزي ما دخلك أنت بذلك؟ بل عليك أن تهتم بنفسك وبعملك، وتسعى لمعرفة مشاكلك، لماذا تأتي وتشغل نفسك بهذه الأمور والمسائل؟
حيدر القرشي
22-10-2013, 02:43 PM
عيد الغدير هو أفضل الأعياد لأنّه فتح طريق التكامل بغلبة العقل على الإحساسات
لقد أتى أمير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير؛ أي في مثل هذا اليوم، وفتح أمراً لم يكن قد فُتح بعد في زمن النبي، وهذا الأمر: هو غلبة العقل على الإحساسات. لأجل هذا الأمر كان عيد غدير خم هو أفضل الأعياد، كما قال النبي صلّى الله عليه و آله.
ألم يكن لدى النبي يوم المبعث؟ والحال أنه كان قبله، لكنه لم يقل النبي المبعث أفضل الأعياد! ولم يقل النبي بأن عيد الفطر وعيد الأضحى أفضل الأعياد! مع جميع تلك الفضيلة التي لهما والبركات التي فيهما، فهذه البركات محفوظة...و لم يقل النبي يوم ولادتي أفضل الأعياد، والحال أن ولادة النبي هي أصل بركة عالم الوجود كله، إذ جميع هذه البركات بسبب ولادة النبي، وبواسطة بعثة النبي، لكن مع ذلك يقول النبي: إن غدير خم أفضل أعياد أمتي، لماذا؟ لأنني إلى الآن كنت أتعامل مع إحساساتكم، لا مع عقلكم، فأنتم إلى الآن كنت تنظرون إليّ أني رسول الله، حيث رأيتم مني شقّ القمر بإشارة واحدة، وقد رأيتم أني انتصرت في تلك الحرب، وأني تغلبت على الكفار، ورأيتم الشجرة أتت إليّ وشهدت لي بالنبوة، ورأيتم و رأيتم... لكن مع هذه الأوضاع يبقى هناك شيء ناقص، وهو أن عقلكم لم يأت ويحل محلّ إحساساتكم، فأنتم إلى الآن تتعاملون معي على أساس الإحساسات؛ تقولون أتى رسول الله، فلنذهب لنراه، وكان الأطفال والنساء يذهبون لرؤيته، ويهلهلون له عند عودته من سفره، وكانوا يذبحون له الشاة، ويرافقونه عند وداعه وخروجه، وعند عودته يذهبون ليتلقّوه.. لكن جميع هذه الأمور لا فائدة فيها، ولا نتيجة أساسية لها، فما يحتوي على نتيجة، وذاك الذي يأتي ويوصلكم إلى المكان الذي أنا فيه ... إن ما يوصل شيعة علي إلى ذلك المقام الذي يستطيع فيه أن يفعل كلّ ما يفعله ليس هذا. فما هو إذاً؟ إنّه سيطرة العقل على الإحساسات، فإذا تحقّق هذا، فإنّ الوجود الظاهري لرسول الله صلّى الله عليه و آله أو غيابه لن يكون ذا فرق بالنسبة إلينا.
هل نحن في زمان الغيبة؟
في أيّ زمان نحن الآن؟ نحن في زمان الغَيْبة... من الذي قال بأنّنا في زمان الغَيْبة؟! أنا لا أعتقد ذلك ولا أقبل به! فمن الذي قال بأننا في زمان الغَيْبة؟! إنّ زمان الغَيْبة هو ذلك الزمان الذي لا يكون الإمام موجوداً فيه، ولكنّ الإمام عليه السلام موجود. أفليس الإمام موجوداً الآن في هذه الأرض؟ ألا يعيش في هذه الأرض؟! بلى، و إن كان هو لا يريد أن يظهر نفسه لنا، فهل هذا يجعله في غَيْبة؟ أبداً!! إذ لو كان الأمر كذلك لكان زمان موسى بن جعفر عليه السلام زمان غَيْبة أيضاً، فموسى بن جعفر قضى في السجن ثمان سنوات على رواية، و على رواية أخرى ستّ سنوات، وعلى رواية ثالثة أربع سنوات. حسناً، ألم يكن الإمام في السجن؟ إذاً ينبغي أن نسمّي ذلك الزمان زمان غَيْبة أيضاً! أوَلم يكن الإمام العسكري عليه السلام محبوساً و محصوراً في سامرّاء؟!
اتفاقاً خطرت في بالي رواية عجيبة عن الإمام العسكريّ عليه السلام ليلة البارحة، فرأيت أن أقرأها اليوم للرفقاء، و هي رواية عجيبة جداً، فهي لا تترك لنا أيّ عذرٍ!
حسناً.. ألم يكن الإمام الهادي و الإمام العسكري عليهما السلام محصورين في سامراء؟! إذا تشرّفتم بزيارة سامرّاء، فإنّ مكان إقام الإمامين العسكريين عليهما السلام ما يزال موجوداً. لقد كانا تحت الحصار، و كان ممنوعاً على أيّ أحدٍ أن يقابلهما، فكان بعض الشيعة يحتالون على الحرس بأن يأتوا بصفّة بائع زيت فيلبسون لباس بائع زيت أو ما شابه ليقابلوا الإمام بشكل سريّ، و إلاّ فلم يكن أحدٌ يقدر على مقابلته؛ فإذاً ذلك الزمان كان زمان غَيْبة أيضاً! و حتّى في زمان الإمام الصادق عليه السلام، فهل كان الأفراد الذين يقطنون في المدن الأخرى يشاهدون الإمام الصادق عليه السلام؟! فعندما كان الإمام الصادق عليه السلام يدرّس طلاّبه في المسجد النبوي؛ فكيف كان الأفراد الذي يقطنون في مشهد أو الريّ أو هنا في قم من الشيعة يتّصلون بالإمام الصادق عليه السلام و يلتقون به؟! لم يكونوا يلتقون به؛ فإذاً أولئك كانوا في زمان غَيْبة أيضاً! ولا يستثنى من ذلك إلاّ أولئك الأفراد القلائل الذين كانوا يشاهدون الإمام كلّ يوم، ولم يكن عندهم مانعٌ يمنعهم من الوصول إلى الإمام، و أمّا أولئك الذين كانوا في مشهد أو خراسان أو الري أو قم أو بلاد ما وراء النهر أو سائر البلاد الأخرى، بل حتّى الذين كانوا يقطنون في الجزيرة العربية في المناطق الأخرى غير المدينة المنوّرة أو أولئك الذين كانوا في العراق من الشيعة (أما غير الشيعة فكان لهم مرام و مذهب آخر)... فهؤلاء الشيعة هل كانوا يلتقون الإمام الصادق عليه السلام كلّ يوم؟! وهل كانوا يلتقون بموسى بن جعفر عليه السلام كلّ يوم؟! كلاّ؛ فإذاً هم أيضاً كانوا في زمان غَيْبة!
أخبروني ما هو الفرق بين غَيْبتنا و بين الغَيْبة التي كان يعيشها الأفراد القاطنين في قم في ذلك الزمان؟ أخبروني ما هو الفرق؟! لا يوجد أيّ فرق؛ فهم لم يكونوا يقدرون على لقاء الإمام الرضا عليه السلام، و نحن أيضاً لا نرى إمام زماننا. و في زمان موسى بن جعفر من هو الشخص الوحيد الذي كان يلتقي بالإمام عليه السلام؟ إنّه السندي بن شاهك الملعون، فهو الوحيد الذي كان يرى الإمام، و أمّا غيره من الناس فلم يكونوا يلتقون به؛ فهل يمكننا أن نقول: إنّ الناس في ذلك الزمان لم يكن لديهم إمام ؟! ولم يكن عندهم صاحب ولاية، وشخصٌ مسيطر على النفوس ومشرف على القلوب و الضمائر ؟!
لقد جاء أحد الشيعة إلى منزل عليّ بن يقطين الذي كان وزيراً لهارون قاصداً إيّاه في حاجة، فلم يقابله علي بن يقطين، وعندما جاء عليّ بن يقطين إلى المدينة، فإنّ موسى بن جعفر عليه السلام لم يستقبله، [و أرسل خادمه] ليقول له: إنّنا لا نستقبل شخصاً لا يستقبل شيعتنا ويردّهم! فمن أين علم موسى بن جعفر ذلك؟! فهل تتخيّلون أنّ أئمّتنا عليهم السلام هم مثل الآخرين الذين يضعون الألقاب على أنفسهم دون استحقاق ، و الحال أنّهم لا يعلمون ما الذي يجري خلف الجدار؟! من أين علم موسى بن جعفر بذلك؟! من أين علم أنّ ذلك الفقير الشيعي قد جاء إلى منزل عليّ بن يقطين فلم يستقبله؟! (ولا ندري ما الذي جعله لا يستقبله، فربّما كان متعباً أو لأي سبب آخر، ولكنّه لم يكن يقصد توهينه، و لم يتعمّد الإساءة له، فهو قد كان من شيعة موسى بن جعفر عليه السلام)، حسناً قال له الإمام الكاظم: يجب أن تذهب الآن إلى منزل ذلك الرجل في الكوفة فترضيه، ثمّ تعود إلى المدينة؛ حتّى أسمح لك بالدخول إلى منزلي! (و من الواضح أن المسافة بين المدينة و الكوفة بعيدة جدا!)
فقال له: يا بن رسول الله، كيف لي أن أذهب و أنا لا أعرف حتّى منزله في الكوفة؟!
فأجابه عليه السلام: اركب هذه الناقة، و ستوصلك إلى مقصدك.
فركب الناقة، فأوصلته إلى منزل ذلك الرجل الشيعي الفقير في الكوفة خلال ثانيتين فقط! أجل، في ثانيتين فقط! فطرق الباب و كان الوقت في منتصف الليل، فخرج الرجل متعجّباً و سائلاً من الطارق؟ فقال له: أنا علي بن يقطين. فقال في نفسه: يا للعجب! ماذا يفعل عليّ بن يقطين وزير هارون أمام منزلي؟!
أترون يا إخوتي، إنّ لكلّ شيء حساباً، فأنت لم تستقبل ذلك الشيعي الفقير في منزلك؛ ولذا فأنا (الإمام) لن أستقبلك في منزلي! انظروا كيف هي الأمور و الأوضاع!
و الخلاصة .. فقد خرج ذلك الرجل فوجد أنّ عليّ بن يقطين فعلاً واقف أمام منزله مع ناقة له، فقال له علي بن يقطين: أريد أن أدخل، فهل تأذن لي، فقال له: تفضّل. فلمّا دخل قال له: لقد جئتَ إلى منزلي في بغداد، و كان لك حاجة عندي، ولكنّني كنت متعباً و مشغولاً فلم أكن قادراً على استقبالك، و أقسم والله و بالله أنّني لم أقصد التجاسر عليك أو إهانتك، و ها قد جئت الآن لكي أعتذر منك عن ما حصل!
و القضية طويلة بحيث لو بيّنتها بالتفصيل لتعجّب الجميع منّ الكيفية التي كان عليها شيعة موسى بن جعفر! و خلاصة الأمر بأنّ عليّ بن يقطين لم يرض من ذلك الرجل إلاّ بأن يضع رجله على وجه عليّ بن يقطين و يقول له قد عفوت عنك ورضيت! (هكذا كانوا!) ففعل الرجل ذلك، وبعدها قدّم علي بن يقطين له مبلغاً من المال و قضى حاجته، ثمّ خرج وركب الناقة فأرجعته إلى المدينة المنوّرة إلى منزل الإمام الكاظم عليه السلام خلال ثانيتين فقط!! فالناقة التي يرسلها موسى بن جعفر تختلف كثيراً عن جمالنا !! [يضحك سماحة السيّد].
و ما كاد أن يصل إلى هناك، حتّى وجد أنّ موسى بن جعفر قد فتح له الباب بنفسه، وقال له: أحسنت صنعاً!! بارك الله بك. الآن ادخل.
هل اتّضح الأمر؟! هكذا يكون الإمام! فالإمام إمامٌ سواء كان في غياهب السجون أو كان يمشي معك في الطريق، فلا فرق بينهما عنده، ففي كلا الحالين سيكون له نفس المرتبة من الإشراف و السيطرة...لقد كان المرحوم السيّد الوالد رضوان الله عليه يقول لتلاميذه (وكان الحقير بنفسه جالساً حينئذٍ): إن كنتم على ظهر القمر أو كنتم جالسين بجانبي فإنّ ذلك سواء بالنسبة لي، و لا فرق عندي بين الحالين! (و إن أردتم أن تجرّبوا ذلك فجرّبوه)، و قد جرّب الجميع ذلك فوجدوه واقعاً فعلاً، إذ لم يكن ذلك مجرّد ادّعاء خالٍ من الحقيقة! و هذا [أي العلاّمة الطهراني] تلميذ ذاك [أي الإمام سلام الله عليه] !
لا فرق بين حالنا و بين الشيعة الذين لم يكونوا يصلون إلى إمام زمانهم
حسناً.. أنا الآن أريد أن أسألكم سؤالاً: ما هو الشيء الذي ينقصنا حالياً، بحيث أنّنا نسمّي زماننا بزمان الغَيْبة بسبب ذلك، و هذا الشيء الذي ينقصنا لم يكن أولئك الأفراد الذين كانوا يعيشون في زمان موسى بن جعفر عليه السلام يعانون منه، بحيث لا يصحّ أن نقول عنهم أنّهم كانوا في زمان الغَيْبة أيضاً؟ أرجو أن تبيّنوا لي ذلك، فهذا السؤال ما يزال دون جواب عندي، فإن كان أحد يعرف الجواب فليخبرني به! فما هو الشيء الذي ينقصنا الآن ؟ أليس عندنا إمام؟! بلى عندنا! وذلك أمر مسلّم و كلّنا نعتقد بأنّ الإمام عليه السلام موجود، بل هو موجود بيننا، و قد ورد في الرواية أنّه: (عندما يظهر الإمام الحجّة عليه السلام، فإنّ الناس سيقولون: عجباً! لقد كنّا نرى هذا الشخص دائماً .. كنّا نراه في الطريق و السوق، فشكله ليس غريباً علينا)، وبالتالي فنحن نعتقد بأنّ عندنا إمام، و لا شبهة لدينا في ذلك أبداً!! على الأقلّ نحن ليس لدينا شبهةٌ في ذلك، وإن كان لدى الآخرين شبهة فلا علاقة لنا بذلك، (ولو لم يكن عندهم شبهة في ذلك لما تصرّفوا بهذا الشكل!!). على كلّ حال لا علاقة لنا بهم، فنحن لا نشكّ أبداً أن عندنا إماماً، و نعلم طبقاً لمباني التشيّع و الأحاديث والروايات أنّ الإمام عليه السلام لا فرق عنده بين الغَيْبة و الحضور، فبالنسبة للإمام لا فرق بين أن يكون الشخص أمام ناظريه أو غائباً عنهما في مكان آخر، ومثال ذلك الأفراد الذين كانوا يعيشون في قم في زمان الإمام الباقر عليه السلام، فإشراف الإمام على هؤلاء الأفراد لا يختلف أبداً عن الشخص الجالس بجانبه يتحدّث معه! لا فرق عند الإمام بينهما أبداً! فأيّ حركة يقوم بها هذا الشخص، بل أيّ خطور يخطر في ذهنه يعلم به الإمام، وعندما يذهب هذا الشخص إلى المدينة فإنّ الإمام يقول له: لقد خطرت في ذهنك المسألة الفلانية و جوابها كذا مثلاً! و من هنا نعلم أنّه لا يمكن خداع الإمام، فحتّى لو تمكّنا من خداع الجميع إلاّ أن الإمام لا يمكن خداعه!
نحن كنّا أحياناً نفكّر بمسألةٍ مّا في الليل، و في الصباح كنّا نذهب عند السيّد الوالد رحمه الله فكان يقول لنا ابتداءً: (أجل.. أجل، إنّ الإنسان في عالم التخيّلات قد تخطر في باله أفكار كهذه !!)، إه! يا للعجب! ألا يمكننا أن نفكّر بفكرة [دون أن تعلم بها]! فكيف بأداء فعل من الأفعال؟! فنحن بمجرّد أن تخيّلنا أمراً، وضعه أمامنا بكلّ بساطة، فكيف سيكون الحال لو قمنا بذلك الفعل وأديناه؟!!
فإذاً صار معلوماً أنّه لا يمكن للإنسان أن يخدع الإمام عليه السلام، و لا يمكن له أن يخفي عنه الحقيقة.. لماذا؟ لأنّه أقرب منّا إلى أنفسنا يا عزيزي! فقبل أن يأتي ذلك التخيّل إلى ذهنك، و قبل أن تصل تلك الفكرة إليك، فإنّها قد جاءت إليه أولاً، ثمّ بعد ذلك تحصل لديك! لا أنّ الأمر بحيث أنّ الفكرة تأتي إليك أولاً ثمّ يعلم هو بها ويطّلع عليها، بل هي جاءت من نفسه الشريفة إلى نفسك، و طبقاً لقاعدة العلية فإنّ هذا الأمر قد عبَر من نفسه الكلّية أوّلاً قبل أن يصل إليك لأنّه هو المُجري للمشيئة الإلهية في الأسماء و الصفّات، ثمّ بعد ذلك تحصل في نفسك هذه الفكرة أو ذلك الميل و الرغبة سواءً كانت جيدة أم سيئةً، وذلك إنّما يكون بحسب المسائل التي لدى هذا الشخص؛ فإذا كانت النفس ملوّثة فإنّ الخطور سيكون ملوّثاً، و إذا كانت النفس طاهرةً كان الخطور طاهراً.
ومن هنا يتبيّن أن الإمام يعرف ما يجري أوّلاً، فكيف تريد حينئذٍ أن تخفي شيئاً عنه؟! لقد جاء الأمر إليه أوّلاً فكيف يمكن ذلك؟ إنّ كشف الحساب الأصلي جاء إليه أوّلاً، فأمضاه و أرسل إليك نسخة منه، فكيف تريد أن تعدّل فيه و تتلاعب بمحتوياته فتشطب هذا و تبقي ذاك؟! يا عزيزي، إنّه سيقول لك: إنّ الأصل عندي و ما أرسلته إليك لم يكن إلاّ نسخة فماذا تحاول أن تصنع؟! إنّ ما عندنا ليس إلا النسخة، أمّا الأصل فهو عند الإمام. هل اتّضح الأمر؟
حسناً، فكيف يكون زماننا زمان الغَيْبة؟! ليس عندنا زمان غَيْبة بل عندنا زمان حضور! فإمام زماننا حاضر، غاية الأمر أنّنا لا نراه، ولا ضير في ذلك، فأولئك الأشخاص الذين كانوا في ذلك الزمان لم يكونوا يرون إمامهم أيضاً، و لا بأس في ذلك! فما معنى الغَيْبة بعد ذلك؟! هل تعلمون ما هي حقيقة ذلك؟ إنّ ذلك سببه التخيل ، و هي جميعاً ناشئة من التوهّم و الإحساسات! و عيد الغدير هو من أجل رفع هذه الإحساسات و الأوهام؛ يعني لا تظنّنّ أنّك ليس عندك إمام، و لا تتخيّل أنّ النبيّ الآن قد ذهب، فالوجود الباقي للنبي موجود في عليّ صلوات الله عليهما، و لا تتخيّل أنّ علياً قد ذهب، فوجوده الباقي موجود في الإمام المجتبى، و لا تتخيّل أ الإمام الحسن قد ذهب فوجوده الباقي موجود في الإمام الحسين عليه السلام، و هكذا ... و الآن فإنّ الوجود الباقي لرسول الله صلّى الله عليه و آله، و الوجود الباقي لجميع المعصومين الثلاثة عشر عليهم السلام موجود في إمام الزمان عليه السلام! فلا غَيْبةَ إذاً، لا يوجد عندنا غَيْبة، بل كلّ ما هنالك هو الحضور! و نحن يجب علينا أن نرى أنفسنا في حضور الإمام عليه السلام و نحسّ بذلك. و هذا الإحساس بأنّنا في حضور الإمام عليه السلام هو الذي يرتقي بالإنسان.
التعلّق الظاهري و الحسّي بالنبي يمنع الإنسان من الترقّي
يعني لو كان رسول الله صلّى عليه و آله ما يزال حيّاً لما كان عندنا هذه الحركة! فلأنّه ليس موجوداً صارت هذه الحركة ممكنة، و لأنّه ليس موجوداً ؛ يأتي العقل ويتغلّب على الإحساسات، لأنّه لو كان موجوداً لألقينا جزءاً من القضية على حضوره ولاعتمدنا في جزء من المسألة على ذلك الجانب الظاهري و الفيزيائي منه، ولحسبنا حساب هذا الجانب الظاهري منه، ز كنّا سنتعامل ولو قليلاً مع المسألة بناءً لهذا المعطى، فالمحرّك لأفعالنا هو شعورنا بوجوده الشريف، فنقول مثلاً: الإمام موجود.. والآن سيأتي ويعاتبنا على فعلنا، الإمام موجود.. والآن سيأتي ويوبّخني، إنّه موجود .. موجود ، بينما حينما لا نراه، نقول: ليس موجوداً، وعندها يأتي دور العقل، فحتّى لو لم يكن بجانبنا إلاّ أنّ ولايته موجودة، وإشرافه على نفوسنا موجود، وإرادته موجودة، ونحن نعلم أنّها جميعاً موجودة، وهذا الأمر من الأمور التي لا تتطرّق نفوسنا للشكّ فيه؛ لذا نجد في الرواية المروية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله...
[سماحته ينظر إلى الساعة، ويتكلّم بلهجة ممازحة]: الوقت قد انتهى، وبدأنا نصبح مورداً لعتاب [الأطباء]، لأنّهم شرطوا عليّ أن لا أتكلّم بعد الآن كثيراً، فوضعي لم يعد كما كان في الأعوام السابقة، وإن شاء الله سأحاول أن أنهي الفكرة خلال الدقائق الآتية!!
مَثَلُ عَلِيّ في هَذِهِ الأمَّةِ مَثَلُ «قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ»
أجل.. لقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:"مَثَلُ عَلِيّ في هَذِهِ الأمَّةِ مَثَلُ «قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ» ؛ (كلام عجيب جداً، وهو ينفعنا جداً في أيّامنا هذه، فهذه الروايات تنفعنا في أيّامنا هذه، فهي التي تفتح الطريق أمامنا، وهي التي تمنع من وقوعنا فريسةً للاحتيال، فتمنع من تأثير الإعلان والدعايات علينا، وتمنع من تأثير الشائعات، فنمشي في سبيلنا، دون أن يؤثّر كلام هذا أو ذاك علينا) من قرأها مرّة، فكأنما قرأ ثلث القرآن؛ (لأنّه ورد لدينا في الروايات أنّ من قرأ (قل هو الله أحد مرّة) فكأنّما قرأ ثلث القرآن، ولهذا نجد أنّ من أذكار ما قبل النوم قراءة سورة قل هو الله أحد ثلاث مرّات، وهي نفس الرواية التي يخاطب فيها النبيّ صلّى الله عليه وآله السيّدة الزهراء عليها السلام) ومن قرأها مرّتين فكأنّما قرأ ثلثي القرآن؛ ومن قرأها ثلاث مرّات، فكأنّما ختم القرآن كلّه. ومن أحبّ عليّاً بقلبه، فقد حاز ثلث الإيمان؛ (أي من أحبّك بقلبه ولم يكن لديه الجرأة على الإفصاح عن ذلك.. فهو عاجزٌ، يستطيع أن يقول: "كم هو جيّد أمير المؤمنين!" وحسب، وكما قيل: الصلاة خلف علي، والطعام عند معاوية، وهذا النوع من الأفراد موجودٌ، وكان موجوداً في ذلك الزمان، فلم يكن أحد يرجّح معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام، فحتّى لو كانوا حجارة صمّاء لفهموا الفرق بينهما، ولكن كما ذكرت يوجد من يقول ذلك بقلبه فقط: كم هو عليّ حسنٌ، وكم هو عادلٌ، وكم هو كذا وكذا من أوصاف المدح... ولا يتعدّى الأمر قوله: عليٌ حسنٌ وفقط، فهو يقف عند كلمة "حسن" هذه، فليس من الصلاح أن يتعدّى أكثر من ذلك!! لأنّ ذلك سيسبّب الضرر؛ فهو إذا أعلن ما في قلبه يخاف ممّن سيعاتبه ويقول له: ماذا قلت؟ عليٌّ حسنٌ وجيّد؟! كيف تجرؤ على ذكر اسمه أمامي؟! ينبغي أن تمدحني أنا لا عليّ! ولا تتصوّروا أنّ هذا الكلام ليس موجوداً بل هو موجود ويحصل دائماً، إنّ الله لن يتجاوز عمّن يغطّى ويعمّي مباني الدين وحقائق الدين عن أعين الناس! إنّ الله لا يتجاوز عن ذلك، أولئك الذين يُخفون عن الناس الحقائق الأصيلة للدين لن يتجاوز عن جرمهم! على كلّ حال، يا علي من يحبّك بقلبه فقط ولكنّ لسانه فأخرس؛ فله ثلثٌ من الإيمان فقط، وهذه منّة عظيمة بأن أعطي ثلث الإيمان فهو لا يستحق أكثر من واحد من الألف!! ) ومن تبعه بقلبه ولسانه، فقد حاز ثلثي الإيمان؛ ( فهذا يحبّك بقلبه ويذيع ذلك بلسانه أيضاً، يكتب مكارمك، ويتحدّث عن فضائلك على المنبر، وحينما يجلس هنا أو هناك يخبر الناس عن أخبارك: كان عليٌّ كذا وكان عليٌّ كذا ... ، وهذا الأمر ينطبق على المسائل التي تتعلّق بالولاية بشكل عام، وليست حصراً بأمير المؤمنين، فلو أنّه فعل ذلك مع أيّ إمام من الأئمّة فلا فرق. و لكنّه لا يتعدّى الكلام إلى الفعل، فلو قلنا له: هيا قم ونفّذ هذا العمل، يقول: أعتذر منكم ، أو لقيل له اذهب إلى المكان الفلاني وافعل كذا، فإنّه يجيب: نرجو أن تعذروني بالنسبة لذلك، و أرجو أن تقبلوا منّي هذا المقدار، واقتصروا عليّ بحدّ القول فقط!
ألم يفعل ذلك أحدهم مع الإمام الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء؟ ألم يقل له: يا ابن رسول الله أنا أقاتل إلى جانبك إلى أن أجد بأنّ الأمر قد انتهى، و لم يعد هناك أملٌ بالنصر؛ فعندها أترككم وأذهب، فأنا لا رغبة لي بالشهادة!! اترك الشهادة لحبيب بن مظاهر ومسلم، ولكن طالما أجد أنّني قادر على المساعدة بأيّ نحو سأساعد، فالبعض هم كذلك، ليس بإمكانهم البقاء للأخير، نعم يتكلّم: يقول إنّ الحسين كذا ويزيد كذا، ولكنّه لا يصمد إلى الأخير، لا يخطو خطوة أخرى إلى الأمام، يكتفي بهذا المقدار وحسب) ومن أحبّه بقلبه ولسانه وجوارحه، واتّبعه، فإنّ إيمانه أكمل الإيمان"[14] (من أحبّك بقلبه ولسانه وبيده، فثبت إلى آخر الطريق فقد أحرز كلّ الإيمان! أحرز جميع مراتب الإيمان! وهذه هي حقيقة المسألة فعلاً، وهل هي غير ذلك؟ حقيقتها في كيفيّة تعاملنا مع الولاية، هل نمرّ على ما قيل مرور الكرام؟! هل نتجاهل ما قيل لنا؟! أم أنّنا نمضي في هذا السبيل الذي خطّ لنا؟ على الإنسان أن يطوي مسيره).
حيدر القرشي
22-10-2013, 02:45 PM
رواية الإمام العسكري: الإخلاص طريق النجاة
يقول الإمام العسكري عليه السلام في روايته التي أخبرتكم عنها..، وقد تذكّرت بعد ذلك أنّي أوردت هذه الرواية أيضاً في المجلّد الأوّل من كتاب أسرار الملكوت[15]، وهي رواية عجيبة صادرة عن الإمام العسكري عليه السلام، و يستشهد فيها بكلامٍ للإمام الصادق عليه السلام، حيث يسألونه لماذا ذمّ الله علماء اليهود مع أنّ هذا الأمر قد يكون في علماء الإسلام أيضاً؟ فكيف يذمّ علماء اليهود والنصارى؟ فيجيبه الإمام العسكري عليه السلام ويبيّن له حقيقة الأمر، ثمّ يستشهد بكلام جدّه الإمام الصادق عليه السلام... وهي رواية عظيمة!! ثمّ يتكلّم عليه السلام عن العلماء الذين لا يقولون الحقيقة بل يكتمونها عن الناس فيصفهم بأنّهم "أضرّ على شيعتنا من جيش يزيد بن معاوية على الحسين عليه السلام وأصحابه"، والعبارة للإمام العسكري عليه السلام وليست من تأليفي، فأولئك الذين يأتون ويبرّرون التصرّفات بتبريرات غير صحيحة وغير ناهضة، وأولئك الذين يخفون الحقائق مع علمهم بأنّ فعلهم إخفاء للحقائق ويتركون الناس في ظلمات الجهل عن مباني الدين ومباني الولاية فهم طبقاً لرواية الإمام العسكري عليه السلام (اذهبوا وشاهدوها بأنفسكم..) : أولئك "أضرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن عليّ عليه السلام وأصحابه" ثمّ يقول عليه السلام هذه العبارات وهي مورد الشاهد، وهي بيت القصيد، فإذا تمسّكتم بها فقد انتهى الأمر، وإذا تجاهلتموها وتركتموها فلا حجّة لنا بعد ذلك يوم القيامة.
يقول عليه السلام :
"لا جرم أنَّ من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم (من هؤلاء الناس، هؤلاء الناس الذين يصلّون ويصومون ويحجّون، أي من هؤلاء المسلمين...) ..
أنَّه لا يريد إلّا صيانة دينه (لا يريد في باطنه وفي قلبه أن يُخدع، بل يرغب أن يصون دينه عن الانحراف، ويسعى نحو الواقع والحقيقة، ولا يرغب أن يذهب خلف فلان وفلان.. لا يريد أن يقع تحت تهديد فلان وفلان فيخاف منهم، ولا يريد أن يُخدع بترغَيْبات هذا أو ذاك بأن يقولوا له مثلاً: خذ هذه الأرض وأغلق فمك! أو يقال له: نمنحك هذا المنصب، ولا تقل أيّ شيء، فالآن المصلحة تقتضي السكوت!! لا .. فهو لا يريد إلا صيانة دينه، إنّ هذه الكلمات تنزل على القلب وعلى الدماغ مثل المطرقة الضخمة)..
وتعظيم وليِّه (يرغب في تعظيم إمام الزمان لا تعظيم نفسه!! فنحن لدينا إمام زمانٍ، ولدينا صاحب اختيار، ولدينا مشرف على الأمور، ولدينا الوليّ، وهو يقدّم هذا الوليّ، يطرح كلماته في المجتمع وبين الناس ليسمعوها، وينشر أخلاقه وتصرّفاته بين الناس وفي المجتمع، المطلوب "تعظيم وليه" فمن أكون أنا؟! أنا لست إلاّ ذرة تبن لا أكثر، يا عزيزي من أنا؟!)..
.. لا يريد إلّا صيانة دينه.. (يريد أن يصون دينه، لا كلام هذا و ذاك، بل يريد صيانة الدين الذي علمه إيّاه الإمام المعصوم عليه السلام، ويريد أن يعظّم ذلك الوليّ، يريد أن يعلي اسم ذلك الولي في المجتمع، يريد أن يُرسي منهج ذلك الوليّ في المجتمع، يريد أن يسوق الناس نحو ذلك الوليّ.. هذا هو الشرط!! فمن يلتزم بهذا الشرط، وهذا ما ينطوي عليه قلبه فالنتيجة هي أنّه
...لم يتركه في يد هذا المتلبِّس الكافر (كم هو عجيب! إنّ الله لا يتركه بين يدي ذلك الكافر، وكان ذلك الأمر في زمن الإمام العسكري عليه السلام، وكان حينها زمن الخلفاء، إنّ الله لا يتركه بين أيدي هؤلاء الكفّار الذين أتوا وغصبوا حقّنا وخدعوا الناس بالشعارات والجيوش والمظاهر الكذّابة، فحينما كان يأتي المتوكّل كان يأتي مع هذا العدد الكبير من الخيول ليبهر عيون الناس، ثمّ يأتي بالإمام الهادي عليه السلام بعد ذلك ماشياً على الأقدام خلفه، تعساً لك أيها المتوكّل! فمن هذا الذي تريد أن تصغّر من شأنه؟! أتريد استصغار الإمام؟! تريد أن تستصغر من يدور جميع عالم الملك والملكوت بأمره؟! أنت تركب الخيول وتجعل الإمام الهادي عليه السلام يمشي خلفك على رجله؟! أتريد أن تبرز جلالك المزيّف والواهي للناس ؟! و عندما حصل ذلك جاء أحد الأصحاب الذين رأوا المشهد إلى الإمام الهادي وهو يبكي لما رآه من أذية المتوكّل للإمام، فيقول له الإمام عليه السلام: "أنا أكرم على الله من ناقة صالح { تمتعوا في دار كم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب}"[16]، وكما أنّه في زمن النبي صالح عليه السلام لم يطل الأمر بقومه أكثر من ثلاثة أيّام بعد أن عقروا الناقة فأخذهم العذاب، كذلك لم يطل الأمر بالمتوكّل أكثر من ثلاثة أيام حتّى يذهب إلى جهنّم، من تريد أن تستصغر؟! بالمقابل تجد أنّ الشيعيّ يريد أن يعظّم إمام الزمان، وعندما يسمع باسم الإمام يأخذ نفساً عميقاً ويفرح، ويقول: ها هم يذكرون اسم إمام الزمان، يشعر أنّ قلبه يتّسع لأنّ اسم إمام الزمان قد ذُكر، وعندما يريد أن يعلّق لوحة في بيته فإنّه يضع كلمات إمام الزمان، وحينما يريد أن يتكلّم مع أهله في بيته فإنّه يطرح كلمات إمام الزمان، ولا أعني فقط إمام الزمان عجّل الله فرجه الشريف، بل كلّ الأئمّة عليهم السلام فلا فرق بينهم، نعم الآن إمام الزمان هو الذي على قيد الحياة، ولكن مرادنا هو المعصوم عليه السلام، مرادنا المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، فهو ينشر كلماتهم بدلاً من أن ينشر كلمات الحقير وأمثال الحقير .. بل هي يريد تعظيم وليِّه .. ( فهدفه هو تعظيم ولي الله، فلا يرى لنفسه قيمةً لكي يُبرز نفسه، ويفرح بطرح اسمه في المجتمع، لا يقول: ما شاء الله لقد جاء عدد كبير من الناس!! فإذا كان كذلك عندها لم يتركه في يد هذا المتلبِّس الكافر (لا يتركه الله بأيدي هؤلاء، هنا قد تمّت الحجّة علينا!)..ولكنَّه يقيِّض له مؤمناً (يقيّض له مؤمناً، من هو؟ لا نعلم، فالله عنده ألف طريقة لذلك).. يقف به على الصواب.. (فيعلمه الصواب من الخطأ.. يقول له: أين تذهب؟ هذه حفرة فلا تسقط، أمّا هذا الطريق فصحيح، لا تذهب من هناك! بل من هنا.
ولكن من أين أتى هذا المؤمن؟ ليس مهماً، قد يأتي في المنام، وقد يأتي في مجلس من المجالس، أو يراه صدفة، أو يأتي صديقه ويقول له: يا فلان ذهبت لأشتري كتاباً، لكن صدفةً رأيت كتاباً كُتب عليه: العلامة الطهراني، وكثيراً ما تحصل هذه المسائل، وقد نقل لي الكثيرون العديد من هذه القصص، فهي تحصل كلّ يوم بالعشرات، يقول أحدهم: كنت ذاهباً لأشتري أقراص الكمبيوتر، بل بعضهم نقل لي أنّه ذهب ليشتري أقراص الموسيقى والغناء [يبتسم سماحته: لم أسأله أيّ الأغاني كنت تريد؟ أهي أغاني جميلة أم رديئة وهو لم يقل لنا ذلك!!] ذهبت لأشتري الأغاني، لكن بالصدفة رأيت قرصاً اسمه ... (لا أذكر بالضبط اسمه و الظاهر أنّه أحد هذه الأقراص التي نشرت أخيراً والظاهر أنّه كان يتضمّن محاضرات العلامة رحمه الله)، يقول: قلت فلآخذ هذا أيضاً، قلبه صافي، كان يريد أن يشتري الأغاني!! فهل تعتقدون أن الله لا يعرف من أين يأتي إليه؟ بل هو يعرف أكثر منّا جميعاً، فكلّ شيء بيده، يقول هذا الشخص: عندما فتحت القرص، رأيت أنّه عندما قال: بسم الله وإذا بي لم يعد الأمر بيدي، واللطيف أنّه قال: إنّني سمعته إلى آخره، فقلت له: عجباً ألم تأكل شيئاً ؟! ألم تأكل؟ لم تنم؟! وفي النتيجة وفّقه الله، فما هذا؟ هذا صاحب قلب صافٍ، هذا الإنسان عندما يسمع كلاماً حقّاً لا يحرّفه ولا يُعرض عنه، لا يتّهم العلاّمة بألف تهمة من دون دليل، فتجده بدلاً من التهمة، يبحث عن صحّة الكلام: هل ما قاله صحيح أم باطل؟ لا كغيره من الناس!
يا عزيزي لماذا لا تترك مجالاً للكلام الحقّ لكي ينفذ إلى قلبك؟ هو إمّا صادق أو كاذب، والكذب يمكن معرفته سريعاً، فلماذا بدلاً من التهمة [لا تتحقّق من صحّة الكلام؟!]
لقد كتب المرحوم العلامة كتاباً باسم "وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام"، فيأتي شخص ويتّهمه قائلاً: إنّ مراده أن يرفع من شأن نفسه بكتابته هذا الكتاب! جيّد سلّمنا جدلاً أنّه كان يريد أن يرفع من شأن نفسه، ولكن السؤال: هل كان صادقاً فيما كتب أم كاذباً؟ سيأخذ الله بتلابيبنا، ويوصد علينا كل أبواب الأعذار! إن كان ما قاله صِدقاً؛ فاتّبعه لأنّ ما قاله صِدق، وإن كان كاذباً فقل هو كاذب بالدليل الفلاني والفلاني.. لقد حرّف الحقيقة، ولم يكن أميناً في نقل التاريخ، ألا يكتبون التاريخ الآن؟ لقد كتبوا مسألةً تاريخيّةً، وقد قرأها الحقير من أوّلها إلى آخرها، فلم يجد فيها ذكراً لاسم المرحوم الوالد قدّس سرّه أصلاً، مع أنّ أصل كلّ تلك الحادثة التاريخيّة كان المرحوم العلامة نفسه، فما هذا؟! إنّه الانتقائيّة، و ذكر بعض الأمور وإخفاء البعض الآخر، ولا فائدة في الانتقائيّة، فهنا نتكلّم للمصلحة، وهناك نخفي للمصلحة، ويا عجباً لهذه المصلحة! إن كان الأمر كذلك، فأين هو الواقع؟ إن كان الحاكم هو المصلحة، فأين هو الواقع؟! هنا مصلحة وهناك مصلحة، فأين الواقع؟
ولكن إذا نظرنا إلى آيات القرآن فإنّنا لا نجد أنّ المصلحة تتدخل في كتمان أو إعلان الحقيقة، هذا الأمر عجيب جداً، فكم نحن بعيدون عن الواقع! ولو لم يكن لدينا سندٌ على حقّانيّة القرآن إلّا هذه الآية لكانت كافية: {وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويلِ (يا رسولنا لو أنّك تضيف على ما أرسلناك به من عندك.. أُه أُه .. كم هو عجيب هذا الكلام! لا أنّك تأتي بملّة من عندك، بل فقط لو أضفت من عندك كلمة واحدة لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمين (لضربناك بيد قدرتنا، بحيث تتحطّم عظامك،) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتين}[17]، والوتين هو عصب النخاع، فسنسحب عصبك من نخاعك ، أيّ كلام هذا؟ القرآن، ومع من يتكلّم؟ مع الرسول؛ وعندها نعلم أنّه في نظام الله ليس هناك من عالي وداني! والله عزّ وجلّ يبرز لنا هذه الحقيقة، ويقول لنا: هل رأيتم ماذا فعلت برسولي لعدم قوله: "إن شاء الله" ؟! لقد انقطع عنه الوحي أربعين يوماً، قال تعالى: {وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدا* إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}[18] وإن لم تقل: إن شاء الله، وحتّى لو كنت نبيّاً، ينقطع الوحي عنك، ثمّ بعد التوبة، عليك أن تصبر أربعين يوماً حتّى يعود الوحي، وهو أمرٌ عجيب! فلماذا ينبغي أن ينتظر أربعين يوماً حتّى يعود الوحي؟ هذا الأمر ينطوي على أسرارٍ كثيرةٍ!
... يقف به على الصواب (يُرشده هذا المؤمن إلى ذلك السبيل السويّ والسليم، سواءً عن طريق كتاب أم عن طريق قرص أم عن طريق صديق، وسبيل الوصول إلى هذا المؤمن ليس من شأننا بل من شأن الله، ولكن المهم هنا: بعد أن عرف الصواب فمن الممكن أن يعمل طبقاً لهذا الصواب ويمكن أن لا يعمل!
والمسألة كلّها هنا حيث يقول: ثمّ يوفِّقه الله للقبول منه (فبعدما دلّه على الطريق الصواب نحن نقوم بعملٍ يجعل هذا الرجل يقبل بذلك الصواب، لا أنّه فقط يقف به على الصواب وحسب، بل يجعله يقبل به، والقبول يأتي بعد المعرفة، فهناك العديد من الأفراد الذين يعرفون ولكن لا يقبلون، يعلم ولا يقبل .. ينكر! فما هو المنكر؟ هو الذي يعرف ولكن ينكر، وإلاّ فلا معنى لأن نسمّيه منكراً! يعلم بالأمر ويعلم بالحقائق زيعلم أين هو الواقع ويعلم أين هو القول الواهي، ولكنّه لا يقبل، بل يمشي خلف مصالحه .. خلف الدنيا! ذهب البعض إلى شخص أعرفه وتكلّموا معه في مسألة، فقال: لا تقف في طريق لقمتي وخبزي! وللأسف هو من المعمّمين! )..
ثمّ يوفِّقه الله للقبول منه (التفتوا فهذا الكلام من الإمام العسكري عليه السلام! و نحن نشاهد جميع هذه المسائل في أنفسنا، ونحن من يقرّر هل نذهب من هذا الطريق أم من ذلك الطريق؟ فأيّ السبيلين نختار؟ هنا أُقيمت الحجّة علينا من قِبل الإمام عليه السلام) فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة..
ويجمع على من أضلَّه .. (واويلاه!! الآن نذهب إلى الطرف الآخر من القضيّة: أولئك الذين كتموا الحقيقة، أولئك الذين يتذرّعون بالتبريرات الواهية، أولئك الذين يخفون الأمور، ولا يذكرون اسم الإمام عليه السلام، وأولئك الذين لا يعظّمون وليّ الله، أولئك الذين يفضّلون الباطل على الحقائق النورانيّة، أولئك الذين يسوقون الناس إلى سبيل آخر، هنا يقول الإمام العسكري عنهم: ) ويجمع على من أضلَّه لعناً في الدنيا وعذاب الآخرة" (فالناس في الدنيا يلعنونه، يوقولن: بالأمس خَدَعنا، ولكن اليوم علمنا أنّه لم يقل الحقيقة، فعليه لعنة الله، لعنة الله عليه، لعنة الله عليه، وهذا اللعن في الدنيا يبقى فالملائكة واقفة بالصفّ تلعنه، وتقدّم له الضيافة الخاصّة!!).
اليوم هو يوم عيد الغدير، ويوم عيد الولاية، يعني: لهذا قال الله تعالى في كتابه الشريف: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً}[19]، يعني: اليوم فتحت لكم الطريق والسبيل إلى غلبة العقل على الإحساسات! فتجعلون العقل هو الحاكم، وتجلس الإحساسات جانباً، وتجلس الأوهام جانباً، ولا يصبح القيام بالفعل متوقّفاً على وجود الإمام وعدمه، فالإمام موجود ولا غَيْبة له، فعندما يكون الإمام أقرب إليّ من نفسي، فأيُّ غَيْبةٍ هذه؟! إنّ عقلي لا يستطيع أن يفهم هذه الغَيْبة، فعندما يكون الإمام أقرب إليّ من نفسي، فأين الغَيْبة؟! نعم هذه الغَيْبة التي يذكرونها مختصّة بالعوام، وهذا المذكور في الروايات من أجل العوام، فهم لا يرون ظاهره ويشعرون بالبعد عن الإمام فيسمّون ذلك غَيْبة، نعم بالطبع، فإنّه لا شكّ أنّ هناك مراتب للحضور الظاهري، وعلى الإنسان أن يسعى وأن يقوم بواجب الانتظار.
على كلّ حال نسأل الله أن يجعل هذا اليوم يوماً مباركاً علينا، وأن يجعلنا من المتمسّكين، وأن يجعلنا من المقتفين والمتّبعين لسبيل أئمّة هذا المذهب، وأن يتحقّق هذا العيد في أنفسنا، يعني: أن نلتزم بالصواب كما قال الإمام العسكري عليه السلام.
العمامة زيّ اتّباع الولاية و الدعوة إلى الإمام عليه السلام
وبمناسبة هذا اليوم المبارك، سيتشرّف بعض الأصدقاء بلبس لباس علماء الدين، يعني: سيلبسون زيّ المتابعة لهذا المسير وهذا الطريق، متابعة مسير الولاية، وعلينا أن نعلم ما هي المسؤوليّة التي ستلقى على عاتقنا اليوم، على الأصدقاء والأحبّة الذين سيلبسون هذا الزيّ اليوم، وأنا أقول: "اليوم" ؛ لا لأنّهم قبل الآن لم يكونوا كذلك، بل لأنّه من اليوم صاروا يفهمون مسألة تعظيم الوليّ بنحو أوضح ـ فضلاً عن مسألة صيانة الدين ـ فلا ينبغي أن ننقل قول كلّ أحدٍ كان، ولا نأخذ تعاليم ديننا من أيٍّ كان، ولا نُخدع بكلّ من تلبّس بلباس العلم، بل نأخذه ممّن وصل إلى حقيقة الدين، ونقتفي أثره، سواء كان ميّتاً أم حيّاً ولكن المهم تعظيم الوليّ، علينا أن نعلم : لماذا نلبس نحن هذا اللباس؟ نريد أن نقول للناس أنّنا نبلغ الدين عمّن؟ وبأيّ شيء نلتزم؟ فالطبيب مثلاً عندما يلبس المعطف الأبيض، فإلى أيّ شيء يشير لبسه لهذا اللباس، وماذا سيفعل؟ وعندما يلبس المهندس لباس المهندس، فهو يريد أن يعرّف الناس بمهنته ومنهجه، حسناً عندما يلبس طالب الحوزة لباس الطلبة، فهو يخبر الناس بالمنهج الذي يقتفي أثره، وبمن هو متّصل، وممّن يأخذ علمه، وما هو الهدف الذي يدعو ويبلّغ من أجله، وهنا علينا أن نكون حذرين جداً، فهذه هي المسألة المهمّة! وهذا هو الفهم الذي يفهمه الناس من هذا اللباس، وهذا ما يتوقّعونه من طالب الحوزة، خصوصاً في هذه الأوضاع التي نرى فيها الأمور كيف أصبحت، فتعال وانظر ماذا يحصل؟ الآن بدأ الناس ينتظرون ويتوقّعون توقّعات واقعيّة، لم يصلوا إلى ذلك تماماً، ولكنّهم بدؤوا بذلك وهم في طريقهم لذلك، بدأ توقّعهم يصير واقعيّا وحقيقيا، وها قد رأيتم ماذا يحصل، والحمد لله لقد رأيتم الكثير الكثير، وكان يكفي ما هو أقلّ منه، إذاً فتوقّع الناس ينحو تجاه الواقع، ويريدوننا أن نريهم الحقيقة والواقع، ولسان حالهم: أرونا الواقع فقد مرّ علينا الكثير ولم نعد نقبل بكلّ شيء، فتفضّل وأرنا الواقع، أين ذلك الذي كان يصفه لنا الأعاظم؟ أين ما كتبه الأعاظم في كتبهم؟ أين ما كتبه أولياء الله والأعاظم ؟
وأنا لا أقول هكذا صار الناس، ولكنّهم بهذا المنحى وهم مقبلون على ذلك، وخصوصاً الشباب فهم أصفى، وتعلّقهم بالدنيا أقلّ، نعم شباب الجامعات، حتّى شباب الجامعات، هؤلاء بعينهم، فحتّى لو كانوا من حيث الظاهر والزيّ .. ، لكنّ باطنهم جيّد وسليم، جميعهم يمتلكون الصفاء، ونحن نتفاءل بهذا التغيّر والتبدّل الذي نراه، ونعتبره من بوادر ظهور صاحب العصر والزمان صلوات الله عليه إن شاء الله، ونسأل الله أن يجعلنا من المنتظرين الواقعيّين لقدومه.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد
محاضرة الغدير 1433 هـ
لسماحة
السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
Jannat Alhusain Network © 2024