مولى أبي تراب
29-11-2013, 10:03 PM
بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمّْدُ للهِ رَبِّ العَاْلَمِيْنَ .. عَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَبِهِ نَسْتَعِيْن
وَصَلَّى اللهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْن
-------------------
« مُنجِّسيَّة المُتنجِّس »
لا إشكال في أن الأجسام الطاهرة كالماء والثياب والبدن والأرض والفراش تتنجس بملاقاة أحد أعيان النجاسة كالبول أو الدم أو الميتة مع الرطوبة المسرية ، فإذا سقطت قطرة دم في ماء قليل فإن الماء يصير بذلك متنجساً ، وإذا تلوّث البدن أو الثوب بالبول فإنه يصير بذلك متنجساً ، وإذا وضعنا لحم حيوان غير مُذكّى - أي لم يذبح بطريقة شرعية - في الطعام كالمرق فإن الطعام يصير متنجساً لأن ذلك اللحم نجس لأنه ميتة ، وعندما يدخل الكلب في بركة ماء قليل أو يَلِغ فيه فإن ذلك الماء يصير متنجساً ، الى غير ذلك من الأمثلة ، وهذا واضح ولا خلاف فيه فكل جسم طاهر لاقى عين النجاسة مباشرة مع الرطوبة المسرية فهو متنجس ويفقد طهارته .
وهناك حالة أخرى وهي أن الجسم الطاهر لا يلاقي عين النجاسة بل يلاقي المتنجس بعين النجاسة ، كما إذا تنجّس الماء بملاقاة الميتة ثم سقط ثوب في ذلك الماء ، فالثوب لم يلاقِ عين النجاسة أي الميتة مباشرة بل لاقى الماء المتنجس بعين النجاسة ، والسؤال هل أن الثوب يتنجس بذلك أيضاً كما يتنجّس بملاقاة عين النجاسة أو لا ؟
ويمكن أن نصيغ هذا السؤال بأكثر من صياغة :
الصياغة الأولى / إن الأجسام الطاهرة هل يقتصر تنجّسها على ملاقاة عين النجاسة أم تتنجس أيضا بملاقاة ما تنجس بعين النجاسة ؟ فهل الثوب يتنجس بملاقاة الميتة أو البول ونحوهما فقط أم يتنجس بملاقاة الماء المتنجس بالميتة أو البول أيضاً ؟
الصياغة الثانية / إن المتنجس هل يُنجّس الأجسامَ الطاهرة كما هو الحال في عين النجاسة أو لا ؟ فالماء المتنجس بالدم هل ينجّس الثوب كنفس الدم ؟
الصياغة الثالثة / إن الأجسام الطاهرة هل يقتصر تنجّسها على ملاقاة أعيان النجاسة مباشرة أم تتنجس أيضاً بملاقاة أعيان النجاسة ولو بالواسطة ، فالثوب هل يشترط في تنجّسه بالميتة أن يتصل بها مباشرة أم يكفي أن يتصل بها بواسطة شيء آخر كالماء فيتنجس به ، فإنه إذا قلنا أن الماء الذي تنجّس بالميتة ينجّس الثوب الذي لاقاه فهذا يعني أن الميتة نجّست الثوب ولكن ليس مباشرة بل بواسطة الماء .
ثم إنه إذا كان الجواب عدم اشتراط المباشرة وأنه لا فرق بين الصورتين فالميتة منجّسة للثوب سواء بالمباشرة أو بالواسطة ، ينفتح سؤالان جديدان وهما :
السؤال الأول / إن هذه الواسطة هل يجب أن تكون واحدة أم يحصل التنجيس ولو مع تعددها ؟
فإن الواسطة تارة تكون واحدة كالمثال السابق حيث بين الميتة والثوب واسطة واحدة وهي الماء ، وتارة تكون الواسطة متعددة كواسطتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر
مثال الواسطتين / أن تلاقي الميتة ماء قليلاً ثم ينسكب الماء على الأرض ثم يسقط الثوب على الأرض المبتلة بالماء - وليس على نفس ذلك الماء وهو على الأرض - ، فحينئذٍ بين الميتة والثوب واسطتان وهما الماء والأرض ، والسؤال هل أن الماء الذي لا إشكال في تنجّسه بالميتة ينجّس الأرض أو لا ؟ وإذا كان ينجّسها فهل الأرض بدورها تنجّس الثوب أو لا ؟ وبعبارة أخرى هل الميتة تنجّس الثوب مع وجود واسطتين بينهما ؟ إذا كان التنجيس حاصلاً فإن الثوب يكون قد تنجّس بالميتة ولكن لا مباشرة بل بواسطتين وهما الماء والأرض .
مثال الوسائط الثلاث / نفس المثال السابق بأن يتنجّس الماء بالميتة ثم ينسكب على الأرض ثم يقع الثوب على الأرض المبتلة بذلك الماء ، ونضيف هنا : ثم نلبس الثوب فيتبلل البدن به .
فهنا بين الميتة والبدن ثلاث وسائط وهي الماء والأرض والثوب ، فهل هذه الأمور ينجّس بعضها بعضاً بحيث أن الماء ينجّس الأرض وهي تنجّس الثوب والثوب ينجّس البدن ؟ إذا كان الجواب بنعم فهذا يعني أنه لا يشترط في تنجّس الجسم الطاهر وهو البدن هنا أن يلاقي عين النجاسة مباشرة وهي الميتة في المثال ، كما لا يشترط أن تكون الواسطة واحدة وإنما يتنجّس الجسم الطاهر بعين النجاسة وإن كان بينهما عدة وسائط .
وهكذا يمكن أن نمثّل لأربع وسائط أو خمس أو حتى مئة واسطة ، كما لو نزعنا هذا الثوب وارتدينا غيره فتبلّل الثوب الجديد بالبدن المبلل بالثوب السابق فالثوب الجديد سيكون متنجساً خامساً والوسائط حينئذ بين الميتة والثوب الثاني أربع وهي : الماء والأرض والثوب الأول والبدن ، وهكذا .
السؤال الثاني / بناء على حصول التنجيس بالوسائط وعدم اشتراط الاتصال المباشر بعين النجاسة ، فهل يشترط في هذه الوسائط أن تكون كلها من المائعات أي السوائل ؟ أو أن تكون كلها من الجوامد ؟ أم لا فرق ؟
فإن الوسائط المتعددة تارة تكون كلها مائعات كما إذا لاقت الميتة ماء قليلاً ثم سقط هذا الماء القليل بالسمن ثم وضعنا السمن على المرق وهكذا ، فالماء والسمن والمرق كلها مائعات ، وتارة تكون الوسائط كلها جوامد كما إذا تنجّست اليد بملاقاة الميتة ثم وضعنا اليد وهي مبتلة على الثوب فابتل الثوب ثم انتقل بلله الى البدن ، فاليد والثوب والبدن كلها جوامد ، وتارة تكون الوسائط مختلقة فبعضها سوائل وبعضها جوامد كما في مثال السؤال السابق ، فالماء مائع والأرض والثوب من الجوامد .
النتيجة أن الأسئلة ثلاثة :
السؤال الاول / هل أن المتنجس ينجّس الأجسام الطاهرة كالنجس أي كعين النجاسة أو لا ؟ فهل الماء المتنجس بالميتة ينجّس الثوب مثلاً كالميتة ؟ أو قل هل الثوب يتنجّس بالماء المتنجّس بالميتة كما يتنجّس بنفس الميتة ؟
وبعبارة ثالثة : إن الميتة أو غيرها من أعيان النجاسة لا شك أنها تنجّس الثوب أو غيره من الأجسام الطاهرة ولكن هل يشترط في تنجيس أعيان النجاسة للأجسام الطاهرة الاتصال المباشر بها ؟ أم يتحقق التنجيس ولو بواسطة ومن دون الاتصال المباشر ؟
وإنما لجأنا الى هذه الصياغة لنتوصل بها الى السؤالين الآخرين .
السؤال الثاني / إن هذه الواسطة هل يشترط أن تكون واحدة أم يكفي أن تكون متعددة ؟ .
السؤال الثالث / بناء على تحقق التنجيس بالوسائط المتعددة فهل يشترط في هذه الوسائط أن تكون كلها من المائعات ؟ أو أن تكون كلها من الجوامد ؟ أو أنه لا فرق بينهما وأن المهم تعدد الوسائط أياً كان نوعها ؟
وحتى نعرف الإجابة على كل واحد من هذه الأسئلة الثلاثة نتطرق الى أمرين مهمين :
الأمر الأول / بيان بعض المصطلحات والمسائل الفقهية المهمة التي لها صلة بالموضوع بحيث يتوقف عليها فهم الجواب عن الأسئلة المتقدمة .
الأمر الثاني / إستعراض آراء الفقهاء في المسألة بشكل عام ، أعني مسألة منجّسية المتنجسات وسراية النجاسة ، ومن خلال الوقوف على آراءهم ننطلق للإجابة على كل واحد من هذه الأسئلة .
أما الأمر الأول / فههنا أمور : 1. لدى الفقهاء اصطلاحان وهما : النجس والمتنجّس ، ومرادهم من النجس أعيان النجاسات وهي الأشياء النجسة بذاتها وهي عشرة : ( البول ، الغائط ، المني ، الدم ، الميتة ، الكلب ، الخنزير ، المسكر المائع ، الفقاع ، الكافر ) على تفصيل في بعضها وخلاف في بعضها الآخر ، وأما المتنجس فمرادهم منه كل شيء طاهر بذاته -أي ليس من العشرة المذكورة - لكنه لاقى أحد العشرة مع الرطوبة المسرية ، كالماء يلاقي الميتة أو يسقط فيه بول أو دم ، فكل واحد من الميتة والبول والدم يسمى (النجس) أو عين النجاسة ، وأما الماء فيسمى (المتنجس) وهكذا الثوب والبدن والفراش وكل شيء طاهر يسمى متنجساً إذا لاقى أحد أعيان النجاسات برطوبة مسرية ، وقد يسمّى المتنجّس نجساً تسامحاً فيقال ماء نجس وثوب نجس ولكنه خلاف الاصطلاح ، فالنجس ما كان نجساً بذاته بحيث تكون النجاسة ملازمة له ولا يقبل التطهير ، أما المتنجس فهو ما كان طاهراً بذاته ثم عرضت عليه النجاسة فالنجاسة غير ملازمة له فيكون قابلاً للتطهير ولو بالاستهلاك كالماء المضاف ، وإنما تعرض عليه النجاسة بسبب ملاقاته للنجس مع الرطوبة المسرية ، وبعبارة واضحة النجس هو عبارة عن أحد العشرة المذكورة ، وأما المتنجس فينطبق على كل ما عدا العشرة المذكورة .
2. المتنجس - وهو الطاهر بالأصل الذي تنجس بملاقاة النجس - على أقسام وهي : المتنجس الأول ، والمتنجس الثاني ، والمتنجس الثالث ، والمتنجس الرابع ، والمئة والألف وهكذا ، ومرادهم من المتنجس الأول هو ما لاقى النجس مباشرة كالماء الذي يلاقي الميتة أو البول بلا واسطة ، ومرادهم من المتنجس الثاني ما لاقى المتنجس الأول ولم يلاقِ النجس مباشرة أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة واسطة واحدة كالثوب إذا سقط في الماء المتنجس بالميتة فالماء متنجس أول لأنه لاقى عين النجاسة وهي الميتة مباشرة والثوب متنجس ثانٍ لأنه لم يلاقِ النجس وهو الميتة مباشرة بل لاقى المتنجس الأول وهو الماء ، أو قل لأن بينه وبين الميتة واسطة واحدة وهي الماء ، والمتنجس الثالث هو ما لاقى المتنجس الثاني أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة واسطتان كما إذا ارتدينا الثوب فتبلل البدن فالبدن متنجس ثالث لأن بينه وبين الميتة واسطتان وهما الماء والثوب ، والمتنجس الرابع ما لاقى المتنجس الثالث أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة ثلاث وسائط ، والمتنجس العاشر ما لاقى المتنجس التاسع أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة تسع وسائط وهكذا .
وكلامنا هنا في مجرد بيان المصطلحات أما وجود هذه الأقسام فعلاً أو عدم وجودها فيتبع رأي الفقيه في مسألة سريان النجاسة في المتنجسات المتعاقبة فقد لا يرى فقيه وجود متنجس ثانٍ وقد لا يرى آخر وجود متنجس ثالث أو رابع ، وقد يرى فقيه وجود المتنجس الألف مثلاً وسنقف على أهم هذه الآراء في الأمر الثاني إن شاء الله تعالى .
3. ينبغي الالتفات الى أن المتنجس في كل مرتبة قد يكون متعدداً ، كما إذا تناثرت النجاسة على ثلاثة ثياب ، فهذا لا يعني أن أحد الثياب متنجس أول والثاني متنجس ثانٍ والثالث متنجس ثالث ، بل كل واحد من الثياب الثلاثة هو متنجس أول ، لأن كل واحد منها لاقى عين النجاسة مباشرة وهي ضابطة المتنجس الأول ، وبعبارة أخرى ليس بين أحد الثياب وبين عين النجاسة واسطة أو واسطتان حتى يكون متنجساً ثانياً أو ثالثاً ، وهكذا قد يلاقي المتنجس الأول عدة أشياء طاهرة فحينئذٍ كل واحد من هذه الأشياء هو متنجسٌ ثانٍ ، لا أن أحدها ثانٍ والآخرَ ثالثٌ والثالثَ رابعٌ وهكذا .
4. الكلام في منجّسيّة المتنجّس وأن المتنجس الأول هل ينجّس الثاني والثاني هل ينجّس الثالث وهكذا ، إنما هو في حالة خلوّ المتنجّس من عين النجاسة ، أما مع وجود عين النجاسة في المتنجس وانتقالها إليه فلا إشكال ولا خلاف حينئذٍ في أنه ينجّس ويكون حكمه حكم عين النجاسة ما دامت موجودة فيه ومصاحبة له ، فإذا لامس الماء ميتةً فانتقلت بعض أجزائها إليه فلا إشكال أنه ينجّس ما يلاقيه ويكون كالميتة ، فلو أريق الماء على الأرض مع وجود أجزاء الميتة فيه فلا إشكال في تنجّس الأرض به ، وما دامت الأجزاء باقية فإن الأرض تنجّس ما يلاقيها أيضاً بلا إشكال ، وهكذا ما دامت عين النجاسة تنتقل من متنجّس الى آخر فكل واحد من المتنجّسات هو كعين النجاسة ، والكلام والخلاف والأقوال السابقة لا تشمل هذه الحالة ، وإنما هي ناظرة الى المتنجّس الخالي من عين النجاسة فهل ينجّس الأجسام الطاهرة كعين النجاسة أو لا ؟
5. ينبغي الالتفات الى أن الكلام في منجّسيّة المتنجّس للجسم الطاهر إنما هو مع توفر شرطي التنجيس كما هو الحال في تنجيس أعيان النجاسة للأجسام الطاهرة ، فقد ذكروا أن الجسم الطاهر لا يتنجّس بملاقاة النجس أو المتنجّس الا بشرطين :
الأول / الملاقاة : أي التماس بحيث تحصل مماسة والتقاء بين الجسم النجس أو المتنجس وبين الجسم الطاهر ، فلا يكفي تأثر الجسم الطاهر بوصف النجس أو المتنجس من دون ملاقاة كما لو صارت رائحة الماء كريهة لمجرد وجود ميتة مجاورة له من دون ملاقاة بينهما فهذا لا يصيّر الماء متنجّساً ، وعلى هذا الأساس قيل ( إذا سرت الرطوبة والعفونة من بالوعة الفضلات والنجاسات مثلاً إلى شيء طاهر ومجاور كالفراش والأثاث وأرض الغرفة وحائطها فلا يتنجس هذا الطاهر المجاور بذلك ، لأن ذلك لا يحقق عرفاً الملاقاة بينه وبين عين النجس ) (1) .
الثاني / الرطوبة المسرية : فلا بد من وجود البلل والرطوبة أثناء الملاقاة ولو في أحد الطرفين سواء النجس أو الطاهر ويكفي أن يكون أحدهما مائعاً ، فلو كان كل منهما جافاً لم يحصل التنجيس ولو مع الملاقاة ، ولا يكفي مطلق الرطوبة بل لا بد أن تكون الرطوبة بمقدار معتدٍ به بحيث تنتقل من الطرف الرطب الى الطرف الجاف عند المماسة ويظهر أثرها في الطرف الجاف ، وهذا هو معنى المسرية أي تسري الرطوبة من طرف الى آخر ، فلو كانت الرطوبة خفيفة لا تؤثر في الطرف الآخر لم يحصل التنجيس .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام في منجّسيّة المتنجّس وأن المتنجس الأول هل ينجّس الثاني والثاني هل ينجّس الثالث وهكذا ، إنما هو في حالة توفر الشرطين في كل مرة ، فلو لاقى جسم طاهر المتنجّس الأول من دون رطوبة مسرية فلا إشكال في عدم تنجّسه به ، لا لأن المتنجّس الأول لا ينجّس بل لعدم توفر شرط التنجيس ، وهكذا لو تأثر الجسم الطاهر بالمتنجّس من دون ملاقاة .
الحَمّْدُ للهِ رَبِّ العَاْلَمِيْنَ .. عَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَبِهِ نَسْتَعِيْن
وَصَلَّى اللهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْن
-------------------
« مُنجِّسيَّة المُتنجِّس »
لا إشكال في أن الأجسام الطاهرة كالماء والثياب والبدن والأرض والفراش تتنجس بملاقاة أحد أعيان النجاسة كالبول أو الدم أو الميتة مع الرطوبة المسرية ، فإذا سقطت قطرة دم في ماء قليل فإن الماء يصير بذلك متنجساً ، وإذا تلوّث البدن أو الثوب بالبول فإنه يصير بذلك متنجساً ، وإذا وضعنا لحم حيوان غير مُذكّى - أي لم يذبح بطريقة شرعية - في الطعام كالمرق فإن الطعام يصير متنجساً لأن ذلك اللحم نجس لأنه ميتة ، وعندما يدخل الكلب في بركة ماء قليل أو يَلِغ فيه فإن ذلك الماء يصير متنجساً ، الى غير ذلك من الأمثلة ، وهذا واضح ولا خلاف فيه فكل جسم طاهر لاقى عين النجاسة مباشرة مع الرطوبة المسرية فهو متنجس ويفقد طهارته .
وهناك حالة أخرى وهي أن الجسم الطاهر لا يلاقي عين النجاسة بل يلاقي المتنجس بعين النجاسة ، كما إذا تنجّس الماء بملاقاة الميتة ثم سقط ثوب في ذلك الماء ، فالثوب لم يلاقِ عين النجاسة أي الميتة مباشرة بل لاقى الماء المتنجس بعين النجاسة ، والسؤال هل أن الثوب يتنجس بذلك أيضاً كما يتنجّس بملاقاة عين النجاسة أو لا ؟
ويمكن أن نصيغ هذا السؤال بأكثر من صياغة :
الصياغة الأولى / إن الأجسام الطاهرة هل يقتصر تنجّسها على ملاقاة عين النجاسة أم تتنجس أيضا بملاقاة ما تنجس بعين النجاسة ؟ فهل الثوب يتنجس بملاقاة الميتة أو البول ونحوهما فقط أم يتنجس بملاقاة الماء المتنجس بالميتة أو البول أيضاً ؟
الصياغة الثانية / إن المتنجس هل يُنجّس الأجسامَ الطاهرة كما هو الحال في عين النجاسة أو لا ؟ فالماء المتنجس بالدم هل ينجّس الثوب كنفس الدم ؟
الصياغة الثالثة / إن الأجسام الطاهرة هل يقتصر تنجّسها على ملاقاة أعيان النجاسة مباشرة أم تتنجس أيضاً بملاقاة أعيان النجاسة ولو بالواسطة ، فالثوب هل يشترط في تنجّسه بالميتة أن يتصل بها مباشرة أم يكفي أن يتصل بها بواسطة شيء آخر كالماء فيتنجس به ، فإنه إذا قلنا أن الماء الذي تنجّس بالميتة ينجّس الثوب الذي لاقاه فهذا يعني أن الميتة نجّست الثوب ولكن ليس مباشرة بل بواسطة الماء .
ثم إنه إذا كان الجواب عدم اشتراط المباشرة وأنه لا فرق بين الصورتين فالميتة منجّسة للثوب سواء بالمباشرة أو بالواسطة ، ينفتح سؤالان جديدان وهما :
السؤال الأول / إن هذه الواسطة هل يجب أن تكون واحدة أم يحصل التنجيس ولو مع تعددها ؟
فإن الواسطة تارة تكون واحدة كالمثال السابق حيث بين الميتة والثوب واسطة واحدة وهي الماء ، وتارة تكون الواسطة متعددة كواسطتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر
مثال الواسطتين / أن تلاقي الميتة ماء قليلاً ثم ينسكب الماء على الأرض ثم يسقط الثوب على الأرض المبتلة بالماء - وليس على نفس ذلك الماء وهو على الأرض - ، فحينئذٍ بين الميتة والثوب واسطتان وهما الماء والأرض ، والسؤال هل أن الماء الذي لا إشكال في تنجّسه بالميتة ينجّس الأرض أو لا ؟ وإذا كان ينجّسها فهل الأرض بدورها تنجّس الثوب أو لا ؟ وبعبارة أخرى هل الميتة تنجّس الثوب مع وجود واسطتين بينهما ؟ إذا كان التنجيس حاصلاً فإن الثوب يكون قد تنجّس بالميتة ولكن لا مباشرة بل بواسطتين وهما الماء والأرض .
مثال الوسائط الثلاث / نفس المثال السابق بأن يتنجّس الماء بالميتة ثم ينسكب على الأرض ثم يقع الثوب على الأرض المبتلة بذلك الماء ، ونضيف هنا : ثم نلبس الثوب فيتبلل البدن به .
فهنا بين الميتة والبدن ثلاث وسائط وهي الماء والأرض والثوب ، فهل هذه الأمور ينجّس بعضها بعضاً بحيث أن الماء ينجّس الأرض وهي تنجّس الثوب والثوب ينجّس البدن ؟ إذا كان الجواب بنعم فهذا يعني أنه لا يشترط في تنجّس الجسم الطاهر وهو البدن هنا أن يلاقي عين النجاسة مباشرة وهي الميتة في المثال ، كما لا يشترط أن تكون الواسطة واحدة وإنما يتنجّس الجسم الطاهر بعين النجاسة وإن كان بينهما عدة وسائط .
وهكذا يمكن أن نمثّل لأربع وسائط أو خمس أو حتى مئة واسطة ، كما لو نزعنا هذا الثوب وارتدينا غيره فتبلّل الثوب الجديد بالبدن المبلل بالثوب السابق فالثوب الجديد سيكون متنجساً خامساً والوسائط حينئذ بين الميتة والثوب الثاني أربع وهي : الماء والأرض والثوب الأول والبدن ، وهكذا .
السؤال الثاني / بناء على حصول التنجيس بالوسائط وعدم اشتراط الاتصال المباشر بعين النجاسة ، فهل يشترط في هذه الوسائط أن تكون كلها من المائعات أي السوائل ؟ أو أن تكون كلها من الجوامد ؟ أم لا فرق ؟
فإن الوسائط المتعددة تارة تكون كلها مائعات كما إذا لاقت الميتة ماء قليلاً ثم سقط هذا الماء القليل بالسمن ثم وضعنا السمن على المرق وهكذا ، فالماء والسمن والمرق كلها مائعات ، وتارة تكون الوسائط كلها جوامد كما إذا تنجّست اليد بملاقاة الميتة ثم وضعنا اليد وهي مبتلة على الثوب فابتل الثوب ثم انتقل بلله الى البدن ، فاليد والثوب والبدن كلها جوامد ، وتارة تكون الوسائط مختلقة فبعضها سوائل وبعضها جوامد كما في مثال السؤال السابق ، فالماء مائع والأرض والثوب من الجوامد .
النتيجة أن الأسئلة ثلاثة :
السؤال الاول / هل أن المتنجس ينجّس الأجسام الطاهرة كالنجس أي كعين النجاسة أو لا ؟ فهل الماء المتنجس بالميتة ينجّس الثوب مثلاً كالميتة ؟ أو قل هل الثوب يتنجّس بالماء المتنجّس بالميتة كما يتنجّس بنفس الميتة ؟
وبعبارة ثالثة : إن الميتة أو غيرها من أعيان النجاسة لا شك أنها تنجّس الثوب أو غيره من الأجسام الطاهرة ولكن هل يشترط في تنجيس أعيان النجاسة للأجسام الطاهرة الاتصال المباشر بها ؟ أم يتحقق التنجيس ولو بواسطة ومن دون الاتصال المباشر ؟
وإنما لجأنا الى هذه الصياغة لنتوصل بها الى السؤالين الآخرين .
السؤال الثاني / إن هذه الواسطة هل يشترط أن تكون واحدة أم يكفي أن تكون متعددة ؟ .
السؤال الثالث / بناء على تحقق التنجيس بالوسائط المتعددة فهل يشترط في هذه الوسائط أن تكون كلها من المائعات ؟ أو أن تكون كلها من الجوامد ؟ أو أنه لا فرق بينهما وأن المهم تعدد الوسائط أياً كان نوعها ؟
وحتى نعرف الإجابة على كل واحد من هذه الأسئلة الثلاثة نتطرق الى أمرين مهمين :
الأمر الأول / بيان بعض المصطلحات والمسائل الفقهية المهمة التي لها صلة بالموضوع بحيث يتوقف عليها فهم الجواب عن الأسئلة المتقدمة .
الأمر الثاني / إستعراض آراء الفقهاء في المسألة بشكل عام ، أعني مسألة منجّسية المتنجسات وسراية النجاسة ، ومن خلال الوقوف على آراءهم ننطلق للإجابة على كل واحد من هذه الأسئلة .
أما الأمر الأول / فههنا أمور : 1. لدى الفقهاء اصطلاحان وهما : النجس والمتنجّس ، ومرادهم من النجس أعيان النجاسات وهي الأشياء النجسة بذاتها وهي عشرة : ( البول ، الغائط ، المني ، الدم ، الميتة ، الكلب ، الخنزير ، المسكر المائع ، الفقاع ، الكافر ) على تفصيل في بعضها وخلاف في بعضها الآخر ، وأما المتنجس فمرادهم منه كل شيء طاهر بذاته -أي ليس من العشرة المذكورة - لكنه لاقى أحد العشرة مع الرطوبة المسرية ، كالماء يلاقي الميتة أو يسقط فيه بول أو دم ، فكل واحد من الميتة والبول والدم يسمى (النجس) أو عين النجاسة ، وأما الماء فيسمى (المتنجس) وهكذا الثوب والبدن والفراش وكل شيء طاهر يسمى متنجساً إذا لاقى أحد أعيان النجاسات برطوبة مسرية ، وقد يسمّى المتنجّس نجساً تسامحاً فيقال ماء نجس وثوب نجس ولكنه خلاف الاصطلاح ، فالنجس ما كان نجساً بذاته بحيث تكون النجاسة ملازمة له ولا يقبل التطهير ، أما المتنجس فهو ما كان طاهراً بذاته ثم عرضت عليه النجاسة فالنجاسة غير ملازمة له فيكون قابلاً للتطهير ولو بالاستهلاك كالماء المضاف ، وإنما تعرض عليه النجاسة بسبب ملاقاته للنجس مع الرطوبة المسرية ، وبعبارة واضحة النجس هو عبارة عن أحد العشرة المذكورة ، وأما المتنجس فينطبق على كل ما عدا العشرة المذكورة .
2. المتنجس - وهو الطاهر بالأصل الذي تنجس بملاقاة النجس - على أقسام وهي : المتنجس الأول ، والمتنجس الثاني ، والمتنجس الثالث ، والمتنجس الرابع ، والمئة والألف وهكذا ، ومرادهم من المتنجس الأول هو ما لاقى النجس مباشرة كالماء الذي يلاقي الميتة أو البول بلا واسطة ، ومرادهم من المتنجس الثاني ما لاقى المتنجس الأول ولم يلاقِ النجس مباشرة أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة واسطة واحدة كالثوب إذا سقط في الماء المتنجس بالميتة فالماء متنجس أول لأنه لاقى عين النجاسة وهي الميتة مباشرة والثوب متنجس ثانٍ لأنه لم يلاقِ النجس وهو الميتة مباشرة بل لاقى المتنجس الأول وهو الماء ، أو قل لأن بينه وبين الميتة واسطة واحدة وهي الماء ، والمتنجس الثالث هو ما لاقى المتنجس الثاني أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة واسطتان كما إذا ارتدينا الثوب فتبلل البدن فالبدن متنجس ثالث لأن بينه وبين الميتة واسطتان وهما الماء والثوب ، والمتنجس الرابع ما لاقى المتنجس الثالث أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة ثلاث وسائط ، والمتنجس العاشر ما لاقى المتنجس التاسع أو قل ما كان بينه وبين عين النجاسة تسع وسائط وهكذا .
وكلامنا هنا في مجرد بيان المصطلحات أما وجود هذه الأقسام فعلاً أو عدم وجودها فيتبع رأي الفقيه في مسألة سريان النجاسة في المتنجسات المتعاقبة فقد لا يرى فقيه وجود متنجس ثانٍ وقد لا يرى آخر وجود متنجس ثالث أو رابع ، وقد يرى فقيه وجود المتنجس الألف مثلاً وسنقف على أهم هذه الآراء في الأمر الثاني إن شاء الله تعالى .
3. ينبغي الالتفات الى أن المتنجس في كل مرتبة قد يكون متعدداً ، كما إذا تناثرت النجاسة على ثلاثة ثياب ، فهذا لا يعني أن أحد الثياب متنجس أول والثاني متنجس ثانٍ والثالث متنجس ثالث ، بل كل واحد من الثياب الثلاثة هو متنجس أول ، لأن كل واحد منها لاقى عين النجاسة مباشرة وهي ضابطة المتنجس الأول ، وبعبارة أخرى ليس بين أحد الثياب وبين عين النجاسة واسطة أو واسطتان حتى يكون متنجساً ثانياً أو ثالثاً ، وهكذا قد يلاقي المتنجس الأول عدة أشياء طاهرة فحينئذٍ كل واحد من هذه الأشياء هو متنجسٌ ثانٍ ، لا أن أحدها ثانٍ والآخرَ ثالثٌ والثالثَ رابعٌ وهكذا .
4. الكلام في منجّسيّة المتنجّس وأن المتنجس الأول هل ينجّس الثاني والثاني هل ينجّس الثالث وهكذا ، إنما هو في حالة خلوّ المتنجّس من عين النجاسة ، أما مع وجود عين النجاسة في المتنجس وانتقالها إليه فلا إشكال ولا خلاف حينئذٍ في أنه ينجّس ويكون حكمه حكم عين النجاسة ما دامت موجودة فيه ومصاحبة له ، فإذا لامس الماء ميتةً فانتقلت بعض أجزائها إليه فلا إشكال أنه ينجّس ما يلاقيه ويكون كالميتة ، فلو أريق الماء على الأرض مع وجود أجزاء الميتة فيه فلا إشكال في تنجّس الأرض به ، وما دامت الأجزاء باقية فإن الأرض تنجّس ما يلاقيها أيضاً بلا إشكال ، وهكذا ما دامت عين النجاسة تنتقل من متنجّس الى آخر فكل واحد من المتنجّسات هو كعين النجاسة ، والكلام والخلاف والأقوال السابقة لا تشمل هذه الحالة ، وإنما هي ناظرة الى المتنجّس الخالي من عين النجاسة فهل ينجّس الأجسام الطاهرة كعين النجاسة أو لا ؟
5. ينبغي الالتفات الى أن الكلام في منجّسيّة المتنجّس للجسم الطاهر إنما هو مع توفر شرطي التنجيس كما هو الحال في تنجيس أعيان النجاسة للأجسام الطاهرة ، فقد ذكروا أن الجسم الطاهر لا يتنجّس بملاقاة النجس أو المتنجّس الا بشرطين :
الأول / الملاقاة : أي التماس بحيث تحصل مماسة والتقاء بين الجسم النجس أو المتنجس وبين الجسم الطاهر ، فلا يكفي تأثر الجسم الطاهر بوصف النجس أو المتنجس من دون ملاقاة كما لو صارت رائحة الماء كريهة لمجرد وجود ميتة مجاورة له من دون ملاقاة بينهما فهذا لا يصيّر الماء متنجّساً ، وعلى هذا الأساس قيل ( إذا سرت الرطوبة والعفونة من بالوعة الفضلات والنجاسات مثلاً إلى شيء طاهر ومجاور كالفراش والأثاث وأرض الغرفة وحائطها فلا يتنجس هذا الطاهر المجاور بذلك ، لأن ذلك لا يحقق عرفاً الملاقاة بينه وبين عين النجس ) (1) .
الثاني / الرطوبة المسرية : فلا بد من وجود البلل والرطوبة أثناء الملاقاة ولو في أحد الطرفين سواء النجس أو الطاهر ويكفي أن يكون أحدهما مائعاً ، فلو كان كل منهما جافاً لم يحصل التنجيس ولو مع الملاقاة ، ولا يكفي مطلق الرطوبة بل لا بد أن تكون الرطوبة بمقدار معتدٍ به بحيث تنتقل من الطرف الرطب الى الطرف الجاف عند المماسة ويظهر أثرها في الطرف الجاف ، وهذا هو معنى المسرية أي تسري الرطوبة من طرف الى آخر ، فلو كانت الرطوبة خفيفة لا تؤثر في الطرف الآخر لم يحصل التنجيس .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام في منجّسيّة المتنجّس وأن المتنجس الأول هل ينجّس الثاني والثاني هل ينجّس الثالث وهكذا ، إنما هو في حالة توفر الشرطين في كل مرة ، فلو لاقى جسم طاهر المتنجّس الأول من دون رطوبة مسرية فلا إشكال في عدم تنجّسه به ، لا لأن المتنجّس الأول لا ينجّس بل لعدم توفر شرط التنجيس ، وهكذا لو تأثر الجسم الطاهر بالمتنجّس من دون ملاقاة .