مشاهدة النسخة كاملة : استعراض تحليلي لتاريخ الإسلام/الأستاذ بناهيان
الرحيق المختوم
13-02-2014, 09:33 AM
هذا الذي بين يديك أيها القارئ الكريم هو ملخّص الجلسة الأولى من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ الأستاذ بناهيان في جلسات هيئة الشهداء المجهولين في طهران حيث خصص أبحاثه باستعراض تحليلي لتاريخ الإسلام، فانطلق في أبحاثه من أحداث التاريخ وظروفه ومنعطفاته إلى فهم زماننا المعاصر وما نعيشه من ظروف وواقع. وجدتها حرية بالترجمة والنشر فعمدت على ترجمتها مستعينا بالله وسائلا إياه التوفيق والتسديد.
نحن اليوم بحاجة إلى مرور تاريخ الإسلام أكثر من أي زمان آخر/ لا ينبغي أن نكتفي بمرتكزاتنا المشهورة عن تاريخ الإسلام
لقد أصبحنا في هذا الزمان بحاجة إلى تاريخ الإسلام أكثر من أي زمان آخر. حيث إن الظروف الراهنة التي نعيشها الآن تقتضي إدراكنا العميق للدين أكثر من الأزمنة الماضية. إن الكثير من الاختلافات في الآراء لم تعد ترتبط بأصل الدين وحقّانيته، بل بعض الاستنباطات السطحيّة من الدين هي التي تثير المشاكل.
إن مدى حاجتنا اليوم إلى تاريخ الإسلام أوسع من أن نكتفي ببعض القضايا المشهورة في التاريخ. فهناك الكثير من القضايا والتفاصيل القطعية والثابتة في تاريخ الإسلام ولكنها غير مشهورة وعادة ما لا تؤخذ بعين الاعتبار مع أنها نافعة جدا في رؤيتنا تجاه تاريخ الإسلام.
لابدّ لنا من دراسة تاريخ الإسلام بمزيد من الدقة وذلك من أجل الحصول على معرفة عميقة وصحيحة بأصل الدين. ثم إن المسائل التاريخية التي تمّ تناقلها جيلا بعد جيل واشتهرت على الألسن لم تكن المسائل الرئيسة في التاريخ بالضرورة كما ليس بالضرورة أن تكون هذه المشهورات متناسبة مع ما يقتضيه واقع مجتمعنا اليوم. لقد تطور مجتمعنا كثيرا وهذا ما يفرض علينا أن نراجع الزوايا الخفية في تاريخ الإسلام أكثر من قبل.
إن الاكتفاء بالقضايا التاريخية المشهورة قد يحرفنا عن الصواب في استنتاجنا من التاريخ، ولا شك في أن النتيجة الخاطئة التي نخرج بها من التاريخ قد تؤدي إلى عدم الصواب في فهم الإسلام بشكل عام.
فعلى سبيل المثال كان تحليل الشيخ بهجت(رض) عن قيام الإمام الحسين(ع) قائما على بعض الحقائق غير المشهورة في تاريخ الطفّ. فقد قال سماحته مستندا إلى الوثائق التاريخية: بعدما رأى الإمام الحسين(ع) عدم وجود الناصر، رضي بأن يكفّ عن محاربة يزيد والقيام ضدّ الحكومة كما فعل أخوه الإمام الحسن(ع) مع معاوية. فقد اقترح الإمام الحسين(ع) هذا الأمر على عمر بن سعد حينما التقى به في كربلاء، ولكن أبى ذلك عمر بن سعد حيث كان قد حصر الطرق على أبي عبد الله الحسين(ع) بين القتال أو الاستسلام؛ أي يستسلم له حتى يبعثه مكبلا إلى يزيد ويقرّر هو عند ذلك في أن يقتله أم يطلق سراحه. ولذلك قال الحسين(ع): «ألا! و إنّ الدّعي بن الدّعي قد رکز بين اثنتين: بين السّلّيوالذّلّي، و هيهات منّا الذّلي، يأبي اللهُ لنا ذلک و رسوله والمؤمنون.»[اللهوف/ص97- الاحتجاج/ج2/ص300]
مضافا إلى «الاطلاع» على تاريخ الإسلام نحن بحاجة إلى «تحليله»/ إن لم يكن لدينا تحليل تجاه حدث اجتماعي فهذا يعني أننا لم نفهمه/ إن التاريخ أحد مصادر فهم الإسلام كالقرآن
مضافا إلى ضرورة التعرف على تاريخ الإسلام، هناك ضرورة أخرى تقتضي «تحليل» هذا التاريخ. فلابدّ لنا من الخوض في تحليل أحداث تاريخ الإسلام، فلا مناص من هذا الأمر ولا نستطيع أن نحصل على تحليل دقيق وصائب للأحداث بكل بساطة. فإننا إن لم نستطع أن نحلّل حدثا تاريخيا ما فذلك يدلّ على أننا لم نفهمه. ومن جانب آخر إذا أعطينا تحليلا خاطئا عن الحدث فيدل على أننا فهمناه بشكل خاطئ.
إن الذي يعطي تحليلا خاطئا وغير صائب للتاريخ الإسلامي كالذي استنبط مفهوما خاطئا من القرآن أو ترجمه وفسره بغير صواب. فكما أن القرآن هو مصدر فهم الدين، كذلك تاريخ الإسلام فهو من مصادر فهم الدين أيضا.
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
16-02-2014, 09:20 AM
إلى أين نلجأ في تعاقيد والتواءات فتن آخر الزمان؟!/ لقد حدّد تاريخ الإسلام أهمّ الأحداث المتوقعة في المجتمع الإسلامي إلى قيام الساعة
كلّما نقترب من آخر الزمان نواجه مزيدا من التعاقيد والالتواءات في الأحداث ما أعيَت الكثير من المحلّلين عن معرفة زمانهم. وقد صرحت الروايات أن الناس لم يعودوا يميزون بين المؤمن والمنافق في ذاك الزمان. فقد روي عن الإمام الرضا(ع): «... إِنَّهُ إِذَا کَانَ کَذَلِکَ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَلَمْ یُعْرَفْ مُؤْمِنٌ مِنْ مُنَافِق»[صفات الشیعة للشیخ الصدوق/ص8]. كما لم يعد تحليل الكثير ممن كنا نعتمد عليهم في آرائهم ومواقفهم نافعا لنا. فقد روي عن رسول الله(ص): «وَ سَتَکُونُ بَعْدِی فِتْنَةٌ صَمَّاءُ صَیْلَمٌ یَسْقُطُ فِیهَا کُلُّ وَلِیجَةٍ وَ بِطَانَةٍ وَ ذَلِکَ عِنْدَ فِقْدَانِ شِیعَتِکَ الْخَامِسَ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ مِنْ وُلْدِکَ»[کفایة الأثر/ص156]. ففي فتن آخر الزمان تتفاقم الأزمات وتتعقد الأوضاع بكل معنى الكلمة. طبعا لم تتعقد ظروفنا لحد الآن ولكن نتوقع أن نواجه المزيد من الالتباسات والتعقيدات في الأحداث. إنه لمسار طبيعي فكل ما يمشي بنا الزمن تتعقد المحن وتزداد الفتن غموضا.
إلى أين نلجأ في هذه الفتن المعقّدة والغامضة؟ فهل يستطيع من يفتقد التحليل الصحيح عن تاريخ الإسلام أن يحصل على إدراك وتحليل سياسي صائب ودقيق عن زمانه؟! فمن الوهم الباطل أن نفترض إمكان معرفة الزمان لأهل السياسية دون معرفتهم بتاريخ الإسلام. فقد حدّد تاريخ الإسلام أهمّ الأحداث المتوقعة في المجتمع الإسلامي إلى قيام الساعة.
إنّ كنا بصدد مقارنة موقف النظام تجاه رؤساء الفتنة في عام 2009 وبين بعض ما حدث في التاريخ، فلابدّ أن نقارنه مع موقف النبي(ص) وأمير المؤمنين(ع) تجاه المتمردين من المؤمنين لا موقف النبي(ص) في عفو مشركي مكة
إن تطبيق القواعد العامة في تاريخ الإسلام على بعض الأزمنة والمواقف بغير صواب والذي ناتج عن عدم الالتفات إلى الظروف السائدة في الأحداث التاريخية، يؤدي بنا إلى الالتباس في فهم القواعد العامة لتاريخ الإسلام وبالنتيجة يؤول إلى خروجنا بتحليلات سياسية خاطئة. لقد أشار أحد النواب الأعزاء في مجلس الشورى الإسلامي إلى موقف رسول الله(ص) تجاه مشركي مكة حيث إنه عفا عن قتلة حمزة سيد الشهداء، ثم انطلق من هذه الواقعة التاريخية مستنتجا أنه لابد لنا من التأسي بموقف النبي(ص) في موقفنا تجاه قادة فتنة 2009.
فهل واقعا في هذه الظروف الراهنة ينبغي لنا أن نتحدث عن موقف النبي(ص) مع مشركي مكّة، أم لابدّ أن نتحدث عن موقف أمير المؤمنين(ع) مع بعض المتمردين في زمانه؟! إن المتمردين والمعارضين على قسمين: أحدهما هم المعارضون الخارجون عن نطاق المجتمع الإسلامي، والآخر هم المتمردون الذين هم في ضمن المجتمع الإسلامي. فالمثال الذي طرحه النائب المحترم في مجلس الشورى كان عبارة عن عفو النبي(ص) تجاه من كان خارجا عن نطاق المجتمع الإسلامي، أما قضيتنا الراهنة ترتبط بأولئك المتمردين الذين هم في ضمن المجتمع الإسلامي. فإذا أردنا أن نقارن قضيتنا بحدث تاريخي مشابه، لابدّ أن نفتش عن الأحداث التي تمرد فيها بعض المسلمين والمؤمنين على حاكمية الإسلام، ثم ننظر إلى موقف النبي(ص) وأميرالمؤمنين(ع) تجاههم. فإن أمثال هذه التحليلات تحكي عن نظرة سطحية إلى تاريخ الإسلام. فإذا أردنا أن نقارن بين ما حدث في زماننا وبين حدث تاريخي وقع في تاريخ صدر الإسلام لابدّ أن ننظر بعمق ودقّة.
لا يمكن الحصول على رؤية سياسية ثاقبة ما لم نحصل على رؤية صحيحة تجاه تاريخ الإسلام/ مدى أهمية التاريخ في كتاب أمير المؤمنين(ع) إلى ولده
يحظى تاريخ الإسلام بأهمية فائقة وكذلك الحال بالنسبة إلى تحليل تاريخ الإسلام فإنه مهم جدا، فحتى لو اطّلعنا على غيره من المعارف الدينية، لا يمكن الحصول على رؤية سياسية ثاقبة ما لم نحصل على رؤية صحيحة تجاه تاريخ الإسلام.
لقد استدلّ أمير المؤمنين(ع) في كتابه الأوّل بعد الثلاثين من نهج البلاغة على قيمة كلامه بإدراكه المعيق لتاريخ حياة الإنسان فقال فيها مخاطبا ولده وقاصدا جميع شباب الأمة الإسلامية: « أَیْ بُنَیَ إِنِّی وَ إِنْ لَمْ أَکُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ کَانَ قَبْلِی فَقَدْ نَظَرْتُ فِی أَعْمَالِهِمْ وَ فَکَّرْتُ فِی أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِی آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ کَأَحَدِهِمْ بَلْ کَأَنِّی بِمَا انْتَهَى إِلَیَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ»[نهج البلاغة/الكتاب 31].
ولا يخفى أن هذه الرسالة لم تكن رسالة سرد للتاريخ، ولكن الإمام قد اعتبر هذه المواعظ والمعارف الدينية هي حصيلة نظرته العميقة والدقيقة في تاريخ حياة الإنسان.
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
17-02-2014, 09:38 AM
إن الحقائق التاريخية أجدر بإقناع الإنسان من المفاهيم النظرية البحتة
إحدى النتائج القيمة التي تنتجها دراسة التاريخ، هي أن الحقائق التاريخية أجدر بإقناع الإنسان من المفاهيم النظرية البحتة؛ حتى وإن كانت قائمة على القواعد العقلية. إن الحقائق التاريخية تقنع الإنسان وتحفزه بسرعة وسهولة.
لقد سألني رجل «هل يمكن في الحكومة الإسلامية أن ينصب رجل لمنصب ما ثم يرتكب هذا المسؤول جريمة؟» فأجبته: «نعم، إن النبي الأعظم(ص) الذي لا إشكال في عصمته قد بعث مندوبا من قبله إلى قوم، ولكنه ارتكب جريمة هناك، فقد بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ففعل ما فعل». فعندما سمع هذا الجواب اطمئن وارتاح في اللحظة وبدأ يفكر. أما إذا وضعنا هذا الحدث التاريخي جانبا لما استطعنا أن نقنعه بألف دليل عقلي ونقلي. ولا شك في أن هذا الاستدلال يمشي مع من يعتقد بالنبي الأعظم(ص) واقعا.
إن تاريخ الديمقراطية يدلّ على أنها مدعاة للإجرام في العالم أكثر من أي شيء آخر
إن قوة التاريخ في الإقناع وإثبات الحقائق لا يختصّ في القضايا الدينية فقط. فعلى سبيل المثال إن تاريخ الديمقراطية يدل على أنها مدعاة للإجرام في العالم أكثر من أي شيء آخر، ولا داعي لإثبات هذه الحقيقة إلى الأبحاث النظرية المعقدة بعد ما نهض التاريخ لإثباتها. فلو أردنا إثبات هذه الحقيقة قبل خمسين عام لما استطعنا ذلك حتى عبر الأبحاث العقلية والنظرية المفصلة. أما اليوم فقد أماطت الديمقراطية الغربية اللثام عن وجهها الخبيث.
من الذي لا يدري أن نفس هذه البلدان الديمقراطية ـ كما يدعون لأنفسهم ـ تجهز الإرهابيين لسفك الدماء في البلدان الإسلامية؟! فكل هذه الجرائم هي نتائج الديمقراطية.
لقد احتجّ أئمتنا بالنماذج التاريخية في نقاشاتهم وحواراتهم
حتى أن أئمتنا(ع) قد احتجوا في عديد من احتجاجاتهم ونقاشاتهم بالأمثلة التاريخية من حياة الأنبياء. كما نجد هذا الأسلوب في سيرة رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) وحتى في منهج القرآن حيث إنه قد أجاب الكثير من الشبهات من خلال الاستشهاد بالمقاطع التاريخية من حياة الأنبياء أو صدر الإسلام.
بعد ما احتجّ بعض أصحاب أمير المؤمنين(ع) على الخوارج بالقرآن ولم يتمكنوا من إقناعهم، ذهب أمير المؤمنين(ع) بنفسه إليهم وأخذ يجيب عن أسئلتهم وشبهاتهم حول موقفه(ع) في حرب صفين، من خلال التذكير والاستشهاد بمقاطع من تاريخ صدر الإسلام وسيرة رسول الله(ص). وبهذا الأسلوب اقتنع ثمانية ألف نفر من عدد الخوارج الذي كان حوالي 12 ألف نفر. [كشف الغمة/ج1/ص265]
كما أن أمير المؤمنين(ع) عندما أرسل ابن عباس إلى الخوارج أوصاه أن لا يستدلّ بالقرآن بل يستدل بسنة رسول الله(ص) ولا شك في أن جزء من السنة هو ما يسمى بتاريخ حياة الرسول وتاريخ صدر الإسلام. فقال له أمير المؤمنين(ع): «لَا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ وَ یَقُولُونَ وَ لَکِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ یَجِدُوا عَنْهَا مَحِیصاً»[نهج البلاغة/الكتاب77]
«قَالَ رَجُلٌ لِلإمام الصَّادِقِ(ع): فَإِذَا کَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مِنَ الْیَهُودِ لَا یَعْرِفُونَ الْکِتَابَ إِلَّا بِمَا یَسْمَعُونَهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ لَا سَبِیلَ لَهُمْ إِلَى غَیْرِهِ فَکَیْفَ ذَمَّهُمْ بِتَقْلِیدِهِمْ وَ الْقَبُولِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ وَ هَلْ عَوَامُّ الْیَهُودِ إِلَّا کَعَوَامِّنَا یُقَلِّدُونَ عُلَمَاءَهُمْ؟ فَقَالَ ع بَیْنَ عَوَامِّنَا وَ عُلَمَائِنَا وَ عَوَامِّ الْیَهُودِ وَ عُلَمَائِهِمْ فَرْقٌ مِنْ جِهَةٍ وَ تَسْوِیَةٌ مِنْ جِهَةٍ ... إِنَّ عَوَامَّ الْیَهُودِ کَانُوا قَدْ عَرَفُوا عُلَمَاءَهُمْ بِالْکَذِبِ الصِّرَاحِ وَ بِأَکْلِ الْحَرَامِ وَ الرِّشَاءِ وَ بِتَغْیِیرِ الْأَحْکَامِ عَنْ وَاجِبِهَا بِالشَّفَاعَاتِ وَ الْعِنَایَاتِ وَ الْمُصَانَعَاتِ وَ عَرَفُوهُمْ بِالتَّعَصُّبِ الشَّدِیدِ الَّذِی یُفَارِقُونَ بِهِ أَدْیَانَهُمْ وَ أَنَّهُمْ إِذَا تَعَصَّبُوا أَزَالُوا حُقُوقَ مَنْ تَعَصَّبُوا عَلَیْهِ وَ أَعْطَوْا مَا لَا یَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ مِنْ أَمْوَالِ غَیْرِهِمْ وَ ظَلَمُوهُمْ مِنْ أَجْلِهِمْ وَ عَرَفُوهُمْ یُقَارِفُونَ الْمُحَرَّمَاتِ وَ اضْطُرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إِلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا یَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ لَا یَجُوزُ أَنْ یُصَدَّقَ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى الْوَسَائِطِ بَیْنَ الْخَلْقِ وَ بَیْنَ اللَّهِ. فَلِذَلِکَ ذَمَّهُمْ لَمَّا قَلَّدُوا مَنْ قَدْ عَرَفُوهُ وَ مَنْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا یَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ وَ لَا تَصْدِیقُهُ فِی حِکَایَتِهِ وَ لَا الْعَمَلُ بِمَا یُؤَدِّیهِ إِلَیْهِمْ عَمَّنْ لَمْ یُشَاهِدُوهُ وَ وَجَبَ عَلَیْهِمُ النَّظَرُ بِأَنْفُسِهِمْ فِی أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص إِذْ کَانَتْ دَلَائِلُهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ تَخْفَى وَ أَشْهَرَ مِنْ أَنْ لَا تَظْهَرَ لَهُمْ. وَ کَذَلِکَ عَوَامُّ أُمَّتِنَا إِذَا عَرَفُوا مِنْ فُقَهَائِهِمُ الْفِسْقَ الظَّاهِرَ وَ الْعَصَبِیَّةَ الشَّدِیدَةَ وَ التَّکَالُبَ عَلَى حُطَامِ الدُّنْیَا وَ حَرَامِهَا وَ إِهْلَاکَ مَنْ یَتَعَصَّبُونَ عَلَیْهِ وَ إِنْ کَانَ لِإِصْلَاحِ أَمْرِهِ مُسْتَحِقّاً وَ بِالتَّرَفْرُفِ بِالْبِرِّ وَ الْإِحْسَانِ عَلَى مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ وَ إِنْ کَانَ لِلْإِذْلَالِ وَ الْإِهَانَةِ مُسْتَحِقّاً فَمَنْ قَلَّدَ مِنْ عَوَامِّنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ فَهُمْ مِثْلُ الْیَهُودِ الَّذِینَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْلِیدِ لِفَسَقَةِ فُقَهَائِهِمْ. فَأَمَّا مَنْ کَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِینِهِ مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ مُطِیعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ یُقَلِّدُوهُ وَ ذَلِکَ لَا یَکُونُ إِلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّیعَةِ لَا جَمِیعَهُمْ...»[الاحتجاج للطبرسي/ج2/ص458 ؛ وسائل الشیعة/ج27/ص131]
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
19-02-2014, 10:44 AM
لقد اعترى الحديث عن ارتجاع أعراب الجاهلية مبالغات كثيرة
عادة ما ينطلق المؤرخون في دراسة تاريخ الإسلام من موضوع «جاهليّة العرب» ويتمّ الحديث بمبالغة فائقة عمّا كان يعيشه العرب قبل الإسلام وفي زمان الجاهلية من ارتجاع ووضع متدهور. طبعا وبالتأكيد إن عبارة «زمن الجاهلية» عبارة صحيحة ولكن قد تمّ تحريف من قبل المستشرقين في تحليل الظروف التي كانت تحكم العرب في أيّام الجاهليّة. فقد صوّروا صورة الحجاز قبل الإسلام صورة سوداء لا بياض فيها؛ فقالوا: قبل أن يظهر نبي الإسلام في مكه، كانت أوضاع المجتمع سيئة جدا، كان الجميع يدسّون بناتهم في التراب ويأكلون الحشرات ويتقاتلون بين أنفسهم و...
النتائج السلبية التي تؤدي إليها المبالغة في ارتجاع أعراب الجاهلية
لا شك في أن أوضاع العرب قبل الإسلام كانت سيئة جدا، ولكن لا بقدر ما يروّجه المستشرقون.
إذا اعتقدنا بارتجاع العرب قبل الإسلام بقدر ما يسوّق إليه المستشرقون، فذلك قد يؤدي إلى نتائج سلبية، غير أننا قد وقعنا عند ذلك في خطأ حَسَب الحقائق التاريخية. النتيجة الأولى لهذه المبالغة هي أن يقلّ شأن النبي(ص) وقيمة إنجازه المتمثل بتأسيس الحضارة الإسلامية وهداية ذاك المجتمع. كما سوف يستبعد الناس مدى عمق رسالة الإسلام ما ينجرّ إلى تحديد زمن الإسلام ودوره في نطاق ظرفه الجاهلي الخاصّ.
إذا كان المجتمع متدهورا ومرتجعا جدا ومن جميع الأنحاء، فسوف يبرز فيه ما كان يحظى بشيء يسير من الصلاح، بل قد يعرف فيه كمنقذ لذاك المجتمع ويحقق بعض الإنجازات والتغييرات فيه. وهذه هي النتيجة التي أراد أن يخرج بها المستشرقون. حيث قالوا: إن الدين الذي جاء به هذا الرجل كان مفيدا لذاك المجتمع المتوحش المرتجع البائس، أما الشعوب المثقفة اليوم فهي بغنى عمّا أنقذ نبي الإسلام به الوحوش.
إن عالم الغرب والشرق اليوم، يعاني من أكثر سلبيات أعراب الجاهلية ولديهم المزيد، بلا أن يحظى بأغلب إيجابياتهم
في الواقع إن مشركي مكة لم يكونوا في حضيض البربرية والوحشية بل كانت فيهم بعض الإيجابيات والفضائل التي لم تسلّط الأضواء عليها كما بالغ الكثير عند نقل سلبياتهم. في البداية أقولها بصراحة لكم؛ إن أكثر السلبيات التي كان يعاني منها العرب في الجاهلية، هي موجودة في عالمنا اليوم كما هناك المزيد من نماذج الدناءة والانحطاط التي نجدها اليوم ولا أثر لها في أيّام الجاهلية. ومن جانب آخر كان العرب في الجاهلية يحظون ببعض الفضائل والمحاسن التي إمّا لا نراها في العالم الغربي اليوم وإما لها أثر خفيف ورقيق جدا بالنسبة لما كان في أيّام الجاهلية.
الوفاء بالعهد/ أي بلد من هذه البلدان الغربية الوحشيّة يوفي بالعهد كما كان يوفي أعراب الجاهلية بعهدهم
أحد محاسن أعراب الجاهلية وفضائلهم هو الوفاء بالعهد. لقد كانت تقرع طبول الحرب بين قبائل وعشائر العرب بين الحين والآخر وبأبسط حجة وذريعة، ولكنهم كانوا ملتزمين أشدّ التزام بعهودهم وعقودهم. فأي بلد من هذه البلدان الغربية الوحشية يوفي بالعهد كما كان يوفي أعراب الجاهلية بعهدهم؟!
لقد روى المؤرّخون: لم ترأس مدينة مكة آنذاك حكومة ولا سلطة فما كان وجود لقوات السلطة والشرطة كي تتصدى لحفظ نظم البلد. فكان قد ملأ أهلها هذا الفراغ بعهودهم وعقودهم وأيمانهم وحق الجوار، وهذا ما كانت تلتزم به قريش أشدّ التزام. [علي دواني، تاريخ اسلام از آغاز تا هجرت (تاريخ الإسلام من البدء إلى الهجرة) ص14]
أعراف الزواج/ إن الأعراف السائدة على موضوع الزواج في أيام الجاهلية قبل الإسلام ليست بأسوأ مما يعيشه الغرب في هذا العصر
كان لأعراب الجاهلية أعراف خاطئة في قضية الزواج، ولكنهم على الأقلّ كانوا قد أقرّوا بقواعد وأصول في الزواج وإن كانت خاطئة، فلم يتسافلوا إلى ما تسافل إليه الغرب الآن. فإن لم يكن حال أعراب الجاهلية بأفضل من الغرب في أمر الزواج، فليس بأسوأ منه.
المأكل والمشرب/ لقد اعتاد الناس في مشرق العالم ومغربه على بعض الأطعمة الملوثة والقذرة التي لم يذقها حتى أعراب الجاهلية
كان أعراب الجاهلية يأكلون بعض الأكلات الملوّثة والقذرة وبعض الحيوانات غير المأكولة ولعلهم أغلب ما كانوا يأكلونه من الأكلات غير الصحية هو في أيام القحط والمجاعة. أما اليوم فأصبحت أمثال هذه الأكلات وما هي دونها تعرض في أسواق بعض ما تسمّى بالبلدان المتقدّمة الشرقية والغربيّة ولا يستحيون من أكلها.
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
22-02-2014, 02:56 PM
ثقافة احترام صلحاء المجتمع وأبراره/ثقافة الأخلاق وتأصيل الجدارة
إذا تمادى المجتمع في التسافل والانحطاط في ثقافته، وتطبّع على ثقافة سيئة منحطّة، فإن من أولى تداعيات هذه الظاهرة هي أنه لم يعد يحترم صلحاءه ولا يذكرهم بخير بل حتى يستهزئ بهم، وفي المقابل يكرم اللئام. بينما نجد المجتمع المكّي كان يكرم عبدالمطلب كرئيس عليه وكان لبني هاشم السيادة في تلك البقعة جيلا بعد جيل فكانوا موضع إكرام جميع قبائل العرب. يعني بالرغم من كل هذه المثالب الكبيرة التي كانت تحيط بهم، دائما كان يحصل توافق وإجماع على رئاسة أفضل القوم تدبيرا وأخلاقا، ولم يكن هذا التوافق نتيجة قسوة بني هاشم واستخدامهم القوّة، بل كان نتيجة توافق وإجماع قبائل العرب أنفسهم.
لقد عاش النبيّ الأعظم(ص) بينهم أربعين سنة، وكانت حياته في قمة الطهارة والنزاهة. وقد شاهد المجتمع وقتئذ نزاهته وطهارته وقدروا سلوكه واحترموا شخصيته. ولهذا اشتهر النبي(ص) في مكة قبل بعثته بمحمد الأمين. يعني عرفت أمانته واشتهرت في المجتمع وكذلك كانوا يعرفونه بهذه الصفة ويثنون عليه بها، كما أنهم كانوا يخضعون لحكمية هذا الإنسان الجليل بعيدا عن الأعراف والعلاقات القبلية. فهل يمكن لمثل هذا المجتمع أن يكون منحطّا متسافلا بالنحو الذي يدّعيه بعض المستشرقين؟
كانت مكّة ما قبل الإسلام من أكثر المدن معنوية وروحانية في العالم
واحدة أخرى من خصائص المجتمع المكّي هي أنه كان صاحب دين وشريعة، ولو قد اختلطت به شوائب وبدع كثيرة. فعلى سبيل المثال مع أنهم كانوا يؤمنون بالله؛ (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللَّهُ؛ لقمان/25) ولكنهم كانوا قد نصبوا أصناما في الكعبة. ولا يخفى أنهم ما كانوا يعتبرون الأصنام آلهة ولا ينسبون الخلق إليهم، ولكن كانوا يعتبرونهم شفعاء والواسطة بينهم وبين الله عز وجل. (یَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ؛ یونس/18) فالإشكال هو أنهم كانوا قد حرّفوا الدين. كانوا يضحّون لتلك الأصنام المنصوبة في الكعبة التي كانوا يزعمونها وسائط وشفعاء إلى الله، وكانوا يمارسون هذه الأعمال كإحدى العبادات والمناسك في دينهم، ولكن انحرافهم هو أنهم قد أدخلوا هذه البدع في دينهم بغير إذن من الله.
طبعا كانت هناك بعض العبادات والمناسك الحقّة التي لم يعتريها دسّ ولا زيف فبقيت على حالها بعد ظهور الإسلام، كالسعي بين الصفا والمروة الذي كان يمارس قبل ظهور الإسلام. إذن لم تكن مكّة من الأمصار الغريبة على العبادة والديانة والمعنوية.
وبالمناسبة إحدى معاناة الرسول(ص) هي أنه كان قد واجه أناسا يدعون لأنفسهم الدين والمعنوية. حيث كانت الجزيرة العربية ولا سيما مدينتي مكة والمدينة، مركز أناس كانوا يعتبرون أنفسهم من منتظري النبي الخاتم(ص).
كانت مكة من المدن الدينية، فلم تكن بعيدة عن المعرفة والثقافة. وأرضها مرقد كثير من الأنبياء. إن شعائر إبراهيم الخليل كانت بارزة في هذه المدينة وكانت محترمة من قبل أبنائها. ومن شدة احترامهم للحجر الأسود حدث ذاك النزاع المعروف بين القبائل تنافسا عليه وتشرفا وفخرا باستلامه وجعله في موضعه. كما كان مقام النبي إبراهيم(ع) بجوار الكعبة محلّ احترام الناس على مرّ الدهور.
إن البعد الديني الظاهر والتمركز الديني في مكة كان قد أخذ حيّزا من اهتمام الناس وأنظارهم وهذا هو الحافز الذي دفع جيش إبرهة إلى الهجوم على مكة. وبسبب رونق العبادة بجوار الكعبة أصبحت مكة مركزا للتجارة أيضا. فمن هذا المنطلق لعلنا نستطيع القول بأن مكة ما قبل الإسلام كانت من أكثر المدن معنوية وروحانية في العالم.
الأدب الراقي أحد معايير النماء الثقافي في المجتمع
يعتبر مستوى الأدب في أيّ مجتمع ما كمفردة أخرى من معايير النماء الثقافي. والأدب الذي يحمله العرب في تلك المنطقة، أدب قوي وغني جدا، حيث قد استغلّ القرآن الكريم غنى أدب العرب لنشر المعارف الدينية العميقة ولا شك في أنه أثراه وزاده غنى.
يتبع إن شاء الله...
خادمة الكوثر
22-02-2014, 04:52 PM
قطعت سير الموضوع لاقدم لك الشكر والامتنان على هذا الجهد والسعي المبارك
تقبل الله منك هذا العمل وجعهله في ميزان حسناتك
الرحيق المختوم
25-02-2014, 04:31 PM
قطعت سير الموضوع لاقدم لك الشكر والامتنان على هذا الجهد والسعي المبارك
تقبل الله منك هذا العمل وجعهله في ميزان حسناتك
شكرا لك أختي الكريمة على التعليق والمشاركة الطيبة
الرحيق المختوم
25-02-2014, 04:34 PM
إن ثقافة مكة ما قبل الإسلام أرقى من ثقافة كثير من بلدان هذا العصر المدعية الثقافة والتحضّر
لا شك في أن مكة ما قبل الإسلام أقل رتبة ومستوى في ثقافتها وحضارتها وديانتها من ذاك المجتمع العظيم والراقي الذي تبلور بمكارم أخلاقه ومجده بعد الإسلام، ولكن من المتيقّن أنها أرقى من كثير من هذه البلدان المدّعية الثقافة والتحضّر.
إن الكثير من المثالب والسيئات التي تذكر لتلك الفترة لا ترتبط بالقبائل العربيّة الأصيلة في مكة، بل مرتبطة بالأعراب البدويين الذين لم يذكروا بالخير حتى بعد ظهور الإسلام؛ (الْأَعْرابُ أَشَدُّ کُفْراً وَ نِفاقاً)[التوبة/97]. وإلى جانب هؤلاء كانت عشيرة بني هاشم من العشائر الأصيلة التي كانت تمثل إحدى العشائر الأساسية في مكة، وكان لهم شأن وموقع عاليين جدا لدى الأعراب، ولابد أن نفصل حسابهم عن باقي العرب والأعراب في ذاك المقطع الزمني.
كما بعض ممارساتهم الشنيعة من قبيل دسّ بناتهم في التراب فقد رويت أخبارها على نطاق محدود، فيبدو أنها لم تكن عرفا شائعا بين الناس، وإلا لانقرض نسلهم.
كان مشركو مكة على استعداد من أن يمنحوا النبي(ص) الرئاسة من قبلهم ولكن لم يرضوا برئاسته من جانب الله
لابد أن نرى لماذا بدأ العرب بمعاداة النبي(ص) بعد مبعثه وانقلب ذاك الاحترام والإكرام إلى عداء؟
ما يجدر بالانتباه في ظاهرة مخالفة الأنبياء وتكذيبهم، هو استنكاف الكفّار عن «إطاعة» الأنبياء. فعلى سبيل المثال قبل أن يبعث الرسول(ص) بالرسالة كان معروفا بين الناس كرجل أمين وصادق، وأحيانا ما كانوا يرضون به حكما في بعض نزاعاتهم العويصة. ولكنّ كثيرا من هؤلاء الأشخاص الذين قد اعترفوا بصلاحه وصدقه، رفضوا دعوته بعد البعثة.
واللطيف هو أنهم كانوا على استعداد من أن يمنحوا النبي(ص) رئاسة مكة، ولكن لم يرضوا برئاسته من جانب الله! كانوا على استعداد من أن يحكمهم عن طريق منهج مشابه للديمقراطية حيث قد أجمع قبائل العرب على هذا الرأي، ولكنهم لم يرضوا بأن يحكمهم من قبل الله. فكان يعزّ عليهم أن يحكمهم رجل من جانب الله، ولكن لم يروا بأسا في أن يحكمهم من جانبهم!
إنه موضوع لطيف وجذاب جدا. كيف يعترف بعض الناس بفضل النبي(ص) وصدقه ويرضون برئاسته عليهم، ولكن لا أن يحظى بقدرة مطلقة من قبل الله وأن يكون متصلا بالسماء. فمن هذا المنطلق اجتمع كبراء القوم ووجهاؤهم وذهبوا إلى بيت أبي طالب(ع) وكان ابن أخيه جالسا بجانبه. ثم تحدث متحدثهم وقال: «ا يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا- وَ سَبَّ آلِهَتَنَا وَ أَفْسَدَ شَبابَنا وَ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا- فَإِنْ كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْعُدْمُ جَمَعْنَا لَهُ مَالًا حَتّى يَكونَ أغنَى رَجُلٍ في قُرَيشٍ وَنُمَلّكُه عَلَيْنا»[تفسير القمي/ج2/ص228].
يودّ البعض أن يكون منصب الولي الفقيه منصبا تشريفيا كما هو الحال بالنسبة إلى شيخ الأزهر
قبل دعا شيخ الأزهر الناس إلى التزام الهدوء، والكل يعرف جيّدا أن لا تأثير لحديثه هذا حركة الشعب. ويودّ البعض أن يكون منصب الوليّ الفقيه منصبا تشريفيا كمنصب شيخ الأزهر؛ يعني أن يكتفي بالنصح بين الحين والآخر ويحافظ على شأنه وكرامته! إن سبب مخالفة البعض لولاية الفقيه هو أن الولي الفقيه يقف سدّا منيعا أمام بعض نشاطاتهم وتحركاتهم الفتنويّة ويفقأ عين الفتن. ولهذا يودّون لو تكون سلطته فخرية ضعيفة ويكتفي بالنصح وحسب. وتبريرا لرأيهم يقولون: بهذا الأسلوب تحفظ كرامته أكثر.
إن بعض الناس كانوا يحترمون النبي(ص) ما دام لا يتدخل في السياسة
كان مشركو مكة في صدر الإسلام بصدد حفظ احترام النبي(ص) ومنحه السلطة الفخرية بنفس هذا النمط. فيبدو أن في تلك الأيام أيضا كانت تهدد كرامة الإنسان المقدّس فيما إذا تدخّل في الشؤون السياسية! يعني كان يرى البعض أن احترام النبي(ص) وقداسته رهن عدم تدخله في السياسة وأن يستمرّ بحياة الكهنة والقديسين بلا أن ينهض لإقامة الحقّ. بينما عندما يبعث الله نبيا، يفرض طاعته على الناس ويقول: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)[النساء/64]. يعني أنه ليس بنبي وحسب، بل إنه القائد العام للقوات المسلحة أيضا، ومن هذه النقطة تنطلق كل النزاعات والتمردات والخصومات.
نفس هؤلاء الذين تنازعوا قبل البعثة في قصة إعادة بناء الكعبة والتصدي لحمل الحجر الأسود ورضوا بحكمية النبي(ص) بصفته رجلا صادقا أمينا وأثنوا على رأيه وخضعوا لحكمه، نفس هؤلاء اجتمعوا بعد البعثة واختاروا من كل قبيلة وعشيرة رجلا ليغتالوا النبي(ص) وليشترك في دمّه كل القبائل وبهذا يعجز بنو هاشم عن الأخذ بثأره ومخاصمة الجميع.
لو لم يتولّ النبي(ص) على الناس، لبقي احترامه وكرامته وذريتِه
لو لم يتولّ النبي(ص) على الناس، ولم تفرض طاعته وكان قد اكتفى ببعض الوصايا الأخلاقية وبعض المسائل المرتبطة بعلاقة الناس الخاصّة بربّهم ولم يتدخل بشؤون المجتمع، لبقيت كرامته وقداسته بين المشركين الذين لقّبوه بالأمين قبل البعثة، بل لكان أولاده وذريته محترمين بين الناس. ولكن لم يجر التاريخ على هذا المنوال بل قد وصل به الأمر إلى أن قتل ابن بنت رسول الله(ص) أبو عبد الله الحسين(ع) على يد من دخلوا في دين جدّه...
الرحيق المختوم
02-03-2014, 01:40 PM
سئل زنديقٌ الإمامَ الصادق(ع) وقال له: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَجُوسِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ فِي دِينِهِمْ أَمِ الْعَرَب؟ فأجابه الإمام(ع): «الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الدِّينِ الْحَنِيفِي مِنَ الْمَجُوسِ وَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَجُوسَ كَفَرَتْ بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ لَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَ الْعَرَبُ كَانَتْ تَغْتَسِلُ وَ الِاغْتِسَالُ مِنْ خَالِصِ شَرَائِعِ الْحَنِيفِيَّةِ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ لَا تَخْتَتِنُ وَ الْعَرَبُ تَخْتَتِنُ وَ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ لَا تُغَسِّلُ مَوْتَاهَا وَ لَا تُكَفِّنُهَا وَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ تَرْمِي بِالْمَوْتَى فِي الصَّحَارِي وَ النَّوَاوِيسِ وَ الْعَرَبُ تُوَارِيهَا فِي قُبُورِهَا وَ تُلْحِدُهَا وَ كَذَلِكَ السُّنَّةُ عَلَى الرُّسُلِ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِرَ لَهُ قَبْرٌ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ وَ أُلْحِدَ لَهُ لَحْدٌ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ تَأْتِي الْأُمَّهَاتِ وَ تَنْكِحُ الْبَنَاتِ وَ الْأَخَوَاتِ وَ حَرَّمَتْ ذَلِكَ الْعَرَبُ وَ أَنْكَرَتِ الْمَجُوسُ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ وَ سَمَّتْهُ بَيْتَ الشَّيْطَانِ وَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّهُ وَ تُعَظِّمُهُ وَ تَقُولُ بَيْتُ رَبِّنَا وَ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي كُلِّ الْأَسْبَابِ أَقْرَبَ إِلَى الدِّينِ الْحَنِيفِيَّةِ مِنَ الْمَجُوس»[وسائل الشيعة/ج2/ص178].
وكذلك قال الإمام الصادق في حديث آخر: «إِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ يَصِلُونَ الرَّحِمَ وَ يَقْرُونَ الضَّيْفَ وَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَ يَقُولُونَ اتَّقُوا مَالَ الْيَتِيمِ فَإِنَّ مَالَ الْيَتِيمِ عِقَالٌ وَ يَكُفُّونَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَحَارِمِ مَخَافَةَ الْعُقُوبَةِ وَ كَانُوا لَا يُمْلَى لَهُمْ إِذَا انْتَهَكُوا الْمَحَارِم»[الكافي/ج4/ص212].
كان العرب آنذاك يعرفون كلمة «الله» وحتى كانوا يقسمون بهذا اللفظ. مما يدلّ على مدى إكرامهم وإجلالهم للكعبة وبيت الله الحرام حولها هو أنهم كانوا يأخذون من قشر الأشجار الحرم فيعلقونها على أعناق جمالهم لأن لا يجرأ أحد على سلب بضائع تلك الجمال احتراما لحرمة الحرم؛ «كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَيُعَلِّقُونَهُ فِي أَعْنَاقِ الْإِبِلِ فَلَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ حَيْثُمَا ذَهَبَتْ وَ لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يُعَلِّقَ مِنْ غَيْرِ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ أَيُّهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ عُوقِب»[المصدر نفسه] فكان تقديسهم الأشياءَ قائم على أساس حسابات وأصول أصيلة ولم يقدّسوها بلا أي دليل وسبب.
من خلال بعض أعرافهم وسننهم الخاطئة والخرافيّة نجد أنهم كانوا يعتقدون بأصل المعاد؛ فعلى سبيل المثال كان إذا يموت رجل، يحبسون جملا في حفرة بجوار قبره ويمنعونه من الماء والعشب حتى يموت، وذلك لأن يركب عليه المتوفى يوم القيامة ولا يحشر ماشيا. [فروغ ابديت، ص55]
ليس المقصود من ذكر هذه الشواهد هو تقدير أعراب الجاهليّة، إذ مهما ازداد حظ قوم من بعض المواهب والقابليات الإيجابية يزداد مسؤولية، كما أنه يزداد عقابا بطبيعة الحال فيما إذا سلك طريق الكفر والضلال. ولكن أريد أن أقول أن لم يبعث النبي(ص) بين قوم متخلف لم يشتمل على أي حسن قط، بل قد بعث في موطئ الأديان الإلهيّة وكانت لا تزال بعض سنن الأنبياء قائمة بين ذاك القوم.
إذن ما المقصود من جاهلية العرب؟
ولكن قد يتبادر هذا السؤال وهو إذن ما المقصود من أيام الجاهلية؟ فهنا لابد من الإشارة إلى بعض النقاط. أولا إن ذكر إيجابيات العرب قبل الإسلام لا يعني إنكار سلبياتهم وسلبيات تلك الفترة أبدا.
ثانيا، عندما نعبّر عن أيام الجاهلية، نقصد بأنها فترة جاهلية بالنسبة إلى ما بعدها أي زمن الإسلام، لا نسبة إلى سائر بقاع العالم في ذاك الزمان. إذ كما تحكي بعض الشواهد التاريخية وروايات الأئمة المعصومين(ع)، لعل العرب قبل الإسلام كانوا أفضل من جميع أقوام العالم من ناحية الصفات الإنسانية والإلهية.
ثالثا، إن أفق نظر الإسلام والقيم الاجتماعية التي جاء بها من العلوّ بمكان، بحيث يسمّى المجتمع العربي قبل الإسلام بالمجتمع الجاهلي نسبة إلى ما جاء به الإسلام من قيم ومثل. فعلى سبيل المثال ومن باب ذكر نموذج من المستوى القيمي الذي طرحه النبي(ص) وما كان يعتبره جاهليّا، لابأس أن ننظر مرة أخرى إلى الحديث النبويّ المعروف حيث قال: «مَنْ مَاتَ لَا یَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّة»(کافی/1/377) أو حديثه الآخر: «منَ کانَ فى قَلبِهِ حَبَّةٌ مِن خَردَلٍ مِن عَصَبِیَّةٍ بَعَثَهُ اللّه ُ یَومَ القِیامَةِ مَعَ أعرابِ الجاهِلِیَّةِ»(کافی/2/308) أو ما روي عن أمير المؤمنين(ع) حيث قال: «لِیَتَأَسَّ صَغِیرُکُمْ بِکَبِیرِکُمْ وَ لْیَرْأَفْ کَبِیرُکُمْ بِصَغِیرِکُمْ وَ لَا تَکُونُوا کَجُفَاةِ الْجَاهِلِیَّةِ لَا فِی الدِّینِ یَتَفَقَّهُونَ وَ لَا عَنِ اللَّهِ یَعْقِلُون»(نهج البلاغة/خ166)
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
03-03-2014, 12:28 PM
إن مسقط رأس الإسلام كان بين قوم حرّ
هناك نقطة إيجابية أخرى كانت في الأعراب الجاهلية وحتى قد أشار إليها بعض المستشرقين والمؤرّخين الغربيّين وهي أن: عندما عمد أهل الروم على اقتحام الجزيرة العربية، قال بعض رجالهم إلى أهل الروم: ماذا الذي أطمعكم على الهجوم علينا؟ إن أرضنا أرض قفراء غير ذي زرغ، وأما إذا أردتم استعبادنا، فنحن العرب لم نخضع بعد لسلطة حاكم ولن نخضع بعد هذا، كما سوف لن يخدمكم العبيد الذين تستعبدونهم من قومنا، إذ كنا أحرارا وعشنا أحرارا. حتى أولئك الذين بالغوا في سلبيّات العرب الجاهلية، قد اعترفوا بهذه الإيجابية من أنهم كانوا أحرارا ولم يخضعوا للعبودية لأحد، وكانوا مستقلين بمقتضى نفسيّتهم.
لماذا نشأ الإسلام بين قوم أحرار؟
لماذا يجب أن ينشأ الإسلام بين قوم أحرار؟ لعل أحد أسباب هذه الظاهرة هي أن مقتضى قبول دين ما، هو كون الإنسان أو القوم حرّا عن عبوديّة الطواغيت والفراعنة، إذ أن الطواغيت والفراعنة لا يسمحوا للناس بدخولهم في الدين بسهولة.
السبب الآخر في ظاهرة نشوء الإسلام بين قوم أحرار، هو أن لو كان الرسول(ص) قد بعث في إيران أو الروم أو كان قد بعث في ظل سلطة الفراعنة مثل النبي موسى(ع)، لانشغل منذ انطلاقة بعثته بقضية سياسية ضخمة ونزاع كبير على قضية زمام القدرة ولما أتيحت له فرصة الظهور والنشاط الرسالي تحت ظل تلك القوى، إذ لا يمكن القيام بمسؤوليّة الرسالة الخاتمة تحت ظل طواغيت الجور الذين كانوا يحكمون امبراطوريات؛ فلو كان قد انطلق من تلك الأوساط لهمّشت رسالته في خضمّ المعادلات السياسية السائدة آنذاك. ويجدر بالانتباه أن النبي موسى(ع) أيضا هاجر بعد مبعثه مع قومه وخرج من سلطة فرعون.
إن مواجهات الأنبياء لمعارضيهم تمثل أهم أحداث حياة الإنسان على مرّ التاريخ
طبعا وبالتأكيد لم يسلم النبيّ(ص) من المشاكل والمعارضات في ذاك المجتمع الحرّ، ولكن ما هو نمط المشاكل التي واجهها النبي(ص)؟ إن نمط المشاكل الرئيسة التي كان يواجهها النبي(ص) هي من نمط المشكال والخلافات التي كانت بين هابيل وقابيل. فقد شاءت إرادة الله سبحانه أن يعاني النبي(ص) نفس المشكلة التي عاناها هابيل عندما ثقل على أخيه قابيل قبول أفضليّته عليه. فلو كانت معاناة النبي(ص) تأخذ منحى آخر، لما أمكن فهم وبيان الكثير من الحقائق.
من المهمّ جدا أن نعرف ما هي الظروف الزمانية والمكانية التي دوّنت فيها هذه الوصفة الخالدة والعالمية المتمثلة بدين الإسلام وما هي البيئة الاجتماعية التي تبلور فيها هذا الدين. فإن مقتضى القاعدة تفرض أن تكون أرضية نشوء الإسلام والقاعدة الاجتماعية التي وقع مبعث النبيّ فيها، تشتمل ـ بمعادلاتها ونزاعاتها وأحداثها ـ على أهمّ قضايا حياة الإنسان. فلابدّ أن تكتب هذه الوصفة ويتبلور هذا الدين في مكان خاصّ، بحيث تكون أحداثه ومنعطفاته من جانب العدوّ والصديق تمثّل أهم احتياجات حياة الإنسان إلى يوم القيامة. ومن هذا المنطلق يصبح تاريخ الإسلام تاريخا جديرا بالتأمل جدا.
لم يكن سبب عداء الكثير ممن عادوا الرسول(ص) هو حبّ الجاه أو المال
إذا كانت مكة مدينة دينية فما الذي جرّهم إلى معاداة النبي(ص)؟ في الواقع إن الكثير من ناوءوا الرسول(ص) لم يكونوا لا دينيّين من الأساس ولا ممّن ينكر الله والمعاد ولا أنهم بعيدون كل البعد عن الفضائل والمكارم. ولا فرق في هذه الحقيقة بين العرب والأعراب الذين (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه)[العنكبوت/61] وبين يهود المدينة الذين كانوا ينتظرون النبيّ الخاتم(ص) كما أشار القرآن. أفلا تدلّ هذه الحقائق على أن أهمّ مشكلة يواجهها الدين هو مواقف بعض المتديّنين ومدّعي الإيمان؟! إنها تحكي بوضوح عن مدى المشاكل التي يوجدها خبث ضمير بعض ما يسمّون بالمؤمنين والمتديّنين. فإذا آمن أو أسلم شخص بحسب الظاهر لا يعني أنه صلح وطابت سريرته، بل هناك طريق طويل.
يتبع إن شاء الله...
حسين ال دخيل
03-03-2014, 10:11 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جهود مباركة ومتميزة
احسنت بارك الله فيك في ميزان حسناتك
الرحيق المختوم
15-04-2014, 06:04 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جهود مباركة ومتميزة
احسنت بارك الله فيك في ميزان حسناتك
أحسن الله لكم أخي الكريم
أدع لي بالتوفيق والقبول
الرحيق المختوم
05-05-2014, 12:12 PM
إليك ملخّص الجلسة الثانية من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ الأستاذ بناهيان في جلسات هيئة الشهداء المجهولين في طهران في موضوع «استعراض تحليلي لتاريخ الإسلام»
الأرضية الاجتماعية لمبعث الرسول(ص)
بإمكاننا أن ننطلق في دراسة تاريخ الإسلام من مقاطع مختلفة، ولكن قد يكون الأنسب هو أن نسلّط الضوء على الأرضية الاجتماعية لمبعث الرسول(ص) كأول محطة ننطلق منها إلى استعراض تاريخ الإسلام. لقد تحدثنا في الجلسة السابقة حول هذا الموضوع وهو أنه قد يبالغ أحيانا في ذكر سلبيّات المجتمع الجاهلي حيث يصورونه أسود تماما، بينما لم يكن كذلك.
لقد كان المجتمع الجاهلي يحظى ببعض الامتيازات والإيجابيات ولعلّها هي السبب في بلورة أرضية بعثة الإسلام وقبوله. فإذا أراد الإنسان أن يخاطب امرء أو قوما بكلمة حقّ، وفي نفس الوقت يتوقع قبول هذه الكلمة من قبلهم، لابدّ له أن يبحث عن أرضية قبول كلمة الحقّ في سابق مواقفهم وتاريخهم، وأن يلقي نظرة إلى معتقداتهم وأفكارهم بشكل عام، ليرى هل تقتضي معتقداتهم قبول كلمة الحق هذه أم لا. فإن هذا المنهج مما اعترف القرآن أيضا في مخاطبة أهل الكتاب حيث قال: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا)[آل عمران/64] فقد اعتمد القرآن في دعوة أهل الكتاب على الحقائق والمكارم التي يعتقدون بها.
إذن عندما يكون النبيّ الأعظم(ص) بصدد تبليغ هذا الدين العظيم، ليس من المعقول أن يأتي به إلى قوم جاهل بشكل مطلق ومتخلف عن باقي الشعوب جميعا ليضطر أن يبدأ بهم من نقطة الصفر، بل يفترض له أن يبلغ هذا الدين في بيئة ومجتمع يشتمل على أرضية قبول الدعوة، بل ينبغي أن تكون قابلية هذا المجتمع لقبول دعوة النبيّ وتنميتها أفضل من أيّ مجتمع آخر. ولكن مع الأسف يصور البعض تلك البيئة والأرضية الاجتماعية الجاهلية بشكل وكأنها كانت خالية من أي امتياز وإيجابية.
نماذج من إيجابيات المجتمع الجاهلي
إحدى خصائص المجتمع الجاهلي قبل الإسلام هو أنهم كانوا أهل العبادة وكانوا يكرمون الكعبة وبيت الله الحرام. فقد روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: «إنَ أَهْلُ الْجَاهِلِیَّةِ یُعَظِّمُونَ الْحَرَمَ وَ لَا یُقْسِمُونَ بِهِ وَ یَسْتَحِلُّونَ حُرْمَةَ اللَّهِ فِیهِ وَ لَا یَعْرِضُونَ لِمَنْ کَانَ فِیهِ وَ لَا یَجْرَحُونَ فِیهِ دَابَّةً»[الكافي/7/450] وكذلك روي عنه(ع): «إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِیَّةِ ضَیَّعُوا کُلَّ شَیْءٍ مِنْ دِینِ إِبْرَاهِیمَ ع إِلَّا الْخِتَانَ وَ التَّزْوِیجَ وَ الْحَجَّ فَإِنَّهُمْ تَمَسَّکُوا بِهَا وَ لَمْ یُضَیِّعُوهَا»[علل الشرایع/2/414] ومضافا إلى ذلك كانوا أوفياء بالعهود والأيمان، كما أن أعراب الجاهلية ولاسيما ذرية عدنان كانوا مضيافين أسخياء، وقلّ ما كانوا يخونون الأمانة، ونقض العهد كان ذنبا لا يغفر في مجتمعهم. [فروغ أبديت، للشيخ جعفر سبحاني، ص32] كانوا ملتزمين ببعض الأحكام في حياتهم الفردية والاجتماعية والتي أقرّ بها الإسلام وأبقاها القرآن الكريم على حالها. طبعا لا يخفى أن ذاك المجتمع كان يشتمل على سلبيات كثيرة، ولكن على أيّ حال كانوا يحظون بإيجابيات لا يمكن التغاضي عنها، وقد جعلت هذه الإيجابيات من مكة مدينة أكثر تدينا وقداسة من أي مدينة أخرى في العالم.
إن المجتمع الجاهلي آنذاك لم يخلُ من سلبيات وموبقات قطعا، حتى أن بعضهم أجاز لنفسه بدسّ بنته في التراب، ولكن تجد بعض الفضائل كالفتوّة والحميّة والغيرة متوفرة فيهم، حتى قال أمير المؤمنين(ع): «وَ إِنْ کَانَ الرَّجُلُ لَیَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِی الْجَاهِلِیَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَیُعَیَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِه»[نهج البلاغة/الكتاب14] يعني أذا أرادوا أن يعيّروا أحدا، يقولون له: «أنت ابن فلان الذي كان يرفع يده على النساء...» فلم تكن كلّ أعرافهم هو ظلم المرأة والاعتداء عليها وارتكاب الجرائم بحقها وحسب. وعندما نأتي إلى قضيّة العلاقة بين المرأة والرجل نجد أنهم كانوا يحترمون أغلب القوانين الباقية من الشرائع الإلهية، وكانوا يحرّمون الزواج مع الحارم. [علل الشرايع/2/414؛ الاحتجاج للطبرسي/2/346]
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
05-05-2014, 12:15 PM
سئل زنديقٌ الإمامَ الصادق(ع) وقال له: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَجُوسِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ فِي دِينِهِمْ أَمِ الْعَرَب؟ فأجابه الإمام(ع): «الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الدِّينِ الْحَنِيفِي مِنَ الْمَجُوسِ وَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَجُوسَ كَفَرَتْ بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ لَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَ الْعَرَبُ كَانَتْ تَغْتَسِلُ وَ الِاغْتِسَالُ مِنْ خَالِصِ شَرَائِعِ الْحَنِيفِيَّةِ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ لَا تَخْتَتِنُ وَ الْعَرَبُ تَخْتَتِنُ وَ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ لَا تُغَسِّلُ مَوْتَاهَا وَ لَا تُكَفِّنُهَا وَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ تَرْمِي بِالْمَوْتَى فِي الصَّحَارِي وَ النَّوَاوِيسِ وَ الْعَرَبُ تُوَارِيهَا فِي قُبُورِهَا وَ تُلْحِدُهَا وَ كَذَلِكَ السُّنَّةُ عَلَى الرُّسُلِ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِرَ لَهُ قَبْرٌ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ وَ أُلْحِدَ لَهُ لَحْدٌ وَ كَانَتِ الْمَجُوسُ تَأْتِي الْأُمَّهَاتِ وَ تَنْكِحُ الْبَنَاتِ وَ الْأَخَوَاتِ وَ حَرَّمَتْ ذَلِكَ الْعَرَبُ وَ أَنْكَرَتِ الْمَجُوسُ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ وَ سَمَّتْهُ بَيْتَ الشَّيْطَانِ وَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّهُ وَ تُعَظِّمُهُ وَ تَقُولُ بَيْتُ رَبِّنَا وَ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي كُلِّ الْأَسْبَابِ أَقْرَبَ إِلَى الدِّينِ الْحَنِيفِيَّةِ مِنَ الْمَجُوس»[وسائل الشيعة/ج2/ص178].
وكذلك قال الإمام الصادق في حديث آخر: «إِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ يَصِلُونَ الرَّحِمَ وَ يَقْرُونَ الضَّيْفَ وَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَ يَقُولُونَ اتَّقُوا مَالَ الْيَتِيمِ فَإِنَّ مَالَ الْيَتِيمِ عِقَالٌ وَ يَكُفُّونَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَحَارِمِ مَخَافَةَ الْعُقُوبَةِ وَ كَانُوا لَا يُمْلَى لَهُمْ إِذَا انْتَهَكُوا الْمَحَارِم»[الكافي/ج4/ص212].
كان العرب آنذاك يعرفون كلمة «الله» وحتى كانوا يقسمون بهذا اللفظ. مما يدلّ على مدى إكرامهم وإجلالهم للكعبة وبيت الله الحرام حولها هو أنهم كانوا يأخذون من قشر الأشجار الحرم فيعلقونها على أعناق جمالهم لأن لا يجرأ أحد على سلب بضائع تلك الجمال احتراما لحرمة الحرم؛ «كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَيُعَلِّقُونَهُ فِي أَعْنَاقِ الْإِبِلِ فَلَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ حَيْثُمَا ذَهَبَتْ وَ لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يُعَلِّقَ مِنْ غَيْرِ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ أَيُّهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ عُوقِب»[المصدر نفسه] فكان تقديسهم الأشياءَ قائم على أساس حسابات وأصول أصيلة ولم يقدّسوها بلا أي دليل وسبب.
من خلال بعض أعرافهم وسننهم الخاطئة والخرافيّة نجد أنهم كانوا يعتقدون بأصل المعاد؛ فعلى سبيل المثال كان إذا يموت رجل، يحبسون جملا في حفرة بجوار قبره ويمنعونه من الماء والعشب حتى يموت، وذلك لأن يركب عليه المتوفى يوم القيامة ولا يحشر ماشيا. [فروغ ابديت، ص55]
ليس المقصود من ذكر هذه الشواهد هو تقدير أعراب الجاهليّة، إذ مهما ازداد حظ قوم من بعض المواهب والقابليات الإيجابية يزداد مسؤولية، كما أنه يزداد عقابا بطبيعة الحال فيما إذا سلك طريق الكفر والضلال. ولكن أريد أن أقول أن لم يبعث النبي(ص) بين قوم متخلف لم يشتمل على أي حسن قط، بل قد بعث في موطئ الأديان الإلهيّة وكانت لا تزال بعض سنن الأنبياء قائمة بين ذاك القوم.
إذن ما المقصود من جاهلية العرب؟
ولكن قد يتبادر هذا السؤال وهو إذن ما المقصود من أيام الجاهلية؟ فهنا لابد من الإشارة إلى بعض النقاط. أولا إن ذكر إيجابيات العرب قبل الإسلام لا يعني إنكار سلبياتهم وسلبيات تلك الفترة أبدا.
ثانيا، عندما نعبّر عن أيام الجاهلية، نقصد بأنها فترة جاهلية بالنسبة إلى ما بعدها أي زمن الإسلام، لا نسبة إلى سائر بقاع العالم في ذاك الزمان. إذ كما تحكي بعض الشواهد التاريخية وروايات الأئمة المعصومين(ع)، لعل العرب قبل الإسلام كانوا أفضل من جميع أقوام العالم من ناحية الصفات الإنسانية والإلهية.
ثالثا، إن أفق نظر الإسلام والقيم الاجتماعية التي جاء بها من العلوّ بمكان، بحيث يسمّى المجتمع العربي قبل الإسلام بالمجتمع الجاهلي نسبة إلى ما جاء به الإسلام من قيم ومثل. فعلى سبيل المثال ومن باب ذكر نموذج من المستوى القيمي الذي طرحه النبي(ص) وما كان يعتبره جاهليّا، لابأس أن ننظر مرة أخرى إلى الحديث النبويّ المعروف حيث قال: «مَنْ مَاتَ لَا یَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّة»(کافی/1/377) أو حديثه الآخر: «منَ کانَ فى قَلبِهِ حَبَّةٌ مِن خَردَلٍ مِن عَصَبِیَّةٍ بَعَثَهُ اللّه ُ یَومَ القِیامَةِ مَعَ أعرابِ الجاهِلِیَّةِ»(کافی/2/308) أو ما روي عن أمير المؤمنين(ع) حيث قال: «لِیَتَأَسَّ صَغِیرُکُمْ بِکَبِیرِکُمْ وَ لْیَرْأَفْ کَبِیرُکُمْ بِصَغِیرِکُمْ وَ لَا تَکُونُوا کَجُفَاةِ الْجَاهِلِیَّةِ لَا فِی الدِّینِ یَتَفَقَّهُونَ وَ لَا عَنِ اللَّهِ یَعْقِلُون»(نهج البلاغة/خ166)
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
05-05-2014, 12:20 PM
إن مسقط رأس الإسلام كان بين قوم حرّ
هناك نقطة إيجابية أخرى كانت في الأعراب الجاهلية وحتى قد أشار إليها بعض المستشرقين والمؤرّخين الغربيّين وهي أن: عندما عمد أهل الروم على اقتحام الجزيرة العربية، قال بعض رجالهم إلى أهل الروم: ماذا الذي أطمعكم على الهجوم علينا؟ إن أرضنا أرض قفراء غير ذي زرغ، وأما إذا أردتم استعبادنا، فنحن العرب لم نخضع بعد لسلطة حاكم ولن نخضع بعد هذا، كما سوف لن يخدمكم العبيد الذين تستعبدونهم من قومنا، إذ كنا أحرارا وعشنا أحرارا. حتى أولئك الذين بالغوا في سلبيّات العرب الجاهلية، قد اعترفوا بهذه الإيجابية من أنهم كانوا أحرارا ولم يخضعوا للعبودية لأحد، وكانوا مستقلين بمقتضى نفسيّتهم.
لماذا نشأ الإسلام بين قوم أحرار؟
لماذا يجب أن ينشأ الإسلام بين قوم أحرار؟ لعل أحد أسباب هذه الظاهرة هي أن مقتضى قبول دين ما، هو كون الإنسان أو القوم حرّا عن عبوديّة الطواغيت والفراعنة، إذ أن الطواغيت والفراعنة لا يسمحوا للناس بدخولهم في الدين بسهولة.
السبب الآخر في ظاهرة نشوء الإسلام بين قوم أحرار، هو أن لو كان الرسول(ص) قد بعث في إيران أو الروم أو كان قد بعث في ظل سلطة الفراعنة مثل النبي موسى(ع)، لانشغل منذ انطلاقة بعثته بقضية سياسية ضخمة ونزاع كبير على قضية زمام القدرة ولما أتيحت له فرصة الظهور والنشاط الرسالي تحت ظل تلك القوى، إذ لا يمكن القيام بمسؤوليّة الرسالة الخاتمة تحت ظل طواغيت الجور الذين كانوا يحكمون امبراطوريات؛ فلو كان قد انطلق من تلك الأوساط لهمّشت رسالته في خضمّ المعادلات السياسية السائدة آنذاك. ويجدر بالانتباه أن النبي موسى(ع) أيضا هاجر بعد مبعثه مع قومه وخرج من سلطة فرعون.
إن مواجهات الأنبياء لمعارضيهم تمثل أهم أحداث حياة الإنسان على مرّ التاريخ
طبعا وبالتأكيد لم يسلم النبيّ(ص) من المشاكل والمعارضات في ذاك المجتمع الحرّ، ولكن ما هو نمط المشاكل التي واجهها النبي(ص)؟ إن نمط المشاكل الرئيسة التي كان يواجهها النبي(ص) هي من نمط المشكال والخلافات التي كانت بين هابيل وقابيل. فقد شاءت إرادة الله سبحانه أن يعاني النبي(ص) نفس المشكلة التي عاناها هابيل عندما ثقل على أخيه قابيل قبول أفضليّته عليه. فلو كانت معاناة النبي(ص) تأخذ منحى آخر، لما أمكن فهم وبيان الكثير من الحقائق.
من المهمّ جدا أن نعرف ما هي الظروف الزمانية والمكانية التي دوّنت فيها هذه الوصفة الخالدة والعالمية المتمثلة بدين الإسلام وما هي البيئة الاجتماعية التي تبلور فيها هذا الدين. فإن مقتضى القاعدة تفرض أن تكون أرضية نشوء الإسلام والقاعدة الاجتماعية التي وقع مبعث النبيّ فيها، تشتمل ـ بمعادلاتها ونزاعاتها وأحداثها ـ على أهمّ قضايا حياة الإنسان. فلابدّ أن تكتب هذه الوصفة ويتبلور هذا الدين في مكان خاصّ، بحيث تكون أحداثه ومنعطفاته من جانب العدوّ والصديق تمثّل أهم احتياجات حياة الإنسان إلى يوم القيامة. ومن هذا المنطلق يصبح تاريخ الإسلام تاريخا جديرا بالتأمل جدا.
لم يكن سبب عداء الكثير ممن عادوا الرسول(ص) هو حبّ الجاه أو المال
إذا كانت مكة مدينة دينية فما الذي جرّهم إلى معاداة النبي(ص)؟ في الواقع إن الكثير من ناوءوا الرسول(ص) لم يكونوا لا دينيّين من الأساس ولا ممّن ينكر الله والمعاد ولا أنهم بعيدون كل البعد عن الفضائل والمكارم. ولا فرق في هذه الحقيقة بين العرب والأعراب الذين (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه)[العنكبوت/61] وبين يهود المدينة الذين كانوا ينتظرون النبيّ الخاتم(ص) كما أشار القرآن. أفلا تدلّ هذه الحقائق على أن أهمّ مشكلة يواجهها الدين هو مواقف بعض المتديّنين ومدّعي الإيمان؟! إنها تحكي بوضوح عن مدى المشاكل التي يوجدها خبث ضمير بعض ما يسمّون بالمؤمنين والمتديّنين. فإذا آمن أو أسلم شخص بحسب الظاهر لا يعني أنه صلح وطابت سريرته، بل هناك طريق طويل.
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
07-05-2014, 09:53 AM
النقطة الأخرى التي مهمة جدا، هي السبب الذي حرض أعداء الرسول(ص) على عداوته. إذ من المهمّ جدا أن نعرف نمط عداوتهم مع الرسول(ص). إن نوعية عداوتهم مما يجدر بالتأمل وهي تمثل أدقّ نقطة جديرة بالتأمل والإمعان في تاريخ حياة الإنسان. فلم تكن نوعية عدائهم من نمط عداء ذاك الإنسان المحبّ للجاه والمال تجاه من جاء يسلب جاهه وأمواله. حيث إنهم كانوا على استعداد من ترئيس النبي(ص) على أنفسهم وأن ينفذوا أوامره، كما كانوا على استعداد من أن يعطوه من الثروة والأموال ما يجعله أغنى منهم. كما كانوا مستعدين على أن يزوجوه أجمل بناتهم. حتى أن عداوتهم لم تكن من وحي كره العبادة، إذ أنهم كانوا يقومون ببعض العبادات والطقوس قبل مبعث النبي(ص)، فما جاء به النبي(ص) كان يغيّر بعض عباداتهم وحسب، وبالمناسبة إن بعض عباداتهم سهلت بعد الإسلام.
كان أبوجهل معتقدا بصدق النبي(ص) ولكن لم يقدر على قبول أفضليته المعنوية
إذن لماذا عادوا النبي؟ ينقل عن أحد أهم أعداء النبي(ص) كلمة لطيفة جدا. أبوجهل الذي كان من أبرز شخصيات قريش ولعله كان على رأس أعداء النبي(ص) في قريش، هكذا عبّر عن سبب عدائه النبيّ(ص) فقد قال: «تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، و حملوا فحملنا، و أعطوا فاعطینا، حتى إذا تجاثینا على الرکب و کنا کفرسی رهان قالوا: منا نبی یأتیه الوحی من السماء، فمتى ندرک هذه؟ و الله لا نسمع به أبدا و لا نصدقه»[تاریخ البيهقي/2/206 و سیرة ابن هشام/1/316] وأبوجهل نفسه كان يعترف الخلا بصدق الرسول(ص)؛ «أن الأخنس بن شریق خلا بأبی جهل، فقال له: یا أبا الحکم، أخبرنى عن محمد صلى الله علیه و آله، أصادق هو أم کاذب! فإنه لیس هاهنا من قریش أحد غیرى و غیرک یسمع کلامنا، فقال له أبو جهل: ویحک! و الله إنّ محمدا لصادق، و ما کذب محمد قط؛ و لکن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء و الحجابة و السّقایة و النّدوة و النبوّة، ما ذا یکون لسائر قریش!» [أمالي المرتضى، ج2، ص: 265 و الشفا للقاضي عیاض ،ج1،ص270 : أخرجه ابن اسحاق و البیهقی عن الزهري، و کذا ابن جریر عن السدی، و الطبرانی فی الأوسط].
وكانت بين طائفة أب جهل وطاءفة «بني قصي» التي هي طائفة رسول الله(ص) منافسات قديمة، وقد أشاره إليها أبوجهل بكل صدق وصراحة. حيث أشار إلى منافستهم لبني قصي منذ القدم في مناصب مكة وأنه كان لبني قصي التقدّم والتفوّق على مرّ الزمان، فلا طاقة لنا بعد أن يستولوا على منصب النبوّة، إذ سوف تخلو جميع المناصب لهم دون غيرهم.
لقد بعث الله النبيّ(ص) بين مجتمع عاداه بسبب الحسد أكثر من أي سبب آخر
هنا نكتشف أن عداوة مخالفي النبي(ص) كانت من نمط عداوة قابيل لهابيل. فقد بعث الله النبي(ص) بين مجتمع عاداه بسبب الحسد أكثر من أي سبب آخر. وهذا هو السبب الذي حرّض إبليس على عداء آدم، وأجّج الضغينة في قلب قابيل تجاه هابيل. فيا ترى ما هو سرّ الحسد في تاريخ حياة الإنسان؟ وتجد هذا الحسد نفسه اليوم يحرق قلوب البعض عندما يشاهدون بعض المسلمين يحبّون ويودّون أهل بيت النبي(ص)؟ وإن هذا الحسد نفسه أثار قلوب البعض ليقول: «لابد وأن نقيم تمثالا عظيما في ساحة الشام ليزيد وفي يده رأس الحسين». فإنك تجد هذا الحسد مستفحلا في قلوب هؤلاء الذين يقدسون قاتلي أبي عبد الله الحسين(ص) ويجاهدون ويُقتلون في هذا السبيل وبهذا المبدأ وحتى لو اقتضت الضرورة لا مانع لديهم من التجاسر على النبي(ص). وإن هذا النوع من الخلاف الناشئ من الحسد، هو الذي سوف يسبّب أهمّ حرب في التاريخ بين الحق والباطل.
إن نمط عداوة بني أمية مع بني هاشم هو من نفس نوعية عداوة أبي جهل مع النبي(ص)
بعد أن انتصر الإسلام وأزال بعض الموانع كأبي جهل، ظهرت مشكلة أخرى مشابهة للأولى وهي عداوة بني أمية مع بني هاشم. حيث واجه أمير المؤمنين(ع) عداوة بني أمية؛ إذ كان قد ثقل عليهم أن تكون الأفضلية لبني هاشم دونهم. وهذا ما تشهد به أبيات يزيد اللعين عند رأس الحسين(ع) حيث أفصح عن كفره بالرسول(ص) وبدأ ينشد أبياته بنَفَس قَبَلي؛ «أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَیْنِ ع وَ حَرَمُهُ عَلَى یَزِیدَ وَ جِیءَ بِرَأْسِ الْحُسَیْنِ ع وَ وُضِعَ بَیْنَ یَدَیْهِ فِی طَسْتٍ فَجَعَلَ یَضْرِبُ ثَنَایَاهُ بِمِخْصَرَةٍ کَانَتْ فِی یَدِهِ وَ هُوَ یَقُولُ: «لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْکِ فَلَا / خَبَرٌ جَاءَ وَ لَا وَحْیٌ نَزَلَ»[الاحتجاج للطبرسي/ج2/ص307]
هكذا حلّل أمير المؤمنين(ع) تاريخ العداوة بين الحق والباطل من إبليس وقابيل إلى أعداء الأنبياء وعدوه معاوية بالتحديد، حيث قال في كتابه إلى معاوية: «نحْنُ آلُ إِبْرَاهِیمَ الْمَحْسُودُونَ وَ أَنْتَ الْحَاسِدُ لَنَا؛ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِیَدِهِ وَ نَفَخَ فِیهِ مِنْ رُوحِهِ وَ أَسْجَدَ لَهُ الْمَلَائِکَةَ وَ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ کُلَّهَا وَ اصْطَفَاهُ عَلَى الْعَالَمِینَ فَحَسَدَهُ الشَّیْطَان ... و نُوحاً حَسَدَه قومُه إذْ قالُوا: «مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُرِیدُ أَن یَتَفَضَّلَ عَلَیْکُمْ» ذَلِک حَسَداً منْهم لِنُوح أنْ یُقِرّوا لَه بالفَضْلِ و هُو بَشَرٌ، و مِن بعْدِه حَسَدُوا هُوداً ... وَ مِنْ قَبْلِ ذَلِکَ ابْنُ آدَمَ قَابِیلُ قَتَلَ هَابِیلَ حَسَداً فَکَانَ مِنَ الْخَاسِرِین»[الغارات/ج1/ص117]
ثم بعد أن انتهى نزاع بني هاشم وبني أمية، نشأ نزاع «بني العبّاس» و «بني أبي طالب»، واللطيف أن بني العباس كانوا فخذا من بني هاشم، فكان النزاع القومي قد فقد مصداقيته في هذا العداء الأخير، حيث عادا أهل البيت أقاربهم وبنو عمّهم، وهذا ما يدلّ على استمرارية مثل هذا العداء على مرّ الزمان.
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
10-05-2014, 07:24 PM
إن أهم سبب في التمرّد على الولاية هو الحسد
وهذه الظاهرة جارية إلى يومنا هذا، حيث إن أهم دوافع التمرّد على الولاية ومعاداتها هو الحسد. أرجو أن تقارنوا بين الأثر النفسي لقبول النظام الديمقراطي وبين الأثر النفسي في قبول نظام ولائي، فانظروا ما الفرق بينهما؟ طبعا يعتقد الكثير من المفكرين وقد اتضحت هذه الحقيقة اليوم أن لا يمكن تحقق النظام الديمقراطي بمعنى سيادة الشعب على نفسه وتحكمه على مصيره بشكل حقيقي. فإن أفضل نماذج الديمقراطية الممكنة التي يستشهدون بها هي الديمقراطية الخبيثة لأمريكا والدول الأوروبية التي بيضت جرائمها وجود فراعنة التاريخ وأمثال نمرود والحجاج وهيتلر. هذه هي نتيجة الديمقراطية على أرض الواقع. ولكن على فرض المحال حتى وإن أمكن تحقّق الديمقراطيّة، تجد أن الأثر النفسي لقبول الديمقراطيّة أسهل وأخفّ على قلب الكثير من الناس من أثر قبول الولاية. فتأملوا في سبب ذلك. وبعبارة أخرى بالرغم من أن الشعب أكثر سيادة وتأثيرا على مصيره في النظام الولائي لماذا تجد الولاية ثقيلة على قلوب البعض ممن ينادون باسم الشعب وحقوق الشعب؟ لماذا يستنكفون عن قبول النظام الولائي مع أنه نظام بلا منافس في إحقاق حقوق الشعب، وقد شاهدوا فشل تجربة الديمقراطية إذ قد أصبحت جميعها آلة في خدمة القوى المستكبرة الفاسدة؟ (يرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَى الطَّاغُوت)[النساء/60].
السبب هو أن في النظام الولائي لابدّ للإنسان أن يخضع لأفضلية إنسان آخر عليه من الناحية المعنوية، وهذا ما لا يطيقه من كان في قلبه حسد. فيا ترى هل أن الحسد مرتبط بزمن هابيل وقابيل ولا أثر له اليوم في عالمنا المتحضر؟! فإن لم يكن الحسد صاحب الدور المهمّ في الحروب المستقبليّة والمصيرية في العالم، لماذا نجد طبولها تقرع بهذا النفس؟ لماذا سوف يظهر «السفیانی» فی الشام لمواجهة الإمام الحجة(عج)؟ أفلا يدلّ هذا الاسم على دوافع جيش السفياني، وأنه سوف يحارب الإمام المهدي(عج) بنفس دوافع أبي سفيان في محاربته النبي(ص)؟!
لا شك في أن الدين جاء ليطهر قلوب الناس من الرذائل ولكن هل جميع الرذائل سواء في مدى خطورتها وقبحها؟! عندما نراجع تاريخ البشر، لا نجد لباقي الصفات الرذيلة وزنا بقدر «حسد الأولياء». فهل يعقل أن يكون هذا الموضوع قد أصبح العنصر الرئيس في جميع قصص الأنبياء عن صدفة وبلا أي دليل؟! فكيف ينبغي أن نغفل عن هذه الرذيلة المهمة؟!
لا أريد الآن أن أتعرض إلى أسباب معاداة النبي(ص) ولكن أريد أن أسلط الضوء على هذه النقطة وهي أن الله سبحانه قد بعث رسول الله(ص) في مكان تُشاهَد فيه علة العداء بكل وضوح، فمن أراد دراسة تاريخ الإسلام لابد أن ينظر إلى علة العداء هذه كمحور رئيس.
ينظر البعض إلى تاريخ الإسلام بنظرة غربية أو شرقية
في أيّام الثورة الإسلامية في بلدنا (إيران)، كان البعض يحللون تاريخ الإسلام بنَفَس شيوعي أو اشتراكي، فكانوا يقولون: «كان النبي(ص) من الطبقة المحرومة في المجتمع! فحاربه الإقطاعيّون والرأسماليون، فجاء النبيّ واستنعض العبيد وقضى على الأسياد...». فمثل هذه التحليلات باطلة لا حظ لها من الصواب، وأساسا لم يكن النبيّ من الطبقة المحرومة في المجتمع، فكانت زوج النبي(ص) من أغنى نساء مكة، وكان النبي(ص) نفسه من الطبقات العالية في المجتمع.
فلابدّ أن ننظر إلى التاريخ برؤية صائبة ونحلله بشكل صحيح. فهناك من ينظرون إلى تاريخ الإسلام برؤية غربية أو شرقية ويخرجون بتحليلات خاطئة. وكذلك اليوم وبعد انتهاء شوط الأفكار الشيوعية والاشتراكية تجد كثيرا منهم يرغبون في تفسير تاريخ الإسلام بنفس ليبرالي! ولهذا نصيحتي لكم أيها الإخوة الأعزاء أن راجعوا تاريخ الإسلام بأنفسكم وباستعانة القرآن. فقد أعطى القرآن الأصول الرئيسة والخطوط العريضة في التاريخ ولابدّ أن نقرأ التاريخ على هذا الأساس. إنه عمل واضح جدا وسوف نقرأ التاريخ في الجلسات القادمة على هذا الأساس إن شاء الله، إذ من المهم جدا أن نقرأ التاريخ بشكل صحيح. اللهم أرنا الأشياء كما هي. ولا تجعل حجابا بيننا وبين الحقّ والصواب.
الرحيق المختوم
29-05-2014, 03:24 PM
إليك ملخّص الجلسة الثالثة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ الأستاذ بناهيان في جلسات هيئة الشهداء المجهولين في طهران في موضوع «استعراض تحليلي لتاريخ الإسلام»
في مسار دراسة التاريخ، لابدّ من تسليط الأضواء على دور «العدو» المهم جدا في حياة الإنسان
لقد أوصانا أهل البيت(ع) أن نكون على معرفة بالكفر، وأساسا لا يمكن معرفة الإيمان والقرآن إلا أن نعرف الكفّار ومنكري القرآن. وعلى مرّ الدهور هناك جهتان متقابلتان في الساحة التي نعبّر عنها بالحقّ والباطل أو الخير والشرّ، وحتى قد خلق الباطل قبل خلق الإنسان. إن شخصية إبليس ـ لا شخصه بالذات ـ شخصية ذات أسرار ورموز وقد خلق إبليس قبل خلق آدم بستة آلاف سنة أو أكثر؛ «وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَوْ مِنْ سِنِي الْآخِرَة»[نهج البلاغة/خ192]. وقد جهّز بأدوات العداء لبني آدم منذ خلق آدم(ع). ولعلّ الله سبحانه أراد أن يعرفنا على مدى أهمية دور العدو في حياة الإنسان الدنيوية. ومن هذا المنطلق لابدّ أن ننظر إلى هذا الموضوع في دراستنا التاريخيّة بشكل خاص.
إحدى الحقائق التي لابدّ أن نعرفها في علاقة ظاهرة العدو بحياة الإنسان وسعادته، هي أنه إذا أريد للإنسان أن يتقرب إلى الله وينتج قيمة في مسار حركته نحو الله سبحانه، لابدّ أن يكون هذا التكامل في خضمّ صراع وعداء. ففي الواقع إن هذا العداء يمثل أرضية يتكامل الإنسان فيها. ولهذا إن التغافل عن موضوع «العداء» هو من مكائد إبليس وقد خدع البعض مع الأسف بهذا الكيد، فهم يعيشون دون التفات إلى العدوّ ولا الشعور بتواجد العدو ولا يشعرون بالعداء تجاهه.
من أهمّ أدوار أولياء الله هو كشف حقيقة العدوّ
لقد كانت رسالة أولياء الله في موضوع العدو رسالة عظيمة. فقد كان لهم الحظ الأوفر في مواجهة العدو وتلقّي الصدمات والمظالم من قبله. وباعتبار أن إولياء الله هم قدوتنا في سلوكهم إلى الله، لابدّ أن يكونوا قدوتنا أيضا في جهادهم للعدو وفي تحمل المصائب والمظالم في خضمّ حربهم معه.
عندما ننظر إلى عمل أولياء الله ونشاطهم الرسالي، نجدهم أحيانا يهدفون إلى كشف حقيقة العدو أكثر من إظهار أنفسهم. ولا شك أن مشاهدة العدو وإدراك جبهة الباطل أبسط وأسهل من مشاهدة الله ومعرفة حقيقة أولياء الله وحقائق العالم الأصيلة، إذ إن العدو سافل ويمثل ظاهرة أرضيّة، بيد أن حقيقة أولياء الله من عليّين فليس معرفتهم بأمر هيّن. فالعدوّ أسهل إدراكا ومعرفة من الله سبحانه وأوليائه عليهم السلام. وكذلك يمكن مشاهدة العداء الذي يحمله العدوّ تجاه الله وأوليائه ولا يحتاج فهمها إلى إيمان قويّ بالغيب أو رياضة النفس.
حتى إذا ننظر إلى ما أنجزه الإمام الحسين(ع) في كربلاء، نجد أن الإمام لم يكن بصدد إظهار نفسه ومنهجه بقدر ما كان يريد أن يفضح حقيقة جبهة الباطل ومدى انحطاطها. ولهذا نرى أولئك الذين اصطفوا أمام الحسين(ع) وقاتلوه كانوا ذات خصائص متميّزة. فيبدو أن كربلاء هي محل تجسد الأشقياء أكثر من كونها محل تجلي الأولياء وإن فهم حقيقة كربلاء مرهون بمعرفة حقيقة جبهة الباطل أكثر من أيّ شيء آخر.
إن دراسة أسباب عداء أعداء النبي(ص) وأساليبهم في العداء، تمثّل قضية محورية جدا
كما أن وجود عدوّ لدود باسم إبليس في قصّة النبي آدم(ع) هو محل استلهام دروس عظيمة، وكما في الصراع الذي وقع بين «هابيل وقابيل»، يبدو معرفة عداء قابيل أمرا مهمّا جدّا. كذلك عندما نصل إلى زمن النبي الأعظم(ص) ونعمد إلى دراسة تاريخ مكة، من المهمّ جدا أن نعرف من كان أعداء النبي(ص) وما هي أسباب عدائهم وكيف أظهروا عداءهم؟ إذن معرفة أعداء النبي(ص) والذين لم يؤمنوا برسالته أمر مهمّ جدا في دراستنا، ولا سيّما في هذا الزمان الذي أصبح عداء جبهة الباطل لنا أوضح وأجلى من أيّ زمان آخر.
إن ما نعيشه من عدم الاستقرار في منطقتنا ناشئ من ارتباك العدوّ وعدم استقراره، وهو الآن من خلال كشف اللثام عن عدائه، يساهم ـ شاء أم أبى ـ في ازدياد بصيرتنا برجسه وقذارته. حتى قد يمكن القول بأنّ أوج الاستعداد لظهور إمام العصر والزمان(عج) يتمثّل في أوج معرفة العالم البشري بأعداء الحقّ. إذن أكثر من أن نهتمّ بمعرفة شخصية الإمام الحجة(عج) علينا أن نعرف عدوّ الإمام. فإن تكاملنا في معرفة العدوّ في هذا الزمان عند ذلك نستطيع أن نرتقي معرفيا ونصل إلى مستوى الموطئين لظهور الإمام(عج) أو أنصار الإمام الحجّة.
إن حدث الظهور هو بمعنى فتح صفحة جديدة في تاريخ الإنسان، فكل التاريخ الذي مضى قبل الظهور ينطوي في فصل واحد بالنسبة إلى العالم بعد الظهور. ويبدو أن من أهم ما سوف يتغير وضعه بعد الظهور هو العدوّ. وكذلك يبدو أن تاريخ الإنسان ينطلق من عدوّ يعاديه، وينتهي هذا التاريخ إلى زمن يعرف فيه الإنسان عدوّه ويقدر عليه. إذن من الطبيعي جدا لهذا العدوّ الخطر أن يصل في آخر أيّام حياته إلى الذروة والقمة في عدائه.
منذ أن خلق الله آدم(ع) إلى زمن مبعث الرسول(ص) وإلى يومنا هذا كانت ظاهرة الأعداء من أهم أركان تاريخ حياة الإنسان. ولهذا إذا أراد الإنسان أن يكون إنسانا واعيا، فلابدّ له من معرفة عدوّه، وإذا أراد أن يعيش حياة طيّبة، فلابدّ أن يحقق هذه الحياة في خضمّ عداء ومواجهة، وإذا أراد أن يأخذ بيد المجتمع البشري إلى شاطئ سعادتها المتمثل بعصر ظهور المهدي(عج)، فلابدّ أن يجتاز من مانع هذا العدوّ التاريخي اللدود؛ يعني أن يذبح ويهلك إبليس وحزبه من شياطين الإنس في جميع أرجاء العالم. ولا شك في أن لا سبيل إلى تحقيق هذا الأمر بلا معرفة وبدون استعداد. فلابدّ أن يقضى على هذا العدو العريق والمخضرم للإنسان بالنحو الذي لا يرجع بعد ذلك أبدا.
فإذا صحّ هذا الكلام، وإذا أردنا أن تكون حياتنا أكثر عقلانية ومعنوية وعشقا وعرفانا، فلابدّ أن نرسم حياتنا على أساس جهاد متواصل ومواجهة دائمة للأعداء. وهذا ما يسمّى بالحياة الثوريّة، وهي حياة المجاهدين وحياة غير الغافلين وحياة غير البهائم. فهذا هو منطلق الحياة الثورية والروحية الثورية. وهنا يتبلور العرفان والمعنوية الحنيفة والأصيلة التي نحتاجها اليوم. لابدّ لنا أن نعيش هذا الصراع إذ نحن بصدد إنهاء هذا الصراع لصالح جبهة الحق.
يتبع إن شاء الله...
الرحيق المختوم
11-06-2014, 04:38 PM
هل بإمكاننا في هذا الزمان أن نقضي على جبهة العداء للبشر و للأنبياء الربانيين؟
لابدّ لنا أن نعيش هذا الصراع إذ نحن بصدد إنهاء هذا الصراع لصالح جبهة الحق. فهذا هو سؤال زمننا المعاصر لنا، أن هل تقدرون على إنهاء هذا الصراع؟ هل تستطيعون أن تقضوا على ظاهرة العداء للأنبياء الربانيين؟ فإذا أردنا أن ننهي هذا الصراع فلابد أن نخوض في معمعته ونعيش أجواءه.
حتى لو كنّا لا نحتمل أننا نعيش أيام آخر الزمان في العصر الراهن، وحتى لو لم نر هذا العداء المستميت من قبل أعدائنا في هذا الزمان، وكنا نعيش قبل خمسمئة سنة مثلا، لوجب علينا أيضا أن نلتفت إلى حقيقة وجود العدوّ وأن لا ننس هذه الحقيقة وهي أن حياة الإنسان قد انطلقت من عداء إبليس لآدم وقد انطلقت حياة المجتمع البشري من الصراع الذي جرى بين هابيل وقابيل. ولو كنّا في زمن أمير المؤمنين(ع) كان يجب علينا أن نعلم بأننا أكثر أقوام التاريخ مظلومية مع أن الحق معنا. وقد تضاعفت مظلوميتنا في هذا الزمان وفي خضمّ هذه الأجواء والظروف التي نعيشها.
الآية الأولى التي أمر بها الله النبي للانطلاق في الدعوة العلنية تحكي عن صراع شديد
فبما أن ظاهرة العداء بين جبهة الحق وجبهة الباطل ظاهرة محورية ورئيسة في تاريخ حياة الإنسان، نحن أيضا نعطي الأولوية لهذا الموضوع في سلسلة دراستنا التحليلية لتاريخ الإسلام، فلابدّ أن نقف في دراستنا عند أسباب عداء البعض للنبي(ص) وأسلوبهم في عداوتهم. لقد أشرنا في الجلسة السابقة إلى الحسد كسبب رئيس لتبلور العداء، وأما في هذه الجلسة فنلقي نظرة إلى أصل الصراع والنزاع.
هل تعلمون ما هي الآية التّي تلقّاها الرسول(ص) من قبل الله سبحانه وتعالى وكانت هي المنطلق في دعوته العلنيّة؟ لقد أمر الله سبحانه النبي(ص) في مطلع الدعوة العلنية أن (فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأعرِضْ عنِ المُشْرِكينَ)[الحجر/94] وكلمة «فاصدع» تحكي عن بداية صراع.
«الصدع» هو القطع في أمور مهمة أو صلبة ماديا أو معنويا. [راجع مفردات راغب وتحقيق المصطفوي]. وقد سمي القول العلني صدعا لكونه يسبب الفرقة والخلاف. فقوله: (فَاصدَع بِما تُؤمَرُ) فی الواقع إشارة إلى التصريح بكلام وحديث يؤدي إلى خلاف ونزاع. فهي عبارة تشتمل على طابع نفساني خاص، وهو تلك الخصومة التي تنتجها هذه الرسالة إن كشف الستار عنها وتم بلاغها بشكل علني. ولهذا في تتمة الآية قد تحدث الله سبحانه عن جبهة الخصم المتمثلة بالمشركين وقال: (وَأعرِضْ عنِ المُشْرِكينَ).
وفي الآية التالية يقول الله سبحانه: (إِنّا كَفَيْناَكَ المُسْتَهْزِئِين)[الحجر/95]. يعني منذ انطلاقة الدعوة، تحدث الله سبحانه عن المواجهة والمجابهة وضغوط الأعداء، فقد تحدثت هذه الآية المباركة عن بداية صراع شديد يبدأ بالاستهزاء والتمسخر والكلام المؤلم. ولهذا قال الله سبحانه في آيتين بعدها: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقولونَ)[الحجر/97] يعني أن المظلومية والمعاناة في مسار هذه المواجهة أمر طبيعي.
لابدّ أن نعيش أجواء الحرب والصراع
يقول المفسرون إن دعوة النبيّ(ص) العلنية قد بدأت بهذه الآية الكريمة، ومنذ بدء الدعوة العلنية بدأ العداء تجاه النبي(ص) وقد أشارت هذه الآيات إلى بعض جوانب هذا العداء والصراع. هذا هو القرآن الذي يحكي عن وجود العداوات والصراعات.
لقد رسمت الحياة البشرية في خضمّ صراع ونزاع، كما قد تبلور ديننا أيضا في أجواء نزاع ومواجهة، ونجد اليوم أن قد بلغ هذا النزاع إلى ذروته. لقد وعدتنا أحاديث النبي(ص) وأهل البيت(ع) أن هذا الصراع سينتهي في يومٍ، وقد ذكروا علامات لانتهاء شوطه، وها نحن نرى بعض تلك العلامات. فيا ترى هل سينتهي هذا الصراع في زماننا هذا؟ فإن كان كذلك، إذن سوف يبلغ هذا الصراع في زماننا إلى ذروته.
إن لم تخل الحياة من النزاع والعداوات، فهل يمكن للدين أن يكون خاليا عن النزاع؟ انظروا إلى السنين الثماني لدفاعنا المقدّس؛ بمجرّد أن قامت دعائم حكومة إسلامية في إيران، شنّ على شعبها حرب عالمية شرسة. لماذا فرضت علينا هذه الحرب؟ وكيف تقيّمون هذا الحدث على أساس التدبير الإلهي وألطاف الله الخفيّة؟ فإذا أردنا أن ننظر إلى هذه الحرب المفروضة بسذاجة، نقول: بدأ هذه الحرب عدوّ جاهل باسم صدّام وشغلنا بها لمدة ثمان سنين، ثم هلك. ولكن إذا أردنا أن نحلل هذه الحرب بمزيد من العمق والتمعّن، لابدّ أن نأخذ عبارة الإمام الخميني(ره) بعين الاعتبار، حيث كان يرى هذه الحرب أحد الألطاف الإلهية الخفية. لقد كان انتصار ثورتنا عبر مواجهة وعداء، وكذلك مرّت مرحلة استقرارها وتعزيزها في فترة حرب وصراع أشدّ. أفلا تدلّ هذه الحقيقة على ضرورة العيش بنَفَس الجهاد والصراع وأن نرى أنفسنا في مثل هذه الأجواء؟ حتى أن التسديدات الغيبية الإلهيّة باتت تظهر حولنا في خضمّ الحروب الظالمة والشرسة التي شنّها الأعداء ضدّنا، وقلّ ما نجد أمثالها في التاريخ.
يتبع إن شاء الله...
نرجس*
11-06-2014, 11:32 PM
في الحقيقة بحث شيق جداً يحتاج لـِ اعادة القراءة و المتابعة
شاكرة و مقدرة لهذا العطاء,,
الرحيق المختوم
14-06-2014, 09:03 AM
في الحقيقة بحث شيق جداً يحتاج لـِ اعادة القراءة و المتابعة
شاكرة و مقدرة لهذا العطاء,,
حياك الله وبياك أختنا الفاضلة
وشكرا جزيلا لك على هذه الكلمات الطيبة
وفقك الله لكل خير
الرحيق المختوم
14-06-2014, 09:04 AM
من نام لم ينم عنه
برأيكم لماذا يقوم الإرهابيون في سوريا بتسجيل جرائمهم الشرسة وبثها في وسائل الإعلام، مع أنهم يعرفون أن هذه اللقطات التي يبثونها سوف تنفّر الناس منهم بلا فرق بين السنة والشيعة؟ فلعل السبب هو أنهم يريدون أن يبثوا الرعب والخوف بين الناس. ولكن مهما كانت دواعيهم من بثّ هذه اللقطات الفضيعة، إن انتشار هذه اللقطات هي من الألطاف الخفية الإلهيّة، لكي نعرف تكليفنا في هذا الزمان وننظّم حياتنا على أساس مقتضيات هذا الزمان.
إن ظروفنا وأجواء حياتنا تشبه ظروف اللاعب الذي يعيش حالة الاستعداد قبل بدء المباراة، أو كالجندي الذي يعيش حالة التأهب قبل الحملة. فلن نخسر إن نظمنا حياتنا على أساس التأهّب لمباراة نهائية مع العدوّ. أما إذا عشنا غافلين عن العدوّ فسوف يشملنا قول أمير المؤمنين(ع) إذ قال: «وَ لَا تَثَّاقَلُوا إِلَى الْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ وَ تَبُوءُوا بِالذُّلِّ وَ یَکُونَ نَصِیبُکُمُ الْأَخَسَّ وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ یُنَمْ عَنْه»[نهج البلاغه/نامه 62].
يودّ بعض المساكين أن يقضوا على الروحيّة الثوريّة. فهم يدعوننا في النشاطات الثقافية إلى التسالي والتوافه، ويحاولون أن يلفتوا أنظارنا عن الجهاد الرئيس في حياة الإنسان. بينما ينبغي للإنسان أن يحظى بروح التأهب للدفاع والجهاد. وأساسا ما السبب من وجود روح المنافسة المودعة في الأطفال والتي تتبلور في حب المصارعة وحبّ البندقية والسلاح؟ لأنه يجب على الإنسان أن يعيش كل عمره في أجواء الصراع والجهاد. وحتى بعد ظهور الإمام الحجة(عج) حيث يقضى على إبليس والأعداء طبقا لمفاد بعض الروايات، يبقى صراع الإنسان قائما مع نفسه الأمارة بالسوء ولن ينفك عن هذا الصراع إلى آخر لحظة من حياته. سئل الإمام الصادق(ع): أَیْنَ طَرِیقُ الرَّاحَةِ فَقَالَ ع فِی خِلَافِ الْهَوَى قِیلَ فَمَتَى یَجِدُ عَبْدٌ الرَّاحَةَ فَقَالَ ع عِنْدَ أَوَّلِ یَوْمٍ یَصِیرُ فِی الْجَنَّةِ. [تحف العقول/ص370]
لابدّ أن ننظر إلى ظاهرة معاداة النبي(ص) كأحد أهم محاور تاريخ الإسلام
حتى وإن لم يكن زماننا في هذا الزمان، وكنا بصدد دراسة تاريخ الإسلام، أيضا كان لابدّ لنا أن ننظر إلى ظاهرة معاداة النبي(ص) كأحد أهمّ محاور تاريخ السلام، أما الزمان الذي نعيشه الآن فبات يدعونا إلى دراسة هذا الموضوع بمزيد من التأكيد.
لماذا قد تناولنا إيجابيات عرب الجاهليّة في مطلع هذا البحث؟ لأننا أردنا أن نعرف هذا العدوّ بشكل جيّد، إذ لابدّ أن نأخذ إيجابيات العدوّ بعين الاعتبار إلى جانب سلبيّاته إن أردنا أن نكون على معرفة جيدة به. إن بعض المخرجين وكتّاب القصص والروايات أثناء ما يبلورون شخصية سلبية في قصّتهم، لا يسوّدونها تماما، بل يُبقون فيه ملامح من الإيجابيات والفضائل وهذا هو الأقرب إلى الواقع، إذ حتّى مجرمي التاريخ كانوا يحظون ببعض الخصائص الإيجابيّة. فعلى سبيل المثال إن إبليس كان قد عبد الله ستة آلاف سنة وهذا ما يحكي عن شيء غير قليل لا يستهان به. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الإيجابية تحدّد نوعية شقائه وترشدنا إلى كشف صفته السلبيّة بدقّة.
إنّ المجتمع الذي كان يعاصر زمن مبعث النبيّ الأعظم(ص)، لم يكن مجتمعا سلبيّا وأسودَ تماما. فلابدّ أن ندرس ذاك المجتمع ونعرف كيفية تبلور معاداة النبي(ص) في تلك الأجواء. إذا كانت ظاهرة العدوّ والعداء ظاهرة مهمّة في حياة الإنسان وتكامله، فلابد أن ندرس هذا العدوّ بشكل دقيق. نحن نجد في تاريخ النبي الأعظم(ص) أنه كان قد احتكّ بأناس لم يكونوا أعداءه من الأوّل، بل كانوا يحترمونه قبل مبعثه ويلقبّونه بالأمين.
كان الحسد هو السبب الأوّل لمعاداة النبي(ص)، وكان الاستهزاء هو العمليّة الأولى في العداء
لقد تطرقنا في الجلسة السابقة إلى سبب معاداة النبي(ص) الرئيس، وقلنا كان هذا العداء من قبيل الحسد. فلم يكن السبب هو تمسكهم بثقافة أسلافهم أو استئناسهم وتعودهم على الأصنام وصعوبة تغيير ما استأنسوا به وتعودوا عليه، وإن كانوا يتذرعون بأمثال هذه القضايا، ولكن كان السبب الرئيس خلف هذه الذرائع هو حسد النبيّ(ص) وإنما كان يغلّف بإحدى هذه الذرائع. حتى أن عامل حب اللذة والتمتّع بالمعاصي لم يكن عاملا رئيسا بالنسبة إلى الحسد، وإنْ تذرَّع أعداء النبي(ص) به أيضا. فقد قامت دعائم هذا العداء على أركان الحسد. طبعا وبالتأكيد كانت إلى جانب الحسد أسباب أخرى من قبيل الجهل وحب الدنيا وغيرها، ولكنها كانت أسباب هامشيّة، أما السبب الرئيس الذي كان يحشّد هذا العداء هو حسد النبيّ(ص)، وقد مرّت عليكم بعض النصوص والتعابير التي تحكي عن هذا العامل الرئيس.
طيّب؛ لنرى ماذا كان أوّل مبادرة أعداء النبي(ص) في معاملتهم معه. كانت المبادرة الأولى في مواجهة النبي(ص) هو «التمسخر» و «الاستهزاء». ولهذا بعد أن أمر الله النبي(ص) أن يعلن عن دعوته، قال له: (إِنّا كَفَيْناَكَ المُسْتَهْزِئِين)[الحجر/95].
يقول الله سبحانه وتعالى: (يا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ ما يَأتِيهِم مِنْ رِسولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِؤونَ)[يس/30]. لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن قصص الاستهزاء بالأنبياء بمختلف أشكالها. فعلى سبيل المثال راجعوا سورة المؤمنون. كما كانت ذرائع المستهزئين مختلفة. فعلى سبيل المثال عندما يؤمر النبيّ نوح(ع) أن يصنع الفلك بأرض يابسة نائية عن البحار والأنهار، كان هذا خير ذريعة للمستهزئين. (وَ یَصْنَعُ الْفُلْکَ وَ کُلَّمَا مَرَّ عَلَیْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ)[هود/38]
الاستهزاء هو أول حربة يستخدمها العدو في مواجهتنا، فإن عجزنا عن مواجهة هذه الحربة نصرع في بداية المعركة
وكذلك في أول صحفات القرآن عندما يتطرق الله إلى داخل المجتمع الديني ومواقف المنافقين فيه، يشير إلى أنهم يستهزئون بالمؤمنين. (وَ إِذَا لَقُواْ الَّذِینَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَ إِذَا خَلَوْاْ إِلىَ شَیَاطِینِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَکُمْ إِنَّمَا نحَْنُ مُسْتهَْزِءُونَ * اللَّهُ یَسْتهَْزِئُ بهِِمْ وَ یَمُدُّهُمْ فىِ طُغْیَانِهِمْ یَعْمَهُون)[بقره/14 و15]. إن ظاهرة الاستهزاء من الأهمية وسعة التأثير بمكان، بحيث حتى في زماننا نجد أن بعض الفتيات يخففن من حجابهنّ أو يتجنب بعض الشباب عن الذهاب إلى المصلّى وأداء الصلاة خوفا من استهزاء الآخرين. وكذلك من أهم الركائز التي تعتمد عليها الفضائيات هو الاستهزاء بالمقدسات والخط الإسلام الحنيف. واعلموا جيدا أن لن يلتفت المستزهؤون عن الإسلام الحنيف. طبعا لا يبقى عداء الكفّار للمؤمنين على مستوى الاستهزاء وحسب، بل حتى قد يصل في المراحل الآتية إلى حزّ رؤوس المؤمنين، كما نرى في زماننا هذا مثل هذه الأحداث.
إن موضوع الاستهزاء من الأهمية بمكان، بحيث عندما دعا رسول الله(ص) عشيرته في بداية دعوته العلنية؛ (وَ أَنْذِرْ عَشیرَتَکَ الْأَقْرَبین)[شعراء/214] مع أن التعصب العشائري كان مستفحلا بين القوم آنذاك، وكان المفترض بطبيعة الحال أن يكون تعامل عشيرة النبي(ص) معه تعاملا حسنا، ومع أن النبي(ص) أخذ يتحدّث معهم بمنتهى الرفق والرحمة، لكن بعد أن أعلن عن دعوته، كان ردّ فعلهم هو الاستهزاء والتمسخر، ولا سيّما بعد أن عرّف أمير المؤمنين(ع) وصيّا له وكان غلاما حدثا يومئذ، فزادهم هذا الحدث تمسخرا واستهزاء. [راجع تفسير الميزان والأمثل، ذيل الآية 214 من سورة شعراء]
الاستهزاء هو الحربة الأولى التي يستخدمها الأعداء في مواجهة المؤمنين، فإن لم نعرف هذه الظاهرة ولم نقدر على مقابلتها، نُصرَع في أوائل المعركة ولن نصل إلى الأشواط القادمة. إذا أردنا أن نعرف العدوّ، فلا ينبغي أن ننسى حسد العدو واستهزاءه. إن هذه النقطتين مهمتان جدا وجديرتان بالتأمل. أمّا كون الأعداء أغنياء والأغنياء بصدد نهب الفقراء، فهذا موضوع هامشي. أو كون الأعداء طالبي اللذة، ويهدفون إلى التمتع والالتذاذ عن طريق الفسق والفجور فهو موضوع هامشي كذلك. إن السبب الرئيس في عداء العدوّ، هو الحسد، ولا يزال هذا الحسد قائما إلى اليوم الآخِر.
فعلى سبيل المثال كان هذا الحسد هو السبب في سوء عاقبة الزبير وشقائه. بعد معركة الجمل ومقتل الزبير، كشف أمير المؤمنين عن سوء سابقة الزبير التي لم يكن يعرفها أحد فقال وهو ينظر في وجه الزبير: «أما والله لولا ما کان من أمر حاطب بن أبی بلتعة، ما اجترأ الزبیر على قتالی! [الجمل للمفید/389] ویشیر بأمر ابن بلتعة إلى رسالته إلى أهل مکة بعزم النبيّ على فتحها، بعث بها مع امرأة أخفتها فی شعرها، وأُخبر بها النبيّ فأرسل علیا والزبیر علیها فأنکرت وصدّقها الزبیر ورجع عنها فقال عليّ: یخبرنا النبي وأنت تقول: لا کتاب معها؟! واستخرجه منها، فحسده الزبیر علیها. [موسوعة التاریخ الاسلامی/4/ 620]
وبالمناسبة إن الزبير لم يكن يعرف كيف يتعامل مع المستهزئين، ولم يكن يملك القدرة على تحمل استهزاء الآخرين. إذ كان قد اقتنع بحديث أمير المؤمنين(ع) في معركة الجمل أن يكفّ عن الحرب، لأن أمير المؤمنين(ع) قد ذكّره بحديث رسول الله(ص) إذ حذّره من مثل هذا اليوم. ولكن بعد أن اتضح الحقّ للزبير وأراد أن يترك معركة القتال، رجع إليها مرة أخرى بتحريض ابنه. فكرّ كرّة مخافة أن يستهزئن به نساء قريش. إذ قال له ابنه: «کفّر عن يمينك، لئلا يتحدثن نساء قريش، أنك جبنت وما كنت بجبان. قال: صدقت...»[وقعة الجمل/ص130] يعني لم يستطع الزبير أن يتحمل استهزاء قومه، ولهذا السبب مات وهو خارج على إمام زمانه!
من المهمّ جدا لدى بعض الناس أن لا يُستهزأ ولا يسخر به في طريق دينه، ولهذا يعمل بدينه بالنحو الذي لا يسمع طعنة أو كلمة من أحد! ولكن عندما نجد رسول الله(ص) لاقى ما لاقى من المستهزئين، هل من الصحيح أن نفرّ من الاستهزاء بأي طريقة ووسيلة؟!
صلى الله عليك يا أبا عبد الله
لقد عانى الأنبياء والأولياء من استهزاء أعدائهم وشماتتهم على مرّ الدهور ولكنّ أكثرها فجعة وأعزّها على الفؤاد هو ما لاقته الحوراء زينب(س) في الكوفة والشام وفي مجلس عبيد الله بن زياد ومجلس يزيد، من شماتة واستهزاء. يا قلب زينب كم قاسيت من محن/ فيك الرزايا وكل الصبر قد جمعا/ يكفيك صبرا قلوب الناس كلّهمُ/تفطرت للذي لاقيته جزعا.
vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
Jannat Alhusain Network © 2024