حسين ال دخيل
17-02-2014, 06:28 PM
الجاهلية الحديثة و الحاجة إلى المعنويات
﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ 1 .
البشرية اليوم أشبه ما تكون بجسم عملاق رُكّب عليه رأس صغير ! إنك لو رأيت رجلاً ضخماً ؛ صدره عريض ويداه طويلتان ورجلاه أطول ، ولكن رأسه رأس طفل صغير ، فلا شك أنك ستقول بأن خللاً كبيراً حاكم على خلقته منذ الولادة.
إننا اليوم نملك قدرات هائلة ، حتى استطاع الإنسان أن يفلق الذرة ويتحكم بالجنين ويهندس الوراثة ويجوب الفضاء ، وأصبحت الأرض التي كانت في يوم من الأيام عالماً مغلقاً أمام البشر ؛ أصبحت تمسح بالأقمار الصناعية مسحا ًجيولوجياً ليكتشف ما في أعماقها من معادن وآثار وأحواض مائية ونفطية وتيارات هوائية عالية التأثير قد تتسببفي وقوع الزلازل والبراكين . . وإنسان اليوم يستطيع التحكم حتى بالنباتات ، حيث أخذ هذا التحكم وما يقف وراءهمن تقنية علمية بتوفير مواد غذائية جديدة ، واستطاع العلماء تحسين نطف الحيوانات ، فركّبوا بعضها على بعض . . . وهاهو العلم الحاضر يسعى إلى زرع خلايا الدماغ ، ويتجه إلى صنع أعضاء احتياطية حية لجسم الإنسان عبر الاستعانة بتحسين جينات الحيوانات الذكية .
وهذا التطور العلمي الحاصل لا يعني أن الإنسان قد وصل الذروة ، بل العكس هو الصحيح ، وفي ذلك إشارة واضحة ومباشرة إلى أن البشرية قد ضيعت مميزات أبلغ أهمية من التطور العلمي الذي حصلت عليه .
إن باستطاعة إنسان اليوم أن يجلس مستريحاً في بيته مطلق الاستراحة بفضل الخدمات التي ينفذها له الإنسان الآلي ،ويستطيع أيضاً تشييد مصنع معقد للسيارات المتطورة ، والتفرج على العقول الالكترونية وهي تعمل على قدم وساق لإ يعوزها نقص ؛ واحتمال ارتكاب الخطأ فيها واحد إلى المليون . . فالإنسان الآلي المبرمج من قبل الإنسان الطبيعي ينجز مسؤوليات صانعه بإتقان أشد . ولكن هذا التطور وهذا الإنجاز قد كلف البشرية الكثير الكثير من مصداقيتها و قابلياتها وروحياتها ومستقبلها .
إننا ؛ ومن منطلق مفاهيم ديننا الإسلامي لا نقول بأن السبب في تراجع البشرية هو التطور العلمي والاستفادة من طاقات الأرض والكون ، بل العكس هو الأصح تماماً . فالنصوص الدينية الواردة فيها من التحريض على استثمار الطبيعة ما لم يأت لها شبيه في دين أو عقيدة أخرى ؛ لا كماً ولا نوعاً . إن نظرتنا الدينية تؤكد بأن العلة فيما وصلت إليه البشرية من جاهلية وعدم تناسب ، هو التفكير المادي المتحكم في التعامل مع الإمكانات النهضوية .
فمن الملاحظ أن سجلات وأروقة الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية تزدحم بتسجيل براءات الاختراع والاكتشاف ، وكل يوم تطالعنا الصحافة العالمية بعشرات ؛ بل بمئات الاختراعات العلمية الحديثة الغريبة بحق . ولكن كل هذا وذاك لا يعني توفر السعادة للبشرية ، بل العكس هو الصحيح تماماً . إذ الجسم البشري أصبح كتلةً مشوهة لا تناسب فيها مطلقاً ، فالتفاوت كبير للغاية بين التطور العلمي وبين درجات كبح هذا التطور . وهناك اختلاف شاسع بين الإمكانات الطبيعية للبشرية وبين مستوى الاستقلال الذاتي لأصحاب هذه الإمكانات والموارد الحقيقيين ، فالواقع الملموس يشير إلى أن الغني يتضاعف غناه والقوي تتضاعف قوته ، فيما الفقير يزداد فقراً والضعيف يتكرس ضعفه باستمرار . وأن التطور العلمي والاكتشافات الحديثة لم تساعد في حل هذه المشكلة ، إن لم نقل إنها سبب رئيسي في وجودها واستفحالها . فلقد أصبح مَثل الجسم البشري مَثل الشاحنة المتطور تقنياً ولكن تعوزها الكوابح ، فالعالم اليوم تعوزه القيادة الحكيمة والحازمة لضبط هذه الحركة هائلة السرعة لتتحكم بها وتوصلها إلى شاطئ الأمن والسلام .
إن البشرية اليوم تتسابق مع الزمن لمجرد السباق ، إذ هي تفتقر كل الافتقار إلى وجود غاية تسير باتجاهها وإليها ؛ بمعنى أن حركة البشرية أضحت كحركة كرة الثلج الهابطة من قمة الجبل ، فهي كلما هوت إلى الأسفل كلما تضاعفت سرعتها و كبر حجمها ، ولكنها لا تعي مصيرها ، فالوعي هنا سالب بانتفاء الحياة والروح لديها .
فقد تقدم الإنسان في العصر الراهن تقدماً هائلاً في عالم الماديات ، ولكنه تضاءل وتراجع في عالم الروحانيات . ومما لا يخفى أن الروح هي الضابط الأوحد للمادة ، وهذه الروح إن لم تؤدي وظيفتها على الشكل الصحيح فإن المادة تكون ذات مردود سلبي على الإنسان . والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول بهذا الخصوص : ( إن العقل عِقال من الجهل ) 2 ؛ أي إن الإنسان لا يعدو كونه كتلة من الجهل ما لم يستعن بسلاح العقل الذي يمنعه من الاندفاع نحو الخطأ ، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : ( والنفس مثل أخبث الدواب ، فإن لم تُعقل حارت ) 3 ؛ بمعنى أن النفس البشرية حيوان هائج ، والعقل والروح والحكمة هو ما يدبّر أمورها .
بينما اليوم نجد الأسلحة الفتاكة التي تصرف لها الأموال الطائلة وتهدر لها الطاقات العلمية الجبارة يطول عنها الحديث ويطول حتى ليحس المتحدث والمستمع والكاتب والقارئ بالاشمئزاز منها . فالعلم الحديث استطاع أن يسخر الجراثيم لقتل وإبادة الناس ، وهذا السلاح بطبيعة الحال ليس سلاحاً دفاعياً أو رادعاً كما يحلو للبعض أن يقدّم تبريراته الكاذبة في إطار صناعة ونشر واستخدام الأسلحة الذرية ، حيث ضحكت الدول المالكة لهذا السلاح على بعضها البعض وعلىبقية الدول طيلة ما كان يسمى الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ، حيث كانوا ولا يزالون يعتصرونجذوة الجهود البشرية والإمكانات الطبيعية المتاحة في سبيل إحكام سيطرتهم على مقدرات هذا العالم . هذه هي الحياة التي نعيشها في الحقبة الراهنة مع بالغ الأسف والحسرة! .
والسؤال الهام جداً هنا ، هو : كيف نقاوم هذا التوجه ؟ وكيف نستطيع أن نوجّه العالم ونقوده إلى الأمن والسلام ؟
والجواب يكمن في مسألة واحدة ، وهي العودة إلى الروح وتنمية المعنويات لدى الإنسان . فالمعادلة الطبيعية واليسيرة لدى الإنسان تقول بلزوم الحفاظ على الحالة المعنوية العالية لتتم السيطرة على الجسم والمادة فيه . ولا ريب أن الشريعة الإسلامية مليئة بالوصفات الروحية التي تؤدي دورها في هذا الإطار ، من قبيل الصوم والصلاة المستحبين ودفعالصدقات ومساعدة المساكين والفقراء . . وبالأخص في أشهر رجب وشعبان و رمضان ؛ الأشهر التي جعلها اللَّه بمثابة الفرصة المثالية والهدية للناس .
وهناك أمر على غاية في الأهمية ، ألا وهو ضرورة الانتباه إلى الطريقة التي نؤدي بها عباداتنا ؛ بمعنى أننا لابد وأن نسعى إلى ممارسة العبادات على الوجه الصحيح والكامل .
إن الدين الإسلامي يرشدنا ـ في هذا المجال ـ إلى طريقة ذكية جداً ، تتمثل في أن ننظر في تأدية العمل والعبادة إلى منهو فوقنا في ممارسته للعبادة ، ليكون بذلك تحريضاً على عزمنا ورغبتنا في الأعمال الصالحة التي من جملتها العبادة ، وأن ننظر إلى من هو دوننا من حيث الإمكانات المادية لتتأصل فينا القناعة والرضا بما قسم الرب جل وعلا .
ثم إن الإسلام يقول كما جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ) 4 ويقول أيضاً كما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع ) 5 ، بمعنى أن الشريعة الإلهية تحرضنا وتوجب علينا متابعة ما يجري من حولنا من تطورات ، ومن ثم نمارس اهتمامنا ونقدم يد المساعدة للمحتاجين . وفي هذا الزمن بالذات ، حيث المسلمون أحوج الناس من الجانب المادي والمعنوي ، فان ثقل المسؤولية يتضاعف ويتضاعف حتى نؤدي ما علينا من توفير الروح المعنوية في الناس ونضمن انتفاء انحرافهم ، بالإضافة إلى ما نقدم لهم من يد مساعدة مادية منتظمة وهادفة لاستئصال الجوع والفقر من بينهم .
إن في الآيات الشريفة السالفة الذكر تصور لنا حالة من حالات ما بعد دخول المؤمنين الجنة ، ودخول الكافرين والمنافقين النار ؛ حيث تتحول أعمال المؤمنين إلى نور يسعى بين أيديهم ، يتنعمون في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، مبشرين من الملائكة برضوان اللَّه الذي هو أكبر وأشرف من الجنان وما فيها . أما الكفار والمنافقون فتتحول أعمالهم الدنيوية إلى عقد نفسية وظلمات ، حتى ليستغيثوا بالمؤمنين ليتزودوا من نورهم ، ولكن هيهات أن يكون لهم ذلك ، فالملائكة تواجههم بأشد التقريع ، فيقال لهم تعجيزاً : ارجعوا إلى ورائكم ـ دنياكم ـ لعلكم تلتمسون نوراً . وحين يعترف المنافقون والكفار بالعجز عن ذلك يضرب بينهم وبين المؤمنين حجاب ؛ جهة منه فيه الرحمة لأهل الجنة ، وأخرى فيها العذاب لأهل النار .
إن اللَّه سبحانه وتعالى يستعرض في هذه الآيات جملة من الأعمال التي أدت بالمنافقين الى النار ، وهي : فتنة النفس ،والريبة بالحقائق ، والغرور بالأماني ، والتعويل على المادة ، وعدم الإيمان والتصديق بالغيب ، وقسوة القلب ، والفسق في الممارسات والمعتقدات ، والتسويف بالتوبة مع معرفة الحق .
وعلى هذا الأساس ؛ فإن المنافقين سيعيشون ـ فوق ما يعيشونه ويعانونه من عذاب النار ـ حالة من العزلة والاحتقار حتى لتكون النار مولىً لهم ؛ أي ملجأً يلجؤون منها إليها ؛ بمعنى أنهم يدورون في حلقة متكاملة من العذاب الإلهي الدائم والشديد . وقد أصابهم هذا كله بداعي رفضهم للروح واكتفائهم بالمادة ؛ المادة التي ما أن يستغنى بها عن الروح حتى تضيّع الإنسان وتكتب على مصيره العقاب . . 6 .
1. القران الكريم : سورة الحديد ( 57 ) ، الآيات : 11 - 16 ، الصفحة : 538 .
2. بحار الأنوار : 1 / 117 .
3. المصدر السابق .
4. بحار الأنوار : 71 / 338 .
5. بحار الأنوار : 74 / 191 .
6. من كتاب : الحضارة الإسلامية ، آفاق و تطلعات ، الفصل الرابع : حضارتان متقابلتان .
﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ 1 .
البشرية اليوم أشبه ما تكون بجسم عملاق رُكّب عليه رأس صغير ! إنك لو رأيت رجلاً ضخماً ؛ صدره عريض ويداه طويلتان ورجلاه أطول ، ولكن رأسه رأس طفل صغير ، فلا شك أنك ستقول بأن خللاً كبيراً حاكم على خلقته منذ الولادة.
إننا اليوم نملك قدرات هائلة ، حتى استطاع الإنسان أن يفلق الذرة ويتحكم بالجنين ويهندس الوراثة ويجوب الفضاء ، وأصبحت الأرض التي كانت في يوم من الأيام عالماً مغلقاً أمام البشر ؛ أصبحت تمسح بالأقمار الصناعية مسحا ًجيولوجياً ليكتشف ما في أعماقها من معادن وآثار وأحواض مائية ونفطية وتيارات هوائية عالية التأثير قد تتسببفي وقوع الزلازل والبراكين . . وإنسان اليوم يستطيع التحكم حتى بالنباتات ، حيث أخذ هذا التحكم وما يقف وراءهمن تقنية علمية بتوفير مواد غذائية جديدة ، واستطاع العلماء تحسين نطف الحيوانات ، فركّبوا بعضها على بعض . . . وهاهو العلم الحاضر يسعى إلى زرع خلايا الدماغ ، ويتجه إلى صنع أعضاء احتياطية حية لجسم الإنسان عبر الاستعانة بتحسين جينات الحيوانات الذكية .
وهذا التطور العلمي الحاصل لا يعني أن الإنسان قد وصل الذروة ، بل العكس هو الصحيح ، وفي ذلك إشارة واضحة ومباشرة إلى أن البشرية قد ضيعت مميزات أبلغ أهمية من التطور العلمي الذي حصلت عليه .
إن باستطاعة إنسان اليوم أن يجلس مستريحاً في بيته مطلق الاستراحة بفضل الخدمات التي ينفذها له الإنسان الآلي ،ويستطيع أيضاً تشييد مصنع معقد للسيارات المتطورة ، والتفرج على العقول الالكترونية وهي تعمل على قدم وساق لإ يعوزها نقص ؛ واحتمال ارتكاب الخطأ فيها واحد إلى المليون . . فالإنسان الآلي المبرمج من قبل الإنسان الطبيعي ينجز مسؤوليات صانعه بإتقان أشد . ولكن هذا التطور وهذا الإنجاز قد كلف البشرية الكثير الكثير من مصداقيتها و قابلياتها وروحياتها ومستقبلها .
إننا ؛ ومن منطلق مفاهيم ديننا الإسلامي لا نقول بأن السبب في تراجع البشرية هو التطور العلمي والاستفادة من طاقات الأرض والكون ، بل العكس هو الأصح تماماً . فالنصوص الدينية الواردة فيها من التحريض على استثمار الطبيعة ما لم يأت لها شبيه في دين أو عقيدة أخرى ؛ لا كماً ولا نوعاً . إن نظرتنا الدينية تؤكد بأن العلة فيما وصلت إليه البشرية من جاهلية وعدم تناسب ، هو التفكير المادي المتحكم في التعامل مع الإمكانات النهضوية .
فمن الملاحظ أن سجلات وأروقة الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية تزدحم بتسجيل براءات الاختراع والاكتشاف ، وكل يوم تطالعنا الصحافة العالمية بعشرات ؛ بل بمئات الاختراعات العلمية الحديثة الغريبة بحق . ولكن كل هذا وذاك لا يعني توفر السعادة للبشرية ، بل العكس هو الصحيح تماماً . إذ الجسم البشري أصبح كتلةً مشوهة لا تناسب فيها مطلقاً ، فالتفاوت كبير للغاية بين التطور العلمي وبين درجات كبح هذا التطور . وهناك اختلاف شاسع بين الإمكانات الطبيعية للبشرية وبين مستوى الاستقلال الذاتي لأصحاب هذه الإمكانات والموارد الحقيقيين ، فالواقع الملموس يشير إلى أن الغني يتضاعف غناه والقوي تتضاعف قوته ، فيما الفقير يزداد فقراً والضعيف يتكرس ضعفه باستمرار . وأن التطور العلمي والاكتشافات الحديثة لم تساعد في حل هذه المشكلة ، إن لم نقل إنها سبب رئيسي في وجودها واستفحالها . فلقد أصبح مَثل الجسم البشري مَثل الشاحنة المتطور تقنياً ولكن تعوزها الكوابح ، فالعالم اليوم تعوزه القيادة الحكيمة والحازمة لضبط هذه الحركة هائلة السرعة لتتحكم بها وتوصلها إلى شاطئ الأمن والسلام .
إن البشرية اليوم تتسابق مع الزمن لمجرد السباق ، إذ هي تفتقر كل الافتقار إلى وجود غاية تسير باتجاهها وإليها ؛ بمعنى أن حركة البشرية أضحت كحركة كرة الثلج الهابطة من قمة الجبل ، فهي كلما هوت إلى الأسفل كلما تضاعفت سرعتها و كبر حجمها ، ولكنها لا تعي مصيرها ، فالوعي هنا سالب بانتفاء الحياة والروح لديها .
فقد تقدم الإنسان في العصر الراهن تقدماً هائلاً في عالم الماديات ، ولكنه تضاءل وتراجع في عالم الروحانيات . ومما لا يخفى أن الروح هي الضابط الأوحد للمادة ، وهذه الروح إن لم تؤدي وظيفتها على الشكل الصحيح فإن المادة تكون ذات مردود سلبي على الإنسان . والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول بهذا الخصوص : ( إن العقل عِقال من الجهل ) 2 ؛ أي إن الإنسان لا يعدو كونه كتلة من الجهل ما لم يستعن بسلاح العقل الذي يمنعه من الاندفاع نحو الخطأ ، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : ( والنفس مثل أخبث الدواب ، فإن لم تُعقل حارت ) 3 ؛ بمعنى أن النفس البشرية حيوان هائج ، والعقل والروح والحكمة هو ما يدبّر أمورها .
بينما اليوم نجد الأسلحة الفتاكة التي تصرف لها الأموال الطائلة وتهدر لها الطاقات العلمية الجبارة يطول عنها الحديث ويطول حتى ليحس المتحدث والمستمع والكاتب والقارئ بالاشمئزاز منها . فالعلم الحديث استطاع أن يسخر الجراثيم لقتل وإبادة الناس ، وهذا السلاح بطبيعة الحال ليس سلاحاً دفاعياً أو رادعاً كما يحلو للبعض أن يقدّم تبريراته الكاذبة في إطار صناعة ونشر واستخدام الأسلحة الذرية ، حيث ضحكت الدول المالكة لهذا السلاح على بعضها البعض وعلىبقية الدول طيلة ما كان يسمى الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ، حيث كانوا ولا يزالون يعتصرونجذوة الجهود البشرية والإمكانات الطبيعية المتاحة في سبيل إحكام سيطرتهم على مقدرات هذا العالم . هذه هي الحياة التي نعيشها في الحقبة الراهنة مع بالغ الأسف والحسرة! .
والسؤال الهام جداً هنا ، هو : كيف نقاوم هذا التوجه ؟ وكيف نستطيع أن نوجّه العالم ونقوده إلى الأمن والسلام ؟
والجواب يكمن في مسألة واحدة ، وهي العودة إلى الروح وتنمية المعنويات لدى الإنسان . فالمعادلة الطبيعية واليسيرة لدى الإنسان تقول بلزوم الحفاظ على الحالة المعنوية العالية لتتم السيطرة على الجسم والمادة فيه . ولا ريب أن الشريعة الإسلامية مليئة بالوصفات الروحية التي تؤدي دورها في هذا الإطار ، من قبيل الصوم والصلاة المستحبين ودفعالصدقات ومساعدة المساكين والفقراء . . وبالأخص في أشهر رجب وشعبان و رمضان ؛ الأشهر التي جعلها اللَّه بمثابة الفرصة المثالية والهدية للناس .
وهناك أمر على غاية في الأهمية ، ألا وهو ضرورة الانتباه إلى الطريقة التي نؤدي بها عباداتنا ؛ بمعنى أننا لابد وأن نسعى إلى ممارسة العبادات على الوجه الصحيح والكامل .
إن الدين الإسلامي يرشدنا ـ في هذا المجال ـ إلى طريقة ذكية جداً ، تتمثل في أن ننظر في تأدية العمل والعبادة إلى منهو فوقنا في ممارسته للعبادة ، ليكون بذلك تحريضاً على عزمنا ورغبتنا في الأعمال الصالحة التي من جملتها العبادة ، وأن ننظر إلى من هو دوننا من حيث الإمكانات المادية لتتأصل فينا القناعة والرضا بما قسم الرب جل وعلا .
ثم إن الإسلام يقول كما جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ) 4 ويقول أيضاً كما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع ) 5 ، بمعنى أن الشريعة الإلهية تحرضنا وتوجب علينا متابعة ما يجري من حولنا من تطورات ، ومن ثم نمارس اهتمامنا ونقدم يد المساعدة للمحتاجين . وفي هذا الزمن بالذات ، حيث المسلمون أحوج الناس من الجانب المادي والمعنوي ، فان ثقل المسؤولية يتضاعف ويتضاعف حتى نؤدي ما علينا من توفير الروح المعنوية في الناس ونضمن انتفاء انحرافهم ، بالإضافة إلى ما نقدم لهم من يد مساعدة مادية منتظمة وهادفة لاستئصال الجوع والفقر من بينهم .
إن في الآيات الشريفة السالفة الذكر تصور لنا حالة من حالات ما بعد دخول المؤمنين الجنة ، ودخول الكافرين والمنافقين النار ؛ حيث تتحول أعمال المؤمنين إلى نور يسعى بين أيديهم ، يتنعمون في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، مبشرين من الملائكة برضوان اللَّه الذي هو أكبر وأشرف من الجنان وما فيها . أما الكفار والمنافقون فتتحول أعمالهم الدنيوية إلى عقد نفسية وظلمات ، حتى ليستغيثوا بالمؤمنين ليتزودوا من نورهم ، ولكن هيهات أن يكون لهم ذلك ، فالملائكة تواجههم بأشد التقريع ، فيقال لهم تعجيزاً : ارجعوا إلى ورائكم ـ دنياكم ـ لعلكم تلتمسون نوراً . وحين يعترف المنافقون والكفار بالعجز عن ذلك يضرب بينهم وبين المؤمنين حجاب ؛ جهة منه فيه الرحمة لأهل الجنة ، وأخرى فيها العذاب لأهل النار .
إن اللَّه سبحانه وتعالى يستعرض في هذه الآيات جملة من الأعمال التي أدت بالمنافقين الى النار ، وهي : فتنة النفس ،والريبة بالحقائق ، والغرور بالأماني ، والتعويل على المادة ، وعدم الإيمان والتصديق بالغيب ، وقسوة القلب ، والفسق في الممارسات والمعتقدات ، والتسويف بالتوبة مع معرفة الحق .
وعلى هذا الأساس ؛ فإن المنافقين سيعيشون ـ فوق ما يعيشونه ويعانونه من عذاب النار ـ حالة من العزلة والاحتقار حتى لتكون النار مولىً لهم ؛ أي ملجأً يلجؤون منها إليها ؛ بمعنى أنهم يدورون في حلقة متكاملة من العذاب الإلهي الدائم والشديد . وقد أصابهم هذا كله بداعي رفضهم للروح واكتفائهم بالمادة ؛ المادة التي ما أن يستغنى بها عن الروح حتى تضيّع الإنسان وتكتب على مصيره العقاب . . 6 .
1. القران الكريم : سورة الحديد ( 57 ) ، الآيات : 11 - 16 ، الصفحة : 538 .
2. بحار الأنوار : 1 / 117 .
3. المصدر السابق .
4. بحار الأنوار : 71 / 338 .
5. بحار الأنوار : 74 / 191 .
6. من كتاب : الحضارة الإسلامية ، آفاق و تطلعات ، الفصل الرابع : حضارتان متقابلتان .