melika
07-11-2007, 03:01 PM
دور المراقد في نهضة الشعوب
إنّ أهم شيء يتوصل إليه الباحث لتاريخ المراقد هو مدى التأثير الإيجابي الذي تتركه هذه المراقد في المجتمعات المحيطة بها، وذلك لارتباطها الوثيق بمعتقدات تلك الشعوب، ممّا يخلّف تلاحماً وثيقاً واندماجاً روحياً يؤدّي إلى مدّ الجسور بين أبناء الشعوب في مختلف مجالات الحياة، ولعلّ من أبرز هذه الأدوار هو الدور: الديني، الثقافي، العلاقاتي، السياسي، الاقتصادي، الفني، والعمراني. وهذه الأدوار تستحقّ مناقشتها نقاشاً علمياً، وتستأهل أن تُفرد لها مجلدات يتولى أمرَها متخصّصون في مختلف العلوم الاجتماعية والعلمية، إذ لا يقتصر البحث على تلك التي أشرنا إليها بل هناك أمور نفسية (1).
الدور السياسي للمراقد
السلطات والحكومات الجائرة ـ ومنذ اليوم الأول ـ قامت وارتكزت على الكذب والزيف وتغيير الحقائق وخداع الشعوب واستغفالها.
فمن الطبيعي أنّ لكل شعب معتقداته ومفاهيمه وتقاليده ومقدساته، إضافة إلى تصوراته الخاصة حول الكون والحياة وأمور الدين والمعتقد، والحكومات اللاشرعية التي لا تراعي الأُسس الإنسانية والإلهية حاولت وتحاول ومنذ العهد الأول استخدام واستغلال عواطف ومشاعر الناس لمصالحها، والتي من أهمها على الإطلاق دعم بقائها في الحكم وتثبيت ركائزه، فنراها تهيج عواطف الشعوب إن سلباً أو إيجاباً لتثبيت أمر ما أو لدفع ضرر يحيق بها، ولكنها تغفل العواقب السيئة في الأمد البعيد، لأنها لا تنظر إلى أبعد من أنفها ولا تفكر للمستقبل وللتاريخ، إذ ليس من المعقول وحسب منطقها التخلّي عن مصالحها الآنية، فعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة. لذا فان كل التبعات والسيئات ومظالم المجتمع تقع على كاهلها لأنها هي التي سيّرت الشعوب في الاتجاه الذي ترضاه وفقاً لمصالحها، وما زالت سياستها قائمة على القتل والتشريد بحق شعوبها من أجل قبول اتفاقية أو تمرير مؤامرة سياسية، كان من الصعب تنفيذها أو تمريرها مباشرة دون اللجوء إلى السبل المزيفة والمخادعة وما أكثرها، ولنا على ذلك أمثلة كثيرة حية تنطق بالحق نتجنب ذكرها خوفاً من تحسس مرارة الحق (2).
وإذا كانت هذه الحكومات على حق وجاءت لمصلحة شعوبها وأبنائها، فَلِمَ كل هذا الاضطهاد والعسف والتشريد والتهجير والقتل والدمار دون أدنى رأفة ورحمة ؟!
وعودة إلى صلب موضوعنا ألا وهو الدور السياسي للعتبات المقدسة وأثرها في رسم أطر الدول ونهجها، ولعلنا للوهلة الأولى لا ندرك مدى تأثير هذا الدَّور، أو ربما ننسب تأثيره للماضي البعيد بسبب تطور أساليب الحكم وتغير نهج الدول في الوقت الحاضر، ولكن الأمر يتضح بمجرد دراسة الوضع السياسي لدول اليوم فنجد أن الحقيقة في الماضي والحاضر واحدة، وهي أنّ الدول تقام على أكتاف الشعوب، وأن الدوافع والمصالح السياسية للدول والحكومات كانت على الدوام هي السبب الرئيسي لتحريك عواطف الشعوب وتسخير معتقداتها.
وإذا راجعنا تاريخ الماضي والحاضر، وتمكنا من دراسته بإمعان وبصيرة وفهم معطياته وتحركات دوائر الحكم وقواه السياسية ومناورات السلطات وقارناها مع الحاضر، لظهرت لنا حقيقة واحدة لا مفرّ منها وهي أن التاريخ يعيد نفسه، وأن للحكم ثوابتَ لا تتغير وإنما المتغير منها هو الأساليب فقط.
فلدى مراجعتنا لتاريخ الروضة الحسينية نرى أن الدول التي أرادت فرض سيطرتها على منطقة الشرق الإسلامي كلاً أو بعضاً، إسلامية كانت أم أجنبية، مباشرة كانت أو غير مباشرة، لجأت إلى سياسة الترغيب والترهيب، وسياسية العطف والعنف، بدءاً بالدولة الأموية ومروراً بعهود الظلم التي توالت على حكم عالمنا الإسلامي وانتهاءً بالدول العظمى التي حشرت أنفها في المنطقة بغرض السيطرة عليها واستنزاف قدراتها الماديّة والمعنوية. فمنذ اللحظة الأولى التي استُشهد فيها الإمام الحسين عليه السّلام وضع الحكم الأموي العقبات والموانع متشبثاً بكل الوسائل والحجج لمنع الناس من زيارة قبره الشريف، وما ذلك إلا لمعرفة الحكّام الأمويين بعظمة الراقد في هذا المرقد وعلمهم بعمق تأثيره في النفوس التي تستلهم منه القوة والعزم والإصرار على الثورة ضد الظالمين، فمراسم زيارة القبر من دعاء وأعمال إذاً عمل سياسي مُعارِض في عرف بني أُمية يجب وقفه بشتى السبل والطرق.
لقد كان لهذا القبر الشريف الحي بنهضته والدائم الإشعاع أثر بالغ الوقع والتأثير في الكثير من الأحداث والوقائع والثورات على مر العصور والأزمان. ومن ذلك وقفة التوّابين (3) على قبره الشريف ومخاطبتهم إياه؛ ليطلبوا التوبة عنده وليستمدوا منه العزم والقوة لمحاربة الأعداء، إيماناً منهم بأن حياة الفكر أبقى من حياة الجسد. ثم تأتي ثورة المختار الثقفي (4) لتستثمر حب وعواطف الناس وإيمانهم بعظمة الإمام الحسين عليه السّلام وأنصاره، فتثور على الدولة الأموية ذات الشوكة والبطش.
وما أن تولّى المروانيون الأمر حتّى منعوا من جديد زوار قبره الشريف دون أن يجرؤوا على مسّ القبر المطهّر خوفاً من خدش مشاعر الناس ومعتقداتهم، ولكنهم حاولوا كأسلافهم السير بذات النهج المخادع للبقاء في الحكم، فعملوا بكل وقاحة وحقد على سبه وشتمه وهو الراقد البعيد عن عاصمة ملكهم، لا لشيء إلاّ لمحو ذكره وتشويه صورته في أذهان العامة من الناس، ليستتب لهم الأمر ويدوم لهم الملك.
ولكن هيهات أن يهنأ لهم الحال وتستقر بهم الأمور إذ قامت هنا ثورة زيد (5) وهناك ثورة صاحب « فخ » (6) فتُولَد ثورة من رحم ثورة، وتتواصل الثورات والانتفاضات لتطالب بالثأر لهذا الراقد تحت الثرى.
واستغلّ العباسيون سوء الوضع وتردّيه على أثر العنف المتزايد الذي استخدمه الأمويون بحق أتْباع ومحبّي هذا المدفون بكربلاء، فقاموا وباسم قرابة الدم بتأليب الوضع وإثارته من أدنى البلاد إلى أقصاها مستغلين حب الناس وتعلقهم وإخلاصهم لهذا الراقد الأشم.
ولما آل الأمر إليهم واستتب لهم الحكم ورسخ سلطانهم، كُشف عنهم القناع وظهر زيفهم بعد طول كذب ومواراة، فجاء المنصور العباسي (7) ليأمر بهدم قبر الحسين عليه السّلام ويمنع الموالين من زيارته، وأعقبه هارون (8) فنهج نهجه إلى أن وصل المتوكّل (9) إلى الحكم فحرث القبر أربع مرات؛ أملاً في محو أثره وذكره من القلوب والنفوس، وهو بفعلته هذه أجّج غضب الناس وكرّه نفسه فرموه بأشعارهم، ورجموه بكلماتهم (10)، وعلى اثر ذلك قتله ابنه (11) شرَّ قتلة عقاباً له لحرثه قبر من دفن قبل عشرات السنين بأرض الطف.
نعم اقتضت سياسة الحكومات والإمبراطوريات التي تعاقبت تعظيمَ هذا القبر وإعماره، بينما سعت أخرى إلى هدمه ومحاولة إطفاء نوره، ولكنْ أبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره.
فهنالك حكومات عربية وتركية وفارسية وتركمانية كانت تتسابق تارة إلى إبداء احترامها وإظهار تقديسها لهذا القبر وتبجيله وصرف المبالغ الطائلة التي قُدّرت بملايين الدنانير الذهبية من أجل إعماره، وتارةً تأتي حكومات أخرى لتنهب هذه الأموال أو لتصرفها على جندها وعتادها.
كل هذا يشير إلى ما لهذا القبر الشريف من أهمية سياسية في هذه المنطقة الحساسة والمهمّة من عالمنا الإسلامي، فعلى الحب والولاء أو البغض والمعاداة لصاحب هذا القبر المطهر، حكَمَ سلاطينٌ وولاة وهوَت عروش وكراسٍ وقُتل ملوك وقادة، وإلى هذا يشير الكليدار (12) لدى تطرّقه لزيارة السلطان سليمان القانونيّ لقبر الإمام الحسين عليه السّلام وأبيه أمير المؤمنين عليه السّلام والكيفية التي زارهما بها من إبداء الخضوع والخشوع والترجّل من مسافة بعيدة، فما أن وقعت عيناه على القبّة المنورة حتّى ارتعشت أعضاؤه فلم يستطع الركوب على الفرس، فأنشد يقول:
تزاحمُ تيجانُ الملوك ببابِهِويكثرُ عند الإستلام ازدحامُهاإذا ما رأتْه من بعيدٍ ترجّلَتْوإنْ هيَ لم تَفعل ترجّل هامُهاويُستنتج من ذلك مدى ما كان للعتبات المقدسة في العراق من القوة والنفوذ والتأثير في التوازن الدوليّ في الشرق الإسلامي، وإلى أيّ درجة كان السلطان سليمان القانوني (13) بطل الحروب والفتوح الذي دوّخ أوروبا مدةَ حكمه فطوى رقعة البلاد الأوروبية الشرقية فوقف على أبواب ( فيينا ) (14) عاصمة أعظم إمبراطورية في ذلك الوقت، يحاول التقرّب إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف ويسعى في جلب رضاها وكسب ودّها، فأين صارت قوّتها المعنوية تلك ؟ ومَن قضى عليها يا ترى ؟!
فإنّ ما قام به من خدمات جليلة للعتبات المقدسة، ثم استمداده من أرواح الأئمّة فترجّله عن الفرس عند رؤيته القبةَ المنوّرة عن بُعد ومسيره مشياً على الأقدام إلى النجف، وقطعه لسان مَن كذّب قصة مُرّة بن قيس (15)، وقتله مَن فضّله على أمير المؤمنين لكونه الخليفة الحي، فلم يكن ذلك كلّه كسب ودّ العتبات المقدسة إلى جانبه، تلك العتبات التي كان لها التأثير البليغ في التوازن الدولي في الشرق و « كان يشعّ منها نفوذ قويّ الوقع » (16)، فكان يتوقّف عليه مصير السلطان وحكمه في هذه البلاد (17) ضدهم بأمل كسر شوكتهم ووَقْفِ تقدّم الجيش البريطاني والدعوة لالتحاق الفارين من الجيش العثماني من أبناء جنوب العراق، ومن تلك السبل تشويه سمعة وتصرفات الجيش البريطاني في نظر الشعب العراقي وكل الشعوب المسلمة، فقامت الحكومة العثمانية بنشر إشاعات ودعايات تذكرهم بسوء، منها ما ذكره طعمة (18) قائلاً:
« ذكرت الجريدة الرسمية ـ صدى الإسلام ـ (19) أن الإنكليز يأتون بأطباء وطبيبات لتلقين المريض المسلم الديانة المسيحية، وأنهم يضربون الناقوس ضرباً شديداً وقت الأذان كي لا يسمع المؤمنون ( لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله ). وعندما ذكر الناس ذلك للحاكم العسكري أجابهم: ( قريباً ندقه على منابر كربلاء والنجف وقبة عبدالقادر الكيلاني ) (20)، ( وأن الاحتلال يسيطر على أوقاف المعابد الإسلامية وينفق أموالها على الكنائس ) (21). كما قامت حكومة الاحتلال بخطوة معاكسة لتشويه صورة العثمانيين في أذهان الناس في العراق فدرجت جريدة العرب (22) الرسمية الموالية للبريطانيين على الضرب على أوتار النعرة الطائفية للعثمانيين وإبراز محاسن المحتلّ البريطاني وإظهار إحترامه للمقدسات الدينية وأماكن العبادة، وفي هذا الصدد تذكر الجريدة ما حدث في كربلاء بقولها: « إذ رمى الأتراك قنابلهم على القبة المطهرة ـ قبة الحسين عليه السّلام ـ وقذفوا مئات مثلها على الساعة الكبيرة في الروضة العباسية المقدسة (23)، وفي معرض الإثارة هذه نسبت الصحيفة في نفس العدد إلى القائد العام التركي خليل باشا قوله: « لأخرّبنّ وأنسفنّ ضريحَي الحسين وعليّ بن أبي طالب وأنقل ما فيهما إلى المدينة »، وتهدف الإثارة إلى نفي أن يكون للعثمانيين خدمة لهذه الرياض المقدسة حيث تُوجِّه الجريدة سؤالها إلى القراء فتقول: « وهل سمعت في حياتك أنهم خدموا الروضات المطهّرة خدمةً تُذكر ؟! » (24).
على أن ملوك إيران عندما كانوا يأتون للزيارة فإنهم كانوا يبيتون خارج المدينة تهيؤاً واستعداداً للقاء هذا المدفون تحت الثرى منذ وقعة الطف الدامية، ثمّ يَقْدمون إلى حرمه في أتم الخشوع والتجرد فيقبّلون عتبة باب روضته مستأذنين الدخول، ويعكفون الليل عنده بالدعاء والتوسل، نخصّ منهم الديالمة البويهيين (25) والصفويين (26) وغيرهم. أما الوهابية (27) التي حكمت الحجاز ونجد (28)، فإنّها أغارت على مدينة كربلاء (29) وهتكت حُرمة كل خزائنه وتحفه النفيسة لتتمكّن بما استحوذته من ثروة من نشر مبادئها وتعاليمها وإقامة حكومتها في الجزيرة العربية، على أن القرامطة (30) والشعشاعيين (31) كانوا قد سبقوهم في فعل النهب والسرقة من الحرم الحسيني.
وعلى عكس هؤلاء تماماً يقتبس غاندي محرّر الهند قبساً من نور وفكر سيد الشهداء عليه السّلام، فيرسم لنفسه منهاجاً مستوحىً من نهج الحسين ويسلك طريقاً عبّده أبو الأحرار مِن قَبله، إذ يقول قولته المشهورة: « تعلّمتُ من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ».
وإلى سنين خلت من زماننا المعاصر نرى أن بهلوي الثاني (32) يترك بلاده هارباً على أثر ثورة مصدّق (33) النفطية فيزور مرقد الإمام الحسين عليه السّلام ويقف أمام ضريحه طارقاً برأسه باكياً متوسلاً راجياً العودة للحكم والسلطة، فتقوم الصحافة الموالية بنشر الخبر وتصوّره وهو بهذا الحال من الخشوع والمسكنة لتستميل عواطف الشعب الإيراني بمظهر المتديّن الموالي.
إن هذه الظواهر والتصرفات لا يمكن تفسيرها وفهم مدلولاتها وأبعادها الحقيقية إلا حينما ندرك البعد السياسي العظيم لصاحب هذا القبر الشريف.
على أن ملوك ورؤساء وأمراء العالم وشخصياته البارزة كانوا لدى زيارتهم للعراق يقصدون زيارة الإمام الحسين عليه السّلام ليثبتوا لشعوبهم ومريديهم ولاءهم لصاحب القبر، وليبرهنوا بأنهم على خُطاه وخطى جده صلّى الله عليه وآله وأبيه عليه السّلام علّ ذلك ينفعهم للبقاء أو الوصول إلى الحكم.
وفي حرب الخليج الثانية (34) وفي معرض إظهار احترامه لمقدسات الشعوب، أكّد جورج بوش (35) احترامه للعتبات المقدسة مؤكداً أن قوات التحالف سوف لا تتعرّض لها بأدنى سوء (36)، وفي حرب إعلامية مضادة اتّهم صدام حسين (37) قوات التحالف بقصف الروضة المقدسة (38).
ثم نراه هو وجلاوزته يقصفون تلك القباب المنورة (39) ويدنّسون الحضرة المطهرة في أعقاب حرب الخليج وهزيمته فيها، وتبجّح رئيس أركانه حسين كامل (40) مخاطباً الإمام الحسين عليه السّلام بقوله ( أنا حسين وأنت الحسين، فلنَرَ من هو الأقوى ) (41). غايته كسر معنويات هذا الشعب الثائر الذي أراد أن ينتهج في انتفاضته (42) نهج صاحب هذا القبر الشريف.
ومما يتناقله أبناء هذه المدينة المقدسة أنّه ما من ظالمٍ أو متجبر من الملوك والرؤساء زار المرقد زيارة رسمية وعلنية أيام حكمه إلا وهلك أو أُزيح عن سدّة الحكم ولو بعد حين.
وكان للخلاف السياسي شبه المستمر الذي حكم العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية والإيرانية أثره البالغ في إغلاق أو فتح باب الزيارة للعتبات المقدسة، فهذا مدحت باشا (43) والي بغداد الذي سبق له أن هاجم مدينة كربلاء يوجّه دعوة للسلطان الإيراني (44) لزيارة العتبات المقدسة وعلى نفقة الإمبراطورية العثمانية، وهذا ملك إيران رضا بهلوي (45) يمنع الزوّار من الذهاب إلى العراق بقصد زيارة العتبات المقدسة لأسباب سياسية، ومع هذا يعتذر للرأي العام ويختلق الحجج خوفاً من الأبعاد السيئة لهذا المنع.
ومن الآثار القيمة والأبعاد المفيدة لوجود هذه العتبات المقدسة هو عمق تأثيرها في سياسة الحكام وسلوكهم واعتدال تصرفاتهم وتوازنها، وفي هذا الصدد ينقل الرهيمي (46) عن فيليب (47) في معرض ذكره لسيرة الملك فيصل الأول (48) حيث يقول: « ومنذ قدوم الملك فيصل إلى العراق كان يبدي تقرباً من علماء النجف وكربلاء والكاظمية عبر تقديم نفسه على أنه شيعي المذهب، وعبر زيارته العتبات المقدسة وتأديته الصلاة وفقاً للتقاليد الإسلامية الشيعية » (49)، ويتطرق النفيسي (50) لدى بحثه عن تطور العراق السياسي وقيام الشيعة ضد الإحتلال البريطاني وعن ثورة العشرين ودور المراقد المقدسة حيث يقول: « وقد يُنظَر إلى هذه المقامات على أنها مجرد مراكز دينية ذات نفوذ واسع، ولكن المرء لا يستطيع أن يتغاضى عن كونها إلى جانب هذا ذاتَ نفوذ سياسي واسع النطاق بصفتها ملاذاً يلجأ إليه الزعماء السياسيون في أوقات الضيق عندما تنشأ أزمة حادة بينهم وبين السلطة العلمانية » (51).
وبالنظر للأهمية السياسية والمكانة المعنوية لمدينة الحسين عليه السّلام فقد انطلقت منها شرارة ثورة العشرين، واتّخذ قادة الثورة من كربلاء مركزاً للقيادة التي تمخّض عنها استقلال العراق وتأسيس دولته الحديثة، وفيها صُمِّم عَلَم الاستقلال وشهدت المدينة مراسم رفع العلم للدولة العراقية الحديثة لأوّل مرة فوق بناية السراي (52) في احتفال حاشد حضرته وفود من أنحاء العراق كافة وذلك في يوم الغدير من عام 1338 هـ (53).
هذا وقد صرح قادة الثورة الإسلامية في إيران مراراً بأنهم استلهموا مبادئ ثورتهم هذه من نهضة الإمام الحسين عليه السّلام، وقد لمست بنفسي ذلك حينما زرت السيّد الخميني (54) في مقر إقامته المؤقت في باريس (55) في أوج أحداث الثورة فوجدته قد التزم ختمة زيارة عاشوراء (56) ولمدة أربعين يوماً بتعجيل النصر وإسقاط حكومة بهلوي.
وفي هذا السياق قد أعلنوا بأن عدد قتلى حادث تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في طهران عام 1401 هـ بلغ اثنين وسبعين قتيلاً تيمّناً بعدد ما اشتهر من من قتلى الطف؛ وما ذلك إلاّ لمكانة الإمام الحسين عليه السّلام في نفوس الناس.
إنّ أهم شيء يتوصل إليه الباحث لتاريخ المراقد هو مدى التأثير الإيجابي الذي تتركه هذه المراقد في المجتمعات المحيطة بها، وذلك لارتباطها الوثيق بمعتقدات تلك الشعوب، ممّا يخلّف تلاحماً وثيقاً واندماجاً روحياً يؤدّي إلى مدّ الجسور بين أبناء الشعوب في مختلف مجالات الحياة، ولعلّ من أبرز هذه الأدوار هو الدور: الديني، الثقافي، العلاقاتي، السياسي، الاقتصادي، الفني، والعمراني. وهذه الأدوار تستحقّ مناقشتها نقاشاً علمياً، وتستأهل أن تُفرد لها مجلدات يتولى أمرَها متخصّصون في مختلف العلوم الاجتماعية والعلمية، إذ لا يقتصر البحث على تلك التي أشرنا إليها بل هناك أمور نفسية (1).
الدور السياسي للمراقد
السلطات والحكومات الجائرة ـ ومنذ اليوم الأول ـ قامت وارتكزت على الكذب والزيف وتغيير الحقائق وخداع الشعوب واستغفالها.
فمن الطبيعي أنّ لكل شعب معتقداته ومفاهيمه وتقاليده ومقدساته، إضافة إلى تصوراته الخاصة حول الكون والحياة وأمور الدين والمعتقد، والحكومات اللاشرعية التي لا تراعي الأُسس الإنسانية والإلهية حاولت وتحاول ومنذ العهد الأول استخدام واستغلال عواطف ومشاعر الناس لمصالحها، والتي من أهمها على الإطلاق دعم بقائها في الحكم وتثبيت ركائزه، فنراها تهيج عواطف الشعوب إن سلباً أو إيجاباً لتثبيت أمر ما أو لدفع ضرر يحيق بها، ولكنها تغفل العواقب السيئة في الأمد البعيد، لأنها لا تنظر إلى أبعد من أنفها ولا تفكر للمستقبل وللتاريخ، إذ ليس من المعقول وحسب منطقها التخلّي عن مصالحها الآنية، فعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة. لذا فان كل التبعات والسيئات ومظالم المجتمع تقع على كاهلها لأنها هي التي سيّرت الشعوب في الاتجاه الذي ترضاه وفقاً لمصالحها، وما زالت سياستها قائمة على القتل والتشريد بحق شعوبها من أجل قبول اتفاقية أو تمرير مؤامرة سياسية، كان من الصعب تنفيذها أو تمريرها مباشرة دون اللجوء إلى السبل المزيفة والمخادعة وما أكثرها، ولنا على ذلك أمثلة كثيرة حية تنطق بالحق نتجنب ذكرها خوفاً من تحسس مرارة الحق (2).
وإذا كانت هذه الحكومات على حق وجاءت لمصلحة شعوبها وأبنائها، فَلِمَ كل هذا الاضطهاد والعسف والتشريد والتهجير والقتل والدمار دون أدنى رأفة ورحمة ؟!
وعودة إلى صلب موضوعنا ألا وهو الدور السياسي للعتبات المقدسة وأثرها في رسم أطر الدول ونهجها، ولعلنا للوهلة الأولى لا ندرك مدى تأثير هذا الدَّور، أو ربما ننسب تأثيره للماضي البعيد بسبب تطور أساليب الحكم وتغير نهج الدول في الوقت الحاضر، ولكن الأمر يتضح بمجرد دراسة الوضع السياسي لدول اليوم فنجد أن الحقيقة في الماضي والحاضر واحدة، وهي أنّ الدول تقام على أكتاف الشعوب، وأن الدوافع والمصالح السياسية للدول والحكومات كانت على الدوام هي السبب الرئيسي لتحريك عواطف الشعوب وتسخير معتقداتها.
وإذا راجعنا تاريخ الماضي والحاضر، وتمكنا من دراسته بإمعان وبصيرة وفهم معطياته وتحركات دوائر الحكم وقواه السياسية ومناورات السلطات وقارناها مع الحاضر، لظهرت لنا حقيقة واحدة لا مفرّ منها وهي أن التاريخ يعيد نفسه، وأن للحكم ثوابتَ لا تتغير وإنما المتغير منها هو الأساليب فقط.
فلدى مراجعتنا لتاريخ الروضة الحسينية نرى أن الدول التي أرادت فرض سيطرتها على منطقة الشرق الإسلامي كلاً أو بعضاً، إسلامية كانت أم أجنبية، مباشرة كانت أو غير مباشرة، لجأت إلى سياسة الترغيب والترهيب، وسياسية العطف والعنف، بدءاً بالدولة الأموية ومروراً بعهود الظلم التي توالت على حكم عالمنا الإسلامي وانتهاءً بالدول العظمى التي حشرت أنفها في المنطقة بغرض السيطرة عليها واستنزاف قدراتها الماديّة والمعنوية. فمنذ اللحظة الأولى التي استُشهد فيها الإمام الحسين عليه السّلام وضع الحكم الأموي العقبات والموانع متشبثاً بكل الوسائل والحجج لمنع الناس من زيارة قبره الشريف، وما ذلك إلا لمعرفة الحكّام الأمويين بعظمة الراقد في هذا المرقد وعلمهم بعمق تأثيره في النفوس التي تستلهم منه القوة والعزم والإصرار على الثورة ضد الظالمين، فمراسم زيارة القبر من دعاء وأعمال إذاً عمل سياسي مُعارِض في عرف بني أُمية يجب وقفه بشتى السبل والطرق.
لقد كان لهذا القبر الشريف الحي بنهضته والدائم الإشعاع أثر بالغ الوقع والتأثير في الكثير من الأحداث والوقائع والثورات على مر العصور والأزمان. ومن ذلك وقفة التوّابين (3) على قبره الشريف ومخاطبتهم إياه؛ ليطلبوا التوبة عنده وليستمدوا منه العزم والقوة لمحاربة الأعداء، إيماناً منهم بأن حياة الفكر أبقى من حياة الجسد. ثم تأتي ثورة المختار الثقفي (4) لتستثمر حب وعواطف الناس وإيمانهم بعظمة الإمام الحسين عليه السّلام وأنصاره، فتثور على الدولة الأموية ذات الشوكة والبطش.
وما أن تولّى المروانيون الأمر حتّى منعوا من جديد زوار قبره الشريف دون أن يجرؤوا على مسّ القبر المطهّر خوفاً من خدش مشاعر الناس ومعتقداتهم، ولكنهم حاولوا كأسلافهم السير بذات النهج المخادع للبقاء في الحكم، فعملوا بكل وقاحة وحقد على سبه وشتمه وهو الراقد البعيد عن عاصمة ملكهم، لا لشيء إلاّ لمحو ذكره وتشويه صورته في أذهان العامة من الناس، ليستتب لهم الأمر ويدوم لهم الملك.
ولكن هيهات أن يهنأ لهم الحال وتستقر بهم الأمور إذ قامت هنا ثورة زيد (5) وهناك ثورة صاحب « فخ » (6) فتُولَد ثورة من رحم ثورة، وتتواصل الثورات والانتفاضات لتطالب بالثأر لهذا الراقد تحت الثرى.
واستغلّ العباسيون سوء الوضع وتردّيه على أثر العنف المتزايد الذي استخدمه الأمويون بحق أتْباع ومحبّي هذا المدفون بكربلاء، فقاموا وباسم قرابة الدم بتأليب الوضع وإثارته من أدنى البلاد إلى أقصاها مستغلين حب الناس وتعلقهم وإخلاصهم لهذا الراقد الأشم.
ولما آل الأمر إليهم واستتب لهم الحكم ورسخ سلطانهم، كُشف عنهم القناع وظهر زيفهم بعد طول كذب ومواراة، فجاء المنصور العباسي (7) ليأمر بهدم قبر الحسين عليه السّلام ويمنع الموالين من زيارته، وأعقبه هارون (8) فنهج نهجه إلى أن وصل المتوكّل (9) إلى الحكم فحرث القبر أربع مرات؛ أملاً في محو أثره وذكره من القلوب والنفوس، وهو بفعلته هذه أجّج غضب الناس وكرّه نفسه فرموه بأشعارهم، ورجموه بكلماتهم (10)، وعلى اثر ذلك قتله ابنه (11) شرَّ قتلة عقاباً له لحرثه قبر من دفن قبل عشرات السنين بأرض الطف.
نعم اقتضت سياسة الحكومات والإمبراطوريات التي تعاقبت تعظيمَ هذا القبر وإعماره، بينما سعت أخرى إلى هدمه ومحاولة إطفاء نوره، ولكنْ أبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره.
فهنالك حكومات عربية وتركية وفارسية وتركمانية كانت تتسابق تارة إلى إبداء احترامها وإظهار تقديسها لهذا القبر وتبجيله وصرف المبالغ الطائلة التي قُدّرت بملايين الدنانير الذهبية من أجل إعماره، وتارةً تأتي حكومات أخرى لتنهب هذه الأموال أو لتصرفها على جندها وعتادها.
كل هذا يشير إلى ما لهذا القبر الشريف من أهمية سياسية في هذه المنطقة الحساسة والمهمّة من عالمنا الإسلامي، فعلى الحب والولاء أو البغض والمعاداة لصاحب هذا القبر المطهر، حكَمَ سلاطينٌ وولاة وهوَت عروش وكراسٍ وقُتل ملوك وقادة، وإلى هذا يشير الكليدار (12) لدى تطرّقه لزيارة السلطان سليمان القانونيّ لقبر الإمام الحسين عليه السّلام وأبيه أمير المؤمنين عليه السّلام والكيفية التي زارهما بها من إبداء الخضوع والخشوع والترجّل من مسافة بعيدة، فما أن وقعت عيناه على القبّة المنورة حتّى ارتعشت أعضاؤه فلم يستطع الركوب على الفرس، فأنشد يقول:
تزاحمُ تيجانُ الملوك ببابِهِويكثرُ عند الإستلام ازدحامُهاإذا ما رأتْه من بعيدٍ ترجّلَتْوإنْ هيَ لم تَفعل ترجّل هامُهاويُستنتج من ذلك مدى ما كان للعتبات المقدسة في العراق من القوة والنفوذ والتأثير في التوازن الدوليّ في الشرق الإسلامي، وإلى أيّ درجة كان السلطان سليمان القانوني (13) بطل الحروب والفتوح الذي دوّخ أوروبا مدةَ حكمه فطوى رقعة البلاد الأوروبية الشرقية فوقف على أبواب ( فيينا ) (14) عاصمة أعظم إمبراطورية في ذلك الوقت، يحاول التقرّب إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف ويسعى في جلب رضاها وكسب ودّها، فأين صارت قوّتها المعنوية تلك ؟ ومَن قضى عليها يا ترى ؟!
فإنّ ما قام به من خدمات جليلة للعتبات المقدسة، ثم استمداده من أرواح الأئمّة فترجّله عن الفرس عند رؤيته القبةَ المنوّرة عن بُعد ومسيره مشياً على الأقدام إلى النجف، وقطعه لسان مَن كذّب قصة مُرّة بن قيس (15)، وقتله مَن فضّله على أمير المؤمنين لكونه الخليفة الحي، فلم يكن ذلك كلّه كسب ودّ العتبات المقدسة إلى جانبه، تلك العتبات التي كان لها التأثير البليغ في التوازن الدولي في الشرق و « كان يشعّ منها نفوذ قويّ الوقع » (16)، فكان يتوقّف عليه مصير السلطان وحكمه في هذه البلاد (17) ضدهم بأمل كسر شوكتهم ووَقْفِ تقدّم الجيش البريطاني والدعوة لالتحاق الفارين من الجيش العثماني من أبناء جنوب العراق، ومن تلك السبل تشويه سمعة وتصرفات الجيش البريطاني في نظر الشعب العراقي وكل الشعوب المسلمة، فقامت الحكومة العثمانية بنشر إشاعات ودعايات تذكرهم بسوء، منها ما ذكره طعمة (18) قائلاً:
« ذكرت الجريدة الرسمية ـ صدى الإسلام ـ (19) أن الإنكليز يأتون بأطباء وطبيبات لتلقين المريض المسلم الديانة المسيحية، وأنهم يضربون الناقوس ضرباً شديداً وقت الأذان كي لا يسمع المؤمنون ( لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله ). وعندما ذكر الناس ذلك للحاكم العسكري أجابهم: ( قريباً ندقه على منابر كربلاء والنجف وقبة عبدالقادر الكيلاني ) (20)، ( وأن الاحتلال يسيطر على أوقاف المعابد الإسلامية وينفق أموالها على الكنائس ) (21). كما قامت حكومة الاحتلال بخطوة معاكسة لتشويه صورة العثمانيين في أذهان الناس في العراق فدرجت جريدة العرب (22) الرسمية الموالية للبريطانيين على الضرب على أوتار النعرة الطائفية للعثمانيين وإبراز محاسن المحتلّ البريطاني وإظهار إحترامه للمقدسات الدينية وأماكن العبادة، وفي هذا الصدد تذكر الجريدة ما حدث في كربلاء بقولها: « إذ رمى الأتراك قنابلهم على القبة المطهرة ـ قبة الحسين عليه السّلام ـ وقذفوا مئات مثلها على الساعة الكبيرة في الروضة العباسية المقدسة (23)، وفي معرض الإثارة هذه نسبت الصحيفة في نفس العدد إلى القائد العام التركي خليل باشا قوله: « لأخرّبنّ وأنسفنّ ضريحَي الحسين وعليّ بن أبي طالب وأنقل ما فيهما إلى المدينة »، وتهدف الإثارة إلى نفي أن يكون للعثمانيين خدمة لهذه الرياض المقدسة حيث تُوجِّه الجريدة سؤالها إلى القراء فتقول: « وهل سمعت في حياتك أنهم خدموا الروضات المطهّرة خدمةً تُذكر ؟! » (24).
على أن ملوك إيران عندما كانوا يأتون للزيارة فإنهم كانوا يبيتون خارج المدينة تهيؤاً واستعداداً للقاء هذا المدفون تحت الثرى منذ وقعة الطف الدامية، ثمّ يَقْدمون إلى حرمه في أتم الخشوع والتجرد فيقبّلون عتبة باب روضته مستأذنين الدخول، ويعكفون الليل عنده بالدعاء والتوسل، نخصّ منهم الديالمة البويهيين (25) والصفويين (26) وغيرهم. أما الوهابية (27) التي حكمت الحجاز ونجد (28)، فإنّها أغارت على مدينة كربلاء (29) وهتكت حُرمة كل خزائنه وتحفه النفيسة لتتمكّن بما استحوذته من ثروة من نشر مبادئها وتعاليمها وإقامة حكومتها في الجزيرة العربية، على أن القرامطة (30) والشعشاعيين (31) كانوا قد سبقوهم في فعل النهب والسرقة من الحرم الحسيني.
وعلى عكس هؤلاء تماماً يقتبس غاندي محرّر الهند قبساً من نور وفكر سيد الشهداء عليه السّلام، فيرسم لنفسه منهاجاً مستوحىً من نهج الحسين ويسلك طريقاً عبّده أبو الأحرار مِن قَبله، إذ يقول قولته المشهورة: « تعلّمتُ من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ».
وإلى سنين خلت من زماننا المعاصر نرى أن بهلوي الثاني (32) يترك بلاده هارباً على أثر ثورة مصدّق (33) النفطية فيزور مرقد الإمام الحسين عليه السّلام ويقف أمام ضريحه طارقاً برأسه باكياً متوسلاً راجياً العودة للحكم والسلطة، فتقوم الصحافة الموالية بنشر الخبر وتصوّره وهو بهذا الحال من الخشوع والمسكنة لتستميل عواطف الشعب الإيراني بمظهر المتديّن الموالي.
إن هذه الظواهر والتصرفات لا يمكن تفسيرها وفهم مدلولاتها وأبعادها الحقيقية إلا حينما ندرك البعد السياسي العظيم لصاحب هذا القبر الشريف.
على أن ملوك ورؤساء وأمراء العالم وشخصياته البارزة كانوا لدى زيارتهم للعراق يقصدون زيارة الإمام الحسين عليه السّلام ليثبتوا لشعوبهم ومريديهم ولاءهم لصاحب القبر، وليبرهنوا بأنهم على خُطاه وخطى جده صلّى الله عليه وآله وأبيه عليه السّلام علّ ذلك ينفعهم للبقاء أو الوصول إلى الحكم.
وفي حرب الخليج الثانية (34) وفي معرض إظهار احترامه لمقدسات الشعوب، أكّد جورج بوش (35) احترامه للعتبات المقدسة مؤكداً أن قوات التحالف سوف لا تتعرّض لها بأدنى سوء (36)، وفي حرب إعلامية مضادة اتّهم صدام حسين (37) قوات التحالف بقصف الروضة المقدسة (38).
ثم نراه هو وجلاوزته يقصفون تلك القباب المنورة (39) ويدنّسون الحضرة المطهرة في أعقاب حرب الخليج وهزيمته فيها، وتبجّح رئيس أركانه حسين كامل (40) مخاطباً الإمام الحسين عليه السّلام بقوله ( أنا حسين وأنت الحسين، فلنَرَ من هو الأقوى ) (41). غايته كسر معنويات هذا الشعب الثائر الذي أراد أن ينتهج في انتفاضته (42) نهج صاحب هذا القبر الشريف.
ومما يتناقله أبناء هذه المدينة المقدسة أنّه ما من ظالمٍ أو متجبر من الملوك والرؤساء زار المرقد زيارة رسمية وعلنية أيام حكمه إلا وهلك أو أُزيح عن سدّة الحكم ولو بعد حين.
وكان للخلاف السياسي شبه المستمر الذي حكم العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية والإيرانية أثره البالغ في إغلاق أو فتح باب الزيارة للعتبات المقدسة، فهذا مدحت باشا (43) والي بغداد الذي سبق له أن هاجم مدينة كربلاء يوجّه دعوة للسلطان الإيراني (44) لزيارة العتبات المقدسة وعلى نفقة الإمبراطورية العثمانية، وهذا ملك إيران رضا بهلوي (45) يمنع الزوّار من الذهاب إلى العراق بقصد زيارة العتبات المقدسة لأسباب سياسية، ومع هذا يعتذر للرأي العام ويختلق الحجج خوفاً من الأبعاد السيئة لهذا المنع.
ومن الآثار القيمة والأبعاد المفيدة لوجود هذه العتبات المقدسة هو عمق تأثيرها في سياسة الحكام وسلوكهم واعتدال تصرفاتهم وتوازنها، وفي هذا الصدد ينقل الرهيمي (46) عن فيليب (47) في معرض ذكره لسيرة الملك فيصل الأول (48) حيث يقول: « ومنذ قدوم الملك فيصل إلى العراق كان يبدي تقرباً من علماء النجف وكربلاء والكاظمية عبر تقديم نفسه على أنه شيعي المذهب، وعبر زيارته العتبات المقدسة وتأديته الصلاة وفقاً للتقاليد الإسلامية الشيعية » (49)، ويتطرق النفيسي (50) لدى بحثه عن تطور العراق السياسي وقيام الشيعة ضد الإحتلال البريطاني وعن ثورة العشرين ودور المراقد المقدسة حيث يقول: « وقد يُنظَر إلى هذه المقامات على أنها مجرد مراكز دينية ذات نفوذ واسع، ولكن المرء لا يستطيع أن يتغاضى عن كونها إلى جانب هذا ذاتَ نفوذ سياسي واسع النطاق بصفتها ملاذاً يلجأ إليه الزعماء السياسيون في أوقات الضيق عندما تنشأ أزمة حادة بينهم وبين السلطة العلمانية » (51).
وبالنظر للأهمية السياسية والمكانة المعنوية لمدينة الحسين عليه السّلام فقد انطلقت منها شرارة ثورة العشرين، واتّخذ قادة الثورة من كربلاء مركزاً للقيادة التي تمخّض عنها استقلال العراق وتأسيس دولته الحديثة، وفيها صُمِّم عَلَم الاستقلال وشهدت المدينة مراسم رفع العلم للدولة العراقية الحديثة لأوّل مرة فوق بناية السراي (52) في احتفال حاشد حضرته وفود من أنحاء العراق كافة وذلك في يوم الغدير من عام 1338 هـ (53).
هذا وقد صرح قادة الثورة الإسلامية في إيران مراراً بأنهم استلهموا مبادئ ثورتهم هذه من نهضة الإمام الحسين عليه السّلام، وقد لمست بنفسي ذلك حينما زرت السيّد الخميني (54) في مقر إقامته المؤقت في باريس (55) في أوج أحداث الثورة فوجدته قد التزم ختمة زيارة عاشوراء (56) ولمدة أربعين يوماً بتعجيل النصر وإسقاط حكومة بهلوي.
وفي هذا السياق قد أعلنوا بأن عدد قتلى حادث تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في طهران عام 1401 هـ بلغ اثنين وسبعين قتيلاً تيمّناً بعدد ما اشتهر من من قتلى الطف؛ وما ذلك إلاّ لمكانة الإمام الحسين عليه السّلام في نفوس الناس.