مشاهدة النسخة كاملة : کرامات الامام الرضا علیه السلام ( قصص من الواقع)
melika
07-11-2007, 08:34 PM
أين مشهد.. يا ماما ؟
المريضة المعافاة: زهرة رضائيّان. العمر: 6 سنوات. من مدينة بندر امام خميني. الحالة المرضّة: سرطان الدم ALL
أمواج الأيدي المتدافعة تحمل الصبيّة، كأنّها طير صغير على أمواج بحر متلاطم. النسوة الحاضرات يُزَغرِدن، والرجال المتجمهرون لمشاهدة ما حدث ينظرون إلى الصبيّة بعيون مبتلّة بالدموع. السماء أشدّ زُرقة من أيّ وقت مضى، وأشدّ زرقة من البحر.
* * *
وضَعَت المرأةُ فنجان الشاي أمام زوجها، وراحت تسأله:
ـ ماذا قال الطبيب ؟
نظر الرجل إليها نظرة تَعْبى، وقال:
ـ ينبغي أن نأخذها إلى المختبر.
فزعت المرأة وندّت منها صيحة:
ـ ما الذي أصاب ابنتي ؟!
قال الرجل وهو يحتسي فنجان الشاي:
ـ أذكري الله يا امرأة.
في تلك اللحظة حضَرَت الصبيّةُ ووقفت عند باب الغرفة، وألقت على والدَيها السّلام. رشف الرجل آخر رشفة من الشاي وضحك للصبيّة:
ـ عليك السّلام يا بُنيّتي، أين كنتِ لحدّ الآن ؟
دنت الصبيّة من أبيها وألقَت نفسها في أحضانه، مُسنِدةً شعرها المتموّج الطويل على عضده:
ـ ذهبت إلى الشاطئ.
داعب الأب شعر ابنته ومنحه قبلة، وجالت في عينه قطرة من الدمع انحدرت بهدوء على وجنته.
* * *
ـ فات الأوان كثيراً. لا يمكن عمل شيء. لا نستطيع أن نعمل أيّ شيء.
قال الطبيب هذا بعد أن لاحظ بدقّة كلّ نتائج الفحوصات والاختبارات، ثمّ أطرق برأسه إلى الأرض.
صاح الرجل، وانهارت المرأة تبكي.. وحاول الطبيب أن يهدّئ من روعهما:
ـ الله رحيم، لا فائدة من الجزع. ليكن توكّلكم على الله.
تمالك الأب نفسه وقال:
ـ ما رأيك لو نأخذها للعلاج في طهران ؟
وضع الطبيب يده على كتف الأب، وقال:
ـ لا يخلو من فائدة، فربّما ساعد الله فاستطاعوا أن يعملوا شيئاً.
تهالكت المرأة على الأرض وارتفعت زعقاتها، فوضع الرجل كفّه تحت عضدها وأنهضها:
ـ تصبّري يا امرأة.. تصبّري.
إنه هو نفسه يعلم أنّ الصبر صعب. كيف يمكن الصبر على مثل هذه الكارثة ؟!
* * *
هبّت نسمة هواء داعبت ستارة النافذة، فملأت الغرفةَ رائحةُ الرطوبة والمطر. الصبيّة ـ بوجهها الشاحب النحيل ـ راقدة على السرير، وعلى شفتيها الجافّتين الزرقاوَين ابتسامة باهتة. فتحت عينيها بهدوء، ثمّ حاولت الجلوس على مهل حتّى جلست على السرير وكأنّها تتابع بنظرها أحداً في الغرفة وهي تبتسم له.
النسيم أزاح الستارة إلى جانب من النافذة. أطلّت أشعّة الشمس الذهبيّة ـ بعد عتمة الغيوم ـ وألقت شعاعاً على وجه الصبيّة. أغمضت الصبيّة عينيها، ورفعت يديها إلى السماء وأطلقت صيحة من أعماق القلب. حضَرَت الأمّ مضطربة، فاحتضنت الصبيّةُ أمّها:
ـ مشهد! أين مشهد يا ماما ؟
* * *
كانت حافلة الركّاب تُغِذّ السير متّجهةً نحو الشرق البعيد حينما ارتفع في داخلها صوت الركّاب بالصلاة على محمّد وآل محمّد. أشار الأب بيده لِيُري ابنته نقطة معيَّنة على البُعد:
ـ هناك يا ابنتي. تلك هي القبّة والمنارة.
ألصَقَت الصبيّة رأسها بصدر أبيها، وأنّت بصوت خفيض:
ـ يعني.. أشفى يا بابا ؟
تأوّه الأب وهمس:
ـ إن شاء الله.. إن شاء الله يا ابنتي.
أمّا الأمّ فقد وضعت كفّيها على صدرها احتراماً، ومن مكانها بدأت بالسّلام على الإمام، وتمتمت هامسة:
ـ أيّها الإمام الرضا، أيّها الإمام الرضا.. أدرِكْني.
* * *
لم تكن الصبيّة قد رأت مِن قبلُ مثلَ هذه الجموع المتحشدة في مكان واحد. كلّهم مشغولون بالدعاء والمناجاة رافعين أيديهم إلى السماء. المكان كلّه هيبة وجلال، ونور ومعنوية.
شدّت الأمّ طرف حبل في عنق الصبيّة، وأوثقت طرفه الآخر في الشبّاك الفولاذي، وجلست في جوارها تتضرّع وتبوح بآلام القلب. كانت الصبيّة تنظر حولها إلى الوجوه المكروبة المتعَبة لهؤلاء المرضى الذين جاءوا مثلها إلى هنا يحدوهم الأمل والرجاء. تخشع الصبيّة وتنخرط في بكاء خافت طويل: يعني ممكن أن يتفضّل علَيّ الإمام بالشفاء ؟!
الإمام نفسه كان قد أراد منها أن تأتي إلى مشهد، فلابدّ أنّ هناك أملاً من وراء هذا المجيء.
بكت الصبيّة.. حتّى أخذها النوم. وضعت الأمّ رأس الصبيّة على ركبتها، وأرسلت نظراتها من بين فتحات الشبّاك الفولاذي إلى الضريح، وراحت تتوسّل وتبثّ الهموم.
حين أفاقت الصبيّة.. كانت الأمّ قد أغفت ونامت. وكان الأب على مقربة يقرأ في كتاب الزيارة مقابل الشبّاك العريض. مدّت الصبيّة يدها إلى الحبل المشدود إلى عنقها وإلى الشبّاك وأخذت تسحبه على مهل، فهوى طَرَفه المعقود بالشبّاك على الأرض! لقد انحلّت عقدة الحبل وسقط، فهل تكون قد بلغت المراد ؟ وبدون اختيار انطلقت منها صيحة عالية. أفاقت الأمّ من النوم، وهرع الأب مُقْبلاً، وتعالت أصوات النساء بالزَّغاريد، وتسمّر العابرون في أماكنهم ينظرون. تحلّقت الجموع حول الصبيّة التي وجدت نفسها تُرفَع على الأكفّ. ووقعت الأم قرب الجدار في حالة إغماء. فاضت الدموع في العيون، واندفع الأب تلقاء الجموع المنفعلة بهذه الكرامة الرضويّة، فانتزع ابنته واحتضنها راكضاً لا يلوي على شيء، ومضى بها إلى داخل الروضة الشريفة. ولمّا جلس في مقابل الضريح المقدّس وضع ابنته على الأرض وخرّ في سجدة شكر، وكان ثَمّة عطر روحيّ عجيب يغمر المكان.
«اللّهمّ صلِّ على عليِّ بن موسى الرضا المرتضى، عبدِك ووليِّ دينك، القائم بعدلِك، والداعي إلى دينك ودين آبائه الصادقين، صلاةً لا يقوى على إحصائها غيرك».
وحين فتحت الأمّ عينها.. كانت ابنتها أمامها تضحك. حمائم الحرم الرضَويّ تحلّق في الفضاء. وكانت السماء أشدّ زُرقةً من أيّ وقت مضى، وأشدّ زرقة من البحر.
melika
07-11-2007, 08:35 PM
هذا العطر الملائكي الاخّاذ
المريضة المعافاة: ماه شيرين ـ من الباكستان ـ الحالة المرَضيّة: صدمة دماغيّة
ألقى الليل عباءته السوداء على النهار، فغطّاه من أقصاه إلى أقصاه.. وحافلةُ الركّاب تمضي قُدُماً في الطريق المعبَّد، يتقدّمها ضوء مصابيحها كأنّما هو مَشوق إلى الوصول. ومِن بعيد.. تتلامع أنوار مصابيح المدينة الرابضة بين جبلَي طوس.
ركّاب الحافلة كانوا قد قطعوا المسافات، تسبقهم أشواقهم لهذه الزيارة التي كانت أُمنية في القلب: أحدهم يُتَمتِم بينه وبين نفسه بدعاء، وأخر لا يفتأ يُدير بيده المسبحة بالذكر والتهليل، وثالث يتلو ما يحفظ من أيات القرآن الكريم.
اتّكأت المسافرة الشابّة على كرسيّها، وراحت تتطلّع بنظراتها التَّعبى إلى المدى البعيد. ومع أنّ (ماه شيرين) لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها.. إلاّ أنّ مَن يراها يفتقد فيها بوضوحٍ النشاطَ والمرح المعهود في مثل سنّها. منذ سنوات لم يَعُد للحركة والسرور في حياتها من معنى؛ فقد سَلَبها الداء حيويّة الشباب. لَطالما تعذّب أبَواها وهما يدوران بها من طبيب إلى طبيب. فلمّا يئسا من الطبّ والأطبّاء وانقطعت كلّ الوسائل والسُّبل.. شدّا رحال السفر ليطرقا هذه المرّة باب سيّد عظيم لا يَرُدّ مَن قصده.
نظرت (فاطمة) إلى ابنتها (ماه شيرين) قائلة: هل تشعرين بالحرّ ؟ وكان الصمت هو جواب الفتاة. إنّ هذا الصمت الذي تعوّدت الأمّ أن تقابلها به ابنتُها منذ خمس سنوات ما أشدّ ما يؤجّج في قلبها نيران العذاب. فَتَحت الأمّ نافذة الحافلة فدغدغ النسيم وجه الفتاة.
* * *
الحرم الرضَويّ يموج بنفحات معنويّة آسِرة تجتذب إليها قلوب الوالهين الذين اجتمعوا لزيارة الإمام الرؤوف. وحينما دخل (غلام محمّد) وعائلته في صحن الحرم كان شوق الزيارة يزداد منهم في القلوب. وملأهم إحساس أنّ زيارة اليوم تختلف عن زياراتهم في الأيّام الخالية. ودفع الأب أمامه الكرسيّ المتحرّك الذي ارتمى عليه جسم (ماه شرين) السقيم، فكان كلّ مَن يراها يَرِقّ لها وترتسم على قَسَماته أمارات الشفقة والرحمة.
قالت المرأة وقد استبدّ بها القلق والحزن:
ـ أقول! إذا كان جواب الإمام هو الردّ.. فإلى أين نولّي وجوهنا ؟!
تأوّه الرجل وهو يقول:
ـ توكّلي على الله، كوني مطمئنّة. ما جاء بنا الإمام إلى هنا إلا وهو يريد أن يعطينا مِن عطاياه.
قال الأب هذا وقلبه يدقّ بسرعة. إنّه إنّما قال ما قال ليُطَمئن زوجته وليبعث في قلبها الآمال. أمّا هو فكان صدره يزخر بالاضطراب، وضغط بيديه على مقبض الكرسيّ المتحرّك ليسيطر على اضطرابه الذي بدا ظاهراً في ارتعاش يدَيه. ودخلوا الصحن المليء بالزائرين.. فمضت فاطمة على الفور إلى الشبّاك الفولاذيّ العريض، وأدخلت أصابع يدَيها في مُشبَّك الحبّ والرحمة.. وانهمرت من عينيها الدموع. كانت فاطمة تبكي بكاءً ينبعث من القلب، وهي تخاطب الإمام بهمس مُفعم بالتوسّل والرجاء:
ـ منذ شهر يا مولاي تركنا الوطن وجئنا لاجئين إليك. أتوسّل اليك أن تشفي ابنتنا.. أرجوك.
ثمّ أصدرت أنّات محزونة ضاعت في دَويّ أصوات الزائرين.
* * *
ألقى (غلام محمّد) نظرة صافية ـ من خلال أهدا به المبلولة ـ تلقاء القبّة الذهبيّة العالية. إنّ للقبّة في عتمة الليل لأْلاءً يَشدّ إليه الأبصار. وراح الأب يتضرّع في حضرة ثامن كواكب الإمامة والولاية الإلهيّة عليّ بن موسى الرضا سلام الله عليه، ويدعو الله تعالى بقلبٍ كسير أن يقضي له حاجته ويفرّج عنه كُربته. ثمّ اتّخذ سبيله إلى مكان قريب من الشبّاك الفولاذيّ حيث كانت ابنته قد غلب عليها النوم، فجلس إلى جوارها القُرْفُصاء. أمّا زوجته فكانت قد ذهبت إلى داخل الروضة المقدّسة.
أسند الرجل رأسه إلى يديه، وراح يفكّر جمله التفكير إلى أيّام الماضي: قبل خمس سنوات تماماً.. كان من عادة (ماه شيرين) أن تمضي مع زميلاتها في الطريق إلى المدرسة، ثمّ تعود إلى المنزل. كانت تقطع الطريق ذهاباً وإياباً وهي تعدو وتتواثب كأنّها غزالة صغيرة. حضورها في المنزل يبعث الحياة والنشاط في روح والدَيها المتعَبَين من أعمال اليوم. حياة الأسرة بسيطة طيّبة، وعلى الرغم من قلّة ذات اليد كانوا يُواسون المحتاجين ويمدّونهم بما يقدرون عليه. وحينما يُؤْثرن على أنفسهم ويَهَبون الفقراءَ من ثيابهم وطعامهم كان (غلام محمّد) يَستشهد بالمثَل القائل: إعمَلْ خيراً وألْقِه في البحر؛ فإنّ الله يأتيك به وأنت منقطع في الصحراء.
وتمضي الأيّام.. وتنمو معها (ماه شيرين) زهرةً صغيرة تتحوّل رويداً رويداً إلى وردة زاهية يعطّر حضورُها فضاء الدار. ولم يَطُل الزمان على هذه الحال؛ ففي أحد الأيّام.. وقع حادث في المدرسة أُصيبت فيه (ماه شيرين) إصابةً أضرّت بدماغها، ففقدت قدرتها على الاتّزان الفكريّ، وفقدت قدرتها على الكلام.
ومنذ ذلك اليوم غاب المرح والسرور من أجواء عائلة غلام محمّد، ولم يَعُد له من حضور على الإطلاق. إنّ معاناة مرض (ماه شيرين) من جهة، وما كانت فيه الأسرة من ضعف ماليّ.. قد حمّل الأسرة مشقّات متّصلة. ثمّ لمّا يئسوا من العلاج في الباكستان تهيّأت لهم فرصة السفر إلى مشهد الإمام الرضا عليه السّلام، بطريقة لم تكن تخطر لهم على بال. وها هو قد انقضى شهر كامل وهم يأملون العلاج، بَيْد أنّهم حتّى الآن لم يفوزوا بما يأملون. لم يبقَ الاّ هذه إلاّ هذه الليلة، ففي صباح غدٍ هم عازمون على العودة إلى الوطن من جديد. ترى.. ما الذي سيقولونه لمعارفهم وأصدقائهم الذين ينتظرون عودتهم هناك إذا رجعوا إليهم يائسين بائسين ؟! كان رأي الأطباء في ايران موافقاً لأقوال أطبّاء الباكستان: كلّهم قد أجمعوا على أنّ مرض الفتاة مرض مستعصٍ عُضال. ما ثَمّةَ سبيل إلاّ المعجزة تنقذها، لتضيء (ماه شيرين) مرةً أخرى حياةَ أسرتها وتبثّ فيها الطلاقةَ والسرور. كان الأب في خلوته عند الشبّاك الفولاذيّ يذرف الدمع بقلب منكسر وصدر منقبض، وهو يطلب من الإمام المَددَ والعون.
* * *
عادت الأمّ من زيارتها في داخل الروضة، وجلست قرب ابنتها على الأرض. أخذت برأس الفتاة على مهل ووضعته على ركبتها، ومسحت بطرفِ شال رأسها عَرَقاً كان ينقّط وجنات (ماه شيرين).. متضرّعةً بطلب العافية والشفاء. إلى جوارهم كان عدد من الزائرين يتلون بنبرةٍ حزينة دعاءَ (التوسّل)، فشاركتهم فاطمة من صميم قلبها في الدعاء.. تبكي وتبوح بأحزاها في محضر الإمام. كانت سفينةِ فاطمة المكسورة قد غرقت في بحر المحبوب الذي لا ساحل له.
أفاقت (ماه شيرين) من الرقاد. فتحت عينيها، فتلألأ فيهما بَريق الابتهاج. أرادت أن تنطق، فلم يُسعِفها اللسان. وبعد محاولات عديدة استطاع صوتها أن ينطلق بالنداء:
ـ يا رضا... يا رضا... يا رضا...
لقد بَرعَمتْ أغصانُ الأمل، وكانت نداءاتها مفعمة بمسرّة عميقة الجذور. ولفتت نداءاتُها إليها الأنظار. أمّا الأمّ فكان ما عايَنَت أكبر من قدرتها على التحمّل، فغُشي عليها في الحال. وكاد الأب ـ وهو يرى (ماه شيرين) ـ أن يطير من الفرح.. وتحدّرت الدموع. وكان الفضاء مغموراً وقتئذٍ بعطر سماويّ لذيذ.
لَكأنّ الصحن كلّه مفروش بسجاجيد الضراعة والتعبّد. وتشابكت أزهار الياسمين على مشبّك النافذة الفولاذية المطلّة على الضريح الرضويّ المقدّس.. رافعةً رؤوسها تلقاء سماء الحبّ والحنان. التفّت حولهم جموع الحاضرين، وكانت ماه شيرين وأبوها قد خرّا على الأرض في سجدة شكر وامتنان خاشعة.
لقد حدث إعجاز الحب: اصطبغت السماء الزرقاء بلون الحبّ، وأطلقت حمائم الحرم ـ في مهرجان الماء والمرايا والحبّ ـ أجنحتَها في عرض السماء.
melika
07-11-2007, 08:36 PM
(كاسة) الماء
المريضة المعافاة: زهراء المنصوري. من مدينة خُرّم آباد ـ تنكابن. الحالة المرضيّة: شلل عام. تاريخ الشفاء 13 تموز 1987
ليست المسألة مسألة يوم أو يومين، ولا شهر أو شهرين، ولا حتّى مسألة سنة أو سنتين. إنّها مسألة عُمر بأكمله. أترى من المتوقّع أن يتحمّل هو هذا الوضع عمراً كاملاً، فلا يشكو ولا يتبرّم ؟!
كلاّ، إنّه توقّع كبير. ما ينبغي أن أتوقّع منه هذا كلّه. إنّه ما يزال في سنّ الشباب، ويريد زوجة سالمة معافاة. يريد امرأة يجدها ـ عندما يحين موعد عودته من عمله اليوميّ ـ قد نظّفت الغرف، وحضّرت الشاي، وأعدّت طعام الغداء. وعندما يّدُقّ الباب تنهض لاستقباله، فتفتح الباب بطلاقة وجه. تسكب له الشاي، وإذا ما شرب مدّت سُفرة الطعام. وحين يسألها:
ـ ماذا طبختِ لنا اليوم؟ تبتسم له وتقول: الأكلة التي تفضّلها. وعندئذ يَصفِق كفّاً على كفّ، ويقول بابتهاج:
ـ سَلِمتْ يدُك يا زوجتي الطيّبة.
أمّا الآن.. فبأيّ قدم أكون رفيقته ؟! بأيّ يد أُعينه ؟! بأيّ لسان أتفاهم معه ؟!
بأيّ...؟!
كلا، لا أتوقّع منه أن يظلّ معي على حالتي هذ حتّى يدركه المشيب. إلى متى سيتحمّل ؟ سنة ؟ عشر سنوات ؟ لابدّ أن يملّ في آخر الأمر. قبل هذا علَيّ أن أُحدّد وضعي معه. لابدّ أن أبوح له بما في صدري. لا يجوز أن يظلّ يحترق هو بناري فيتحطّم وينتهي.
لا .. لابدّ أن أطلب منه أن يخلّي سبيلي، أن يطلّقني.. ليتخلّص من عبء هذه المسؤوليّة المفروضة عليه.
لابدّ أن أُصارحه. سأقول له اليوم كلّ شيء عندما يعود من العمل، لكن.. بأيّ لسان أقول له ؟! ما أنا إلاّ قطعة لحم لا تقوى على أيّ حركة، لا فائدة فيها ولا نفع. حتّى يدي عاجزة عن الكتابة له بما أريد. ما أنا إلاّ حمل ثقيل جاثم على صدره.
مسكين هو زوجي. لماذا عليه أن يتحمّل آلامي التي لا علاج لها ؟! لماذا عليه أن يحترق بمعاناتي ويتحوّل إلى رماد ؟! آه.. لو كان لي لسان ينطق!
* * *
كلّ شيء كان قد حدث فجأة وبدون سابق إنذار: عبّاس كان جالساً في شرفة المنزل يراقب ألوان الأفق وقت الغروب حينما وخزني بغتةً ألم في خاصرتي اليمنى، فارتعش جسدي وصرختُ بدون اختيار. هرع عبّاس إليّ راكضاً، وسمعته يصيح:
ـ أيّها الإمام الرضا...
لم أرَ بعدها إلاّ وجهه القلق ينحني علَيّ ويرفعني من على الأرض. ولمّا عاد إليّ الوعي وجدت نفسي في المستشفى. حاولت أن أنهض، ولكنْ عبثاً ما حاولت. كنت كالمسمَّرة على السرير. وحين رآني عبّاس قد أفقت أسرع إليّ بقلق واضطراب. وعلى الفور نادى الممرّضة:
ـ لقد أفاقت!
ودخلت الممرّضة، يتبعها أبي وأمّي العجوزين الباكيين. أردت أن أُسلّم، فلم يتحرّك لساني، وما أسعفني إلاّ البكاء. بكيت، فأخذ زوجي بيدي التي لا حياة فيها ووضعها بين كفّيه، وراح يشاطرني البكاء بصوت خفيض. ثمّ قال:
ـ لا تَبْتَئسي.. سوف تتحسّنين.
أنا أيضاً كنت أظنّ هذا الظنّ. لم أكن أصدّق قطّ أن أصاب بالشلل فلا أقدر على الحركة والكلام.
ومرّت الأيّام، لا أنا قادرة على الحركة ولا قادرة على النطق. وخرجت من المستشفى على هذه الحالة عائدةً إلى الدار.
تجمّعوا كلهم حوالَيّ: أبي، وأمّي، وإخواني، وأخواتي، وكلّ الأهل والأقرباء. أمّي كانت تتطلّع إليّ وتبكي بصمت، ولا تكفّ عن التوسّل بالإمام الرضا عليه السّلام. مسكينة هي أمّي لا تعلم أنّ ابنتها ميّتة، فقط لها نفَس يعلو ويهبط. ألاَ ليتها لا تتنفّس!
وبالتدريج أخذوا ينصرفون من حولي ويتفرّقون. ذهب الإخوة والأخوات. الأهل والأقارب دعَوا لي بالشفاء وأودعوني في رعاية الله.
وذهب أيضاً أبي. ما بقيتْ غير أمّي تبكي عند سريري. ترى: إلى متى تستطيع هذه المسكينة أن تتحمّل ؟! إلى متى تبقى باكية، إلى جواري ؟! أتراها قادرة أن تتخلّى عن دارها وعيشتها وتعكف علَيّ ؟! لا هي بقادرة، ولا أنا أتوقّع منها هذا. وبعد أيّام.. شكرها زوجي كثيراً، ورجاها أن تدَعنا بمفردنا. ولمّا ذهبت أمّي كانت ما تزال تبكي:
ـ أظلّ أجيء اليك يا بُنيّتي، كلّ يوم أجيء إليك:
وحين بقينا بمفردنا.. جلس عبّاس إلى جنبي. التقت عيناه بعينيّ، وقال بهمس:
ـ أُعالجك يا زهراء، حتّى لو كلّفنا ذلك كلّ ما نملك.
شكرته بنظرة، هي وسيلتي الوحيدة للتعبير. وبحركة من عينيّ أشرتُ إلى صورة لنا مشتركة معلّقة على الجدار، كانت قد التُقِطت لنا في مشهد في أوّل أيّام زواجنا. أردتُ بهذه الطريقة أن أُفهمه بأن يأخذني لزيارة الإمام الرضا عليه السّلام، طلباً لشفائي. ونظر عبّاس إلى الصورة مليّاً، فلحظتُ دمعة ندّت من عينيه، وسمعته يُتمتم بدعاء:
«يا أبا الحسن يا عليّ بن موسى، أيّها الرضا، يا ابن رسول الله، يا سيّدنا ومولانا إنّا توجّهنا واستشفَعنا وتوسّلنا بك إلى الله، وقدّمناك بين يدَي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله اشفَعْ لنا عند الله».
وشاركتُه من جانبي في قلبي بالدعاء والتوسّل بالإمام الرؤوف. ومن حينها قرّ قرارنا على الذهاب لمشهد الإمام في طوس.
* * *
وضعني عبّاس عند الشبّاك الفولاذيّ في الصحن العتيق بين جموع القاصدين المتوسّلين، ودخل هو إلى داخل الروضة، ليتوسّل عند الضريح الشريف. أرنو إلى حمامات الحرم التي تحلّق في فضاء الصحن، وتصل إلى أذني مناجاة المحبّين البائسين. وشعرت بعطش شديد وجفاف في الفم. لا أستطيع أن أنطق.. وأدرتُ بصري هنا وهناك.
في وسط الصحن.. انتصبَتْ مشربة الماء الذهبيّة، وقد تجمّع حولها العطاش يشربون من مائها العذب، ويمضون. آه.. لو كنت أستطيع أن أقف على قدميّ لأجري مسرعة إلى المشربة فأملأ (كاسة) بالماء وأشربه بجرعة واحدة، ثمّ املأ كاسات المشربة كلّها وأسقي كلّ (دخيل) هنا عاجز عن الحركة. لكنْ.. واأسفاه، ماذا أفعل وأنا مثلهم في عجز تامّ ؟!
كنت أُحدّق في مشربة الماء لمّا وقع نظري ـ في جانب منها ـ على رجل واقف هناك. كان الرجل يشير إليّ إشارة كأنّما يريد أن يقول لي شيئاً. لكنْ.. ماذا يريد أن يقول ؟ لا أدري. المسافة بعيدة بيني وبينه، فلم أفهم مغزى إشارته. أخذ الرجل يقترب.. حتّى رأيته بوضوح: طلعة كلّها بهاء وصفاء كانت تبتسم.
على كتفه شال أخضر، وفي يده كاسة. كاسة مُترَعة بالماء. مدّها باتّجاهي وحرّك شفتّيه بهدوء:
ـ ماء...
مددتُ يدي إليه. كانت مسافة ما تزال بيني وبينه، ويدي قصيرة لا تصل إليه. ارتسمَتْ على شفتَيه ابتسامه عذبة، وبلغ صوته الرائع أُذني وهو يقول:
ـ قُومي، هذا الماء جئتُ به إليك، خذي.
قمتُ، وتحرّكت نحوه ووقفت في قباله. أخذت الماء من يده وشربته بعجَل حتّى ارتويت وقلت:
ـ سلام الله على الحسين الشهيد.
ابتسم لي، وانصرف مبتعداً. أمّا أنا فقد بُهِتُّ عندما رأيتُني واقفة! واقفة على قدَميّ! وعندما وجدت لساني الميّت وقد عادت إليه الحياة ونطق!
ـ أيّها الإمام الرضا...!
صِحتُ بصوتٍ عالٍ، وركضتُ إلى داخل الروضة لعلّي ألحق به، فلم أعثر عليه، وعُدت إلى مكاني عند شبّاك الفولاذ. هناك رأيت (عبّاس) قد استبدّ به القلق. كان قد خرج قبل لحظات من الروضة فلم يجدني في مكاني.
حمائم الحرم تطير على ارتفاع القبّة الذهبيّة، ثمّ تحلّق نحو السماء الزرقاء. أنا أيضاً مثلها: أُحلّق طليقة الجناح.
ثمّ يعلو صوت (نقّارة) الحرم يشاركني مهرجان المسرّات والأفراح، فتغمرني سعادة لا أوّل لها ولا آخر.
melika
07-11-2007, 08:39 PM
اسمي «رضا»
المريض المعافى: أندريه سيمونيان. من ازبكستان في الاتحاد السوفياتي السابق. الحالة المرضيّة: خَرَس اللسان
ـ أندريه... أندريه...
سمع صوتاً يناديه. صوتاً غير مألوف على الأرض.. كأنّه قادم من أعماق السماء استفاق (أندريه) من النوم، وتلفّت حوله في الصحن. كان جميع الحاضرين فيما حوله نائمين، غير رجل مسنّ هو من خدّام المكان، كان واقفاً في ناحية يتطلّع إليه. فطن الرجل المسنّ إلى حالة أندريه، فتقدّم نحوه ووقف أمامه وعلى وجهه ابتسامة رقيقة.
ـ ماذا يا ولدي ؟
اعتصم أندريه بالصمت، وأحسّ في داخله رغبة في الصراخ.. والبكاء. وتمنّى لو يلقي بنفسه في أحضان الرجل المسنّ، فيبكي حتّى يشبع من البكاء. تمنّى لو يصرخ بأعلى صوته وينوح، لكنّه اختنق بعَبرته، ولم يستطع أن يعبّر عمّا يختلج في صدره. جلس الرجل قِبالتَه، وأخذ يُربّت على كتفه يسأله:
ـ هل حدث شيء ؟
كان أندريه قد أرهقَته الرؤيا التي رآها، فرمى بنفسه في أحضان الخادم الشيخ. ولم يستطع أن يتحمّل فأطلق صوته بالصراخ وانخرط في النحيب. أيقظ صوت نحيبه عدداً من النائمين، فراحوا يفركون عيونهم ثمّ ينظرون إلى أندريه باستغراب. ورَبّت الخادم الشيخ على ظهر أندريه قائلاً:
ـ إبْكِ يا ولدي.. اصرخْ. البكاء يشرح الصدر، ويخفّف عن القلب، إبْكِ.
واستمرّ أندريه يبكي. استيقظ الجميع، وتطلّعوا إليه بعيون متسائلة. وسأله الرجل المسنّ: ماذا حدث ؟ قُل ماذا حدث ؟
انتزع أندريه نفسه من أحضان الرجل، فأتّكأ على الجدار، وراح يحدّق في السماء: نجوم متلألئة، وسِرب من الحمائم يطير ويعلو في الفضاء. أغمض عينيه ولم يُجب عن السؤال، وقال في نفسه: ليتني لم أستيقظ من النوم!
وجاءه صوت الرجل المسنّ:
ـ لماذا لا تتلكّم ؟ قل ماذا حدث ؟ هل رأيتَ حلماً ؟ ماذا رأيت ؟
التقت نظراته بنظرات الرجل الودودة، وأفهمه بإشارة من يده أنّه عاجز عن الكلام. ارتسمت على وجه الرجل علامات الحزن والأسى، فنهض واقفاً وأدار ظهره إلى أندريه محاولاً التستّر على دمعة سالت من عينه، لكنّ أندريه لاحظ اهتزاز كتفَي الرجل المسنّ.
* * *
كان الأب في اشتياق عميق، والأمّ تكاد تطير من الفرح. إنّهم يريدون العودة إلى إيران بعد غياب جدّ طويل، وسوف يلتقون بالأقرباء إن استطاعوا أن يتعرّفوا على أحد منهم. وكان أندريه وأخته (ألنا) فَرِحَين، مع أنّهما لم يشاهدا إيران من قبل. وبعد أن اجتازوا نقطة الحدود... كان الأب يحكي لابنه ـ وهو يقود السيّارة ـ عن المناطق التي يمرّون بها، وقد غلبه الشوق وطارت به الذكريات القديمة. كان الأب مأخوذاً بأشواقه وذكرياته.. حتّى أنّه لم ينتبه إلى الشاحنة الكبيرة المسرعة التي ظهرت أمامهم في الطريق. ولمّا فطن إلى الشاحنة المقبلة كانت صرخات الفزع تنطلق من زوجته وابنته وولده ممتزجةً بصوت اصطدام مَهيب. وفي الحال: قُتل الأبوان، ونُقل أندريه وألنا إلى المستشفى، وفقد أندريه قدرته على الكلام.
وخرجا من المستشفى، فلم تتحمّل ألنا البقاء وعزمت على العودة إلى أزبكستان، لكنّ أندريه آثر البقاء في إيران على الرغم من إلحاح أخته، وعلى الرغم ممّا في بقائه من مشقّات.
وشاء القضاء أن يعيش أندريه في أُسرة جديدة غير أُسرته: زوج وزوجة في عمر الشباب يعيشان في مدينة (هَمَدان) لم يُرزَقا ولداً منذ زواجهما قبل بضع سنين، فاختضنا أندريه ولداً لهما. ولم يدَّخِّر الأبوان الجديدان وسعاً في البحث عن علاج لأندريه، ولكن دونما جدوى. وكان أندريه يلاحظ أنّ هذين الزوجين كثيراً ما يتوجّهان إلى الله تعالى بالدعاء لشفائه وسلامته، وكثيراً ما كان هو يشاركهم في دعواتهم بصمت.
ومرّت سنوات.. كبر خلالها أندريه، وغدا شاباً، فاحترف تصليح الساعات في أحد المحلاّت. لكنّ الهمّ المتّصل الذي يشغل قلبه قد جعله انطوائيّاً قليل العلاقات.
في أحد الأيّام جاءه الأب (الجديد) مُغرورِق العين بالدموع، وهو يقول:
ـ ولدي أندريه، صحيح أنّ كلّ الأطبّاء قد عجزوا عن علاجك، لكنّنا ـ نحن المسلمين ـ عندنا دكتور نذهب إليه عندما نيأس من الجميع، فإذا أردتَ أخذتُك إليه.
نظر أندريه إلى الأب نظرة مليئة بالرجاء، وغدت صورة وجه الأب مهتزّة غائمة: لقد كان ينظر إليه من خلال الدموع. ولمّا أطبق أندريه جفنيه هبطت على خدّيه دمعتان كاللؤلؤ الشفّاف.
* * *
لأوّل مرّة يشاهد أندريه مثل هذا المكان. إنه لا يشبه على الأطلاق الكنيسة التي كان يذهب اليها بصحبة أبوَيه وأخته في أيّام الآحاد. الصحن غاصّ بالناس المتوجّهين إلى الضراعة والمناجاة. ولَفَتت نظره بشكل خاصَ تلكم الحمائم التي كانت تطير أحياناً مارّةً بحفيف أجنحتها من فوق رؤوس الزائرين، ثمّ تحلّق لتحطّ على القبّة الذهبيّة في روضة الإمام الرضا عليه السّلام.
صحب الأبُ أندريه في الصحن العتيق حتّى أوصله إلى الشبّاك الفولاذيّ حيث تجمهر عدد من الذين جاءوا لطلب الحاجات. أجلسه على الأرض، وربط حول عنقه حبلاً، ثمّ عقد طرفَه الآخر في مشبّك النافذة الفولاذيّة المطلّة على داخل الروضة الطاهرة. وأدهش أندريه ما فعله الأب: ترى.. أيّ نوع من الأطبّاء هذا الذي جيء به عبر كلّ هذه المسافات إليه ؟! وما إن اطمأنّ الأب إلى موضع أندريه حتّى غادره ومضى إلى داخل الروضة. كان أندريه متعباً من طول السفر، وما هي إلاّ لحظات حتّى اتّكأ على الجدار، وأخلد إلى النوم:
* تراءى له نور خاطف يتّجه إليه. وحاول أن يمسك بالنور.. فما استطاع. ثمّ اختفى النور. مرّة أخرى ظهر له نور أخضر يُقبل إليه. وسمع من داخل النور صوتاً يناديه:
ـ أندريه... أندريه...
وأفاق من نومته متضجّراً. كان الليل قد هبط منذ زمان، والسماء مقمرة، والصحن مفعم بصمت روحانيّ. وثمّة خادم كبير السنّ من خدمة الحرم واقف ناحيةً يتطلّع إليه. ودقّت ساعة الحرم الكبيرة مرّات عديدة. وتمنّى أندريه لو ينام من جديد، ليرى ذلكم النور وليسمع ذلكم الصوت الملكوتي. وعندها دنا منه الخادم المسنّ.
* * *
هو النور نفسه من جديد. هذه المرّة: أزرق، أخضر، أبيض.. كلاّ، لم يستطع أن يميّزه. كان نوراً من كلّ
الألوان يقبل نحوه ثمّ ينعطف عائداً من حيث جاء! وتحيّر أندريه: كلّما مدّ يده للإمساك بالنور أفلت منه. وفجأةً سمع صوتاً من داخل النور، صوتاً غير مألوف على الأرض، صوتاً كأنّه قادم من أعماق السماء.. يناديه:
ـ أندريه... أندريه...
أراد أن يصرخ فما استطاع.. وغاب النور. وأفاق أندريه مرّة أخرى من النوم.
الرجل المسنّ تطلّع إلى عنق أندريه، فأدهشه أن يرى عليه صليباً معلّقاً:
ـ هل أنت.. هل أنت مسيحيّ ؟
أجاب أندريه بإشارة من رأسه. ومدّ الرجل يده فانتزع الصليب من عنق أندريه، ثمّ أخرج منديلاً مسح به العرَق الذي كان يَندى به وجه الشابّ ورأسه. أسند الرجل رأس أندريه برفق إلى رُكبته، وقال له:
ـ نَم الآن، لن ترى حلماً مزعجاً بعد الآن.
أطبق أندريه جفنيه، وسرعان ما أخذه النوم: نور آخر، أخضر هذه المرّة. بسهولة يستطيع أن يميّزه.. وأقبل النور إليه، والصوت من داخله أيضاً يسأله:
ـ ما اسمك ؟
اهتزّ أندريه في الرؤيا واحتوَتْه الدهشة: كان قد سمع النور يناديه باسمه مِن قبل، فلماذا يسأله الآن عن اسمه ؟! تحيّر، وما أسعفته قدرته على الجواب. وجاء الصوت مرّة أخرى من داخل النور:
ـ قل ما اسمك.
أومأ أندريه إلى لسانه ليقول إنّه غير قادر على النطق والكلام. عندها شاهد يداً عليها كُمّ أخضر فاتح اللون تَخرُج من قلب النور. امتدت إليه كفّها ومسحت على لسانه.
ـ قل الآن ما اسمك ؟
ورُوَيداً رُوَيداً.. بدأ أندريه ينطق، قال:
ـ أنـ... أند... أندر...
لكنّه ما قدر أن ينطق باسمه كاملاً. ومن جديد سمع الصوت من قلب النور يناديه:
ـ قُل. قُل ما اسمك ؟
فتح أندريه فمه، وحرّك لسانه، ثمّ صاح بصوتٍ واثق رفيع:
ـ اسمي رضا، رضا...
* كان رضا بين الأيدي كقارب بين الأمواج. تخرّقت ثيابه التي على بدنه قطعةً قطعة، طلباً من الناس للتبرّك. وارتفع صوت نقّارة الحرم يشاركه مَسَرّته. ما أروع هذه المشاعر المعنويّة الشفّافة! وما أقدس هذه العظَمة الخالدة!
یتبـــــــــــــع
melika
07-11-2007, 08:40 PM
قامة الحبّ المديدة
المريضة المعافاة: سكينة الباي. العمر 14 سنة. من مدينة جرجان. الحالة المرضيّة: أعصاب، وتشنّج عصبيّ
كنتُ واثقة أنّ الإمام سَيمُنّ علَيّ.
السماء تُمطر بغزارة. أدركتُ هذا من صوت مياه الميازيب الشديدة المستمرّة. من المألوف أن تمطر بغزارة في مثل هذا الوقت في (مازَنْدَران). أحياناً يستمرّ المطر يومين متّصلين أو ثلاثة أيّام.
في كلَ سنة، في مثل هذا الموسم، كنت أفتح الباب المؤدّي إلى فِناء الدار، وأجلس تحت مظلّة الباب أتطلّع إلى المطر يهطل. كنت شغوفة بالمطر لا أمَلّ من التفرّج عليه حتّى لو استمرّ إلى الليل.
أمّا الآن.. فأين تلك الأيّام الجميلة المَرِحة ؟! كلّ شيء تغيّر، ولم أعُد أحبّ المطر كما في تلك الآيّام. صار المطر يأخذ بِخِناقي. أخاف من صوت المطر إذا ارتطم بسطح دارنا، وأنزعج من صراخ الميزاب. يضيق صدري ويأخذني الاضطراب، وكأنّي أكاد أغيب عن الوعي. أحسّ وجعاً في دماغي من أيّ صوت حتّى لو كان ضعيفاً. أعصابي مُرهَقة، وأودّ لو أصرخ بصوت مرتفع. لم أعُد أحبّ المطر. وعندما تطرق حبّاتُ المطر زجاج نافذة الغرفة أحسّ أن مسماراً يُدَّق في رأسي باستمرار. فجأة أفقد توازني ويعتريني التشنّج: يضطرب بدني بشدّة، ويتتابع من فمي الصُّراخ.
وعلى أثر صراخي.. تُهرَع إليّ أمّي من الغرفة الأخرى. تتسمّر عند عتبة الباب، وتأخذها الدهشة وهي ترى بدني النحيل على تلك الحال، فتخمش وجهها وتصيح بفزع. أمّا أنا.. فمطروحة على أرض الغرفة، ثمّ لا أراها ولا أسمع لها صوتاً.
* * *
المطر ينزل. ينزل هذه المرّة على مهل. وجذبني إليه صوت قطرات الميزاب. أمّي جالسة عند فراشي تتقاطر من عينيها الدموع. مسكينة أمّي! كم تقاسي وتتألم من أجلي! صار دأبها البكاء. تظنّ أن بكاءها دواء لمرضي الذي لا دواء له. يالَه من ظنٍّ بائس! إنّها تعذّب نفسها، وهذا يزيدني عذاباً فوق العذاب. آه.. ليتني أستطيع أن أحكي معها، ليتني أستطيع أن أُفهمها أنّ بكاءها لا ينفعني شيئاً غير مزيد من العذاب.
إنّي أتجرّع آلامي.. أمَا يكفيني هذا ؟!
وحين فتحتُ عيني ابتسمَتْ لي، ونهضتْ من مكانها. لقد تعوّدتُ على طريقتها، وصرت أحفظ حتّى الكلمات التي تتفوّه بها حين تُحضِر لي العصير:
ـ خذي يا بُنَيّتي. إشربي هذا العصير لينفتح قلبك وتتحسّني...
وعندما غابت أمّي وراء الباب وهي ذاهبة لتأتي بكأس العصير.. ارتفعت أصوات الميزاب، واشتدّ قَرْع المطر الذي يتساقط على السطح.. تماماً كما يرتفع صوت الراديو ويرتفع ويطنّ بقوّة في أُذُنَيّ.
ثَقُل جَفناي وانطبقا. وتمثّلتْ لي ـ من وراء الجفون ـ صورةُ أبي وهو يدخل من باب الغرفة: حول عنقه شال أخضر، وفي وجهه صَباحة وبهاء عجيب. نظرت إليه بدهشة، فجاء وجلس عند سريري. سلّمت عليه:
ـ السّلام عليك يا بابا، أين كنت كلّ هذه المدّة ؟! أنا في شوق إليك.
ضحك.. فأشرقَتْ في ضحكته شمس رائعة تبعث الدفء في روحي.
ـ عليك السّلام يا عزيزتي. أنا أيضاً مشتاق إليك يا بُنَيّتي. ذاب قلبي من أجل (سكينة) الجميلة الطول، هل أنت بخير يا بهجة قلب أبيها ؟
طوّقتُ عنقه بذراعي، وقبّلت وجهه:
ـ أنا بخير يا بابا، أنا بأحسن حال كما ترى. إذا جئتَ لتراني أشفى وأنسى كلّ الآلام.
لكنْ عندما تذهب...
انحنى أبي وقبّل جبيني:
ـ لن أذهب يا بابا. أظلّ عندك، بشرط أن تعاهديني على أن تكوني دائماً بخير.. أتعاهدينني ؟
ـ أُعاهدك. أعاهدك بشرط أن تقول لي من أين جئت بهذا الشال الأخضر.
يتلمّس شال عنقه ويقبّله:
ـ أقول لك. لمّا كنت راجعاً من الجبهة ذهبت إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا. وهذا الشال هديّة من الإمام، جئت به إليك لشفاء آلامك. الإمام دعاكِ لزيارته، عليك أن تستعدّي لتذهبي إليه.
عندها.. نهضتُ من مكاني مسرورة، وصحتُ:
ـ أريد أن أروح إلى الزيارة، أريد أن أروح إلى مشهد أزور الإمام الرضا ليشفيني.
وسمعت أمّي صيحتي فدخلت إلى الغرفة مسرعة:
ـ ماذا جرى يا بُنيّتي ؟! هل رأيت حلماً ؟
تطلّعتُ إلى عينيها، وقلت:
ـ حلم جميل يا ماما، حلم مشهد، حلم بابا، حلم شفاء، حلم الإمام.. الإمام الرضا.
ضحكتْ أمّي بدموع الفرح. أحِبّ من أمّي دائماً هذا النوع من الضحك. هكذا تضحك إذا كانت محزونة ومسرورة في نفس الوقت. تضحك وتبكي في وقت واحد. وها هي الآن تضحك لي بعيون دامعة:
ـ آخذكِ يا ابنتي، آخذك إلى مشهد «دخيلةً» عند الإمام ليشفيك إن شاء الله.
* * *
مرّ يومان.. وأنا «دخيلة» عند الإمام. كلّي أمل أن الإمام سيأتيني. قطعتُ كل هذا الطريق يَحدوني الأمل. أنا واثقة أنّ الإمام سيمُنّ علَيّ.
في ليلة اليوم الثاني من حضوري في صحن الحرم الرضويّ.. كان الجوّ مكفهرّاً. الغيوم قد حجبت السماء، فلا يُرى من ورائها حتّى نجمة واحدة. ازدادت برودة الجوّ، وأحسست أنّي أرتجف من البرد الذي كأنّما كان يدخل في عظامي. رفعتْ أمّي غطاءً كان عليها وألقَتْه على كتفيّ. الرعد يزمجر.. وشقّ البرق سقف السماء الأسود. بدأ المطر ينثّ، ثمّ تحوّل إلى زخّات غزيرة، فسارعت أمّي تمسكني من يدي وتُدخلني معها إلى داخل الروضة.
أنعشني الدفء في الداخل، وأنا جالسة قرب الضريح. وقامت أمّي تصلّي (صلاة الحاجَة). كان في القرب منّي مصحف، فتناولته.. وفتحته. ظهرت سورة (الرحمن). وبدأتُ أقرأ.
ما كدتُ أصل إلى منتصف السورة حتّى شعرت بارتخاء يدبّ في بدني هو أشبه ما يكون بِنُعاس ما بعد الظهر في أيّام الصيف، ووجدتُني أنزلق إلى نوم أثقلَ جفنيّ. وضعت المصحف على (رَحلة القرآن)، وأسندت كتفي إلى الضريح.. ودخلت في إغفاءة هادئة.
ما زالت أصوات الحاضرين تدوّي في أُذنَيّ. أجفاني مُغلَقة، لكنّي كنت أرى الحاضرين. عَجَباً! لم أكن أعلم أنّي كنت نائمة أم يقَظى! لم أكن يقظى.. أنا متأكّدة. وما أراه الآن هو رؤيا حقيقيّة.. كأنّما كنت أراها بعين رأسي!
وسطَعتْ من بين الحاضرين أشعّة نور، وتوجّهت إليّ. ما إن تَقدَّم النور نحوي حتّى تبدّل لونه. لمّا وصل أمامي كان أخضر اللون واضحاً شديد الوضوح، ثمّ أخذ يتبدّل أمام أجفاني المغلقة لوناً بعد لون: أصفر، أزرق، برتقاليّ، أحمر، أخضر. ثمّ تجمّع النور كلّه في نقطة واحدة.. بدأت تتشكّل بشكل قامة مديدة ظهرت أمامي: لحية طويلة، ووجه مستطيل.. رائع. قامته الراسخة عليها ثياب بيضاء. ولهذا الرجل شال أخضر.. هو نفس الشال الذي رأيته حول عنق أبي. كانت خضرة الشال منسجمة بشكل مدهش مع لون وجه الرجل، مع أنّي لم أقدر على تمييز ملامح وجهه، وكأنّما هي مغيَّبة عنّي بالنور. جاء الرجل إليّ ومسح على رأسي:
ـ ماذا بك يا ابنتي ؟
وقفت قبالة قدمَيه:
ـ يا سيّد.. أنا مريضة. أنا حمامة مكسورة الجناح. خلطتُ نفسي بحماماتك الطاهرة لأشفى.
ضحك الرجل ضحكة كأنّها وردة تعبق بالعطر.. عطر الورد الجوري.
ـ إنهضي يا حمامتنا المكسورة الجناح، وكوني مع الحمامات الطاهرة. حلّقي معها، فقد شُفيتِ.
صحتُ في لهفة:
ـ يعني أنا...؟!
وكرّةً أخرى أمرّ يده الودودة على رأسي، وقال:
ـ إنّ أحداً لا يرجع عن هذا البيت يائساً، إلاّ أن يكون هو يائساً.
وفي لحظة.. تحوّلَتْ هذه القامة المديدة إلى نور، انطلق من أمامي كالشهاب.
استيقظتُ من النوم. كان المصحف مفتوحاً على الرَّحلة أمامي. نفسها سورة (الرحمن). وقرأت.. « فبأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكَذِّبان » ؟!.
كانت أمّي قد أتمّت سلام صلاتها، ومدّت يدها المؤمِّلة الراجية نحو السماء.. وكأنّما قد وصل دعاؤها إلى العرش.
melika
07-11-2007, 08:41 PM
القلب المنكسر
المريض المعافى: أمير الطاهري ـ من أهل مشهد مقيم في طهران. الحالة المرضيّة. سكتة وشلل عام. تاريخ الشفاء كانون الأوّل 1992
خرج الأب من الغرفة إلى فِناء الدار مهرولاً، وهو ينادي مندهشاً بصوت عالٍ:
ـ نور! نور!... نور أخضر!
كلّهم كانوا في الفِناء: الخال جالساً وقد أسند ظهره إلى الطُّنفُسة، وهو يدخّن النَّرجيلة. الجدّة تسكب الشاي في الفنجان. الأطفال يتراكضون في الفِناء ويلعبون. ورضا كان يسقي الجُنَينة. أمّا الأمّ فهي مشغولة عند الموقد تطبخ حساءً كانت قد نذرت طبخه وتوزيعه، في حين كانت فاطمة ترضع طفلها الصغير.
الجميع دُهِشوا لسماع صوت الأب وجَمدوا في أماكنهم: صاحت الأمّ وأخذتها غشية. نَحَّت فاطمة طفلها وركضت باتّجاه الأمّ. زعق الطفل، فحملته الجدّة وأخذت تسكته. ألقى رضا أنبوبة الماء وأسرع تلقاء أبيه. قطع الخال تدخين النرجيلة وحدّق بالأب متعجّباً. وضعت الجدّة الطفل على السرير وسجدت لله شكراً. ولمّا رفعت رأسها من السجود كانت عيناها تذرفان الدموع. بدأت الأمّ تفيق من غشيتها، فأقعدتها فاطمة وأسندتها إلى الجدار. أمّا الأب فقد ظلّ واقفاً قد أذهلته المفاجأة، وهو يحدّق في الحاضرين. قالت الأمّ لفاطمة:
ـ فاطمة.. هل سمعتِ ؟! لقد تكلّم! أبوك تكلّم!
حرّكت فاطمة رأسها وقالت كالمذهولة:
ـ ها.. ؟! سمعت!
ثمّ حوّلَت نظرها إلى الأب تخاطبه:
ـ أنتَ تكلّمت يا أبي.. تكلّمت!
احتضن رضا أباه وصاح:
ـ لا أصدّق يا بابا، أنت لم تنطق فقط، بل قمتَ واقفاً على قدميك.. مشيت بقدميك! الخال الذي ظلّ حتّى الآن صامتاً تزحزح عن موضعه ونهض يحتضن الأب ويقبّله:
ـ هذه معجزة.. معجزة!
ساعدت فاطمة أمَّها على النهوض لتُجلِسها على السرير قرب الجدّة. تحلّق الأولاد حول الأب الذي أخذ يحتضنهم واحداً بعد الآخر ويُمطرهم بقُبلاته. ثمّ خطا حتّى جلس إلى جوار الجدّة. كانت الجدّة جالسة وتبكي بصمت، ثمّ رفعت يديها إلى السماء وراحت تدعو. مال الأب فقبّل يد الجدّة، وقال:
ـ هذا كلّه من بركات دعاء أمّي، دعاء الأمّ لا يُردّ.
مرّة أخرى أهوت الجدّة إلى السجود، ثمّ قامت فاحتضنت ولدها وقبّلته قائلة:
ـ لمّا سمعتُ بعجز الأطبّاء عن علاجك قصدتُ الحرم وزرت نيابةً عنك، وطلبت لك من الإمام الشفاء. بكيت هناك مكسورة القلب، حتّى وقعت في غشية. وفي غشيتي رأيت الإمام مقبلاً. سألني: لماذا لا يأتي أمير لزيارتي ؟ قلت: أمير ليس هنا يا مولاي، إنّه انتقل من مشهد قبل عشر سنوات وسكن في طهران.
قال الإمام: قولي له يأتِ، فمحضرُنا لا مكان فيه لليأس.
وأفَقتُ من الغشية، وكتمت هذا الموضوع لم أُخبر به أحداً. فقط اتّصلتُ هاتفياً برضا وقلت له أن يأتي بك إلى مشهد لزيارة الإمام الغريب.
بكى الأب.. وقال:
ـ آه.. كم كنتُ جافياً بلا وفاء!
ثمّ أخذ يشرح لأمّه:
ـ كنت واقفاً أُصلّي عندما شعرت فجأة بالدُّوار. صار البيت يدور في عيني، واسوَدّ كلّ شيء حولي. وقعت على الأرض، ولم أدرك بعدها أيّ شي،. ولمّا صَحَوتُ كان الدكتور عند رأسي، سمعته يقول:
ـ محتمل أن تزداد آلامه ويفقد بدنُه الإحساس. هذا نوع من السَّكتة الخطرة. الأفضل، قبلما تحدُث مضاعفات أخرى، أن يُنقَل إلى المستشفى لإجراء عمليّة.
تقدّم رضا وجلس إلى جانب الجدّة، ثمّ قال:
ـ وعَدْتُ الطبيب بذلك، وبدأتُ أُعدّ العدّة لنقله إلى المستشفى. لكنّي حين أفهمت أبي بذلك امتنع أشدّ الامتناع وقال: أموت في الدار خير من الموت على سرير المستشفى. وبعد أيّام بدأتْ حالته بالتحسّن، واقتنعنا بغلط تشخيص الطبيب.
وتدخّلت الأمّ مستدركة:
ـ لكن التشخيص ما كان فيه غلط، فبعد أسبوع أخذَتْه مرّة أخرى حالة الدُّوار وهجمَتْ عليه الآلام. وفي هذه المرّة ظهرت عليه آثار الانهيار أسرع من السابقة:
احتُبِس لسانه، وشُلّ كلّ بدنه، وتورّمت حنجرته بحيث تعسّر عليه التنفّس.
أدار الأب نظره من الجدّة إلى الأمّ، وبطرف كُمّه نشّف دمعة ترقرقت في عينيه وقال:
ـ لقد عانيتِ يا زهراء.
قالت الأمّ:
ـ أنت كنت تتعذّب يا أمير، وليست لي طاقة على أن أراك هكذا.
قال الأب مُمتنّاً:
ـ أنتِ عانيت أكثر منّي، درايتِني مداراة ماءٍ في صينيّة محمولة على اليد.
طأطأت الأمّ رأسها، وراحت تتأمّل في صورة الوردة المنقوشة على السجّادة تحت قدميها، ثمّ همست قائلة:
ـ أنا ما فعلت إلاّ الواجب.
فقال الأب.
ـ كنتِ دائماً معي في المستشفى تمرّضينني.
وأجابت الأمّ.
ـ أنتَ لم تكن قادراً على التنفّس. كنت تشخر شخيراً. وتوسّلتُ بالأطباء باكية، فرجَّحوا أن تُفتَح في حنجرتك فتحة ليسهل عليك التنفّس، وإلاّ ففي انسداد مجرى الهواء يغدو الموت مؤكَّداً. لكنّي لم أوافق على هذا رغم إصرارهم. ثمّ اتّصلت الجدّة وقالت إنها قد رأت رؤيا ويجب أخذك إلى مشهد، فهناك طبيب مُعالج. أجهشتُ بالبكاء لمّا سمعتُ هذا، فكيف نسيتُ الطبيب الحقيقيّ وقد كنّا مقيمين في جواره سنوات طويلة ؟!
خلال هذا الحوار.. كان الخال صامتاً مستغرقاً في التفكير، ثمّ إنّه خرج من صمته وسأل الأب:
ـ ذلك النور.. ماذا كان ؟ خبِّرنا عن النور الذي رأيتَه.
ـ نور أخضر دخل الغرفة يرشّ أمامه ماء الورد. أخذ يتقدم، وامتلأت الغرفة بعبير ماء الورد. جاء إليّ ورشّ على وجهي أيضاً من هذا الماء. وسمعتُ صوتاً يقول: قُم، الكلّ قلقون عليك. قلت: لا أقدر. فأمسك بيدي وأجلسني في السرير. تطلّعت إلى مُحيّاه.. فما رأيت إلاّ نوراً.
وسمعتُه مرّة ثانية يقول: قُم، فكلّهم بانتظارك. وقُمت. ما هذا يا إلهي ؟! هل أنا في حلم ؟! ثمّ لم أعُد أرى النور، وظلّت الغرفة مليئة بعطر ماء الورد المنعش. وفي حَيرتي.. مددتُ يدي إلى حنجرتي أتحسّسها فما وجدت أثراً لورم. وحرّكتُ رِجْلي فإذا هي صحيحة سالمة. نهضت وأنا لا أصدّق ما أرى، وقمت واقفاً على قدمَيّ، ثمّ عَدَوتُ من الغرفة بأقدامي التي عَهِدتُها متيبّة كالخشبة، وصرخت بلسانٍ كان قد خَرِس منذ شهور.
قال الخال وقد بدا التأثّر على وجهه:
ـ معجزة.
فقالت الأم:
ـ معجزةُ قلبِ الجدّة الكسير.
انحنى الأب على يد الجدّة يقبّلها، وقال:
ـ أنا فداء لقلبك الكسير يا أمّي.
أمّا الجدّة فكانت تبكي، وترتجف شفتاها، ولم تَقُل شيئاً.
فقال الخال:
ـ مستحيل ألاّ يفوز القلب الكسير بإجابة. الإمام الرضا عليه السّلام يجيب القلوب المنكسرة على الفور.
ثمّ استرسل الخال يوضّح:
ـ كان أبي رحمة الله عليه يحكي حادثة وقعت في أيّام حكم (نادر شاه الأفشاري). يقول:
جاء رجل أعمى لزيارة الإمام عليه السّلام يطلب شفاء عينيه. وظلّ مدّة في الحرم لهذا الغرض ولم يحصل على الشفاء. وحدَث أن كان (نادرشاه) قد جاء في أحد الأيّام إلى الزيارة، فشاهد هذا الرجل الأعمى جالساً هناك.
سأله نادر:
ـ لماذا أنت جالس هنا ؟
أجاب الرجل:
ـ أنا هنا «دخيل».
ـ دخيل ؟ دخيل عند مَن ؟ ولأيّ غرض ؟
ـ دخيل عند الإمام، لشفاء بصري.
تأمّل نادر قليلاً، ثمّ سأل الرجل الأعمى:
ـ أتعرف مَن أنا ؟
قال الرجل:
ـ كيف أستطيع أن أعرفك وأنا محروم من البصر ؟!
فقال نادر بحزم:
ـ أنا نادر شاه الأفشاريّ، جئت إلى هنا للزيارة، ومتى ما أكملتُ زيارتي ووجدتك على حالك لم تُشْفَ فسأقتلك!
قال نادر هذا ودخل إلى الروضة، فوقع الرجل على الأرض باكياً لاجئاً مضطرّاً. ومرّت ساعة عاد بعدها نادر من الزيارة، فوجد الرجل قد عاد إليه بصره. وعندئذ سأله نادر:
ـ كيف شفيت ؟
قال:
ـ بقلب منكسر.
تساءل نادر:
ـ قلب منكسر ؟!
ـ نعم، بعد تهديدك إيّاي انكسر قلبي، ورحت أتوسّل بالإمام مضطرّاً منقطعاً فأجابني. وقبل ذلك ما كانت عندي حالة الانكسار هذه.
أكمل الخال حكاية القصة، ثمّ عاد يتّكئ على الطُّنفُسة.. وخاطب الجدّة برجاء:
ـ ادعي لي أنا أيضاً بقلبك المنكسر.. يا أُختاه.
أمّا الأب.. فكان في تلك اللحظة يصبّ على وجهه ويدَيه ماءً للوضوء، في حين كان عطر ماء الورد ما يزال يَعبَق في أنحاء الدار.
melika
07-11-2007, 08:44 PM
رؤيا صادقة
المريضة المعافاة: سميّة النوّاب ـ العمر13 سنة. من طهران. الحالة المرضيّة: تلف عظم الساق. تاريخ الشفاء 3 كانون الثاني 1993.
كلّه كان من تقصيري. دونما حذر كنت أجري في وسط الشارع بين السيارات المسرعة. وفجأة صَمّ أذني صوت بوق سيّارة يزعق طويلاً، وصوت كابح السيّارة المخيف. وما أحسست إلاّ بضربة شديدة في رجلي وظهري، وسقطت على الأرض فاقدة الوعي.
* * *
عند الصباح لمّا استيقظتُ من النوم قصَصتُ هذه الرؤيا على أبي وأمّي. لكنّي مهما حاولت أن أتذكّر أخرها ما استطعت.
وضع أبي كفّه على رأسي بمحبّة وقال:
ـ إنْ شاء الله خير. ولكنْ لا تنسَي أن تدفعي صدقة.
ثمّ ناولني ورقة نقديّة لأُلقيها في صندوق الصدقات بالشارع وأنا ذاهبة إلى المدرسة. خرجت من البيت وأنا أحاول أن أتذكر ما نسيت من الرؤيا. أستعيد بيني وبين نفسي الرؤيا، ثمّ لا أعثر على تكملتها. وقطعتُ الطريق إلى المدرسة على هذه الحالة، حتّى إنّي نسيت الصدقة.
عند الظهر حينما كنت أعود من المدرسة.. حَدَث أن مددتُ يدي في جيب (المانتو) فلمست الورقة النقديّة. تذكّرت.. وعزمت أن أضعها في أول صندوق أصادفه في الطريق. كانت كفّي تقبض ـ في جيبي ـ على الورقة النقدية، وعيناي تبحثان حولي عن صندوق للصدقات.. حينما وقع نظري على شحّاذ جالس وإلى جنبه طفل غافٍ. أردتُ أن أعطيه النقود، لكنّ مظهره الوسخ وحالته الغريبة جعلاني اشمئزّ منه.
عبرتُ أمامه بسرعة، ولمحت في الجانب الآخر من الشارع صندوق صدقات، فهرولت باتّجاهه. وما كدتُ أقطع منتصف الشارع حتّى سمعت فجأة صوت بوق سيارة طويل اختلط به صوت كابح مزعج. ما استطعت أن أفعل شيئاً. وجاءتني ضربة شديدة على ظهري ورجلي رَمَت بي على الأرض.
أجل.. كان كل شيء شبيهاً بالرؤيا التي رأيتها البارحة!
عُدت إلى الوعي، فوجدت نفسي في المستشفى. أبي وأمّي واقفان عند سريري ينظران إليّ بعيون دامعة. وأسرع أبي ـ حين فتحتُ عينيّ ـ إلى خارج الغرفة يستدعي الدكتور. ابتسامة باهتة ظهرت على وجه أمّي المبتلّ بالدموع. مَسحَت أمّي دموعها، وانحنت عليّ تقبّل جبيني.
* * *
سمعت أنّ الطبيب قال لأبي: لازم نأخذ صورة لظهرها ورجلها.
وسمعت أبي يقول وهو يتأوّه: إفعلْ كلّ ما تراه ضرورياً يا دكتور.
* * *
أسبوع وأنا راقدة في المستشفى، دون أن أستطيع وضع قدمي على الأرض. وضعوني على العربة النقّالة، وأخذوني إلى غرفة أخرى. وهناك صوّروا ظهري ورجلي عدّة صور.
ونظر الدكتور إلى الصور، فأكّد أنّ عظم رجلي قد اسوَدّ. التمَسَه أبي برجاء:
ـ دكتور، الله يخلّيك.. اعملْ شيئاً. بالله عليك خلِّصْ ابنتي.
أبدى الطبيب نوعاً من الأمل، فربّما استطاع أن يعمل شيئاً ليوقف انتشار اسوِداد العظم. لكنّي كنت ـ من كلّ وجودي ـ أشعر بالوجع يزداد ساعةً بعد ساعة ويوماً بعد يوم. تعبتُ من حالتي وازدادت آلامي، حتّى وصلت إلى حالة من اليأس. كيف يمكن أن أعيش بمثل هذه الحالة ؟! كنت أتمنّى أن أموت لأستريح من الألم والعذاب. غير أنّ أمّي كانت تسلّيني بالأمل وتدعو لي.
في كلّ يوم يأتي لعيادتي عدد من زميلاتي في الصف. ينظرنَ إلى وضعي فيصعب عليهنّ إخفاء الدموع. يحاولنَ أن يضحكن، لكنّي أعرف أن عالَماً من الأذى والحزن يختفي وراء هذه الضحكات المفتعلة.
الأطبّاء لم يتوانَوا عن كلّ محاولة ممكنة.. فاستطاعوا ـ بكلّ اختصاصهم وخبرتهم ـ أن يوقفوا انتشار اسوِداد عظم رجلي. ثمّ غادرتُ المستشفى دون أن أكون قادرة على وضع قدمي على الأرض. أمشي إذا مشيتُ مستندة إلى عصا. أسحب قدمي اليُمنى على الأرض وأخطو خطوات قليلة بمشقّة. أبي كان يأمل أن تتحسّن حالتي بالتدريج، وأن أمشي بشكل طبيعي. أمّا أنا فكان اليأس ينغرس في داخل قلبي.
ومضت عدّة أشهر.. دون أن يحصل عندي تغيّر في طريقة المشي. والمعاينة الطبيّة الشهريّة كانت تضاعف اليأس وتقوّيه. كنت أعلم أنّ الأمر قد انتهى، ولم يظلّ أيّ رجاء في التحسّن والشفاء، وعلَيّ أن أبقى مشلولة إلى آخر عمري وعاجزة عن العمل. في آخر مراجعة طبيّة سمعت هذا الإحساس الداخلي ـ بشكل مؤكَّد ـ من لسان الدكتور حين كان يقول لأبي:
ـ لا أمل.. مع الأسف. يعني أنّي لا أقدر أن أفعل أيّ شيء. فقدَتْ رِجل ابنتك فعّاليّتها. اسوَدّت تماماً وتَيبّسَتْ.
رأيت أبي ينهار. انحنى ووقع على قدمَي الطبيب:
ـ ما العمل يا دكتور، دُلَّني على طريق!
جلس الطبيب إلى جانب أبي وقال بيأس:
ـ مع الأسف لا يوجد.. لا يوجد أيّ طريق.
انفجر أبي باكياً، فاحتضنه الطبيب وأخذ يواسيه:
ـ توكّلْ على الله.. على الله.
* * *
عندما تركنا عيادة الطبيب، في ذلك اليوم، كانت حالة أبي قد تغيّرت. لم ينطق حتّى بحرف واحد. كان صامتاً تقطر دموع عينيه.. حتّى بلغنا المنزل. أنا أفهم حالته جيّداً. أدري أنّه يفكّر بعاقبة حياة صبيّة عليه أن يتحمّل تبعاتها عمراً بأكمله.
ولمّا وصلنا إلى الدار تناول القرآن وجلس في مقابل سريري. أطبق جفنيه لحظة وهمس بدعاء، ثمّ فتح القرآن ونظر إلى الصفحة، وقرأ آيةً بصوت مسموع. عرفتُ أنه يستخير الله. لكنْ.. لأيّ شيء يسستخير ؟! لَم أسأله.. وتطلّعتُ إلى وجهه. كانت أسارير وجهه تنفتح كلّ لحظة وهو يقرأ القرآن. ثمّ أطبق المصحف ونظر إليّ نظرة ضاحكة، وقال:
ـ غداً نذهب.. استعدّي.
سألت:
ـ إلى أين ؟
قال بحزم:
ـ إلى الطبيب الحقيقي. نذهب لنحصل على شفائك.
قلت:
ـ لا أفهم! عن أيّ شيء تتكلّم ؟
ضحك، ومال إليّ فقبّل جبيني، وقال:
ـ آخذك إلى مشهد. ومتى وصلنا إلى هناك فهمتِ كلّ شيء.
* * *
لم أكن قد رأيت (مشهد) حتّى ذلك الوقت. لكنْ.. ما إن دخلتُ الحرم ووقع نظري على قبّة الإمام ومزاره.. حتّى انخرطتُ في بكاء غير اختياري. بدا لي أني أعرف هذا المكان المقدّس، وكأنّي قد رأيته وزرته من قبل.
لكن.. متى ؟. لم أتذكّر. ولمّا عبرنا قريباً من حمَامات الحرم.. تذكّرت أنّي كنت قد ألقيت حبوب قمح لهذه الحمَامات في يوم من الأيّام! أيََّ يوم كان ؟ لا أدري. وأخذتني حيرة عجيبة: إنّ هذا الحرم وصحونه كلّها ليس غريباً عنّي. إنّي أُميّزه في ذاكرتي بوضوح، مع أنّي لم آتِ إلى مشهد مِن قبل!
وعندما أقعدني أبي عند الشبّاك الفولاذي العريض المُشرِف على ضريح الإمام، لأكون «دخيلة» عنده لاجئة إليه.. أحسستُ أني أشاهد هذه المناظر الحيّة للمرّة الثانية. ما الذي يجري يا إلهي ؟! أغمضتُ عينيّ وحاولت أن أتذكّر، فلم يحضر في ذاكرتي شيء. ولمّا كنت مستغرقة في التفكير والتفتيش عن جواب.. رأيت فجأة نوراً يسطع، وانفتح أمام عينيّ كتاب أخضر، رحت أتطلّع إليه. كان الكتاب قرآناً، أخضر اللون وعليه سطور نورانيّة بيضاء. ومن بين أوراق القرآن صدَرَ صوت يتلو هذه الآيات: « سَبِّحِ اسمَ ربِّكَ الأعلى. الذي خَلَقَ فسَوّى. والذي قَدَّرَ فهَدى. والذي أخرَجَ المرعى. فجَعلَهُ غُثاءً أحوى. سَنُقرِئُكَ فلا تنسى ».
على الفور فتحتُ عينيّ. لم يكن أبي إلى جانبي. وجدت الخيط الذي رُبِطَت فيه رِجلي إلى الشبّاك الفولاذي قد انحلّت عُقدته من رِجلي، فعَقَدتُه مرّة أخرى.
اتّكأتُ على الجدار، وأغمضت عينيّ. ومرّةً أخرى.. أخذ ينفتح أمام عينيّ ـ وهما مُغلَقتان ـ ذلك الكتاب. أشرق نوره الأخضر، ورأيت صورة رجل نُورانيّ على صفحة الكتاب. كان الرجل النُّوراني يبتسم لي. سلّمتُ عليه فأجابني بمحبّة ولطف، وسأل:
ـ لماذا عَقَدتِ الحبلَ الذي حَلَلتُه ؟
وبدون أن أُجيب عن سؤاله، أخرج يده النورانيّة وفتح عقدة الحبل من رِجلي. وفتحتُ عينيّ مضطربة.. فوجدتُ الناس قد تجمّعوا حولي، وكلّهم يُحدِّقون بي في دهشة. وانطلقَتْ في الفضاء أصوات الناس بالصلاة على النبيّ وآله. ورحت أتطلّع إلى وجوههم. هذه الوجوه أعرفها جميعاً.. كأنّي قد التقيت بها مِن قبلُ في مكان. وبغتةً سطع في ذاكراتي شيء: المناظر التي أراها الآن.. هي شبيهة بالمناظر التي رأيتها في منامي تلك الليلة قبل وقوع الاصطدام! هذه المناظر كانت في الجزء الذي نسيته من تلك الرؤيا! وها هو ذا يتحقق تفسير رؤياي!
ساعة الحرم.. دقّت أربع دقّات في آخر الليل؛ وأنا في أيدي الناس التي تتلقّفني من كلّ جهة، وتُلقي بي في ابتهاج نحو السماء.
غَمَزتْ لي آخر نجمة من نجوم الليل، وبدأ صوت (النَّقّارة) يبثّ أنغامه؛ احتفاءً بسروري وسعادتي.
یتبـــــــــــــــع
ماشاء الله
مجهود رائع
بورکتی اختی العزیزة
melika
08-11-2007, 11:06 AM
اهلاا اخی اسعد
اشکرکم جزیل الشکر علی الحضور والتواصل العطر..
لا شکر علی واجب اختی العزیزة
وبانتظار باقی القصص
بورکتي
melika
08-11-2007, 02:23 PM
انشالله
..................................
melika
08-11-2007, 02:25 PM
قدح.. من خلال النور
المريضة المعافاة: راضية اليعقوبي. من مدينة بُرُوجِرْد. الحالة المرضية: سرطان الكليتين. تاريخ الشفاء: مايس 1989.
ـ تعالَيْنَ يا بنات ادخُلْنَ. الهواء بارد.. لا تَمْرَضْن.
فُتِحت نافذة، أطلّت منها امرأة على رأسها منديل، وهي تنادينا بهذه الكلمات. أمّا نحن فلم نهتمّ بما قالت. كنّا نُمسك يداً بيد ولا نهتمّ بشيء. واقفات على شكل دائرة ننشد نشيداً بسرور لا حدّ له. المطر الذي كان ينزل قد بلّل ثيابنا.. وأصواتنا المَرِحة تملأ الزُّقاق.
ولمّا أخذ المطر يشتدّ ونَقَعت ثيابنا.. جَرَيْنا بأصوات صاخبة، نحو البيت الذي كانت المرأة قد نادَتْنا من نافذته. لا فرق.. أكانت تلك المرأة أمّي أو أُمّ الأُخرَيات.. سواء أكان بيتنا أم بيت سواي. نجفّف ثيابنا قرب المدفئة ونشرب الشاي الذي قُدِّم لنا. هكذا كنّا دائماً. وكان هذا دأبنا كلّما أمطرت السماء.
* * *
السماء تُمطر. حبّات المطر تضرب زجاج النافذة بإيقاع متناغم محبَّب، ويختلط صوتها بأصوات مياه الميازيب.. وأنا وحيدة مُرهَقة متمدّدة على سرير المستشفى. في عيوني مطر.. وتفكيري يذهب إلى البعيد: إلى تلك الأيّام الجميلة.. زخّات المطر الربيعيّ.. ابتلال الثياب.. الأناشيد الجماعيّة.. والجَرْي تحت المطر. ترى.. ما الذي بقي لي من تلك الأيّام الحلوة غير ذكرى خرساء وشبح لصديقاتي اللاتي لابدّ قد طالت قاماتهنّ الآن وكبرن ؟!
ما اشدَّ شوقي إليهنّ! أُغمض عينيّ.. وأحاول أن أتذكّر. أحاول أن أستحضر في ذهني صورة كلّ واحدة منهنّ. أتسمّع إلى أصواتهنّ مع إيقاع الميزاب والمطر يقرأن الأناشيد. كم هُنّ سعيدات ومَرِحات!
أُحِدّ سمعي، أريد أن أستمع إلى الأصوات:
كأنّ هذا صوت رُقيّة، طاهرة، حوراء، سمر.. وأنا!
صوت تصفيقهنّ يموج في أذني، مختلطاً بصوت المرأة التي تنادينا:
ـ بنات.. يا بنات، تعالَين ادخُلنَ. الهواء بارد.. لا تَمرضْن.
راضية! يا راضية! الصوت صوت أمّي. أفتح عينيّ. أراها جالسة عند رأسي تتطلّع بنظراتها إليّ.
ـ هل نمتِ ؟
ـ لا يا ماما.
تضع كفّها الرقيقة على كتفي. تنحني وتقبّل وجهي:
ـ اليوم تخرجين من المستشفى. الدكتور قال إنّ حالتك أفضل كثيراً. آخذك إلى البيت. بعدها نذهب في سفرة.
ـ أين ؟
أنا أسأل، وتبتسم أمّي قائلة:
ـ إلى أين تحبيّن أن نسافر ؟
أفلتَت منّي ضحكة بلا اختيار:
ـ واضح، إلى مشهد.
* * *
كلّ انتباهي متوجّه إليها. لمّا استيقظَتْ من النوم.. أخذَتْ تنظر حوالَيها وهي مدهوشة. العَرَق يغطّي رأسها ووجهها. ترتعش. مدّت يدها إلى الحبل المعقود حول عنقها فانحلّت عُقدته. قامت من مكانها مضطربة. نظراتها تتنقّل هنا وهناك بلا هدف. وعندما رأتني.. هدأت قليلاً. انفرجَت شفتاها عن ابتسامة لطيفة.. وضحكتْ بصوت مسموع. تحوّلت ضحكتها إلى بكاء. اقتربت منّي وجلست ملاصقة لي:
ـ أين أمّي ؟
احتضنتُها وسألت:
ـ شُفِيتِ.. أليس كذلك ؟
هزّت رأسها وقالت:
ـ رأيت رؤيا رؤيا عجيبة.
منذ سبعة أيّام وأنا «دخيلة». شُفِيَت في هذه المدّة اثنتان، إحداهما هذه الصبيّة الجالسة إلى جواري، والأخرى امرأة شُفيت البارحة، يقال: عندها سرطان.. مِثلي. لكنها حصلت على العافية وذهبت. هي أيضاً رأت رؤيا. لكنْ: أنا لماذا لا يأتيني الإمام في المنام ؟! إذا جاءني في المنام فسوف أتعلّق بثيابه، سأقع على قدمَيه، سأحكي له ما فعل بي السرطان. واحدة من الكليتين توقّفت عن العمل تماماً، والثانية قد تَلفَت. سأحكي له ما أُعانيه من أوجاع في كلّ مرّة أذهب فيها لتصفية الدم بالجهاز، وسأرجوه أن يشفيني.
حمائم تحلّق عالياً فوق رأسي.. وتختفي وراء منارات الحرم. تهبّ نسمة عذبة. تقع عيني على أمّي التي أحضرت لي الآن كاسة ماء جاءت بها من المشربة التي تتوسّط الصحن الكبير. لكني لست عطشانة.
ـ خذي. الماء شفاء.
صوتُ مَن تكلّم معي ؟! أمّي ؟! لكنّ أمّي ما نطقَتْ بحرف! أدرتُ وجهي ففاجأ عينيّ نور. نور يأتي من جهة الضريح. ثَمَّ قدح من خلال النور.. رشّ الماء على وجهي. رشّ الماء مرّة، مرّتين، عدّة مرّات.. حتّى نقعتُ بالماء. هزّتني أمّي وهي في حَيرة:
ـ راضية.. راضية! ماذا حدث ؟ أفيقي يا ابنتي.
أفَقتُ. كانت السماء تمطر.. وقد تبلّلتُ ونقعت. امّي لَفّتني ببطانيّة وضمّتني إليها.. وحملتني إلى داخل الروضة.
ـ ماذا بك يا راضية ؟ هل رأيت رؤيا ؟
ـ ها.. ماما. رأيت رؤيا. رؤيا عجيبة.
كم أُحبّ أن أنام مرّة أخرى وأرى الرؤيا.. ومرّة أخرى ترشّ عليّ الماء تلك اليد النورانيّة مِن قدَح النور. أُطبق جفنيّ من جديد، وأنا أهمس بصوت خفيض:
ـ ليتكِ لم توقظيني يا ماما!
* * *
نحن معاً رفيقات اللعب القديم: نمسك يداً بيد في دائرة، وننشد نشيداً بمرح وسرور. نشيد المطر.. وتُفتَح النافذة أيضاً، فتُطلّ منها أمرأة على رأسها منديل:
ـ يا بنات.. تعالَين ادخُلْن..
صوت أمّي. أفتح عينيّ. أمّي وأقفة أمامي، ومعها كلّ رفيقات اللعب القديم. كلهنّ يضحكنَ لي بفرح وابتهاج. كلّ واحدة حملت في يدها وردة قدّمتها لي:
ـ زيارتك مقبولة يا راضية!
آخذ الورد وأضحك لهنّ. وضعَتْ أمّي الورد في مزهرية عند النافذة. وفي الخارج.. كان المطر ينزل. صوت حَبّات المطر التي تُداعب زجاج النافذة يختلط بصوت الميزاب، مُحْدِثاً نغمةً جميلة محبَّبة.
یتبع
خادمة الشيخ المهاجر
08-11-2007, 04:16 PM
بسم الله تعالى
اللهم صل على محمد وآل محمد
سلام عليكم أختي الغالية مليكا بارك الله بيج على هذا الموضوع القيم و ذوالوزن الثقيل عن كرامات سيدي ومولاي علي ابن موسى الرضا عليه السلام ، فعلا كرامات عظيمة تقشعر لها الأبدان من عظمتها وهيبتها وترين النور الذي يسعى بين الناس ، نور أهل البيت عليهم السلام ، وفضلهم على عباد الله جميعا
بارك الله فيكم وأشكركم على هذا الموضوع القيم الذي يثبت حقيقة أهل البيت عليهم السلام لمن ضدهم
دمتم برعاية بقية الله الأعظم
melika
08-11-2007, 04:59 PM
اهلااا اختی وحبیبتی الغالیه
جزیل الشکر لحضورک ومرورک الطیب الذی انار صفحتی المتواضعه
دمتی بحفظ الله ورعایته..
melika
08-11-2007, 05:19 PM
إنّ أحداً.. يأتي!
ـ عيشتنا نحن الفقراء مثل الزقّوم. لا أدري لماذا الله...
تقاطعينه:
ـ لا تكفر يا رجل! هي حكمة الله. (عليّ) إذا يَحدث له شيء.. فهو من إرادة الله.
يرنو إليكِ يعقوب. يحسّ بالخجل يملأ وجوده، ويهمس مع نفسه:
ـ كلامكِ صحيح.. لكنْ ماذا أفعل ؟! سبحان الذي يختبر عباده دائماً بالبلاء.
ثمّ يلتفت إليك ويصيح:
ـ عفّت.. انظري هنا!
وتنظرين إلى حيث أشار، إلى شاشة التلفزيون بالأبيض والأسود: تشاهدين عَتَبة الإمام الرضا عليه السّلام، وأمواج الناس التي تُهرَع هناك إلى ينبوع النور والرحمة.
ـ كلّ واحد منهم عنده همّ. نحن أيضاً عندنا همّ!
يعقوب مشدود نظره إلى التلفزيون، وعيناه قد غرقتا بالدمع والرجاء. يقول:
ـ ليت عندنا نقوداً، فنأخذ (عليّ) إلى مشهد، لعلّ الإمام ينظر بلطفه إلينا وإلى هذا الولد.
ابتلع بقيّة كلامه.. لكنّكِ تعرفين هذه البقيّة. كلامك كلام يعقوب، وكلام يعقوب حديث قلبك.
ـ تعرفين.. ما عندي إلاّ قطعة أرض زراعيّة. والفلوس التي نحصل عليها كلّ سنة من بيع المزروعات هي بمقدار «قُوت.. حتّى لا يموت»!
« وتفكّرين أنت في عليّ. في عينيه بريق النشاط والمرح. يضع كفّكِ في كفّه ويضغط عليها بمحبّة:
ـ بعد التخرّج أشتغل يا ماما، وترتاحين أنت وأبي من هذا الوضع.
وتَهمِّين أن تنطقي معترضة على كلامه، لكنّه يبادرك بالقول:
ـ يعني.. نبقى راضين بهذه الأرض وهذا البيت القفص ؟! إذا اشتغلتُ نذهب لنعيش في المدينة.
أردتِ أن تقولي له: « أنت وأبوك يعقوب قد وُلدتما في هذه القرية وكبرتما فيها على حليبها الطازج، وخبزها الحارّ الذي أُخرج توّاً من التنوّر ».. لكنّ نظرات عليّ صرفتك عن توجيه ضربة إلى قلعة أحلامه تُحوّلها في لحظة إلى حطام. إنّه شاب ممتلئ بالأحلام. لم تفعلي غير الابتسام، وهمستِ له:
ـ إن شاء الله.
وانحنى عليّ فطبع قُبلة على يدك ».
ويلاحظ يعقوب دمعة عالقة بأطراف أهدابك. ينهض من مكانه، ويلقي نظرة على طرف الغرفة الآخر.. حيث يرقد عليّ في فراشه على الأرض، وهو ما بين الحياة والموت. يهزّ رأسه آسفاً، ويذهب إلى عليّ. يزيح البطانيّة عنه قليلاً، ويقول له بلطف:
ـ علاّوي.
لا يصدر من عليّ جواب. يتحرّك حركة دون أن ينطق. وجهه مغسول بالدموع. أنتِ تنظرين إلى يعقوب، ويعقوب ينظر إلى عليّ. عليّ.. آه! لقد حُرمتِ من نظراته الهادئة الطَّموحة، وتشوّقتِ إلى حديثه وإلى شفته وهي تطبع قُبلة على يدك الكادحة المُخشَوشِنة. تنظرين إلى يعقوب الذي كان ينظر إلى ولده بوجوم، فتخنقك العَبرة. وبعد لحظة يخرج يعقوب من الغرفة، وتظلّلين أنت وعليّ والتلفزيون الذي لم يَعُد يعرض على شاشته صورة العتبة الرضويّة.
تنهضين من مكانك ساهمة، وأنت تنقلين ساقَيك الثقيلتين بعسر. لو مشيتِ متّكئة على كتف عليّ لَسَهُل عليكِ المشي. ( وتعود بك الذكرى إلى الوراء:
ـ لازم أشتري لك كرسيّاً متحرّكاً يا ماما. لا.. لماذا الكرسيّ المتحرّك ؟! أنا نفسي
أكون عصا ليدك، آخذك أينما تريدين.. أينما تريدين.
ترنو نظراتك إلى عليّ، وهو يرنو إليك أيضاً. تقولين له:
ـ لا ماما. في البداية مَشِّ حالك، ثمّ فكِّرْ بي بعد ذلك.
ـ لا يا ماما، أنت أوّلاً.
تعلو شفتيك الشاحبتين ابتسامة:
ـ هذا كلام الآن. في غد إذا وجدتَ ابنة الحلال تنسى هذا الكلام.. تُخلّينا وتروح!
ـ ما هذا الكلام يا ماما ؟! هل ممكن أن أنسى ؟! أنتِ أوّلاً ثمّ المرأة. محبّة الأمّ لها مكانها، والزوجة لها مكانها.
ثمّ تنفرج شفتاه بابتسامة. تأنسين بهذا الكلام، وتضفي عليك نظراته طمأنينة وأنت تشمّين في كلماته عطر الصدق والإخلاص.
ـ أنتِ وأبي.. كلاكما أُصعِّدكما إلى السماء...
تضحكين أنت، في حين يلثم عليّ جبينك، ويقول:
ـ فقط ادعي لي، فقط ادعي.
تلتمع عيناه بدمعة، فينهض من مكانه عاجلاً ويخرج من الغرفة، ويَدَعكِ وحيدة بقلب كلّه استفهام واضطراب ).
* * *
تجدين يعقوب مختلياً بنفسه في فِناء الدار، جالساً وحده بصمت.. وكأنّه لم يشعر بوجودك. لعلّه مثلك يفكّر في عليّ. يفكّر بالسكوت الذي يتخلّل حديثه الودود.. بدفء كفّه.. بنظراته. وتتقدّمين باتّجاه يعقوب.. يخاطبك:
ـ هل تصدّقين يا عفّت أنّ عليّ الذي كان شعلة مرح ونشاط يقع هكذا دفعة واحدة ؟!
تقولين باكية:
ـ لا.. أبداً.
ويتابع يعقوب:
ـ أنا أيضاً لا أصدّق. هل خطر هذا على بال أحد ؟! لا.. لا أحد.
تقولين بصوت منكسر:
ـ بغير وجود عليّ.. أنا لا شيء.
ويقول يعقوب:
ـ لا أدري كيف أستطيع أن أواصل العيش بدونه. عليّ قطعة من كبدَينا.
ثمّ يغطّي يعقوب وجهه بيديه.. وتغطّي وجهَك الدموع، فتشتعل في قلبك نيران اليأس. وتعود إلى ذهنك ذكرى ذلك اليوم حيّةً شاخصة:
( كنتِ منشغلة عند التنّور في باحة الدار تُعدّين الخبز.. لمّا أقبل عليك ابن الجيران صارخاً:
ـ خالة.. خالة.. عليّ.. سيّارة قرب دكّان حاج قاسم...
ولم تسمعي بقيّة كلامه. وضعتِ العباءة على رأسك بارتباك. وبعد دقيقة واحدة ـ وربّما أقلّ من دقيقة ـ وصلت إلى دكان الحاج قاسم. الناس متجمّعون. واقتحمتِ الجمع. ولمّا شاهدتِ عليّ أردت أن تصرخي، لكنّ الحياء الذي في داخلك منعك من الصراخ. الأرض حمراء مصبوغة بدم عليّ.. المطروح على الأرض نصف ميّت ونصف حيّ. يصل أيضاً يعقوب. يعقوب زوجك وأنيسك.. وأبو عليّ. بعد لحظات يُحمَل عليّ على الأيدي، ويوضع على كرسيّ سيّارة. تريدين أن تذهبي أنت كذلك مع يعقوب وعليّ، لكنّ يعقوب يمنعك:
ـ أنتِ روحي إلى المنزل.
لم تكوني تطيقين الرَّواح إلى المنزل، لكنْ لا مفرّ. وحين تدخلين الغرفة تنظرين إلى صورة عليّ وتطيلين التحديق. كان عليّ في الصورة يضحك.. أمّا أنت فتبكين.
تجلسين في زاوية الغرفة تنتظرين. تمرّ ساعة.. ساعتان، ويطول على قلبك الانتظار..حتّى يحلّ الليل. كأنّ قيامة قد قامت، يومها مقداره ألف سنة. وتقضين الليل مستوحدة حَيرى محزونة تترقّبين.. حتّى يُقبل الصباح.. تتوضئين وتقومين لصلاة الفجر: ترفعين يديك بالدعاء لعليّ.. وليعقوب.
على حين غرّة.. يقتحم الدارَ صوت. تقفزين من مكانك، وتخرجين إلى فناء الدار. الشمس لم تطلع بعد. تفتحين الباب.. وإذا بيعقوب. يلقي عليك التحيّة مُرهَقاً، ويلج إلى الفِناء. يدور في داخل الغرفة، وأنت معه تدورين. ويَعلَق بصره بصورة عليّ، ثمّ يلتفت إليك:
ـ يتحسّن عليّ، لكن...
ألف «لكن» تطنّ في ذهنك:
ـ لكنْ .. ماذا ؟!
ـ سلامته الكاملة.. ليس للدكتور فيها أمل. لا أدري، يقولون نُخاعه أٌصيب بضرر. قلت: آخذه إلى طهران.. قالوا: لا فائدة.
ينبوع الدمع يجفّ من عينيك، وتتمنّين لو كان بإمكانك أن تذرفي دمعة على خدّك. تحدّقين بصورة عليّ. إنّه يضحك أيضاً.. وأنت تبكين. إنّه يستمرّ يضحك ).
أنتِ ويعقوب غائصان في عتمة باحة الدار. وأنت على تلك الحال تتطلّعين إلى عينَيّ يعقوب. عيناه نديّتان بالدمع، يقول:
ـ فقط علينا أن نظلّ على أمل. يمنّ الله علينا ويحفظ لنا عَلِيَّنا. الله يعلم كم هو عزيز علينا عليّ.
التمعَتْ في ذهنك فكرة، لا تدرين أتقولينها ليعقوب. تتردّدين مدّة، ثمّ تنطقين:
ـ أريد أن أحوك سجّادة.
تبتسمين لنظرة يعقوب المتسائلة، وتواصلين الكلام:
ـ مِن غد أبدأ.. أبيعها، وبثمنها آخذ عليّ إلى مشهد.
يرنو إليك يعقوب، وتلمحين في عينيه وميض والقبول والاستحسان. كأنّما تهمّين أن تقولي إنّك تأملين أن يظلّ عليّ يحكي لك عن آماله وأحلامه، وإنّك تحنّين إلى لمس دفء يديه.. بَيْد أنّ العَبرة التي كانت تتكسّر في صدرك تمنعك من الكلام.
* * *
أنتِ جالسة إلى النُّول العموديّ أمامك.. تحوكين السجّادة التي وعدتِ بها يعقوب. أنت منهمكة بها لا تشعرين ممّا حولك بشيء. لا تشعرين حتّى بيعقوب الذي جاء من خلفك. إنّه هو الذي يقول:
ـ لا تُرهقي نفسكِ كثيراً.
يجلس يعقوب إلى جنبك عند النُّول، وبصره يرنو إلى السجّادة التي لم تكتمل بعد.
ـ تحوكين السجّادة بطريقة «نقش زهرة الآس» ؟
ـ إي، الآس أفضل من الكلّ.
يضحك يعقوب:
ـ في الليلة الآتية يقام مجلس لدعاء (التوسّل).. هل تأتين ؟
يجري تفكيرك على لسانك:
ـ لا، أريد أن أكمل السجّادة.
* * *
بغتة.. تسمعين عليّ يئنّ. تتسارع في صدرك دقّات القلب، وبارتباك تروحين إلى عليّ.
ـ ماء!
يُحضر يعقوب الماء ويناوله إلى عليّ. يشرب عليّ بمشقّة، ثمّ يرمي برأسه على المخدّة.. بوجهٍ ناحل، وعين مفتوحة إلى النصف. ترجعين، وتجلسين عند النول، وفي قلبك عالَم من الآمال.
يداك تحوكان آخر (أدوار) السجّادة. تَعْبى النفس حقّاً، لكنّك تصرّين على مواصلة العمل حتّى النهاية. قلبك دافئ بوجود عليّ، بأحلام حديثه الودود، ووعوده الجميلة. عليّ! الآن اتّضحت صورة زهر الآس على السجّادة بجلاء. تتذكرين عليّ، فتجدين في داخلك طاقة مضاعفة. تعلمين أنّ الليلة هي ليلة الأربعاء، ليلة دعاء (التوسّل) الجماعيّ في المسجد، ويعقوب... .
فجأةً ترتجف يداك على النُّول.. أنتِ كلّك ترتجفين. تُحسّين أحداً في الغرفة! تقولين في سرّك:
ـ مَن غيرنا أنا وعليّ في الغرفة ؟!
كلّ لحظة يزداد شعورك بوجود الشخص. إنّ أحداً يأتي في انفراد قلبك وعليّ. إحساس مبهم يقتحم وجودك. تحدّقين بالسجّادة وتهمسين:
ـ أستغفر الله وأتوب إليه.
ما زلتِ تسمعين وَقْع أقدام الآتي.. في قلبك.. في كيانك. ويفاجؤك صوت عليّ يتأوّه. تلتفتين إليه، فترَين عليّ حائراً مبهوتاً. كلاكما مبهوت: عليّ ينظر اليك مندهشاً. أنت ترتجفين.. وكذلك عليّ.
أمام ناظرَيك المذهولين: عليّ على فراشه في نصف قَعدة. تعجين كذلك وتَحارين، كأنّك لستِ الآنَ في هذه الدنيا. عليّ يقعد على الفراش. إنّه الأمل الذي طالما ذرفتِ من أجله ساخن الدمع. عليّ الذي ليس في وسعه أن ينطق بحرف واحد ها هو يتكلّم.. يخاطبك:
ـ ماما.. أين ذهب ؟!
يأخذك الخوف. عليّ يقوم واقفاً.. كما كان مِن قبل. تكادين تموتين من الدهشة. عليّ ينقل قدمَيه، ويتقدّم إلى الأمام باضطراب ظاهر. تقرئين سورة (الحمد) بصوت خفيض. إنّه ما يزال يمشي:
ـ أين ذهب ؟! أين ذهب ؟!
وأنت في حيرتك الخائفة تسألين:
ـ مَن هو ؟!
عليّ لا يجيب عن السؤال. يُطلق ساقَبه يركض باتّجاه فِناء الدار.. وأنتِ تلحقينه. يَفتح الباب ويمدّ رأسه إلى خارجه لحظات يفتّش في الزقاق. ثمّ يغلق الباب على مهل. وحين يستدير تشاهدين وجهه مغسولاً بالدموع. تتطلّعين إلى عليّ بِحَيرةٍ حائرة:
ـ ولدي عليّ.. أنا فداء لك.. أنت.. أنت الذي.. ها أنت تمشي الآن!
وتنساب من عينيكِ أنتِ أيضاً سيول الدموع. وكطفلٍ هائج يضرب عليّ رأسه بالحائط. يضرب ويضرب ويبكي. ويبلغ الآذانَ صوتُ مذياع المسجد. دعاء التوسّل: (... يا عليّ بنَ موسى، أيّها الرضا.. يا ابنَ رسول الله يا حجّةَ الله على خلقه، يا سيّدَنا ومولانا إنّا توجّهنا واستشفعنا وتوسّلنا بك إلى الله وقدّمناك بين يدَي حاجاتِنا، يا...)
وتتذكّرين أن يعقوب الآن في المسجد. وتقولين في سرّك:
ـ لم يبقَ كثير على عودة يعقوب.
* * *
واضح لديك أنّ عليك أن تسجدي شكراً لله. تنظرين إلى السماء، وتذرفين دمعة. عليّ جالس على الأرض في حَيرة ووجوم. تقودينه إلى داخل الغرفة. تنشّفين دموع عينيه، وتجلسين عند النّول. أنت منهمكة الآن بأخر (دَور) من أدوار السجّادة تحوكينه.. ويدخل يعقوب.
ينهض عليّ من مكانه ويرمي بنفسه باكياً في أحضان يعقوب. يبكي يعقوب بكاءً صامتاً، وعليّ ينتحب. لا يقرّ له قرار، كأنه قد فقد عزيزاً عليه.
ومن خلال النُّول المنتصب تنظرين إلى عليّ ويعقوب. عليّ يُقبِل إليك. يتطلّع إلى السجّادة المنقوشة عليها زهرة الآس. أنت تحدّقين في عليّ، وعليّ يحدّق في السجّادة على النُّول.
تمرّ لحظات. يأخذ عليّ كفّك بين كفَّيه، ثمّ تلامس شفته كفّك:
ـ في يدك يا ماما عطر الآس. لكنْ لا عطر أروع أبداً من عطر وجود مولاي الإمام.. الذي أتاني عند فراشي، وأطلقني من العذاب والمرارات.
تحتضنين عليّ بمسرّة وابتهاج.. ويتوحّد قلبك بقلب عليّ.
یتبع
melika
09-11-2007, 01:41 AM
سرّ المَرايا
المريضة المعافاة: فاطمة الاستانيستي. العمر: 29 سنة، من منطقة كلات نادري. الحالة المرضيّة: سرطان الدم، شلل، تعفّن الكليّة. تاريخ الشفاء آذار1994.
نظرَتْ في المرآة.. فأبصرت صورة حُطام امرأة معذَّبة. إنّها ليست صورتها! وجه شاحب اللون، متغضِّن.. وتحت العينين أخدود مستطيل يتوسّط منطقة هي أقرب إلى السواد. وبدت صورة المرأة في المرآة أكبر من عمرها هي بكثير.
أطلقت زَفرةً مُلْتاعة، وأدارت ظهرها عن المرآة، ففاجأتها مرآة أخرى منتصبة أمامها. ارتدّت على أعقابها في حيرة! ثَمّة مرآة ثالثة تعكس صورتها المرتبكة. أرادت أن تتخلّص من المرآة.. فأخذت تدور في مكانها. المرايا في كلّ الجهات.. في الجهات الأربع! واه.. لَكأنّها سجينة محاصرة بالمرايا! وشعرت أن المرايا تدنو منها. تدنو منها باستمرار، ولحظةً بعد لحظة يضيق عليها الحصار. تتكاثر الصورة في المرايا وتتعدّد في كلّ اتّجاه.
عزمت على الفرار والخلاص من هذا العذاب الغريب. اقتحمَتْ إحدى المرايا.. وغابت وراءها. لم تتكسّر المرآة! لكنّها خرجت من حصار لتدخل في حصار! راحت صورتها المتكاثرة في المرايا الجديدة تضحك عليها باستهزاء. كانت مضطربة تتعذّب. شيء لا يُصدَّق. أرادت أن تصرخ من الأعماق. وقبل أن تفجّر صرختها.. امتدّت من كلّ مرآة حولها يد، وراحت تضغط على حنجرتها بشدّة.. والمرايا ما تزال تقترب منها حتّى لاصقت جسدها. لم تَعُد تبصر في المرايا حتّى صورتها. استولى عليها رعب لا عهد لها به مِن قبل. رعب من نوع جديد. وأحسّت أنّ روحها تكاد تخرج مُندلقةً من عينيها. ولا تدري لماذا أغمضت عينيها.. فوجدت نفسها مستغرقة في ظلام مُطبِق عميق.
تَسمَّعتْ إلى وقع أقدام منتَظَم يقترب منها. وعلى حين غَرّة.. صَمَّ أُذنَيها صوت مرايا تتكسّر وتتحطّم على الأرض شظايا. فتحت جفنَيها: ضياء في كلّ مكان..
وسفع عينيها ضياء ثاقب. إنّ شخصاً قد صار الآن على مقربة منها! شخصاً غير مرئيّ.. مستغرقاً في محضر الضوء والنور. ما شبّهَتْه إلاّ بينبوع ضياء ساطع يُمطر في عينيها المضطربتين. أغمضت عينيها.. ثمّ فتحتهما من جديد. ألْفَتْ أمامها مرآة صغيرة، زاهية اللون الأخضر.. تعكس صورتها. اطمأنّت إلى المرآة الخضراء. ابتسمت هي.. فابتسمت معها الصورة. صورتها هي، خالية من اللوعة والمعاناة. أين هي تغضّنات الوجه ؟1 أين هما العينان الغائرتان ؟! تماماً.. كما كانت قبل أن يحلّ بها المرض، وترقد على سرير المستشفى ببؤس. ها هي ذي مرحة موفورة السعادة في نشاط. ومن فرط حيويّتها ومسرّتها: أطلقت صيحة أُنس، وقفزت في الهواء.
* * *
حتّى محمود.. كان يخفي عنها شيئاً. تقرأ هذا في قلق نظراته. تسأله. فيجيبها إجابة مقتضبة، ويحاول أن يغيّر الموضوع. فراره من الجواب كان يزيد المسألة تعقيداً. وغدا واضحاً لديها أنّ «شيئاً» ما قد حدث. لكن.. ما هو ؟ لا تعلم. تلاحظ أنّها تنحف ويزداد وهنها يوماً بعد يوم. وأدركت أنّ داءً مستعصياً هو ما ابتُليَت به.
الأطبّاء لا يبوحون لها بشيء.. لكنّها كانت تلحظهم يتهامسون مع محمود تهامساً مثيراً للتساؤل. محمود ما كان يخبرها بما تودّ أن تعرفه. كلّما سألته عن مرضها حاول ـ بضحكة مفتعلة ـ أن يخفي همومه، ويقول:
ـ شيء غير مهم، وعكة خفيفة. تشفين منها.. أعاهدك.
والواقع أنّ داءها لم يكن وعكة خفيفة. استنبطت هذا من قدمَيها اللتين فقدَتا القدرة على الحركة. إنّه الشلل! وزوجها ما يزال يسعى لإقناعها بأنّه شيء غير مهمّ. لكنّها لم تُعد تكترث بما يقابلها به محمود من ارتياحٍ ظاهر، ومن ضحكات هي كالقناع.. إنّها واثقة الآن أنّ حياتها قد بلغت آخر يوم من أيّام الربيع.. وها هي ذي تدخل بلا شكّ في صقيع الشتاء. ورقة متيبّسة تكاد تنفصل عن شجرة الحياة، وتهوي ميّتة على الأرض. لقد أيقنت أنّ الموت قادم إليها في الطريق. وسيصل سريعاً.. أسرع ممّا كانت تتصوّر.
* * *
في آخر فحصّ طبيّ.. قرأتْ الحقيقة في نظرات الأطباء. نظراتهم تقطر يأساً ممزوجاً بالأسف. ما قالوا لها شيئاً، لكنّهم اختلَوا بمحمود جانباً:
ـ القضيّة منتهية.. لم نَعُد قادرين على شيء!
أحسّ محمود أن قلبه ينخلع، وتخور قواه. اتّكأ على الحائط، وراح ينزلق رُوَيداً رويداً.. حتّى قعد على الأرض. أمسك رأسه بيديه، وراح يحدّق مطرقاً في نقطة مجهولة. ما نطق بحرف.. بَيْد أنّ داخله كان يحتدم بضجّة هائلة. ثمّ.. بلا مقدّمات: نهض من مكانه ومضى إلى الطبيب:
ـ هل يمكن أن آخذها ؟
ـ إلى أين ؟
ـ أريد أن آخذها إلى مشهد.. إلى الإمام الرضا.
ـ لا يمكن، غير مسموح لها بالحركة.
وجاء ردّ محمود أقرب ما يكون إلى الصيحة:
ـ أنت قطعت الأمل فيها يا دكتور، أنت تعلم أنّها تموت، فاسمحْ لي آخذها إلى مشهد. إذا كان مكتوباً لها أن تموت الآن.. فلتَمُتْ عند ضريح الإمام الرضا.
هزّ الدكتور رأسه بالنفي قائلاً.
ـ أنا مسؤول عن مريضتي، لا أقدر أن أسمح لك.
أمسك محمود بعضد الطبيب، وقال له:
ـ لكن.. يجب أن آخذها. أرجوك يا دكتور.
قال الطبيب بشيء من الانفعال:
ـ جنازة تريد أن تحملها إلى مشهد.. ثمّ ماذا ؟!
رمى محمود نفسه في أحضان الطبيب.. ينتحب. عدّل الطبيب من وضع نظّارته.
قال محمود وهو يبكي:
ـ فاطمة ما تزال شابّة يا دكتور. ليس هذا أوان موتها. آخذها إلى مشهد. أطلب من الإمام أن يساعدها. أدري أن قلبه يحترق على شباب فاطمة. شيء في صدري يقول لي: إنّ شفاء فاطمة في مشهد. إي.. يا دكتور آخذ فاطمة إلى مشهد، لعلّ الله يصنع لها شيئاً.
ثم إنّه انتزع نفسه من أحضان الطبيب، والتقت نظراته الباكية بعينَيه النديّتين.سأل بلطف:
ـ أتسمح يا دكتور ؟
مدّ الطبيب طرف إبهامه تحت عدسة نظّارته يُخفي قطرات دمع. ثمّ هزّ رأسه قائلاً:
ـ حسناً.. خذها. تجد الشفاء بإذن الله.
* * *
كانت مرهقة.. مرهقة كثيراً. ما إن جلست عند الشبّاك الفولاذي في الصحن العتيق.. حتّى جاءها النعاس وأخلدت إلى النوم.
في نومها.. دخلت في عالم الرؤيا: رؤيا المرايا الكثيرة التي كانت تحاصرها وتضيّق عليها الأنفاس. بلغت روحها التراقي. عزمت أن تجأر بصرخة قويّة، فلم تستطع. ضغط شديد على حنجرتها. كادت تختنق. أغمضت عينيها بخوف. ملأ سمعها صوت مهيب. صوت مرايا كثيرة تتكسّر متحطّمة على الأرض. باعَدَتْ بين جفنيها.. فتلألأ في نظراتها نور. انكسر حصار المرايا وتبدّد. وعاينت يداً مُشرَبة بنور غير أرضيّ، وهي تحمل أمامها مرآة خضراء. تطلّعت إلى صورتها في المرآة، وراحت تتقحّص الصورة. لقد اختفت من مُحيّاها أعراض المرض، وكأنها سليمة معافاة. خطر في داخلها خاطر غريب: إنّها تريد أن ترى صاحب هذه اليد العجيبة، وتطبع قبلة امتنان على يده التي تفيض بالنور والبركة.
قامت من مكانها.. واقفة على قدميها اللتين كانتا قبل لحظات عاجزتين.
استغربت حالتها. ونظرت إلى ساقَيها، ومدّت يدها تتلمّسهما، فما وجدت فيهما للألم مِن أثر. ومن فرحتها.. أطلقت صيحة أُنس غامر، وقفزت في الهواء.
هرعت إليها النسوة الحاضرات.. وظهرت فاطمة محمولة على أيديهنّ بسعادة. تطلّع محمود إلى زوجته وهي تغوص بين أمواج الأيدي.. وتعالت من كلّ مكان أصوات الصلاة على محمّد وآل محمّد. خشع قلبه وارتجف. سالت دمعة منه على الخدّ. قعد على ركبتيه، ثمّ هوى على الأرض في سجدة شكر واعتراف بالجميل.
یتبع
melika
09-11-2007, 03:16 PM
أيدي الرجاء
فتحت النافذة، فمرَّ نسيم السهل يتهادى بعذوبة ورَواء، وسَرَت إلى كيانها برودة الصباح. تنفّست نفساً عميقاً، ثمّ عادت وألقت نظرة على نُول الحياكة المستند إلى الحائط المقابل في داخل الغرفة. لَكأنّها تود لو تحسّ بنعومة الأزهار التي قضت أياماً في حياكتها وإبداعها. تطلّعت إلى (كُبّات) الصوف الملوّنة المعلّقة في أعلى النُّول.. ثمّ هبّطت بصرها إلى السجادة التي ما تزال تحت الشغل. حدّقت بالأزهار التي ستتجلّى في نسيج السجّادة بإبداع أصابعها الماهرة، وكأنّها شتلات في حديقة. وفي وسط السجادة ينبغي أن تكمل صورة لطائرين متقابلَين ينظر أحدهما إلى الآخر نظرة حبّ.
وسَرَحت لحظة مع الخيال. تراءى لها سهل أخضر فسيح.. وجدت نفسها في وسطه على حصان جميل أبيض اللون، يمسك بزمامه رجل شاب يبتسم. لكنّها سُرعانَ ما عادت إلى نفسها بارتباكِ عذراء مُستَحيية. تلفّتت يمنةً ويسرة. لم تكن الأمّ في الغرفة.. واصطبغت وجنتاها بحمرة الحياء. ثمّ استجمعت همّتها وشرعت تشتغل بالحياكة. قالت لها أمّها مِن قبل:
ـ إنّ هذه السجّادة ليست للبيع.
ثمّ أضافت:
ـ هذه السجّادة لزواجك.
وقرّ عزمها على أن تحوك أفضل سجّادة ممكنة، وبأحسن ما تقدر عليه من المهارة والإتقان. فكرها يذهب إلى المستقبل، ويداها تشتغلان بلباقة وسرعة وهما تعقدان على سَدى النُّول خيوط النسيج الملوّنة: أصفر، بُنيّ، أخضر، أزرق. ثمّ مدّت يدها لتتناول الخيط الأحمر. لكنّها لم تدرِ كيف فاجأها بغتة وفي لحظة سريعة ألم حادّ، لفَّ كلّ كيانها. كأنّ ناراً قد اضطرمت منها في كلّ مكان، وراحت تتلوّى.. ويدها مشتبكة بخيوط النسيج. ومن بين فكَّيها التي كانت تضغطهما بقوّة أصدرت أنّةَ ألم مختنقة. وسقطت من النُّول كُبّة الخيوط الحمراء، وتدجرجت حتّى بلغت باب الغرفة.. ساحبةً وراءها خطّاً نحيفاً من الخيط الأحمر.
* * *
باعَدَت بين أجفانها.. فأبصرت أمّها جالسة عند فراشها. كان الدكتور قد ذهب بعد أن نصح بنقلها على جناح السرعة إلى طهران، لإجراء الفحوصات اللازمة. وقرأت هي القلق على مُحيّا الأمّ.. وحاولت أن تضحك:
ـ أشفى يا ماما. المسألة بسيطة.. لا شيء.
ابتسمت الأمّ ابتسامة تعبّر ـ أكثر ما تعبّر ـ عن الأسى والحزن. كانت تفكّر بكلام الطبيب:
ـ إذا تأخّر إجراء العمليّة فمن الممكن أن تتلف كليتاها جميعاً.
كان الألم يتمشّى في عروقها. حاولت القيام، فلم تستطع. قالت الأم:
ـ لازم نأخذك إلى طهران.. الدكتور قال.
استدرات الفتاة تتطلّع إلى السجادة التي لم تكتمل. وكانت كُبّة الخيوط الحمراء ما تزال محلولة على الأرض.
* * *
يمرّ ظلّ معتم من أمام عينيها.. لم تتعرّف فيه على وجه أمّها المتغضِّن البائس إلاّ بعد لحظات. ابتسمت الأمّ بمرارة:
ـ الأطبّاء يقولون: تتحسّنين إن شاء الله.
وأدرات الأمّ ظهرها. لكنّ اهتزاز كتفَيها وصوت عَبرتها المختنقة كانا يقولان شيئاً آخر.
* * *
انسلخَتْ ثلاث من السنوات، أُجريت لها في خلالها ثلاث عمليّات جراحيّة... وبعدها فقد الأطبّاء أيّ بارقة أمل:
ـ أمعاؤكِ قد تعفّنت، وتَلفَت الكليتان. نحن نعمل ما نستطيع، والبقيّة على الله.
ثلاث سنوات من الآلام والأوجاع والمشقّات. وها هي ذي قد أمست نحيفة ناحلة الجسم واهنة القوى لا تقدر على شيء. والسجّادة التي ظلّت على النصف.. ما تزال مصلوبة. الغبار المتراكم دفن تحته الأزهار الحمراء، والطائران اللذان لم تكمل حياكتهما كأنهما في مقبرة للأموات. لقد ضاع منها كلّ شيء.. وماتت الآمال.
* * *
تهبّ نسمة دافئة من نافذة سيّارة الركّاب الكبيرة إلى الداخل. تلاطف النسمة وجهها الشاحب العليل. أفكار مشتّتة في ذهنها تدور: الحصان الأبيض، أزهار السجّادة، السهل الأخضر، كُبّة الخيوط الحمراء، الأمّ، والأوجاع التي رافقتها طيلة هذه السنوات الثلاث.. وها هي ذي تصل إلى آخر الخطّ. الأطبّاء اعترفوا بصراحة أنهم غير قادرين على شيء. بكت الأمّ، وبكت هي كذلك.
وها هما الآن ذاهبتان بالحافلة.. إلى الإمام الرضا عليه السّلام.
وعلى مشارف مدينة مشهد.. توقّفت الحافلة قليلاً. وجذب نظر الفتاة منظر القبّة الذهبيّة المتألّقة التي تتلامع من بعيد، فتمتمت بصوتٍ حفيض:
ـ السّلام عليك يا مولاي يا عليّ بن موسى الرضا.
* * *
كان الحرم مغموراً بنور مدهش كلّه عظمة وجلال. وتعطّرت مشامُّها بنسيم الليل المجبول من ماء الورد. هي ذي واقفة عند الباب. انحنت أمام القبّة الرضويّة وهمست بالسّلام. الألم لا يدعها لحظة تستريح.. وتهالكت جالسةً عند الباب. ثمّ دسّت رأسها ووجهها تحت عباءتها السوداء. من عمق وجودها انبثقت دمعتان سالتا منها على الخدّين. رفعت رأسها.. فتجلّت لها القبّة الذهبيّة أكثر جلالاً وعظَمة؛ لقد كانت تنظر إليها من خلال الدموع.
جلست لحظات وعيناها مشدودتان إلى القبّة الباسقة. العابرون يمرّون من قربها، لكنها لم تكن تبصر منهم أحداً. عيناها لا تَرَيان إلاّ هذه القبّة الرفيعة المتألّقة بالنور. شيء يتحرّك في أعماق فؤادها، وماثَمّ سواها مَن يعلم ماذا كان يجول في أعماق الفؤاد. ثمّ قامت واقفة، وصعّدت نفَساً عميقاً كانت تحبسه في الصدر.
* * *
أمام الشباك الفولاذيّ.. تجمهر فوج من الناس كبير. كلٌّ قد رُبط هنا «دخيلاً» عند الإمام الرؤوف. كانت تتخطّاهم على مهل.. حتّى وقفت قبالة النافذة العريضة. شاهدت خيوطاً كثيرة وقطعاً من القماش معقودة على مشبّك النافذة. وأخذتها «حالة».. فتدفّقت فجأة من عينيها أمطار الدموع. انخرطت في البكاء.. بلا خجل من أحد. وقعدت عند النافذة.. جيث يلوح من وراء المشبّك جلال الضريح. أخفَتْ رأسها تحت عباءتها، وأخذت تنتحب نحيباً متعالياً.. لكنّه كان يغيب بين أصوات ضراعات الحاضرين التي تتصاعد من كلّ مكان. ولم تدرِ كم من الوقت ظلّت على هذه الحالة حينما بدأ يهيمن عليها النوم.
* * *
لم تكن تعلم أنامت حقّاً أم أنّها كانت مستيقظة: امرأتان ورجل على مسافة منها جالسون. نَسِيَت أين هي الآن، ولم تَعُد تتذكّر أيّ شيء. دائخة كانت، قد سلبها الألم كلّ قدرة على التفكير. وسمعت صوتاً! كأنّ أحداً يخاطبها:
ـ قُومي.
هزّت رأسها:
ـ لا أقدر.
إحدى المرأتين التفت إلى الرجل قائلة:
ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا.
هي تتلوّى من الألم، مطأطئةً رأسها تحت العباءة، لا ترى إلاّ قدمَي الرجل الذي يتقدّم إليها، وإلاّ يده التي مسحت على رأسها بحنان. وبغتةً.. سطع نور في مقابل عينيها، حتّى غرق كلّ شيء في لجّة النور.
* * *
فتحَت عينيها. ما تزال تبلغ مسامعَها أصوات الحاضرين المرتفعة بالِّذكر والمناجاة. كم من الوقت قد أغفَت ؟ لا تدري. تذكّرت أمّها. لعلّها استبطَأتْها فقلقَتْ عليها. وحاولت أن تستذكر ما رأته قبل قليل. وفاجأها أنّها انتبهت إلى نفسها، وتفطّنت إلى أنّ وضعها طبيعيّ! طبيعيّ جدّاً.. فلا آلام ولا أوجاع! واشتملت عليها الدهشة لحظات.
وتذكّرت كلّ شيء: تلكما المرأتين، وذلكم الرجل، والصوت الذي قال:
ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا.
شبكت أصابعها على الشبّاك، وألصقت رأسها به.. وراحت تبكي من القلب، ويعلو منها البكاء. بكاء ترفرف في أعماقه المسرّة ويموج فيه الحبّ العظيم. ما ثمّة من ألم يؤذيها وينغّص عليها أيّام الحياة.
في خيالها: أزهار السجّادة الحمراء وهي تهتزّ مرحةً بنسيم السهل الأخضر. وعلى كتفها حطّ طائرا السجّادة يغرّدان بابتهاج. وكانت هي ما تزال تبكي بكاء الفرح والامتنان.
یتبع
melika
10-11-2007, 05:47 PM
الإمام الرؤوف
المريضة المعافاة: زهراء المنصوري. من مدينة خُرَّم آباد. الحالة المرضيّة: سكتة قلبيّة. تاريخ الشفاء تموز 1987.
هجموا عليها. قبضوا على يديها ورجليها. صرخَتْ:
ـ اتركوني!
لكنّهم لم يتركوها. أمسكوها بقوّة. تكاد تختنق . قالت بتوسّل:
ـ لخاطر الله.. اتركوني!
انهالت عليها ضربات شديدة مبرِّحة. الأوجاع في كلّ مكان. أشدّ الأوجاع في يدها اليمنى وفي الكتف. لا تقوى على الحركة. جرّبت أن تتحرّك.. فأخفقت. تحاملت لتجرّب مرّة أخرى، لكن بلا جدوى.
المتلفّعون بالسواد كانوا يقبضون عليها بعنف. بكت منتحبة. نحيبها يختلط بأصوات المتلفّعين بالسواد العابثة وهم يضحكون. إنّهم يدورون حولها في رقصة بغيضة هازئة. وراحت تتملاّهم ببصرها: غارقون في السواد.. حتّى وجوههم مقنّعة بالأسود. مَن يكون هؤلاء ؟!
وانتفضت من نومها مرعوبة. الألم يمور في كتفها الأيمن. همّت أن تقوم. لم تستطع. الألم يتمشّى ثقيلاً كريهاً من كتفها إلى أطراف الأصابع، ثمّ ينعطف سارياً إلى رقبتها حتّى استولى منها على الوجه: راحت تتلوّى من الألم، وأطلقت صوتها بالصراخ. جاءها صوت من باحة الدار. وتناهى إلى سمعها وقعُ أقدام مرتبكة ترتقي السلّم على عجل. دخل الغرفة شبح رجل. صرخت:
ـ إلحقْني!
ركض إليها الرجل، وطوّق بيده رأسها برفق:
ـ ماذا بك يا زهراء ؟!
انفجرت تبكي. أمسك بها الرجل من عَضُدَيها ليُنهضها. صرخت تتلوّى من الألم. الألم في كل مكان. هرع الرجل إلى خارج الدار. وبعد أمد.. حضر ومعه أمّها والطبيب. المرأة عيناها شابحتان. نصف وجهها بدون حسّ ولا حركة. فمها أمالته لقوة شلل، وفقدت السيطرة على نصف بدنها الأيمن. ضربت أمّها كفّاً على كفّ قائلة:
ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله!
الطبيب منهمك بالفحص.. وبعد دقائق خرج من الغرفة، وخرج معه الرجل. الأمّ جالسة عندها: تختضنها، وتحرّك شفتيها بالدعاء. عاد الرجل.. فقرأت الأمّ على ملامحه علامات الحزن والأسى. سألته:
ـ ماذا قال ؟
مشى الرجل باتّجاه النافذة مُديراً ظهره للأمّ، وغارزاً أصابع كفَّيه بشعر رأسه:
ـ يجب أن نأخذها إلى المستشفى. اتّصلتُ هاتفياً.. لتأتي سيّارة الإسعاف.
لطمت الأمّ وجهها. نَدّت منها شبه صيحة:
ـ لأيّ شيء ؟! ما الذي نزل بها ؟!
استدار الرجل، وسمعته الأمّ في استدارته يقول:
ـ سكتة.
ضربت الأم جبينها بيدها، وقالت مستعبرة:
ـ أيّها الإمام الرضا.
.. وفي تلك اللحظة كان صوت سيارة الإسعاف يُسمع من بعيد.
* * *
ـ عباس! عباس!
تقلّب في مكانه، وبعد لأي.. فتح عينيه الغافيتين:
ـ هـ ... ا ...ا ...ا.
جلست الأمّ في قباله:
ـ رأيتُ رؤيا يا عباس، رؤيا عجيبة.
قعد في مكانه نصف قعدة، ونظر إلى الأمّ بعينين ما يزال يخامرهما النوم:
ـ ها ماما.. ماذا رأيت ؟
ـ في الطّيف رأيت زهراء هربت من المستشفى، فأخذناها وأرجعناها إلى المستشفى بالقوّة.. وهي لا تسكت عن التوسّل والصياح: خذوني إلى مشهد... خذوني إلى مشهد.
فرك عباس عينيه، وأخذت الأمَّ حالةُ بكاء. سترت وجهها بكفّيها باكية. وخلال بكائها سمعها عباس تغمغم:
ـ أنا متأكّدة أنّ شفاءها بيد الإمام الرضا عليه السّلام..
ثمّ كشفت وجهها المبلَّل وقالت لعباس:
ـ خذها إلى مشهد.. لخاطر الله خذها.
وبينها وبين نفسها.. شرعت تخاطب الإمام:
ـ أيّها الرضا.. أيّها الإمالم الرؤوف.. بحقّ أمّك الصدّيقة فاطمة الزهراء.
قام عباس، فارتدى ثيابه.. وخرج من الدار. ولمّا بلغ المستشفى كان الطبيب المعالج ينزل من السلّم باتّجاه باب الخروج. قفز عباس صاعداً على درجات السلّم واعترض طريق الطبيب:
ـ كيف حالتها يا دكتور ؟
نظر إليه الطبيب متعباً. هزّ رأسه قائلاً:
ـ مريضتكم مرخَّصة.
وعزم أن ينصرف لمّا سأله عباس:
ـ يعني.. حالتها جيدة ؟
أطرق برأسه، وقال بهدوء:
ـ لا.. مع الأسف. ليس في أيدينا شيء. بقاؤها هنا بلا جدوى. خذوها إلى المنزل.. إلاّ أن يشاء الله.
خرّ عباس جالساً على إحدى درجات السلّم. هذه المرّة شعر بالهزيمة ترنّحه. مالَ جسده إلى جانب وسقط. انحنى الطبيب يعينه.. حتّى عدّل جلسته، ثمّ وضع يده على كتفه وقال يواسيه:
ـ توكّلْ على الله. الجزع لن يغيّر شيئاً. ليكن أملك بالله.
ثمّ إنّه أقامه من جلسته، وأعانه آخران.. حتّى أجلسوه على المصطبة. كان الطبيب واقفاً أمامه.. وعباس يتطلّع إليه. غمغم الطبيب.
ـ مع الأسف.
ثمّ ذهب، ونظرات عباس تتبعه... حتّى غيّبه باب المستشفى.
نهض عباس مرهقاً.. يخطو خطوات متعثّرة باتّجاه غرفة زهراء. فتحت زهراء عينيها متريّثة. انطبعت صورة عباس في عينيها ذابلة مكدودة. ابتسمت زهراء ونطقت.. لكنّ عباس لم يميّز ما قالت. مرّة أخرى تحرّكت الشفتان. أدنى عباس أذنه من فمها. كانت تنطق بكلمة واحدة:
ـ مشهد.
ثمّ أطبقت الجفنين.
* * *
زهراء غافية.. إلى جنب الشبّاك الفولاذي، وثَمّةَ حبل موصول من عنقها إلى المشبّك. عباس قاعد إلى جوارها منصرفاً إلى القراءة في كتاب الزيارة.. يزور. قامت زهراء واقفة وهي نائمة. تطلّع إليها عباس باستغراب. أمسك بيدها وأجلسها في مكانها. ونهضت مرّة ثانية بعينين نائمتين.
استولت الدهشة على عباس. وحانت منه التفاتة. فرأى الحبل محلولاً من جهة الشباك ومطروحاً على الأرض. سحب الحبل، ثمّ انتزع الحلقة التي تشكّل طرفه الآخر، من عنق زهراء. هزّها من عضدها برفق.. محاولاً إيقاظها. تحرّكت أجفان زهراء.. ووقع بصرها على عينَي عباس المذهولتين. عيناها صحيحتان! نقّلت بصرها: من عباس، إلى الناس، إلى السماء، إلى المنارة العالية، إلى شبّاك الفولاذ. ثمّ ألصقت بدنها بالشبّاك، واطلقت عنان البكاء. في تلك اللحظة.. تفطّن عباس إلى أنّ زوجته ليست مشلولة: لقوة الشلل لا أثر لها، ويدها تتحرّك. صاح عباس صيحة من هذه المفاجئة العظيمة السارّة، وألقى بنفسه قربها على الشباك.. وانتحب. كلاهما كان يبكي.
تطلّعت زهراء إلى السماء، ورفعت يدَيها بالدعاء وبالشكر الكبير. وكانت تتذوّق لأوّل مرّة معنى من معاني «الإمام الرؤوف» لم يكن قد خطر على بالها من قبل.
یتبع
melika
12-11-2007, 10:40 AM
حينما تتفتّح في القلب براعم الدعاء
المريض المعافى: پرستو محمدي، تاريخ الولادة: 1980
مهنة الأب: خبّاز في مدينة جُرجان
الداء: تعفّن شديد في الأذن والحنجرة
عمره وقت الشفاء: ثمانية أشهر
كان قد مضى من الليل نصفه، والقمر يتراءى من خلال السحاب في السماء، والصمت الحزين يغطّي كلّ أرجاء المدينة.
تحت السماء المقمرة كان المصباح الكهربائي مُضاءً في أحد المنازل المتواضعة يتناهى إلى الآذان منه صوتُ ترنيمةِ أمٍّ تُنيم طفلها الصغير، وعيناها الواجمتان تحدّقان بعزيزها « پَرَستُو ».
في قلب الليل كانت فاطمة المحزونة تناغي مريضها ذا الأشهر الثمانية الذي هو كلّ حياتها وكلّ أملها.. واضعةً صغيرها المهزول على ساقَيها تحرّكهما كالمهد، لعلّه يغفو لحظةً وينام، فيستريح قليلاً من هذه الآلام المبرِّحة التي لا تفارقه.
وعلى صوت مناغاة أمّه الدافئ يغفو وليدها وينام، لكنّه سرعان ما يفتح عينيه صارخاً من شدّة الألم. وعلى بكاء الصغير يستفيق الأب المُتعَب « هُوشَنگ » الذي أخلد قبل دقائق إلى النوم، ونهض باتّجاه زوجته. أراد أن يشاطرها متاعبها ومأساتها، فاحتضن « پرستو » وراح يناغيه، وهو يدور به في الغرفة جِيئةً وذهاباً. قال لزوجته:
ـ استريحي أنت يا فاطمة، فقد تعبتِ كثيراً.
لكنّ فاطمة لم تُطِق أن تنام. أعطت صغيرها دواءه وهو محمول في أحضان أبيه.
* * *
لم تكن هذه هي الليلة الأولى التي تمضي على هذا النحو. لقد كان دأب هذين الزوجين، منذ شهر ونصف الشهر، القيام بتمريض عزيزهما الغالي ومقاساة سهر الليالي.
كان « پرستو » مركز اهتمام فاطمة ومحور كلّ مساعيها. صحيح أنّ عمره لم يتجاوز شهوراً ثمانية، لكنّ ما انطبع على قسمات وجهها ووجه زوجها كأنّما هو آثار ثمانين سنة من الكرب والعذاب.
إنّ عينَي الأمّ تتطلّعان، طيلة تلكم الأيّام الثقيلة، إلى هذا الجسد الذابل النحيل الذي ترى أنّه شمعة حياتها. لم يَعُد لها اشتهاء لطعام ولا رغبة في نوم. لقد تركّز كلّ شيء عندها في « پرستو » العليل. وكان التفكير في مستقبل الصغير ومصيره يحفر في ذهنها حُفَراً عميقة، ويُسلِمها إلى ظلام دنيا اليأس.
وتغرق فاطمة في التفكير.. تستذكر السنوات الصعبة التي مرّت عليها بعد الزواج.. السنوات التي كانت لها ولزوجها فيها ذكريات للانتظار في حلاوتها ومرارتها.
لم تكن ثلاث سنوات من انتظارِ وليدٍ بالسنوات القليلة. وما أكثر الليالي التي مَدّا فيها أيدي الضراعة والدعاء! وكم سمعا عتاباً وتأنيباً من هذا وذاك! وكم من نذر قد نذرا في هذا السبيل!
وفي آخر الأمر.. أثمر الانتظار ثمرته، ومَنّ الله عليهما بولد غدا نوراً في عشّ الأسرة الصغير. غير أنّ هذا الدفء الحاني الذي جاء مع الوليد لم يكن ذا عمر طويل!
وعلى خلاف ما سعى إليه الأطبّاء من وراء إجراء العمليّة الجراحيّة، كان التقدير أن يصرع الداء طفلهما ذا الأشهر التسعة بعد إصابته بتعفّن حادّ في الأذن. ومرّةً أخرى عاد منزلهما البائس إلى الصمت والخفوف سنوات عديدة، ودخل في برودة موحشة.. حتّى تفضّل الله عليهما، بعد التضرّع والدعاء، بـ « پرستو » الذي ودّعا بمَقدَمه مرارات الذكريات الغابرة. لقد كانت فاطمة معذورة إذن أن تخاف من مثل هذا المرض الذي سلبها وليدها البِكْر وحرمها حنان الأمومة.
إنّها الآن على استعداد لتعمل أيّ شيء، خشية أن تتكرّر مأساتها من جديد. اختارت لمعالجة « پرستو » أمهر الأطبّاء، واضعةً نصب عينيها الإفادة من خبرات الأطبّاء في معالجة وليدها الأوّل.
ابتُلي « پرستو » الحبيب بتعفّن شديد في الأذن، وكان الدم يخرج من أُذنَيه مختلطاً بالمُدّة وبالسوائل الكريهة الرائحة، حتّى لم يَعُد يتحمّله أحد ممّن كانوا حولها من الأهل والأقرباء. ولم يُفِد العلاج شيئاً، وكان قلق فاطمة يتضاعف وخوفها في ازدياد.
كتب لها الدكتور « الديلميّ » في جرجان رسالة توصية إلى مستشفى القائم في مشهد ـ قسم الأطفال ( الأنف والأذن والحنجرة ) ـ لإجراء اللازم، فقد كان ولدها بحاجة إلى عناية خاصّة لا يوفّرها مستشفى جرجان.
* * *
وصلت فاطمة إلى مدينة مشهد متعبة، تتناهبها هواجس القلق والخوف، حاملةً على يديها قطعة من كيانها، تخشى عليها أن يخطفها الموت في أيّة لحظة. وأحسّت بالعجز. إنّها عاجزة عن حماية وحيدها العزيز.. عاجزة عن فعل أيّ شيء. إنّها جاءت إلى مشهد بتوصية طبيب، لكنّ لها تجربة مع الطبّ في وليدها الأوّل الذي انزلق من يدها بمحضر الأطبّاء. وها هي ذي تجيء مضطرّة إلى المستشفى في مشهد. كانت تتعلّق بأيّ شيء وكانت ذكرى ولدها البكر تضغط عليها بعنف.
كانت السيارة تقودها وزوجَها في شوارع مشهد إلى الفندق حيث ينبغي أن تقيم.
وفي الطريق لمحت القبّة الذهبيّة السامقة في قلب المدينة المقدّسة. إنّها قبّة رضا آل محمّد عليهم السّلام. لعلّها فُوجئت بمرآها. كأنّ شيئاً كان غافياً في داخلها واستيقظ في لحظة، فإذا هي تحسّ فجأة أنّها أمام كعبة الآمال. نَسِيَت تماماً المستشفى ورسالة الطبيب. اختنقت بعبرتها، وانفجرت من عينيها الدموع. هناك جرى بَوحُ القلب منها على اللسان. كانت فاطمة تحكي للإمام الرضا عليه السّلام كما يحكي الضائع الذي عثر على أهله بعد طول نأي واغتراب.. كأنّما هو عليه السّلام أبوها الشفيق، وملجأ قلبها الذي تشعر ـ حين تأوي إليه ـ بالطمأنينة والأمان.
* * *
كانت خطواتها ـ وهي تمضي قُدُماً في أرض الصحن العتيق ـ خطواتِ مُتعجِّل يريد بلوغ هدف نفيس. ها هي قد جاءت إليه بحبّة قلبها المُعَنّى يحدوها ألف أمل وأمل. إنّ قلبها يحدّثها بالشفاء الذي ستفوز به روحها إذا ما فاز به « پرستو ». إنّها الآن في ضيافة نور قدسيّ تعلم أنّه قادر على كشف جميع الكروب.
ربطت يد « پرستو » إلى الشبّاك الفولاذيّ بخيطٍ عثرت عليه هناك، واقتعدت به ناحية بعينين ملؤهما أمل ورجاء. وكان قلبها هو مَن يحكي أُنشودة مناجاة عميقة لا يقوى على الإفصاح بها اللسان.
عيناها مشدودتان إلى « پرستو » المربوط معصمه إلى نافذة الكريم.. تتحسّس من وقت لآخر حرارة بدنه المرتفعة بظاهر كفّها. اتّسعت حَدَقتاها ذُعراً بادئ الأمر إذ رأت عقدة الحبل محلولة من معصم طفلها الصغير، ولاحظت حرارته تهبط. ثمّ فتح « پرستو » عينيه بطريقة جعلتها تدرك أنّها قد فازت من فورها بالمأمول. ونَدّت منها صيحة فرح مفاجئ.. كان « پرستو » محمولاً بعدها على أيدي الحاضرين. وكان العطر الرضويّ المُسعِد يملأ كلّ ذرّات الهواء، ممتزجاً بالصلوات على محمّدٍ وآل محمّد عليهم السّلام.
( ترجمة وإعداد إبراهيم رفاعة، من مجلة الحرم )
Dr.Zahra
22-11-2007, 04:07 AM
http://ansaralhojah.name/uploads/cbca381f97.gif
اللهم صل على فاطمه وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك.....
من ذي قار الحبيبة إلى طوس البعيدة المسافات
القريبة لقلب كل محب ..
من تحفة العاشقين إلى أرض الكرامات..
ومن القلوب الوالهة إلى الأجساد الطاهرة..
السلام عليك ياعلي بن موسى الرضا ياسراج منير في سماء
الدنيا، ياحلمي الساهر، وياعشقي الباهر، والجوهر النادر
وأنت محقق للأمنيات في الزمن الجائر،،
لك تحن النفس وتشتاق العين وتتمنى الروح
الوصول والشهادة بين يديك
و( ياكريم أهل البيت )
نهنئ قائم آل محمد ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )
بولادتك البهية ياضامن الجنة
حبيبتي مليكا موضوعك من اروع ماقرات عيناي
واصلي حبيبتي ولكي من المتابعين
melika
29-11-2007, 11:47 PM
اهلا حبیبتی خادمه القضیم
شکرا لحضورک وتواجدک وتواصلک الطیب
الذی انار صفحتی المتواضعه
بارک الله بک ووفقک لکل خیر...
hassan.khalifa
13-12-2007, 01:17 AM
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
اللهم صلي على محمد وآل محمد
vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
Jannat Alhusain Network © 2024