حسين ال دخيل
06-03-2014, 07:17 PM
بين هجرة الرسول (ص)وهجرة الحسين عليه السلام
هجرتان من اجل الإسلام ورسالة الإسلام ، الأولى منهما كانت فراراً من الموت الذي استهدف رسالة محمد بشخصه ، وقد نفذها الرسول الأعظم بأمر من ربه ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش كأبي سفيان وأمثاله والثانية قام بها سبطه الحسين بن علي (ع) ولكنها كانت للشهادة بعد أن ادرك ان الاخطار المحدقة برسالة جده لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادة .
لقد هاجر رسول الله من مكة إلى يثرب لأجل رسالته بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها ونتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت ان جميع وسائل العنف التي استعملتها معه على اختلاف اصنافها وأنواعها خلال ثلاثة عشر عاماً لم تغير من موقفه شيئاً كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية ، وكان رده الأخير على عروض ابي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما ، والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر أو أموت دونه .
وعادت قريش بعد جميع تلك المراحل التي مرت بها معه تخطط من جديد للقضاء على رسالته لاسيما بعد ان أحست بأن يثرب ستكون من اعظم معاقلها وستنطلق منها إلى جميع انحاء الحجاز وإلى العالم بأسره ، فاجتمع قادتها في مكان يعرف بدار الندوة وراحوا يتبادلون الآراء للتخلص منه فاقترح بعضهم ان يضعوه في احدى البيوت مكبلاً بالحديد بعيداً عن أعين الناس ومجالسهم إلى أن يأتيه الموت ، كما اقترح آخرون ان يطرد من مكة حتى لا يتحملوا مسؤولية قتله ، واتفقوا اخيراً على ان يباشروا قتله على ان تشترك فيه جميع القبائل المكية ويتولى ذلك من كل قبيلة فتى من أشد فتيانها واتفقوا على الزمان والمكان الذي يتم فيه التنفيذ وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية :
واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ، والذي تعنيه الآية ان الله قد فوت عليهم هذا التخطيط وأخبر رسوله بما كان من أمرهم ، وأمره بالخروج من مكة ليلاً وأن يأمر عليا في المبيت على فراشه قبيل خروجه .
وحينما عرض الأمر على علي (ع) لم يتردد لحظة واحدة في التضحية بنفسه في سبيله وقال له : أو تسلم انت يا رسول الله ان فديتك بنفسي ، فرد عليه النبي (ص) بقوله : بذلك وعدني ربي ، فطابت نفسه عند ذلك وتبدد ما كان يساوره من خوف وقلق على النبي ، وتقدم إلى فراشه مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الفؤاد واتشح ببيرد الحضرمي الذي اعتاد ان يتشح به في نومه .
وتمت الهجرة في جوف الليل من مكة إلى الغار ومنها إلى يثرب في السادس من ربيع الأول ، واعتمد المسلمون تلك الهجرة في تواريخهم منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على أثر خصومة بين اثنين في دين يدعي احدهما استحقاقه في شهر شعبان بموجب سند بيده ، وسأل الخليفة الدائن أي شعبان هذا أشعبان هذه السنة أو التي بعدها ؟ ولما لم يطمئن لأحد منهما جمع المسلمين في المسجد ليعتمد لهم تاريخاً ، والمسلمون يوم ذاك لم يكن لهم تاريخ خاص ، فكان بعضهم يؤرخ بعام الفيل وبعضهم بحرب الفجار وأكثرهم كانوا يعتمدون تواريخ الدول المجاورة لشبه الجزيرة العربية ، واختلفت آراء الصحابة في الزمان الذين يعتمدونه في تواريخهم وكادوا ان يتفرقوا بدون ان ينتهوا إلى نتيجة حاسمة لولا ان عليا أقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد وقال : نؤرخ بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة فأعجب ابن الخطاب برأيه وهتف قائلا : لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، واقترن رأيه هذا بأعجاب الحضور وتقديرهم لان هجرة الرسول كانت المنطلق لانتصار الإسلام على الشرك والوثنية وحدثا تاريخياً لعله من ابرز الاحداث في تاريخ الدعوة ، واستمر المسلمون على ذلك في تواريخهم ولم يحدث التاريخ عنهم بأنهم اعتبروا شهر المحرم بداية لسنتهم الهجرية ، ولعل ذلك لم يحدث إلا بعد مقتل الحسين وبعد ان اصبحت الأيام الأولى من شهر المحرم أيام حزن عند أهل البيت وشيعتهم فجعلها الأمويون بداية للسنة الهجرية وعيداً من أعيادهم ، ولا يزال المسلمون عند مواقفهم من تلك الايام الأولى من ذلك الشهر ، فالشيعة يحتفلون بذكرى الحسين (ع) ويرددون تلك المأساة في مجالسهم ومجتمعاتهم بما تحمله وتنطوي عليه من الإخلاص للعقيدة والمبدأ والتضحيات الجسام في سبيل الحق والمستضعفين وكرامة الإنسان ، وغيرهم من مسلمي السنة يحتفلون به كبقية الأعياد ويتباهون بمظاهر الفرح والزينة وأنواع الأطعمة .
ومهما يكن فلقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في السادس من ربيع الأول بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على ولادة الإسلام ، وفي اليوم الثاني عشر منه كان النبي في المدينة بين أنصاره الجدد الذين احتضنوه وأخلصوا لرسالته وأنقذه الله من تلك المؤامرة الدنيئة التي استهدفت حياته ورسالته وحاك خيوطها شيخ الأمويين يوم ذاك أبو سفيان بن حرب ، وسلم محمد لرسالته التي ارغمت ابا سفيان وغيره من مشركي مكة بعد سنوات قليلة من تلك الهجرة على الانضواء تحت لوائها بقلوبهم المشركة الحاقدة يتململون بين أقدام طريدهم بالأمس يستجدون عفوه ورأفته أذلاء صاغرين .
وأبت نفسه الكبيرة التي اتسعت لتعاليم السماء ورسالة الإسلام إلا أن تتسع لأبي سفيان وحتى لزوجته هند آكلة الأكباد وغيرها من المشركين والمشركات وأعلن العفو العام حينما دخل مكة فاتحا منتصرا متجاهلاً جميع سيآتهم بكلماته الخالدة التي لا تزال سمة خزي وعار ما دام التاريخ : اذهبوا فأتنم الطلقاء ، وأعطى لأبي سفيان العدو الأكبر للإسلام ما لم يعطه لأحد من المشركين .
وهل غيّر هذا الموقف العظيم الذي لا يمكن ان يصدر من أي انسان مهما كان نوعه ، هل غيّر من نفس أبي سفيان وروحه شيئاً ، وهل ادرك ان موقفا كهذا لا يصدر الا عن انسان تسيره ارادة السماء ؟ ان النفوس الحقودة اللئيمة لا علاج لها إلا بالإستئصال والرسول العظيم يعلم ذلك ويعلم أن ما صنعه مع البيت الأموي لا يغير من طبيعته ولكن مصلحة الإسلام يوم ذاك فرضت عليه ان يعالجهم بهذا الأسلوب ويستعمل معهم العفو والرحمة بدلاً من معاملتهم بما يستحقون .
وبقي الحزب الأموي بقيادة ابي سفيان يتحين الفرص ويستغل المناسبات وحينما انتقلت الخلافة إلى سليل بيته عثمان بن عفان أحس بنشوة تملأ نفسه الحاقدة وذهب يقوده غلامه لينفس عما تراكم في نفسه من أحقاد على الإسلام ودعاته ، إلى قبر الحمزة ليركله برجله ويقول : قم يا ابا عمارة ان الذي تجالدنا عليه لقد اصبح تحت أقدامنا .
وخلال سنوات معدودات من حكمهم استطاعوا ان يحققوا لهذا البيت اكثر أمانيه واتجهوا يعملون لوثنيتهم وجاهليتهم حتى لا يبقى لرسالة محمد ناطق على منبر أو محراب وليصبح أئمة المساجد والقراء والرواة أبو اقا للسلطة الحاكمة والقبضة الأموية الجديدة التي تعمل للسلطة والجاهلية باسم الإسلام اداة لغسل الادمغة من عقائده وحشوها بمبادئ الردة والوثينة ، وظلوا يعملون بهذا الاتجاه الوثني حتى انقلبت القيم وسحقت التعاليم وذهبت رياح الجاهلية بجهود المخلصين وجاءت بكنوز الذهب للمنافقين ، وأصبح التوحيد ستاراً للشرك والإسلام لا يعني سوى الإستسلام للحاكمين ، والسنة قاعدة للسلطة ، والحديث عرضة للوضع والتزوير والتحريف والألسن قطعت أو اشتريت بأموال الفقراء والمساكين .
اما اصحاب السابقة والجهاد فقد تقاضوا الثمن ولايات وامارات ، واعتزل فريق للعباد وفريق ساوموا على سكوتهم عن الظلم والجور حتى لا يواجهون النفي والموت في صحراء الربذة ومرج عذراء وقصر الخضراء ، وعادت الجاهلية الجديدة أثقل ظلا وأشد ظلمة ووحشية والعدو الجديد أشد دهاء وأكثر نضجا وذكاء .
وفجأة سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي وأضاءت للملأ ملامح امل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق وبدأ للعالم انسان يخط على التراب بدمه ، إلا واني لا أرى الموت إلا السعادة والحياة مع الظالمين إلا برما .
انه الحسين بن علي وفاطمة سبط ذلك الرسول الذي هاجر من مكة ليثرب قبل ستين عاماً لأجل رسالته وانقاذها من الشرك والوثنية ومرة ثانية وفي ظروف لعلها اسوأ على الإنسانية والرسالة من الضروف التي خرج فيها جده من قبل لإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من عسف وجور واستغلال خرج من بيت محمد وعلي البيت الذي وسع التاريخ كله فكان اكبر منه خرج غاضباً مصمما على الموت كأن في صدره اعصارا هو في طريقه إلى الانطلاق . خرج لأجل الرسالة التي هاجر لأجلها جده الرسول الأعظم من قبل يتلفت من حوله وحيداً أعزل يرى الرسالة وآمال الفقراء والمستضعفين تساق إلى قصر الخضراء في دمشق لا يملك سلاحا غير الشهادة التي يراها زينة للرجال كما تكون القلادة زينة للفتاة وهاجر للحصول عليها على هدى وبصيرة وشبحها ماثل نصب عينيه يتطلع إلى تربة كربلاء مع ركبه بصبر وصمود وهو يقول : خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفلاة أفلا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهي عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً .
لقد هاجر من مدينة جده إلى مكة ومنها إلى العراق بعد أن رأى رسالة الإسلام تتعرض للانهيار ومصير الإنسان يوم ذاك اسوأ من مصير انسان الجاهلية نافضاً يديه من الحياة لا يملك في مقابل عدوه سوى سلاح الشهادة وفي كل مرحلة كان يقطعها وهو يحث السير إليها كان يشير إلى أنصاره الذين رافقوه في تلك الرحلة ليموتوا معه وإلى أهل بيته الذين هم كل ما يملكه من الحياة إلى هؤلاء جميعاً كان يشير ويكشف لهم عن معاني الشهادة وأهدافها ومعطياتها ويشهد العالم بأسره بأنه قد أدى للإنسانية كل ما يقدر عليه .
لقد كان سيد الشهداء يدرك ويعي اهمية الرسالة الملقاة على عاتقه ويعلم بأن التاريخ ينتظر شهادته وانها ستكون ضمانا لحياة أمة واساسا لبناء عقيدة وهتكا لاقنعة الخداع والظلم والقسوة وأداته لسحق القيم ومحوها من الاذهان وانقاذا لرسالة الله من أيدي الشياطين والجلادين ، وهذا هو الذي كان يعنيه بقوله لأخيه محمد بن الحنفية وهو يلح عليه ويتململ بين يديه باكيا حزينا ليرجع إلى حرم جده : لقد شاء الله ان يراني قتيلا وشاء ان يرى حرمي وعيالي سبايا .
لقد اعطى الحسين للعالم كله بشهادته دروساً مليئة بالحياة غنية بالقيم وروعة الجمال وأصبح هو ومن معه من طفله إلى اخوته وأنصاره وغلمانه القدوة الغنية بمعطياتها للعالم في كل زمان ومكان يعلمون الأبطال كيف يموتون في مملكة الجلادين الذين ذهبت ضحية سيوفهم آمال أجيال من الشباب وتلوت تحت سياطهم جنوب النساء وأبادوا وأجاعوا واستعبدوا رجالاً ونساء ومؤذنين ومعلمين ومحدثين .
لقد ترك الحسين واخوته وأصحابه وحتى غلمانه دروساً سخية بالعطاء والقيم حافلة بالعبر والمثل التي تنير العقول وتبعث في النفوس والقلوب قوة الإيمان بالمثل العليا والمبادئ السامية التي دعا إليها وضحى بكل ما يملك من أجلها ولا تزال الاجيال تستلهم منها كل معاني الخير والنبر والفضيلة وسيبقى الحسين وأنصاره مثلا كريما لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله .
لقد هاجر من مدينة جده إلى ارض الشهادة والخلود ليقدم دمه الزكي ودماء اخوته وأنصاره الخالدين ثمنا لإحياء شريعة جده الرسول الأعظم وانقاذها من مخالب الكفر والانحراف ، ولكي يضع حدا لسياسة البطش والتنكيل واراقة الدماء وليعلن بصوته المدوي الذي لا يزال صداه يقض مضاجع الظالمين ان الإسلام فوق ميول الحاكمين وان المثل والقيم فوق مستوى مطامعهم الرخيصة وان الحرية والكرامة من حقوق الإنسان في حياته ولا سلطان للحكام والطغاة عليها .
أجل ان رسالة الحسين (ع) كانت ولا تزال امتدادا لرسالة جده وجهاده امتدادا لجهاد جده وأبيه امير المؤمنين بطل الإسلام الخالد الذي تام الإسلام وانتشر بسيفه وجهاده .
وكما خيبت هجرة الرسول مساعي المتآمرين على قتله بخروجه من مكة إلى يثرب بعد ان بات على فراشه بطل الإسلام الخالد ليدرأ عنه خطر الاعداء ويفيده بنفسه من مؤامرة ابي سفيان وحزبه كذلك خيبت شهدة سبطه الثائر العظيم آمال أمية وأمانيها ومما يطمح إليه حفيدها يزيد بن معاوية من تحطيم الإسلام وعودة الجاهلية والاصنام آلهة آبائه وأجداده وسجلت اتنصاراً حطم اولئك الجبابرة الطغاة ودولتهم الجائرة العاتية التي قابلها الحسين وقضى عليها بشهادته ودمه الزكي الطاهر بالرجال والعتاد والأموال .
ولرب نصر عاد بشر هزيمة *** تركـت بيوت الظالمين طلولا
لقد قاتل مع الحسين (ع) اثنان وسبعون شخصاً من اخوته وأبنائه وانصاره الأبطال الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان فقاتلوا دفاعاً عن الحق والعقيدة ورسالة الإسلام وأرخصوا حياتهم لإعلاء كلمة الله في الارض وكانوا مع قلة عددهم وكثرة الحشود التي اجتمعت لقتالهم يكرون على تلك الحشود بقلوبهم العامرة بالتقوى ونفوسهم المطمئنة الى المصير الذي أعده الله للمجاهدين في سبيله فيفرون من بين أيدهم فرار المعزا اذا شدت عليها الذئاب ورحم الله السيد حيدر الحلي القائل :
جاءوا بسبعين الف سل بقيتهم * هـــل قابلـونا وقد جئنا بسبعين لقد ترك لنا الحسين وجد الحسين والأئمة من ذرية الحسين من اقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم مدرسة غنية بكل ما نحتاجه في الحرب والسلم والشدة والرخاء والفقر والغنى وكل نواحي الحياة فما اولانا ونحن ندعي الإسلام والتشيع لهم ان نرجع إلى سيرتهم ونسير على خطاهم ونصنع من ميراث أمتنا وقادتنا خير أمة اخرجت للناس .
ولو نظرنا ومع الاسف الشديد إلى مبادئ التشيع التي تجسد الإسلام بكل فصوله وخطوطه وقارنا بينها وبين ما نحن عليه من تخاذل وتراجع واذلال وانحراف عن الإسلام ومبادئه وقيمه وجدنا انفسنا من ابعد الناس عن علي وبنيه وعن الحسين بالذات الذي نحتفل في كل عام بذكراه ونبكيه ونردد بألسنتنا يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً ، وأنا لا اشك بأن الحسين لو وجد في زماننا هذا لصنع من القدس وجنوب لبنان كربلاء ثانية وسوف لا يناصره ممن يدعون الإسلام والتشيع ومن يتباكون على القدس والجنوب ويتاجرون بهما في البيانات والخطب وعلى صفحات الجرائد اكثر من العدد الذي ناصره في كربلاء الاولى .
ان بكاء الباكين وتباكيهم على الحسين وعلى القدس والجنوب لم يكن إلا لأنه يلتقي مع مصالحهم او لبعض الحالات الطبيعية التي تسيطر على الإنسان احياناً ، فهل هؤلاء مع الحسين ومبادئه ومع القدس القبلة الأولى للمسلمين وفلسطين التي اغتصبتها وشردت اهاليها قوى الشر والعدوان ، ومع جنوب لبنان الذي عبثت فيه الأهواء والاطماع ومزقته إلى احزاب وشيع لا تحصى حتى ولو تعارض ذلك مع مصالحهم وأهوائهم ، فعشرات الشواهد والأرقام تؤكد ان مصالحنا وأهوائنا إذا تعارضت مع الحسين وجميع القيم ومع القدس والجنوب وجميع المظلومين والمعذبين لم نعد نتعرف على الحسين ولا على مبادئه وقيمه ولا على القدس والجنوب ولا على المظلومين والمعذبين ولو خرج من يحمل مبادئ الحسين في زماننا هذا لحاربناه كما حاربه اولئك بالأمس ولقطعنا رأسه ورؤوس من يناصره وأهديناها لمن يحمل روح يزيد وابن زياد وما اكثرهم في زماننا هذا .
لقد بكى عمر بن سعد على الحسين في كربلاء وسالت دموعه على لحيته عندما رآه يجود بنفسه والدماء تنزف من جسده وفي نفس الوقت أمر اصحابه بقتله وقال لهم : انزلوا اليه وأريحوه . والانسان في الغالب قد يتأثر وينفعل من غير قصد واختيار كما يتنفس ويتألم ويفرح ويحزن وسرعان ما يتغير وكأنه انسان آخر ، وبذلك نستطيع ان نفسر بكاء اكثر الباكين على الحسين من المحبين والمجرمين القسادة وهم يستمعون إلى حديث كربلاء وما حل بها من الفجائع على أهل البيت عليهم السلام .
وجاء عن بعض العلويات انها قالت : حين استشهد اخي الحسين هجم العدو على خيامنا المسلب والنهب ودخل خيمتي رجل ازرق العينين فأخذ ما في الخيمة ونظر إلى زين العابدين وهو على نطع وكان مريضاً فجذبه من تحته ورماه إلى الأرض والتفت الي وأخذ القناع عن رأسي وقرطين كانا في أذني وجعل يعالجهما ويبكي حتى انتزعهما ، فقلت له : تسلبني وأنت تبكي ؟ فقال : ابكي لمصابكم اهل البيت .
وبلا شك فان الكثيرين من الذين يبكون لمصاب اهل البيت وما حل بهم في كربلاء يحملون روح هذا المجرم ازرق العينين ، ولو تسنى لهم ان يسلبوا الحوراء او غيرها خمارها اذا اقتضت مصلحتهم ذلك لا يقصرون ولا يتورعون ، وأي فرق بين ازرق العينين الذي اقتحم خيام الحسين وأخذ النطع من تحت الإمام السجاد وانتزع القرطين من أذني الحوراء وبين من يدعون التشيع والإسلام في زماننا هذا ويعتدون على أموال الناس وحقوق الناس وكرامتهم غير مكترثين بالأديان ولا بالأخلاق والأعراف التي لا تقر الاساءة لاحد من الناس .
ان هؤلاء لا فرق بينهم وبين عمر بن سعد وأزرق العينين ولو وجدت العقيلة الحوراء في زماننا هذا لا يتورعون عن انتزاع قرطها ولا عن قتل اخيها وأبيها إذا اقتضت مصلحتهم ذلك ، وفي الوقت ذاته يتأثرون وينفعلون وقد يبكون عندما يستمعون إلى حديث كربلاء وما فعله ازرق العينين.
وسلام الله على الحسين وأنصاره شيوخاً وشبانا الذين لا تزال ذكراهم حية تثير الاسى والشجن في نفوس المحبين وحتى في نفوس الكثيرين في زماننا هذا من أمثال ابن سعد وأزرق العينين ، ولكن ذلك الاسى سرعان ما يتبخر ولا يعلق من تلك الذكرى وأهدافها السامية في النفوس والعقول إلا صوراً لا تتجاوز عالمها ومحيطها ثم تتبخر وكأنها لم تكن .
وأعود لأكرر بأن المسلمين لو استغلوا ذكراك يا ابا عبدالله وتضحياتك الجسام في سبيل الإسلام وخير الإنسانية ، واستغلوا مولد الرسول وسيرته العطرة الغنية بمعطياتها الذي يحتفلون به في هذه الأيام من كل عام من على منابرهم وبالهتاف والتصفيق في شوارعهم لبضع ساعات ثم يعودون مسرعين إلى نوادي القمار والخمور والبغاء وخدمة اعداء الإسلام بأموالهم وجميع طاقاتهم ، لو استغلوا ذكرى سيد الشهداء ومولد الرسول (ص) لمرضاة الله ورسوله ولصالح الإسلام والمسلمين وبث الوعي ورص الصفوف في مقابل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين لا لاشاعة الجهل والتفريق والاتجار بالدين وعواطف الناس لكانوا من افضل الأمم وأقواها في مشرق الدنيا ومغربها وسلام الله على الحسين الذي لم يحدث عن مثله التاريخ :
فيا ايها الوتر في الخالديـن *** فـذا إلــــى الان لــــم يشفع
ويا واصلا من نشيد الخلود *** ختـام القــــصيـدة بـالمطـلع
ويا بـن التي لـم يــقع مثلها *** كـمثــــلك حـملاً ولم ترضع
تعــاليت من مفزع للحتـوف *** وبـــورك قـبرك مـن مفزع
تمــــر الـدهـور فمـن يسجـد *** عـــلى جانبـيه ومـن ركـع
هجرتان من اجل الإسلام ورسالة الإسلام ، الأولى منهما كانت فراراً من الموت الذي استهدف رسالة محمد بشخصه ، وقد نفذها الرسول الأعظم بأمر من ربه ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش كأبي سفيان وأمثاله والثانية قام بها سبطه الحسين بن علي (ع) ولكنها كانت للشهادة بعد أن ادرك ان الاخطار المحدقة برسالة جده لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادة .
لقد هاجر رسول الله من مكة إلى يثرب لأجل رسالته بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها ونتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت ان جميع وسائل العنف التي استعملتها معه على اختلاف اصنافها وأنواعها خلال ثلاثة عشر عاماً لم تغير من موقفه شيئاً كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية ، وكان رده الأخير على عروض ابي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما ، والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر أو أموت دونه .
وعادت قريش بعد جميع تلك المراحل التي مرت بها معه تخطط من جديد للقضاء على رسالته لاسيما بعد ان أحست بأن يثرب ستكون من اعظم معاقلها وستنطلق منها إلى جميع انحاء الحجاز وإلى العالم بأسره ، فاجتمع قادتها في مكان يعرف بدار الندوة وراحوا يتبادلون الآراء للتخلص منه فاقترح بعضهم ان يضعوه في احدى البيوت مكبلاً بالحديد بعيداً عن أعين الناس ومجالسهم إلى أن يأتيه الموت ، كما اقترح آخرون ان يطرد من مكة حتى لا يتحملوا مسؤولية قتله ، واتفقوا اخيراً على ان يباشروا قتله على ان تشترك فيه جميع القبائل المكية ويتولى ذلك من كل قبيلة فتى من أشد فتيانها واتفقوا على الزمان والمكان الذي يتم فيه التنفيذ وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية :
واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ، والذي تعنيه الآية ان الله قد فوت عليهم هذا التخطيط وأخبر رسوله بما كان من أمرهم ، وأمره بالخروج من مكة ليلاً وأن يأمر عليا في المبيت على فراشه قبيل خروجه .
وحينما عرض الأمر على علي (ع) لم يتردد لحظة واحدة في التضحية بنفسه في سبيله وقال له : أو تسلم انت يا رسول الله ان فديتك بنفسي ، فرد عليه النبي (ص) بقوله : بذلك وعدني ربي ، فطابت نفسه عند ذلك وتبدد ما كان يساوره من خوف وقلق على النبي ، وتقدم إلى فراشه مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الفؤاد واتشح ببيرد الحضرمي الذي اعتاد ان يتشح به في نومه .
وتمت الهجرة في جوف الليل من مكة إلى الغار ومنها إلى يثرب في السادس من ربيع الأول ، واعتمد المسلمون تلك الهجرة في تواريخهم منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على أثر خصومة بين اثنين في دين يدعي احدهما استحقاقه في شهر شعبان بموجب سند بيده ، وسأل الخليفة الدائن أي شعبان هذا أشعبان هذه السنة أو التي بعدها ؟ ولما لم يطمئن لأحد منهما جمع المسلمين في المسجد ليعتمد لهم تاريخاً ، والمسلمون يوم ذاك لم يكن لهم تاريخ خاص ، فكان بعضهم يؤرخ بعام الفيل وبعضهم بحرب الفجار وأكثرهم كانوا يعتمدون تواريخ الدول المجاورة لشبه الجزيرة العربية ، واختلفت آراء الصحابة في الزمان الذين يعتمدونه في تواريخهم وكادوا ان يتفرقوا بدون ان ينتهوا إلى نتيجة حاسمة لولا ان عليا أقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد وقال : نؤرخ بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة فأعجب ابن الخطاب برأيه وهتف قائلا : لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، واقترن رأيه هذا بأعجاب الحضور وتقديرهم لان هجرة الرسول كانت المنطلق لانتصار الإسلام على الشرك والوثنية وحدثا تاريخياً لعله من ابرز الاحداث في تاريخ الدعوة ، واستمر المسلمون على ذلك في تواريخهم ولم يحدث التاريخ عنهم بأنهم اعتبروا شهر المحرم بداية لسنتهم الهجرية ، ولعل ذلك لم يحدث إلا بعد مقتل الحسين وبعد ان اصبحت الأيام الأولى من شهر المحرم أيام حزن عند أهل البيت وشيعتهم فجعلها الأمويون بداية للسنة الهجرية وعيداً من أعيادهم ، ولا يزال المسلمون عند مواقفهم من تلك الايام الأولى من ذلك الشهر ، فالشيعة يحتفلون بذكرى الحسين (ع) ويرددون تلك المأساة في مجالسهم ومجتمعاتهم بما تحمله وتنطوي عليه من الإخلاص للعقيدة والمبدأ والتضحيات الجسام في سبيل الحق والمستضعفين وكرامة الإنسان ، وغيرهم من مسلمي السنة يحتفلون به كبقية الأعياد ويتباهون بمظاهر الفرح والزينة وأنواع الأطعمة .
ومهما يكن فلقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في السادس من ربيع الأول بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على ولادة الإسلام ، وفي اليوم الثاني عشر منه كان النبي في المدينة بين أنصاره الجدد الذين احتضنوه وأخلصوا لرسالته وأنقذه الله من تلك المؤامرة الدنيئة التي استهدفت حياته ورسالته وحاك خيوطها شيخ الأمويين يوم ذاك أبو سفيان بن حرب ، وسلم محمد لرسالته التي ارغمت ابا سفيان وغيره من مشركي مكة بعد سنوات قليلة من تلك الهجرة على الانضواء تحت لوائها بقلوبهم المشركة الحاقدة يتململون بين أقدام طريدهم بالأمس يستجدون عفوه ورأفته أذلاء صاغرين .
وأبت نفسه الكبيرة التي اتسعت لتعاليم السماء ورسالة الإسلام إلا أن تتسع لأبي سفيان وحتى لزوجته هند آكلة الأكباد وغيرها من المشركين والمشركات وأعلن العفو العام حينما دخل مكة فاتحا منتصرا متجاهلاً جميع سيآتهم بكلماته الخالدة التي لا تزال سمة خزي وعار ما دام التاريخ : اذهبوا فأتنم الطلقاء ، وأعطى لأبي سفيان العدو الأكبر للإسلام ما لم يعطه لأحد من المشركين .
وهل غيّر هذا الموقف العظيم الذي لا يمكن ان يصدر من أي انسان مهما كان نوعه ، هل غيّر من نفس أبي سفيان وروحه شيئاً ، وهل ادرك ان موقفا كهذا لا يصدر الا عن انسان تسيره ارادة السماء ؟ ان النفوس الحقودة اللئيمة لا علاج لها إلا بالإستئصال والرسول العظيم يعلم ذلك ويعلم أن ما صنعه مع البيت الأموي لا يغير من طبيعته ولكن مصلحة الإسلام يوم ذاك فرضت عليه ان يعالجهم بهذا الأسلوب ويستعمل معهم العفو والرحمة بدلاً من معاملتهم بما يستحقون .
وبقي الحزب الأموي بقيادة ابي سفيان يتحين الفرص ويستغل المناسبات وحينما انتقلت الخلافة إلى سليل بيته عثمان بن عفان أحس بنشوة تملأ نفسه الحاقدة وذهب يقوده غلامه لينفس عما تراكم في نفسه من أحقاد على الإسلام ودعاته ، إلى قبر الحمزة ليركله برجله ويقول : قم يا ابا عمارة ان الذي تجالدنا عليه لقد اصبح تحت أقدامنا .
وخلال سنوات معدودات من حكمهم استطاعوا ان يحققوا لهذا البيت اكثر أمانيه واتجهوا يعملون لوثنيتهم وجاهليتهم حتى لا يبقى لرسالة محمد ناطق على منبر أو محراب وليصبح أئمة المساجد والقراء والرواة أبو اقا للسلطة الحاكمة والقبضة الأموية الجديدة التي تعمل للسلطة والجاهلية باسم الإسلام اداة لغسل الادمغة من عقائده وحشوها بمبادئ الردة والوثينة ، وظلوا يعملون بهذا الاتجاه الوثني حتى انقلبت القيم وسحقت التعاليم وذهبت رياح الجاهلية بجهود المخلصين وجاءت بكنوز الذهب للمنافقين ، وأصبح التوحيد ستاراً للشرك والإسلام لا يعني سوى الإستسلام للحاكمين ، والسنة قاعدة للسلطة ، والحديث عرضة للوضع والتزوير والتحريف والألسن قطعت أو اشتريت بأموال الفقراء والمساكين .
اما اصحاب السابقة والجهاد فقد تقاضوا الثمن ولايات وامارات ، واعتزل فريق للعباد وفريق ساوموا على سكوتهم عن الظلم والجور حتى لا يواجهون النفي والموت في صحراء الربذة ومرج عذراء وقصر الخضراء ، وعادت الجاهلية الجديدة أثقل ظلا وأشد ظلمة ووحشية والعدو الجديد أشد دهاء وأكثر نضجا وذكاء .
وفجأة سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي وأضاءت للملأ ملامح امل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق وبدأ للعالم انسان يخط على التراب بدمه ، إلا واني لا أرى الموت إلا السعادة والحياة مع الظالمين إلا برما .
انه الحسين بن علي وفاطمة سبط ذلك الرسول الذي هاجر من مكة ليثرب قبل ستين عاماً لأجل رسالته وانقاذها من الشرك والوثنية ومرة ثانية وفي ظروف لعلها اسوأ على الإنسانية والرسالة من الضروف التي خرج فيها جده من قبل لإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من عسف وجور واستغلال خرج من بيت محمد وعلي البيت الذي وسع التاريخ كله فكان اكبر منه خرج غاضباً مصمما على الموت كأن في صدره اعصارا هو في طريقه إلى الانطلاق . خرج لأجل الرسالة التي هاجر لأجلها جده الرسول الأعظم من قبل يتلفت من حوله وحيداً أعزل يرى الرسالة وآمال الفقراء والمستضعفين تساق إلى قصر الخضراء في دمشق لا يملك سلاحا غير الشهادة التي يراها زينة للرجال كما تكون القلادة زينة للفتاة وهاجر للحصول عليها على هدى وبصيرة وشبحها ماثل نصب عينيه يتطلع إلى تربة كربلاء مع ركبه بصبر وصمود وهو يقول : خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفلاة أفلا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهي عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً .
لقد هاجر من مدينة جده إلى مكة ومنها إلى العراق بعد أن رأى رسالة الإسلام تتعرض للانهيار ومصير الإنسان يوم ذاك اسوأ من مصير انسان الجاهلية نافضاً يديه من الحياة لا يملك في مقابل عدوه سوى سلاح الشهادة وفي كل مرحلة كان يقطعها وهو يحث السير إليها كان يشير إلى أنصاره الذين رافقوه في تلك الرحلة ليموتوا معه وإلى أهل بيته الذين هم كل ما يملكه من الحياة إلى هؤلاء جميعاً كان يشير ويكشف لهم عن معاني الشهادة وأهدافها ومعطياتها ويشهد العالم بأسره بأنه قد أدى للإنسانية كل ما يقدر عليه .
لقد كان سيد الشهداء يدرك ويعي اهمية الرسالة الملقاة على عاتقه ويعلم بأن التاريخ ينتظر شهادته وانها ستكون ضمانا لحياة أمة واساسا لبناء عقيدة وهتكا لاقنعة الخداع والظلم والقسوة وأداته لسحق القيم ومحوها من الاذهان وانقاذا لرسالة الله من أيدي الشياطين والجلادين ، وهذا هو الذي كان يعنيه بقوله لأخيه محمد بن الحنفية وهو يلح عليه ويتململ بين يديه باكيا حزينا ليرجع إلى حرم جده : لقد شاء الله ان يراني قتيلا وشاء ان يرى حرمي وعيالي سبايا .
لقد اعطى الحسين للعالم كله بشهادته دروساً مليئة بالحياة غنية بالقيم وروعة الجمال وأصبح هو ومن معه من طفله إلى اخوته وأنصاره وغلمانه القدوة الغنية بمعطياتها للعالم في كل زمان ومكان يعلمون الأبطال كيف يموتون في مملكة الجلادين الذين ذهبت ضحية سيوفهم آمال أجيال من الشباب وتلوت تحت سياطهم جنوب النساء وأبادوا وأجاعوا واستعبدوا رجالاً ونساء ومؤذنين ومعلمين ومحدثين .
لقد ترك الحسين واخوته وأصحابه وحتى غلمانه دروساً سخية بالعطاء والقيم حافلة بالعبر والمثل التي تنير العقول وتبعث في النفوس والقلوب قوة الإيمان بالمثل العليا والمبادئ السامية التي دعا إليها وضحى بكل ما يملك من أجلها ولا تزال الاجيال تستلهم منها كل معاني الخير والنبر والفضيلة وسيبقى الحسين وأنصاره مثلا كريما لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله .
لقد هاجر من مدينة جده إلى ارض الشهادة والخلود ليقدم دمه الزكي ودماء اخوته وأنصاره الخالدين ثمنا لإحياء شريعة جده الرسول الأعظم وانقاذها من مخالب الكفر والانحراف ، ولكي يضع حدا لسياسة البطش والتنكيل واراقة الدماء وليعلن بصوته المدوي الذي لا يزال صداه يقض مضاجع الظالمين ان الإسلام فوق ميول الحاكمين وان المثل والقيم فوق مستوى مطامعهم الرخيصة وان الحرية والكرامة من حقوق الإنسان في حياته ولا سلطان للحكام والطغاة عليها .
أجل ان رسالة الحسين (ع) كانت ولا تزال امتدادا لرسالة جده وجهاده امتدادا لجهاد جده وأبيه امير المؤمنين بطل الإسلام الخالد الذي تام الإسلام وانتشر بسيفه وجهاده .
وكما خيبت هجرة الرسول مساعي المتآمرين على قتله بخروجه من مكة إلى يثرب بعد ان بات على فراشه بطل الإسلام الخالد ليدرأ عنه خطر الاعداء ويفيده بنفسه من مؤامرة ابي سفيان وحزبه كذلك خيبت شهدة سبطه الثائر العظيم آمال أمية وأمانيها ومما يطمح إليه حفيدها يزيد بن معاوية من تحطيم الإسلام وعودة الجاهلية والاصنام آلهة آبائه وأجداده وسجلت اتنصاراً حطم اولئك الجبابرة الطغاة ودولتهم الجائرة العاتية التي قابلها الحسين وقضى عليها بشهادته ودمه الزكي الطاهر بالرجال والعتاد والأموال .
ولرب نصر عاد بشر هزيمة *** تركـت بيوت الظالمين طلولا
لقد قاتل مع الحسين (ع) اثنان وسبعون شخصاً من اخوته وأبنائه وانصاره الأبطال الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان فقاتلوا دفاعاً عن الحق والعقيدة ورسالة الإسلام وأرخصوا حياتهم لإعلاء كلمة الله في الارض وكانوا مع قلة عددهم وكثرة الحشود التي اجتمعت لقتالهم يكرون على تلك الحشود بقلوبهم العامرة بالتقوى ونفوسهم المطمئنة الى المصير الذي أعده الله للمجاهدين في سبيله فيفرون من بين أيدهم فرار المعزا اذا شدت عليها الذئاب ورحم الله السيد حيدر الحلي القائل :
جاءوا بسبعين الف سل بقيتهم * هـــل قابلـونا وقد جئنا بسبعين لقد ترك لنا الحسين وجد الحسين والأئمة من ذرية الحسين من اقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم مدرسة غنية بكل ما نحتاجه في الحرب والسلم والشدة والرخاء والفقر والغنى وكل نواحي الحياة فما اولانا ونحن ندعي الإسلام والتشيع لهم ان نرجع إلى سيرتهم ونسير على خطاهم ونصنع من ميراث أمتنا وقادتنا خير أمة اخرجت للناس .
ولو نظرنا ومع الاسف الشديد إلى مبادئ التشيع التي تجسد الإسلام بكل فصوله وخطوطه وقارنا بينها وبين ما نحن عليه من تخاذل وتراجع واذلال وانحراف عن الإسلام ومبادئه وقيمه وجدنا انفسنا من ابعد الناس عن علي وبنيه وعن الحسين بالذات الذي نحتفل في كل عام بذكراه ونبكيه ونردد بألسنتنا يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً ، وأنا لا اشك بأن الحسين لو وجد في زماننا هذا لصنع من القدس وجنوب لبنان كربلاء ثانية وسوف لا يناصره ممن يدعون الإسلام والتشيع ومن يتباكون على القدس والجنوب ويتاجرون بهما في البيانات والخطب وعلى صفحات الجرائد اكثر من العدد الذي ناصره في كربلاء الاولى .
ان بكاء الباكين وتباكيهم على الحسين وعلى القدس والجنوب لم يكن إلا لأنه يلتقي مع مصالحهم او لبعض الحالات الطبيعية التي تسيطر على الإنسان احياناً ، فهل هؤلاء مع الحسين ومبادئه ومع القدس القبلة الأولى للمسلمين وفلسطين التي اغتصبتها وشردت اهاليها قوى الشر والعدوان ، ومع جنوب لبنان الذي عبثت فيه الأهواء والاطماع ومزقته إلى احزاب وشيع لا تحصى حتى ولو تعارض ذلك مع مصالحهم وأهوائهم ، فعشرات الشواهد والأرقام تؤكد ان مصالحنا وأهوائنا إذا تعارضت مع الحسين وجميع القيم ومع القدس والجنوب وجميع المظلومين والمعذبين لم نعد نتعرف على الحسين ولا على مبادئه وقيمه ولا على القدس والجنوب ولا على المظلومين والمعذبين ولو خرج من يحمل مبادئ الحسين في زماننا هذا لحاربناه كما حاربه اولئك بالأمس ولقطعنا رأسه ورؤوس من يناصره وأهديناها لمن يحمل روح يزيد وابن زياد وما اكثرهم في زماننا هذا .
لقد بكى عمر بن سعد على الحسين في كربلاء وسالت دموعه على لحيته عندما رآه يجود بنفسه والدماء تنزف من جسده وفي نفس الوقت أمر اصحابه بقتله وقال لهم : انزلوا اليه وأريحوه . والانسان في الغالب قد يتأثر وينفعل من غير قصد واختيار كما يتنفس ويتألم ويفرح ويحزن وسرعان ما يتغير وكأنه انسان آخر ، وبذلك نستطيع ان نفسر بكاء اكثر الباكين على الحسين من المحبين والمجرمين القسادة وهم يستمعون إلى حديث كربلاء وما حل بها من الفجائع على أهل البيت عليهم السلام .
وجاء عن بعض العلويات انها قالت : حين استشهد اخي الحسين هجم العدو على خيامنا المسلب والنهب ودخل خيمتي رجل ازرق العينين فأخذ ما في الخيمة ونظر إلى زين العابدين وهو على نطع وكان مريضاً فجذبه من تحته ورماه إلى الأرض والتفت الي وأخذ القناع عن رأسي وقرطين كانا في أذني وجعل يعالجهما ويبكي حتى انتزعهما ، فقلت له : تسلبني وأنت تبكي ؟ فقال : ابكي لمصابكم اهل البيت .
وبلا شك فان الكثيرين من الذين يبكون لمصاب اهل البيت وما حل بهم في كربلاء يحملون روح هذا المجرم ازرق العينين ، ولو تسنى لهم ان يسلبوا الحوراء او غيرها خمارها اذا اقتضت مصلحتهم ذلك لا يقصرون ولا يتورعون ، وأي فرق بين ازرق العينين الذي اقتحم خيام الحسين وأخذ النطع من تحت الإمام السجاد وانتزع القرطين من أذني الحوراء وبين من يدعون التشيع والإسلام في زماننا هذا ويعتدون على أموال الناس وحقوق الناس وكرامتهم غير مكترثين بالأديان ولا بالأخلاق والأعراف التي لا تقر الاساءة لاحد من الناس .
ان هؤلاء لا فرق بينهم وبين عمر بن سعد وأزرق العينين ولو وجدت العقيلة الحوراء في زماننا هذا لا يتورعون عن انتزاع قرطها ولا عن قتل اخيها وأبيها إذا اقتضت مصلحتهم ذلك ، وفي الوقت ذاته يتأثرون وينفعلون وقد يبكون عندما يستمعون إلى حديث كربلاء وما فعله ازرق العينين.
وسلام الله على الحسين وأنصاره شيوخاً وشبانا الذين لا تزال ذكراهم حية تثير الاسى والشجن في نفوس المحبين وحتى في نفوس الكثيرين في زماننا هذا من أمثال ابن سعد وأزرق العينين ، ولكن ذلك الاسى سرعان ما يتبخر ولا يعلق من تلك الذكرى وأهدافها السامية في النفوس والعقول إلا صوراً لا تتجاوز عالمها ومحيطها ثم تتبخر وكأنها لم تكن .
وأعود لأكرر بأن المسلمين لو استغلوا ذكراك يا ابا عبدالله وتضحياتك الجسام في سبيل الإسلام وخير الإنسانية ، واستغلوا مولد الرسول وسيرته العطرة الغنية بمعطياتها الذي يحتفلون به في هذه الأيام من كل عام من على منابرهم وبالهتاف والتصفيق في شوارعهم لبضع ساعات ثم يعودون مسرعين إلى نوادي القمار والخمور والبغاء وخدمة اعداء الإسلام بأموالهم وجميع طاقاتهم ، لو استغلوا ذكرى سيد الشهداء ومولد الرسول (ص) لمرضاة الله ورسوله ولصالح الإسلام والمسلمين وبث الوعي ورص الصفوف في مقابل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين لا لاشاعة الجهل والتفريق والاتجار بالدين وعواطف الناس لكانوا من افضل الأمم وأقواها في مشرق الدنيا ومغربها وسلام الله على الحسين الذي لم يحدث عن مثله التاريخ :
فيا ايها الوتر في الخالديـن *** فـذا إلــــى الان لــــم يشفع
ويا واصلا من نشيد الخلود *** ختـام القــــصيـدة بـالمطـلع
ويا بـن التي لـم يــقع مثلها *** كـمثــــلك حـملاً ولم ترضع
تعــاليت من مفزع للحتـوف *** وبـــورك قـبرك مـن مفزع
تمــــر الـدهـور فمـن يسجـد *** عـــلى جانبـيه ومـن ركـع