حسين ال دخيل
09-03-2014, 08:05 PM
1 ـ شقيقة الحسين ( عليها السلام )
من لا يعرف ان السيدة زينب بنت علي وفاطمة هي شقيقة الامام الحسين ( عليهم جميعا صلوات الله ) ؟ بلى ولكن حين يجعل هذا التعبير عنوانا لكتاب فإن له معنى أعمق : فالسيدة زينب كانت الجزء المكمل لمسيرة السبط الشهيد وإذا كانت واقعة الطف من اقدار الله سبحانه فإن من تقديره الحكيم ان يكتمل الجزء الثاني والهام من المسيرة على يد من تكون شخصيتها مثيلة لشخصية اخيها الحسين تماما ، لا في الجوانب المادية فقط ، وانما في كافة الجوانب .
وإذا جعل الله مع آدم زوجته ، ومع موسى اخته ، ومع عيسى أمه ، ومع النبي بنته ، فقد جعل مع الحسين اخته الصديقة الصغرى ، فهما من شجرة واحدة . الفارق في العمر بسيط ويتلاشى مع الزمن ، والتربية واحدة في كنف الرسول ، وفي حضن فاطمة بنت محمد ، وتحت ظلال أمير المؤمنين علي ، انها كبرى الاسباط بعد اخويها الحسن والحسين ، وهي الى ذلك تجسد شمائل امها بكل جلالها وجمالها ، و تتمثل شخصية ابيها بكل تقواها وعلمها ، و تتناسب مع شخصية اخيها الحسن ، وتكاد تتطابق مع شخصية اخيها الحسين ..
فإذا كانت التربية او الوراثة ذات أثر في صياغة شخصية أحد ، واذا كانت الاحداث هي التي تصنع شخصية انسان ، واذا كانت رسالة الفرد الاساسية التي قدرت له ذات اثر في بناء كيانه ، فإن الصديقة زينب شاركت اخاها الامام الحسين عليه السلام في كل ذلك ..
ومنذ الأزل كانت واقعة الطف مقدرة .. اذ كانت الذروة في الصراع الجاهلي الاسلامي بعد انفجار نور الوحي على هضبات مكة ، و كانت الاحداث تركض في هذا الاتجاه منذ لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، ودخول بني أمية على مسرح الاحداث من جديد تحت غطاء النفاق ، وفي غفلة من الانصار وتغافل من المهاجرين لمصالح سلطوية مؤقتة .
قامت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في وجه ذلك الانحراف ، ورسمت لابنائها بدمها المطبوع على جدار بيتها .. وبأثار الضرب على متنها ، و بصرخاتها المدوية وبآهاتها التي زلزلت اركان المدينة ، رسمت بكل ذلك وبسقط جنينها محسن ، طريق التحدي .. فكانت بذلك سيدة نساء العالمين ، اذ انها وضعت حجر الزاوية الاول في بناء الاسلام النقي ، الذي لا يحكم الطغاة باسم الدين ، ولا يتحكم في مصير اهله المنافقون باسم القرآن والرسول .
رسمت طريقا لحمل اعباء الدعوة ، معالمه الهجرة والقيام ، والقتل والشهادة ، ثم الكلمة الثائرة التي لا تهدء ، والدمعة الناطقة التي لا ترقى .
وكانت زينب بنت الزهراء شاهدة عاشوراء . شقيقة الحسين ، قد استوعبت الدرس ، تماما ، أليست هي التي شاهدت بأم عينها كيف حمت أمها الصديقة الكبرى إمام زمانها وزوجها أمير المؤمنين عليه السلام حمته بنفسها حتى سقطت بين الباب والحائط تنادي فضة وتقول والله لقد قتلوا ما في احشائي .
أو ليست هي التي كانت ترافق أمها وهي تلملم جراحها ، وتغتصب نفسها وتتحمل كل الالم ، وهي تسارع الى أمير المؤمنين لتمنع القوم من إكراهه على البيعة .
ألم تشاهد كيف يهوي ذلك العتل بسياطها على كتف امها لكي تترك زوجها .
بلى .. وكانت زينب الى جانب أمها حين انشدت ذلك الخطاب الصاعق في مسجد ابيها بالمدينة ، وهي التي روت من بعد تفاصيل ذلك الخطاب .
وانطبعت في شخصيته الطفلة الذكية معالم ذلك الطريق بوضوح وشفافية ، و كانت مسيرتها من المدينة الى الطف ، والى الكوفة ، والى الشام ، ثم الى المدينة والآفاق نسخة متطورة لمسيرة أمها فاطمة سلام الله عليها ، من البيت الى المسجد ، ومن المسجد الى البيت ، ومن قبل تطوافها على بيوت الانصار طالبة منهم نجدة الحق . .
وكان خطابها في الشام ، كخطاب امها في المسجد النبوي ؛ المثل والاهداف ، والتعابير والنبرات ، و الشجاعة والحكمة ، والاثارة ، والاستنهاض كلها واحدة .. وزادت البنت على أمها انها كانت أسيرة مكبلة ، مفجوعة بأعز الناس .. ولكنها عادت فأسرت آسريها ، وقيدت مكبليها ، وقهرت قائلي أهلها بالكلمة الحق ، وحسن التوكل على الله ، وكفى به وكيلا .
2 ـ الصديقة الصغرى
في تلك الايام كان أهل بيت الرسالة ومعهم الصفوة من اصحاب الرسول يشيعون جثمان الصديقة الزهراء بكتمان شديد ، وكانت حسرات زينب واختها ام كلثوم كما حسرات السبطين والامام أمير المؤمنين مكبوتة في الصدور .
لابد ان زينب وسائر اولاد فاطمة عليها السلام عرفوا لماذا توفيت امهم وهي في سن الورود ، ولماذا غسلوها ليلا في ضوء الشموع الخافتة ، ولماذا يجب الا يرفعوا اصواتهم بالنحيب ، ولابد انهم علموا ان كل ذلك انما كان في سبيل الله وفي سبيل اعلاء كلمة الحق ، وان عليهم ان يحتسبوا الله في مصابهم .
كانت المصيبة تصدع الجبال لو نزلت بها ولكنها مادامت في سبيل الله فان تلك الذرية الصالحة تستوعبها ..
وزينب وقلبها الحسنان كانت تستوعب الدرس وتتقن الصبر ، وتختزن الصبر ليوم آخر مقدر لها ومرسوم ليوم عاشوراء حيث تشهد الفاجعة ، وتكون قطب رحاها بعد اخيها .
ان للصبر حدودا ولكن صبر الصديقين لا حدود له ، لانه يستمد قدرته من التوكل على الله والاحتساب عنده ، وكل شيء عند المؤمن هين عندما يذكر ربه العظيم .
وكانت زينب الصديقة ذات صبر عظيم .. كانت عند كل المصائب شاهدة رائدة ، فهي التي استضافت ابيها ليلة التاسع عشر من شهر رمضان التي فلقت فيها هامته المقدسة في محراب الكوفة .
وهي عند اخيها الامام الحسن عليه السلام عندما كان يقذف قطع الدم بعد ان دس معاوية اليه السم عبر زوجته جعدة بنت الاشعث التي قتلته بعد ان مناها معاوية بالاموال وبأن يزوجها من يزيد .
من يدري فأن القدر كان يهيء هذه السيدة الطاهرة ليوم عظيم ، لتصبح مثلا في الصبر الالهي .
لقد كانت امها فاطمة سيدة نساء العالمين ، ولا ريب اما هي فقد كانت قدوة لنساء عالمها ، بل سيدة نساء عالمها ، فهي حفيدة رسول الله ، ربيبت أمير المؤمنين ، وفاطمة الزهراء ، وهي التي شهد بحقها الامام علي بن الحسين عليه السلام بعد ان القت خطابها الرائع فيحشود أهل الكوفة بعد واقعة الطف قال لها :
" يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار ، وانت ـ بحمد الله ـ عالمة غير معلمة ، فهمة غير مفهمة " 1 . وهي الفقيهة المفسرة التي كانت جلسات درسها في مشهودة من قبل النساء في المدينة والكوفة .
لقد نعتت بلقب عقيلة بن هاشم ، لانها كانت أبرز الهاشميات علما وتقوى وتدبيرا .
والهاشميات كن القمة في الصفات المثلى ، افلا يحق لنا ان نسيمها سيدة نساء عالمها بعد امها الصديقة الكبرى ، اولا ينبغي ان نسميها بالصديقة ، او لم تكن مواقفها مع اخيها الامام الحسين عليه السلام كافية لمثل هذا اللقب الكبير " الصديقة " ؟ بلى .
3 ـ في بيت عبد الله بن جعفر
أبناء العائلة الكبيرة يتحدثون بينهم عن عمهم الذي ذهب في رحلة جهادية ولم يعد كان الملك المنتخب من قبل الروم على الشامات رجلا أرعن لقد هدد النبي صلى الله عليه وآله بعد ان بلغته رسالته واعلن عليه الحرب فبعث اليهم النبي جيشا من ثلاثة الاف وأمر عليه زيدبن حارثة وضم اليه ابن عمه جعفر بن ابي طالب وقال : ان اصيب زيد فجعفر اميركم ـ وكان ابن عمه جعفر بن ابي طالب قد عاد بنجاح من الحبشة بعد ان قاد رحلة المهاجرين الاولين اليها ، وعندما التقى الجمعان حيث المسلمون في ثلاثة الاف بينما جيش الكفر يفوق عدده المأة الف ، دارت المعركة على المسلمين واستبسل جعفر الذي عقر فرسه وحاربهم راجلا فقطعت يده اليمنى التي كان يمسك بها الراية فأخذها باليسرى فلما قطعت احتضن الراية ببقايا يديه وحاربهم واستبسل في الدفاع عن دينه حتى استشهد فوجدوا في جسده بضعا وثمانين جرحا بين رمية وضربة وطعنة 2 .
لقد اعطاه النبي وسام الطيار حيث قال انه قد عوض عن يديه بجناحين ليطير بهما في الجنة .
زوجة جعفر كانت من النساء الفاضلات ، وهي من الاخوات المؤمنات اللاتي سماهن رسول الله كذلك فاختها ميمونة هي ام المؤمنين ، واختها سلمى زوجة حمزة سيد الشهداء ، وكذلك لبابة زوجة العباس بن عبد المطلب وقد انجبت له اربعة وولدت عبد الله في المهجر في ارض حبشة وبعده تزوجها ابو بكر فانجبت له محمدا الذي كان يقول فيه الامام علي عليه السلام : هذا ابني من صلب ابي بكر .
وبعد ابي بكر تزوجها الامام علي حيث انجبت له يحيى ومحمد الاصغر ، وقيل يحيى وعونا . وها هم اولاد جعفر في كنف عمهم الامام علي عليه السلام ، ذلك الظل الوارف الكريم ..
لقد جاء النبي الى عائلة جعفر بعد شهادته وقال لهم هذه الكلمة عندما زارهم بعد الشهادة ؛ انا وليهم في الدنيا والاخرة .
وهكذا قام الامام امير المؤمنين بهذه الكفالة من بعده ، أو ليس هو الوصي والوارث والولي من بعده ؟ .
من بين أولاد جعفر كان عبد الله مباركا حيث قال له النبي ـ عند شهادة والده ـ واما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي ، وقال : اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاثا 3 حيث دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : بارك الله في صفقة يمينه ، و كان عبد الله ثريا لنجاحه في الصفقات ، وكريما الى ابعد الحدود وقد ضربت به الامثال في الكرم ، ومشت الركبان بقصص كرمه حتى لم يجد اعدادءه من بني امية طريقا للطعن فيه الا نسبوهالى الاسراف لكثرة كرمه وعظيم جوده .
فقال فيه الشاعر :
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سالكه
وقال الاخر :
وما كنت الا كالأغر ابن جعفر *** رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا
هذا عبد الله وهذه صفاته وها هي زينب كبرى بنت عمه ( الامام علي عليه السلام ) قد بلغت مبلغ النساء فتقدم اليها عبد الله ، ولم يتردد الامام علي عليه السلام من الاستجابة ، وبالذات لانه روي عن النبي ، صلى الله عليه وآله انه نظر مرة الى اولاد بني هاشم فقال: بناتنا لابناءنا وابناؤنا لبناتنا ، وها هم اليوم يحققون امنية الرسول . فاذا بالامام يزوج ابنته لابن عمه ، ولم يذكر التاريخ شيئا من تفاصيل الزواج ولم يتجاوز ما كان في زواج فاطمة الزهراء سلام الله عليها لانه كان المثل الاعلى لزيجات ابناءها الكرام عليهم السلام جميعا .
ولم يذكر التاريخ ان الامام عليا عليه السلام اشترط على عبد الله شروطا معينة ، ولكننا نستطيع ان نتنبأ بتلك الشروط من خلال الدور المرسوم سلفا لسيدة كربلاء زينب سلام الله عليها .
وهكذا لم يتردد عبد الله بن جعفر لحظة عندما عقدت زينب العزم على مرافقة اخيها في قيامه ضد الطاغية يزيد .
وبالرغم من ان عبد الله بن جعفر لم يشترك شخصيا في معركة كربلاء لاسباب غير معروفة لدينا ، ولكنه بعث بأبنيه الرشيدين الذين استشهدا مع خالهما وسيدهما الامام الحسين عليه السلام ، وكان فخورا بشهادتهما في ركاب السبط الشهيد .
ولم يبين التاريخ شيئا كثيرا عن حياة الصديقة زينب سلام الله عليها قبل حادثة عاشوراء ، الا انها انجبت اربعة من البنين : عليا ومحمدا وعونا الاكبر وعباسا وفتاتين ، وان النساء كن يختلفن عليها لتلقي عليهن التعاليم الدينية ، وانها هاجرت مع ابيها وزوجها الىالكوفة وان زوجها عبد الله شارك في الدفاع عن الامام امير المؤمنين في حروبه ضد البغاة وانه كان من امراء جيش الاسلام في تلك الحروب .
ولا ريب ان البيت الهاشمي بكل عناصره كانوا يخوضون ـ منذ التحاق النبي بالرفيق الاعلى ـ غمار صراع متعدد الابعاد من اجل اعادة السلطة الى الدين ، ومقاومة خط النفاق الاموي الذي تسلل الى مراكز القيادة في الامة .
لقد انشغل كثير من المسلمين بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين افواجا ، انشغلوا بمكاسب الفتح وتغافلوا عن مسؤولية الدفاع عن القيم الالهي ، وتجاهلوا تسلل العناصر المنافقة والانتهازية الى مراكز القوة في البلاد ، هكذا بدأت عناصر الردة الجاهلية تتحزب ، واخذت فلول معسكر ابي سفيان الذي انهزم في بدر تتجمع وتستفيد من سماحة الاسلام . ، وغفلة الرساليين ومن امكانات الفتوحات الاسلامية ، ومن تحالفاتهم الجاهلية مستفيدين من كل ذلك لاستعادة نفوذهم وسلطانهم المفقود .
و لا ريب ان النبي صلى الله عليه وآله اهتم بسيطرة الاسلام كقوة سياسية اولى في الجزيرة ، وتسامح مع اعدائه لكي يجذبهم ولو ظاهريا الى الاعتراف بالدين بالرغم من علمه بأنهم لم يؤمنوا بحقائق قلوبهم . وقد جاءت أكثر من اية كريمة تنذر المسلمين بوجود عناصر منافقة في صفوفهم كقوله سبحانه :
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ 4 .
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 5 .
وكانت مهمة تصفية العناصر الضعيفة والمنافقة ملقاة على عاتق الامام امير المؤمنين عليه السلام والبيت الهاشمي من بعد الرسول .
وهكذا قاتل الرسول بني امية انطلاقا من تنزيل الكتاب لانهم كانوا يومئذ يجاهرون بالكفر ، وحاربهم الامام علي سلام الله عليه على تأويل الكتاب حينما اظهروا الاسلام واضمروا الكفر ، وهكذا اخبره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) . وقام الامام امير المؤمنين بقيادة الصفوة من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله والتابعين لهم للدفاع عن حرمات الاسلام في مواجهته التحريفية الاموية ، وقد انتصر في ثلاث حروب وكان يخطط لحرب رابعة حين اغتالته الايادي الاثمة في صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان وقبل عشر ايام من موعد الخروج الى المعركة .
وبعد شهادة الامام علي عليه السلام قام نجله الامام الحسن المجتبى عليه السلام بحرب سياسية واعلامية واسعة ضد الخط الاموي ، وقد نجح في تنقية الدين الحنيف عن الثقافات السلطوية التي حاول بنو أمية تمريرها على الناس باسم الدين .
وكانت للامام الحسين عليه السلام مهمة اخرى قام باعبائها بأفضل صورة ؛ كانت المهمة تتلخص في بعث روح الشهادة في ضمير الامة لكي يدافعوا عن قيم الدين امام السلطات التحريفية على مد الاعصار ، ويضحوا بأنفسهم في سبيل اعلاء كلمة الحق .
لقد عرف الناس ان الحق مع الامام علي وأهل بيت الرسالة ، وان معاوية ويزيد ومن جاء بهما وتستر عليهما هم أهل الباطل ، ولكنهم ضعفوا واستكانوا عن الدفاع عن الحق . وهكذا خذلوا الامام الحسن عليه السلام وتفرقوا عن سفير الامام الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل تحت شعار شيطاني خبيث " ما لنا وللدخول بين السلاطين " . وأخيرا صدقت فيهم مقولة الفرزدق " قلوبهم معك وسيوفهم عليك " وها هي سيوفهم التي سلوها ضد بني أمية في صفين يغمدونها في ركام من التبريرات ثم يسلونها ضد سبط الرسول ، وداعية الوصي، وابن القرآن ، ومثال الايمان !
الناس اليوم بحاجة الى انتفاضة الضمير .. الى زلزال عنيف يهز اعمق مشاعرهم ، ويعيدهم الى وجدانهم الديني ، ويقول لهم ان هذ ه الدنيا العريضة التي اصابوها ليست في الاخرة الا متاع ، وهي ليست عند اولياء الله الا عفطة عنز فأنى يؤفكون ؟
وجاء الامام الحسين عليه السلام الى كربلاء حيث قدر له ان يفجر ثورة الضمير التي تبقى سيفا على رؤوس الظالمين لا ينبو ، وراية لحركة المظلومين لا تنكس ، و وخزا لضمير المتقاعسين لا يفل ، ونورا لدرب المجاهدين لا يخبو .
جاء الامام الحسين عليه السلام ليكون فيصل حق بين دين الله الذي يدعو الى الايمان ومخالفة الهوى ، والشهادة لله في كل موقف ، والصدق في كل موطن ، و بين دين السلاطين الذي يدعو الى تبرير الظلم والى التبعية والاستعباد .. بين دين محمد رسول الله وبين دين ابو سفيان .. بين دين الامام علي ودين معاوية .. بين دين حجر بن عدي وعمر بن حمق وسعيد بن جبير ، وبين دين سمرة بين جندب وشريح القاضي وعمر بن سعد ..
وجاء الامام الحسين عليه السلام ليقول للمسلم اذا كان دم سبط رسول الله رخيصا في سبيل الله فاي دم يبقى غاليا ، واذا كانت حرم رسول الله تسبى من اجل فضح الباطل فاي حرمة لنساء الرجال العاديين ؟
جاء الامام الحسين عليه السلام ليبعث همة عالية في نفوس الامة ، وزخما ثوريا لاهبا ضد الطغاة .
وهكذا كان ، وسقطت راية بني أمية ، وارتفعت راية الاسلام ، ويبقى الوصي ودين الرسول ، وبقيت سننه حتى الان وحتى يوم القيامة .
كان هدف يزيد اشاعة العصبية العنصرية ، ثم العصبية الاموية ، ثم الملك العضوض .
كان هدفه اشاعة ثقافة اللعب بالقرود ، وكان له قرد يدعى انه من شيوخ بني اسرائيل ، وانه مسخ قردا لمعصية ارتكبها ، وكان ولها به الى درجة انه حين مات امر بدفنه وامر الشعراء ووعاظ السلاطين برثائه واقامة العزاء له .
وكان شعار يزيد :
لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل ..
وكان هدف السبط الشهيد ان يكون من ابناء الامة رجالا يدافعون عن الحق امام يزيد وطغيانه ، و يستعدون للشهادة في سبيل الله بل يجعلون هذه الشهادة هدفهم الاول ، وهكذا كان .
4 ـ زينب شاهدة النهضة
وهلك يزيد ونهجه ، واستطال الحسين ونهجه ، وصدقت حكمه الصديقة زينب لابن زياد ، بعدما سألها كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت الا جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج ( اي النصر ) يومئذ ثكلتك أمك يا بن مرجانة 6 وكانت زينب الشاهدة على نهضة السبط الشهيد لانها حملت رسالتها الى الآفاق ، ولان النهضة اساسا كانت تهدف بعث زلزال في الضمائر . فان دم الشهداء كان سيذهب سدى من دون دور الشاهدة العظيمة زينب ، ودور الشاهدين الاخرين معها .
وكانت تلك حكمة حمل الامام الحسين عليه السلام حرمه معه ، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله في رؤياه الصادقة قبيل خروجه من المدينة لقد شاء الله ان يراهن سبايا .
لقد زعمت أمية ان تطواف آل الرسول اسارى في البلاد برفقة رأس السبط الشهيد ورؤوس اصحابه عليه وعليهم السلام انه يثير الرهبة في نفوس معارضيها ، وبالتالي يثبت سلطانها ولم تعرف ان الذي خطط للنهضة تعمد في ان يجعلها نهضة الدم الذي يقهر السيف ، والضمير الذي يغلب الدرهم والدينار . فكانت الرؤوس المقطوعة اكبر شاهد على ظلامة أهل البيت وتجردهم في الله ، وعظيم تضحيتهم في سبيل الدين . وكانت كلمات التقريع والتحدي التي فاضت بها خطب أهل البيت ، وما كان فيها من استهزاء بالطغيان الاموي ، والسخرية من سلطانهم أكبر ثورة ثقافية في الامة .
وهكذا نسمع الامام زين العابدين عندما يسأله ابراهيم بن طلحة ويقول له بعد شهادة ابيه : يا علي بن الحسين من غلب فيجيبه ؟ الامام ويقول : اذا اردت ان تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثم اتم 7 .
بلى .. ان بقاء الصلاة وبقاء ذكر النبي في الاذان والاقامة دليل غلبة الاسلام على النفاق بفضل شهادة الامام الحسين عليه السلام .
والواقع ان القدر كان قد هيأ الصديقة زينب لهذا الدور ، وخلال عمرها القصير بعد واقعة الطف زرعت في كل افق من العالم الاسلامي بذور النهضة الحسينية ، وحفرت نهرا متدفقا من العواطف النبيلة تجاه أهل البيت حتى أصبحت لكلمة يالثارات الحسين جرصا خاصا في نفوس المسلمين ، ما ان تنطلق هذه الكلمة حتى يجتمع الناس للنهضة والاستعداد للشهادة .. واصبحت الشهادة في سبيل الله ولمقاومة الطغاة عادة مشروعة للبررة من ابناء الامة كما كان الجهاد في سبيل الله ضد الكفار .
كل ذلك بفضل شهادة الحسين عليه السلام وكلمات الصديقة زينب وسائر اسارى واقعة الطف .
5 ـ صفات الصديقة زينب (ع)
ما الذي قلد زينب الصديقة هذا الدور العظيم ؟ انها صفاتها المثلى التي نذكرها تباعا :
1 ـ الصديقة :
عشية يوم عاشوراء نظرت زينب الى أرض طف فاذا بها مثخنة بالجثث الطواهر ، وهي تتناثر فوق مساحة واسعة كالأضاحي ، وقد فصلت الرؤوس وسلبت الاجساد الطاهرة ، وفي جانب اخر رمقت بقايا خيم محترقة ، وثلة من الاطفال المذعورين والنساء المفجوعات يتراكضون على غير هدى واصواتهم ترتفع تارة بالبكاء على ذويهم واخرى ينادون العطش العطش ..
يتبع انشاء الله
من لا يعرف ان السيدة زينب بنت علي وفاطمة هي شقيقة الامام الحسين ( عليهم جميعا صلوات الله ) ؟ بلى ولكن حين يجعل هذا التعبير عنوانا لكتاب فإن له معنى أعمق : فالسيدة زينب كانت الجزء المكمل لمسيرة السبط الشهيد وإذا كانت واقعة الطف من اقدار الله سبحانه فإن من تقديره الحكيم ان يكتمل الجزء الثاني والهام من المسيرة على يد من تكون شخصيتها مثيلة لشخصية اخيها الحسين تماما ، لا في الجوانب المادية فقط ، وانما في كافة الجوانب .
وإذا جعل الله مع آدم زوجته ، ومع موسى اخته ، ومع عيسى أمه ، ومع النبي بنته ، فقد جعل مع الحسين اخته الصديقة الصغرى ، فهما من شجرة واحدة . الفارق في العمر بسيط ويتلاشى مع الزمن ، والتربية واحدة في كنف الرسول ، وفي حضن فاطمة بنت محمد ، وتحت ظلال أمير المؤمنين علي ، انها كبرى الاسباط بعد اخويها الحسن والحسين ، وهي الى ذلك تجسد شمائل امها بكل جلالها وجمالها ، و تتمثل شخصية ابيها بكل تقواها وعلمها ، و تتناسب مع شخصية اخيها الحسن ، وتكاد تتطابق مع شخصية اخيها الحسين ..
فإذا كانت التربية او الوراثة ذات أثر في صياغة شخصية أحد ، واذا كانت الاحداث هي التي تصنع شخصية انسان ، واذا كانت رسالة الفرد الاساسية التي قدرت له ذات اثر في بناء كيانه ، فإن الصديقة زينب شاركت اخاها الامام الحسين عليه السلام في كل ذلك ..
ومنذ الأزل كانت واقعة الطف مقدرة .. اذ كانت الذروة في الصراع الجاهلي الاسلامي بعد انفجار نور الوحي على هضبات مكة ، و كانت الاحداث تركض في هذا الاتجاه منذ لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، ودخول بني أمية على مسرح الاحداث من جديد تحت غطاء النفاق ، وفي غفلة من الانصار وتغافل من المهاجرين لمصالح سلطوية مؤقتة .
قامت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في وجه ذلك الانحراف ، ورسمت لابنائها بدمها المطبوع على جدار بيتها .. وبأثار الضرب على متنها ، و بصرخاتها المدوية وبآهاتها التي زلزلت اركان المدينة ، رسمت بكل ذلك وبسقط جنينها محسن ، طريق التحدي .. فكانت بذلك سيدة نساء العالمين ، اذ انها وضعت حجر الزاوية الاول في بناء الاسلام النقي ، الذي لا يحكم الطغاة باسم الدين ، ولا يتحكم في مصير اهله المنافقون باسم القرآن والرسول .
رسمت طريقا لحمل اعباء الدعوة ، معالمه الهجرة والقيام ، والقتل والشهادة ، ثم الكلمة الثائرة التي لا تهدء ، والدمعة الناطقة التي لا ترقى .
وكانت زينب بنت الزهراء شاهدة عاشوراء . شقيقة الحسين ، قد استوعبت الدرس ، تماما ، أليست هي التي شاهدت بأم عينها كيف حمت أمها الصديقة الكبرى إمام زمانها وزوجها أمير المؤمنين عليه السلام حمته بنفسها حتى سقطت بين الباب والحائط تنادي فضة وتقول والله لقد قتلوا ما في احشائي .
أو ليست هي التي كانت ترافق أمها وهي تلملم جراحها ، وتغتصب نفسها وتتحمل كل الالم ، وهي تسارع الى أمير المؤمنين لتمنع القوم من إكراهه على البيعة .
ألم تشاهد كيف يهوي ذلك العتل بسياطها على كتف امها لكي تترك زوجها .
بلى .. وكانت زينب الى جانب أمها حين انشدت ذلك الخطاب الصاعق في مسجد ابيها بالمدينة ، وهي التي روت من بعد تفاصيل ذلك الخطاب .
وانطبعت في شخصيته الطفلة الذكية معالم ذلك الطريق بوضوح وشفافية ، و كانت مسيرتها من المدينة الى الطف ، والى الكوفة ، والى الشام ، ثم الى المدينة والآفاق نسخة متطورة لمسيرة أمها فاطمة سلام الله عليها ، من البيت الى المسجد ، ومن المسجد الى البيت ، ومن قبل تطوافها على بيوت الانصار طالبة منهم نجدة الحق . .
وكان خطابها في الشام ، كخطاب امها في المسجد النبوي ؛ المثل والاهداف ، والتعابير والنبرات ، و الشجاعة والحكمة ، والاثارة ، والاستنهاض كلها واحدة .. وزادت البنت على أمها انها كانت أسيرة مكبلة ، مفجوعة بأعز الناس .. ولكنها عادت فأسرت آسريها ، وقيدت مكبليها ، وقهرت قائلي أهلها بالكلمة الحق ، وحسن التوكل على الله ، وكفى به وكيلا .
2 ـ الصديقة الصغرى
في تلك الايام كان أهل بيت الرسالة ومعهم الصفوة من اصحاب الرسول يشيعون جثمان الصديقة الزهراء بكتمان شديد ، وكانت حسرات زينب واختها ام كلثوم كما حسرات السبطين والامام أمير المؤمنين مكبوتة في الصدور .
لابد ان زينب وسائر اولاد فاطمة عليها السلام عرفوا لماذا توفيت امهم وهي في سن الورود ، ولماذا غسلوها ليلا في ضوء الشموع الخافتة ، ولماذا يجب الا يرفعوا اصواتهم بالنحيب ، ولابد انهم علموا ان كل ذلك انما كان في سبيل الله وفي سبيل اعلاء كلمة الحق ، وان عليهم ان يحتسبوا الله في مصابهم .
كانت المصيبة تصدع الجبال لو نزلت بها ولكنها مادامت في سبيل الله فان تلك الذرية الصالحة تستوعبها ..
وزينب وقلبها الحسنان كانت تستوعب الدرس وتتقن الصبر ، وتختزن الصبر ليوم آخر مقدر لها ومرسوم ليوم عاشوراء حيث تشهد الفاجعة ، وتكون قطب رحاها بعد اخيها .
ان للصبر حدودا ولكن صبر الصديقين لا حدود له ، لانه يستمد قدرته من التوكل على الله والاحتساب عنده ، وكل شيء عند المؤمن هين عندما يذكر ربه العظيم .
وكانت زينب الصديقة ذات صبر عظيم .. كانت عند كل المصائب شاهدة رائدة ، فهي التي استضافت ابيها ليلة التاسع عشر من شهر رمضان التي فلقت فيها هامته المقدسة في محراب الكوفة .
وهي عند اخيها الامام الحسن عليه السلام عندما كان يقذف قطع الدم بعد ان دس معاوية اليه السم عبر زوجته جعدة بنت الاشعث التي قتلته بعد ان مناها معاوية بالاموال وبأن يزوجها من يزيد .
من يدري فأن القدر كان يهيء هذه السيدة الطاهرة ليوم عظيم ، لتصبح مثلا في الصبر الالهي .
لقد كانت امها فاطمة سيدة نساء العالمين ، ولا ريب اما هي فقد كانت قدوة لنساء عالمها ، بل سيدة نساء عالمها ، فهي حفيدة رسول الله ، ربيبت أمير المؤمنين ، وفاطمة الزهراء ، وهي التي شهد بحقها الامام علي بن الحسين عليه السلام بعد ان القت خطابها الرائع فيحشود أهل الكوفة بعد واقعة الطف قال لها :
" يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار ، وانت ـ بحمد الله ـ عالمة غير معلمة ، فهمة غير مفهمة " 1 . وهي الفقيهة المفسرة التي كانت جلسات درسها في مشهودة من قبل النساء في المدينة والكوفة .
لقد نعتت بلقب عقيلة بن هاشم ، لانها كانت أبرز الهاشميات علما وتقوى وتدبيرا .
والهاشميات كن القمة في الصفات المثلى ، افلا يحق لنا ان نسيمها سيدة نساء عالمها بعد امها الصديقة الكبرى ، اولا ينبغي ان نسميها بالصديقة ، او لم تكن مواقفها مع اخيها الامام الحسين عليه السلام كافية لمثل هذا اللقب الكبير " الصديقة " ؟ بلى .
3 ـ في بيت عبد الله بن جعفر
أبناء العائلة الكبيرة يتحدثون بينهم عن عمهم الذي ذهب في رحلة جهادية ولم يعد كان الملك المنتخب من قبل الروم على الشامات رجلا أرعن لقد هدد النبي صلى الله عليه وآله بعد ان بلغته رسالته واعلن عليه الحرب فبعث اليهم النبي جيشا من ثلاثة الاف وأمر عليه زيدبن حارثة وضم اليه ابن عمه جعفر بن ابي طالب وقال : ان اصيب زيد فجعفر اميركم ـ وكان ابن عمه جعفر بن ابي طالب قد عاد بنجاح من الحبشة بعد ان قاد رحلة المهاجرين الاولين اليها ، وعندما التقى الجمعان حيث المسلمون في ثلاثة الاف بينما جيش الكفر يفوق عدده المأة الف ، دارت المعركة على المسلمين واستبسل جعفر الذي عقر فرسه وحاربهم راجلا فقطعت يده اليمنى التي كان يمسك بها الراية فأخذها باليسرى فلما قطعت احتضن الراية ببقايا يديه وحاربهم واستبسل في الدفاع عن دينه حتى استشهد فوجدوا في جسده بضعا وثمانين جرحا بين رمية وضربة وطعنة 2 .
لقد اعطاه النبي وسام الطيار حيث قال انه قد عوض عن يديه بجناحين ليطير بهما في الجنة .
زوجة جعفر كانت من النساء الفاضلات ، وهي من الاخوات المؤمنات اللاتي سماهن رسول الله كذلك فاختها ميمونة هي ام المؤمنين ، واختها سلمى زوجة حمزة سيد الشهداء ، وكذلك لبابة زوجة العباس بن عبد المطلب وقد انجبت له اربعة وولدت عبد الله في المهجر في ارض حبشة وبعده تزوجها ابو بكر فانجبت له محمدا الذي كان يقول فيه الامام علي عليه السلام : هذا ابني من صلب ابي بكر .
وبعد ابي بكر تزوجها الامام علي حيث انجبت له يحيى ومحمد الاصغر ، وقيل يحيى وعونا . وها هم اولاد جعفر في كنف عمهم الامام علي عليه السلام ، ذلك الظل الوارف الكريم ..
لقد جاء النبي الى عائلة جعفر بعد شهادته وقال لهم هذه الكلمة عندما زارهم بعد الشهادة ؛ انا وليهم في الدنيا والاخرة .
وهكذا قام الامام امير المؤمنين بهذه الكفالة من بعده ، أو ليس هو الوصي والوارث والولي من بعده ؟ .
من بين أولاد جعفر كان عبد الله مباركا حيث قال له النبي ـ عند شهادة والده ـ واما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي ، وقال : اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاثا 3 حيث دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : بارك الله في صفقة يمينه ، و كان عبد الله ثريا لنجاحه في الصفقات ، وكريما الى ابعد الحدود وقد ضربت به الامثال في الكرم ، ومشت الركبان بقصص كرمه حتى لم يجد اعدادءه من بني امية طريقا للطعن فيه الا نسبوهالى الاسراف لكثرة كرمه وعظيم جوده .
فقال فيه الشاعر :
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سالكه
وقال الاخر :
وما كنت الا كالأغر ابن جعفر *** رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا
هذا عبد الله وهذه صفاته وها هي زينب كبرى بنت عمه ( الامام علي عليه السلام ) قد بلغت مبلغ النساء فتقدم اليها عبد الله ، ولم يتردد الامام علي عليه السلام من الاستجابة ، وبالذات لانه روي عن النبي ، صلى الله عليه وآله انه نظر مرة الى اولاد بني هاشم فقال: بناتنا لابناءنا وابناؤنا لبناتنا ، وها هم اليوم يحققون امنية الرسول . فاذا بالامام يزوج ابنته لابن عمه ، ولم يذكر التاريخ شيئا من تفاصيل الزواج ولم يتجاوز ما كان في زواج فاطمة الزهراء سلام الله عليها لانه كان المثل الاعلى لزيجات ابناءها الكرام عليهم السلام جميعا .
ولم يذكر التاريخ ان الامام عليا عليه السلام اشترط على عبد الله شروطا معينة ، ولكننا نستطيع ان نتنبأ بتلك الشروط من خلال الدور المرسوم سلفا لسيدة كربلاء زينب سلام الله عليها .
وهكذا لم يتردد عبد الله بن جعفر لحظة عندما عقدت زينب العزم على مرافقة اخيها في قيامه ضد الطاغية يزيد .
وبالرغم من ان عبد الله بن جعفر لم يشترك شخصيا في معركة كربلاء لاسباب غير معروفة لدينا ، ولكنه بعث بأبنيه الرشيدين الذين استشهدا مع خالهما وسيدهما الامام الحسين عليه السلام ، وكان فخورا بشهادتهما في ركاب السبط الشهيد .
ولم يبين التاريخ شيئا كثيرا عن حياة الصديقة زينب سلام الله عليها قبل حادثة عاشوراء ، الا انها انجبت اربعة من البنين : عليا ومحمدا وعونا الاكبر وعباسا وفتاتين ، وان النساء كن يختلفن عليها لتلقي عليهن التعاليم الدينية ، وانها هاجرت مع ابيها وزوجها الىالكوفة وان زوجها عبد الله شارك في الدفاع عن الامام امير المؤمنين في حروبه ضد البغاة وانه كان من امراء جيش الاسلام في تلك الحروب .
ولا ريب ان البيت الهاشمي بكل عناصره كانوا يخوضون ـ منذ التحاق النبي بالرفيق الاعلى ـ غمار صراع متعدد الابعاد من اجل اعادة السلطة الى الدين ، ومقاومة خط النفاق الاموي الذي تسلل الى مراكز القيادة في الامة .
لقد انشغل كثير من المسلمين بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين افواجا ، انشغلوا بمكاسب الفتح وتغافلوا عن مسؤولية الدفاع عن القيم الالهي ، وتجاهلوا تسلل العناصر المنافقة والانتهازية الى مراكز القوة في البلاد ، هكذا بدأت عناصر الردة الجاهلية تتحزب ، واخذت فلول معسكر ابي سفيان الذي انهزم في بدر تتجمع وتستفيد من سماحة الاسلام . ، وغفلة الرساليين ومن امكانات الفتوحات الاسلامية ، ومن تحالفاتهم الجاهلية مستفيدين من كل ذلك لاستعادة نفوذهم وسلطانهم المفقود .
و لا ريب ان النبي صلى الله عليه وآله اهتم بسيطرة الاسلام كقوة سياسية اولى في الجزيرة ، وتسامح مع اعدائه لكي يجذبهم ولو ظاهريا الى الاعتراف بالدين بالرغم من علمه بأنهم لم يؤمنوا بحقائق قلوبهم . وقد جاءت أكثر من اية كريمة تنذر المسلمين بوجود عناصر منافقة في صفوفهم كقوله سبحانه :
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ 4 .
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 5 .
وكانت مهمة تصفية العناصر الضعيفة والمنافقة ملقاة على عاتق الامام امير المؤمنين عليه السلام والبيت الهاشمي من بعد الرسول .
وهكذا قاتل الرسول بني امية انطلاقا من تنزيل الكتاب لانهم كانوا يومئذ يجاهرون بالكفر ، وحاربهم الامام علي سلام الله عليه على تأويل الكتاب حينما اظهروا الاسلام واضمروا الكفر ، وهكذا اخبره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) . وقام الامام امير المؤمنين بقيادة الصفوة من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله والتابعين لهم للدفاع عن حرمات الاسلام في مواجهته التحريفية الاموية ، وقد انتصر في ثلاث حروب وكان يخطط لحرب رابعة حين اغتالته الايادي الاثمة في صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان وقبل عشر ايام من موعد الخروج الى المعركة .
وبعد شهادة الامام علي عليه السلام قام نجله الامام الحسن المجتبى عليه السلام بحرب سياسية واعلامية واسعة ضد الخط الاموي ، وقد نجح في تنقية الدين الحنيف عن الثقافات السلطوية التي حاول بنو أمية تمريرها على الناس باسم الدين .
وكانت للامام الحسين عليه السلام مهمة اخرى قام باعبائها بأفضل صورة ؛ كانت المهمة تتلخص في بعث روح الشهادة في ضمير الامة لكي يدافعوا عن قيم الدين امام السلطات التحريفية على مد الاعصار ، ويضحوا بأنفسهم في سبيل اعلاء كلمة الحق .
لقد عرف الناس ان الحق مع الامام علي وأهل بيت الرسالة ، وان معاوية ويزيد ومن جاء بهما وتستر عليهما هم أهل الباطل ، ولكنهم ضعفوا واستكانوا عن الدفاع عن الحق . وهكذا خذلوا الامام الحسن عليه السلام وتفرقوا عن سفير الامام الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل تحت شعار شيطاني خبيث " ما لنا وللدخول بين السلاطين " . وأخيرا صدقت فيهم مقولة الفرزدق " قلوبهم معك وسيوفهم عليك " وها هي سيوفهم التي سلوها ضد بني أمية في صفين يغمدونها في ركام من التبريرات ثم يسلونها ضد سبط الرسول ، وداعية الوصي، وابن القرآن ، ومثال الايمان !
الناس اليوم بحاجة الى انتفاضة الضمير .. الى زلزال عنيف يهز اعمق مشاعرهم ، ويعيدهم الى وجدانهم الديني ، ويقول لهم ان هذ ه الدنيا العريضة التي اصابوها ليست في الاخرة الا متاع ، وهي ليست عند اولياء الله الا عفطة عنز فأنى يؤفكون ؟
وجاء الامام الحسين عليه السلام الى كربلاء حيث قدر له ان يفجر ثورة الضمير التي تبقى سيفا على رؤوس الظالمين لا ينبو ، وراية لحركة المظلومين لا تنكس ، و وخزا لضمير المتقاعسين لا يفل ، ونورا لدرب المجاهدين لا يخبو .
جاء الامام الحسين عليه السلام ليكون فيصل حق بين دين الله الذي يدعو الى الايمان ومخالفة الهوى ، والشهادة لله في كل موقف ، والصدق في كل موطن ، و بين دين السلاطين الذي يدعو الى تبرير الظلم والى التبعية والاستعباد .. بين دين محمد رسول الله وبين دين ابو سفيان .. بين دين الامام علي ودين معاوية .. بين دين حجر بن عدي وعمر بن حمق وسعيد بن جبير ، وبين دين سمرة بين جندب وشريح القاضي وعمر بن سعد ..
وجاء الامام الحسين عليه السلام ليقول للمسلم اذا كان دم سبط رسول الله رخيصا في سبيل الله فاي دم يبقى غاليا ، واذا كانت حرم رسول الله تسبى من اجل فضح الباطل فاي حرمة لنساء الرجال العاديين ؟
جاء الامام الحسين عليه السلام ليبعث همة عالية في نفوس الامة ، وزخما ثوريا لاهبا ضد الطغاة .
وهكذا كان ، وسقطت راية بني أمية ، وارتفعت راية الاسلام ، ويبقى الوصي ودين الرسول ، وبقيت سننه حتى الان وحتى يوم القيامة .
كان هدف يزيد اشاعة العصبية العنصرية ، ثم العصبية الاموية ، ثم الملك العضوض .
كان هدفه اشاعة ثقافة اللعب بالقرود ، وكان له قرد يدعى انه من شيوخ بني اسرائيل ، وانه مسخ قردا لمعصية ارتكبها ، وكان ولها به الى درجة انه حين مات امر بدفنه وامر الشعراء ووعاظ السلاطين برثائه واقامة العزاء له .
وكان شعار يزيد :
لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل ..
وكان هدف السبط الشهيد ان يكون من ابناء الامة رجالا يدافعون عن الحق امام يزيد وطغيانه ، و يستعدون للشهادة في سبيل الله بل يجعلون هذه الشهادة هدفهم الاول ، وهكذا كان .
4 ـ زينب شاهدة النهضة
وهلك يزيد ونهجه ، واستطال الحسين ونهجه ، وصدقت حكمه الصديقة زينب لابن زياد ، بعدما سألها كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت الا جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج ( اي النصر ) يومئذ ثكلتك أمك يا بن مرجانة 6 وكانت زينب الشاهدة على نهضة السبط الشهيد لانها حملت رسالتها الى الآفاق ، ولان النهضة اساسا كانت تهدف بعث زلزال في الضمائر . فان دم الشهداء كان سيذهب سدى من دون دور الشاهدة العظيمة زينب ، ودور الشاهدين الاخرين معها .
وكانت تلك حكمة حمل الامام الحسين عليه السلام حرمه معه ، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله في رؤياه الصادقة قبيل خروجه من المدينة لقد شاء الله ان يراهن سبايا .
لقد زعمت أمية ان تطواف آل الرسول اسارى في البلاد برفقة رأس السبط الشهيد ورؤوس اصحابه عليه وعليهم السلام انه يثير الرهبة في نفوس معارضيها ، وبالتالي يثبت سلطانها ولم تعرف ان الذي خطط للنهضة تعمد في ان يجعلها نهضة الدم الذي يقهر السيف ، والضمير الذي يغلب الدرهم والدينار . فكانت الرؤوس المقطوعة اكبر شاهد على ظلامة أهل البيت وتجردهم في الله ، وعظيم تضحيتهم في سبيل الدين . وكانت كلمات التقريع والتحدي التي فاضت بها خطب أهل البيت ، وما كان فيها من استهزاء بالطغيان الاموي ، والسخرية من سلطانهم أكبر ثورة ثقافية في الامة .
وهكذا نسمع الامام زين العابدين عندما يسأله ابراهيم بن طلحة ويقول له بعد شهادة ابيه : يا علي بن الحسين من غلب فيجيبه ؟ الامام ويقول : اذا اردت ان تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثم اتم 7 .
بلى .. ان بقاء الصلاة وبقاء ذكر النبي في الاذان والاقامة دليل غلبة الاسلام على النفاق بفضل شهادة الامام الحسين عليه السلام .
والواقع ان القدر كان قد هيأ الصديقة زينب لهذا الدور ، وخلال عمرها القصير بعد واقعة الطف زرعت في كل افق من العالم الاسلامي بذور النهضة الحسينية ، وحفرت نهرا متدفقا من العواطف النبيلة تجاه أهل البيت حتى أصبحت لكلمة يالثارات الحسين جرصا خاصا في نفوس المسلمين ، ما ان تنطلق هذه الكلمة حتى يجتمع الناس للنهضة والاستعداد للشهادة .. واصبحت الشهادة في سبيل الله ولمقاومة الطغاة عادة مشروعة للبررة من ابناء الامة كما كان الجهاد في سبيل الله ضد الكفار .
كل ذلك بفضل شهادة الحسين عليه السلام وكلمات الصديقة زينب وسائر اسارى واقعة الطف .
5 ـ صفات الصديقة زينب (ع)
ما الذي قلد زينب الصديقة هذا الدور العظيم ؟ انها صفاتها المثلى التي نذكرها تباعا :
1 ـ الصديقة :
عشية يوم عاشوراء نظرت زينب الى أرض طف فاذا بها مثخنة بالجثث الطواهر ، وهي تتناثر فوق مساحة واسعة كالأضاحي ، وقد فصلت الرؤوس وسلبت الاجساد الطاهرة ، وفي جانب اخر رمقت بقايا خيم محترقة ، وثلة من الاطفال المذعورين والنساء المفجوعات يتراكضون على غير هدى واصواتهم ترتفع تارة بالبكاء على ذويهم واخرى ينادون العطش العطش ..
يتبع انشاء الله