زهراء النور
11-04-2014, 04:43 PM
حقيقة علم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام
بقلم : الشيخ حسن عبد الله العجمي
سعة علمهم عليهم السلام
أن الأئمة الطاهرين "عليهم السلام" قد ورثوا علم النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله"، وقد دلّت الروايات على سعة علمه "صلى الله عليه وآله"، وأنه كان عالماً بالكثير من الحقائق والأمور مما علمه الأنبياء قبله، إضافة إلى ما خصه الله عز وجل به من العلوم مما لم يخص به أحداً من الأنبياء السابقين عليه، وبما أن الأئمة الطاهرين ورثة علمه "صلى الله عليه وآله" فإن سعة علمهم بسعة علمه.
فلقد كان صلوات الله وسلامه عليه عالماً بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، دلّت على ذلك الروايات من جهة الفريقين سنة وشيعة، فمن جهة أهل السنة ما رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه وغيره من الحفاظ عن حذيفة أنّه قال: (قام فينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاّ حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وأنّه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه) (1).
وروى مسلم وغيره عن عمرو بن أخطب قال: (صلى بنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا) (2).
وأخرج الترمذي في جامعه الصحيح "سنن الترمذي" بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: (صلّى بنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يوماً صلاة العصر بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلاّ أخبرنا به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ... الرواية) قال الترمذي: (وفي الباب عن حذيفة وأبي مريم وأبي زيد بن أخطب والمغيرة بن شعبة وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّثهم بما كان وبما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا حديث حسن صحيح) (3).
وفي مجمع الزوائد للهيثمي قال: (وعن زيد بن أرقم قال: أمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالشجرات فقم ما تحتها ورش، ثم خطبنا فو الله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلاّ قد أخبرنا به يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟ قلنا الله ورسوله أولى بنا من أنفسنا، قال فمن كنت مولاه فهذا مولاه، يعني علياً، ثم أخذ بيده فبسطها ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ثم قال الهيثمي: (قلت: روى الترمذي منه من كنت مولاه فعلي مولاه فقط، رواه الطبراني وفيه حبيب بن خلاد الأنصاري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات) (4).
قلت: حبيب بن خلاّد الأنصاري الذي لم يعرفه الهيثمي هو حبيب ابن زيد بن خلاّد الأنصاري وهو ثقة، قال ابن حجر في تقريب التهذيب: (حبيب بن زيد بن خلاّد الأنصاري المدني وقد ينسب إلى جده ثقة من السابعة) (5).
ومن طرق الشيعة روى العلامة الصفار بسند صحيح عن الإمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام" أنّه قال: (سئل علي "عليه السلام" عن علم النبي "صلى الله عليه وآله" فقال: علم النبي علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي "صلى الله عليه وآله" وعلم ما كان وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة) (6).
ومن الروايات الدالة على سعة علمه صلوات الله وسلامه وعليه وأن الله سبحانه وتعالى أعلمه بالكثير من الحقائق وأطلعه عليها بعضها إجمالاً وبعضها تفصيلاً ما رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده عن جابر أنّه قال: (انكسفت الشمس في عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يوم مات إبراهيم ابن رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فقال الناس إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقام النبي "صلى الله عليه وسلم" فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، بدأ فكبر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءةً دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءةً دون القراءة الثانية، ثم ركع نحواً مما قام ثم رفع رأسه من الركوع ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضاً ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلاّ التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحواً من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا، وقال أبو بكر حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس، فقال يا أيها الناس إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، وقال أبو بكر لموت بشر فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا حتى تنجلي، ما من شيء توعدونه إلاّ قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال إنما تعلق بمحجني وإن غفل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلاّ قد رأيته في صلاتي هذه) (7).
وروى ابن خزيمة في صحيحه بسنده إلى ثعلبة بن عباد العبدي: (أنه شهد خطبة يوماً لسمرة بن جندب، فذكر في خطبته قال سمرة بن جندب: بينا أنا يوماً وغلام من الأنصار نرمي عرضاً لنا على عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في غير الناظرين في الأفق اسودت حتى كأنها تنومه، فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فو الله ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" في أمته حدثاً، فدفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز فوافقنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حين خرج إلى الناس، قال فاستقدم فصلى بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط، لا يسمع له صوت ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط ولا يسمع له صوت، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا يسمع له صوت، قال ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، قال فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، قال فسلم فحمد الله وأثنى عليه وشهد أنه لا إله إلا الله وشهد أنه عبده ورسوله، ثم قال أيها الناس إنما أنا بشر رسول الله فأذكركم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي لما أجبتموني حتى أبلغ رسالات ربي كما ينبغي لها أن تبلغ، وإن كنتم تعلمون أني قد بلغت رسالات ربي لما أخبرتموني، قال فقام الناس فقالوا شهدنا أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، قال ثم سكتوا، قال قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أما بعد فإن رجالاً يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وأنهم كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يفتن بها عباده، لينظر من يحدث منهم توبة، والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً آخرهم الأعور) (8).
وفي رواية رواها الترمذي في سننه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان عالماً بأسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم وبأسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم فقد روى بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنّه قال: (خرج علينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله إلاّ أن تخبرنا، فقال للّذي في يده اليمنى هذا كتابٌ من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثمّ قال للّذي في شماله هذا كتابٌ من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النّار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمرٌ قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وإن عمل أيّ عمل، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عمل أيّ عمل، ثمّ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بيديه فنبذهما، ثمّ قال فرغ ربّكم من العباد، فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير)، قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب صحيح) (9).
وفي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: سمعت عمر يقول: (قام فينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) (10).
بل قامت الأدلة على أنه صلوات الله وسلامه عليه أوتي من العلم مفاتيح كل شيء، فروى أهل السنة أنّ النبي "صلى الله عليه وآله" قال: (أوتيت مفاتيح كل شيء إلاّ الخمس {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}) (11).
وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: (وأخرج أحمد والطبراني بسند صحيح عن ابن عمر عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: أوتيت مفاتيح كل شيء بإسناد صحيح، وفي الصحيحين عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" مقاماً ما ترك فيه شيئاً إلى قيام الساعة إلاّ ذكره, حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وإنه ليكون منه الشيء قد كنت نسيته فأراه فاذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.
قوله: «أوتيت مفاتيح كل شيء» أي من العلوم والمعارف وسائر المغيبات.
قال القاضي عياض في الشفا في فصل ما اطلع عليه من الغيوب وما يكون ما نصه: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره, ولا ينزف غمره, وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر لكثرة رواتها واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب اهـ.
ثم أورد جملة منها فليراجع.
وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم": «إن الله قد رفع لي الدنيا فانا انظر إليها وإلى ما هو كائن فيها الى يوم القيامة كانما أنظر إلى كفي هذه».
وقد أخبر "صلى الله عليه وآله وسلم" بكثير من أحوال هذا العصر ومخترعاته، وسنطبع رسالة لطيفة في هذا الموضوع بحول الله تعالى.
قوله: «إلاّ الخمس {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... الآية}» وفي صحيح البخاري عن ابن عمر مرفوعاً «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد إلاّ الله , ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلاّ الله , ولا يعلم متى تقوم الساعة إلاّ الله , ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلاّ الله , ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلاّ الله» ومقتضى هذا أنه لم يكن "صلى الله عليه وآله وسلم" يعلم الخمس, وإليه ذهب الجمهور, لكن قال الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى: ذهب بعضهم إلى أنه "صلى الله عليه وسلم" أوتي علم الخمس أيضاً وعلم وقت الساعة والروح وأنه أمر بكتم ذلك. اهـ
وبه جزم كثير من المتأخرين.
وللإمام منصور البغدادي في هذا الموضوع كتاب اسمه «إقامة شواهد المنقول والمعقول على إحاطة علم نبينا "صلى الله عليه وسلم"» وسأل الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي العلامة المحدث عبد الملك بن محمد التجموعتي قاضي سجلماسة عن هذه المسألة فأجابه برسالة خاصة سماها «ملاك الطلب وجواب أستاذ حلب» جزم فيها بأنه "صلى الله عليه وآله" وسلم كان يعلم الخمس.
وللشيخ أحمد رضا علي خان البريلوي الهندي في هذا الموضوع ثلاث رسائل: «ملء الجيب بعلوم الغيب» و «اللؤلؤ المكنون في علم البشير ما كان وما يكون» و «إنباء المصطفى بما أسر وأخفى»، وقال العلامة أبو عبد الله محمد الحبيب بن عبد القادر السجلماسي الحسني في شرح منظومة الأسماء الحسنى للهلالي: يجب علينا أن نعتقد أنه "صلى الله عليه وسلم" أنه لم يخرج من الدنيا حتى حصل له العلم بجميع المعلومات للحديث الصحيح: أوتيت علم كل شيء وتجلى لي كل شيء , وما ورد مما يخالفه منسوخ بهذا وبه تظهر مزيته وفضيلته العلمية على سائر الأنبياء في اشتراكهم في علم الغيب المستثنى لهم في آية: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وقال فيها بعض المفسرين: يريد أو ولي ففيه حذف، لأن الولي وارث لعلم النبوة. اهـ.
وفي «شرح انموذج اللبيب» للعلامة شمس الدين محمد بن محمد بن عمر الروضي المالكي ما نصه: الصحيح كما قاله المحققون أنه أوتي علم كل شيء حتى الخمسة وحتى علم الروح وأمر بكتم ذلك اهـ.
ونحوه في شرح جوهرة اللقاني لمؤلفها وشرح الأربعين النووية للشبرخيتي وغيرهما , وفي فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمناوي في الكلام على حديث خمس لا يعلمهن إلاّ الله .. الخ ما نصه: خمس لا يعلمهن إلاّ الله على وجه الإحاطة والشمول كلياً , وجزئياً فلا ينافيه إطلاع الله بعض خواصه على كثير من المغيبات حتى من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة وإن كان للمعتزلة في ذلك مكابرة اهـ.
قلت: والذي أرجحه وأميل إليه أنه "صلى الله عليه وآله وسلم" لم يعرج من الدنيا حتى علمه الله هذه الخمس لأنه لم يزل يترقى في العلوم والمعارف كل يوم بل كل لحظة وعموم الأحاديث يشهد لذلك منها حديث البخاري عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما من شيء لم أكن أريته قبل إلاّ رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار»، وهذه الخطبة كانت بالمدينة , ومنها حديث سمرة قال: كسفت الشمس فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إني والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم»، حديث صحيح رواه أحمد وغيره. ولا ينافيه قوله في حديث الترجمة إلاّ الخمس , لأنه كان قبل أن يعلمها ثم علمها بعد ذلك وهذا كما نهى عن تفضيله على موسى ويونس وإبراهيم عليهم السلام ثم أخبر أنه أفضل الأنبياء ورد على من دعاه سيّداً بأن السيد الله , ثم أخبر أنه سيد ولد آدم وأمره الله تعالى في القرآن أن يقول للكفار {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ثم أخبر بعد ذلك أن الله أطلعه على خصامهم, ففي حديث ابن عباس ومعاذ وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك , قال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت» وذكر الحديث وهو في سنن الترمذي ومسند أحمد وغيرهما بطرق متعددة، وهو حديث صحيح وقد تكلمت عليه في «قمع الأشرار عن جريمة الانتحار» المطبوع مع «الأربعين الغمارية» وشرحه الحافظ ابن رجب في جزء مطبوع اسمه «اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى»، وهذا الحديث أحد الأدلة على علمه بالخمس أيضاً , لأن قوله: فتجلى لي كل شيء عام, بل هو أقوى صيغ العموم كما تقرر في الأصول.
قوله في حديث حذيفة قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة يعني من الفتن والحوادث وغيرها إلاّ ذكره الحديث، نحوه قول عمر: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى نسيته) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله الطبراني، وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلاّ ذكرنا منه علماً، رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح، وكذا قال أبو الدرداء رواه أبو يعلى والطبراني وغيرهما، والله أعلم) (12).
هذا العلم الواسع لرسول الله "صلى الله عليه وآله" ورثه الأئمة الطاهرون من عترته صلوات الله وسلامه عليهم، فهم خزان علم الله، كما ورد عنهم ففي الرواية الصحيحة التي رواها العلامة الكليني في كتابه الكافي فقال: (أحمد بن محمد، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن خالد، عن فضالة ابن أيوب، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قال لي أبو عبد الله "عليه السلام": يا ابن أبي يعفور إنّ الله تبارك وتعالى واحدٌ متوحدٌ بالوحدانية متفرّد بأمره، فخلق خلقاً فرّدهم لذلك الأمر، فنحن هم، يا ابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده، وشهداؤه في خلقه، وأمناؤه وخزّانه على علمه، والداعون إلى سبيله، والقائمون بذلك، فمن أطاعنا فقد أطاع الله) (13).
وهم معدن العلم وأصله، ففي الرواية الصحيحة روى العلامة الصفار رضي الله عنه فقال: (حدثني العباس بن معروف، قال: حدثنا حماد بن عيسى، عن ربعي، عن الجارود وهو أبو المنذر قال: دخلت مع أبي على علي بن الحسين بن علي "عليه السلام" فقال علي بن الحسين: ما تنقم الناس منّا، نحن والله شجرة النبوّة، وبيت الرّحمة، وموضع الرّسالة، ومعدن العلم، ومختلف الملائكة) (14).
وروى العلامة الكليني "قدس سرّه" فقال: (محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد عن أبيه "عليهما السلام" قال: قال أمير المؤمنين "عليه السلام": إنّا أهل البيت شجرة النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم) (15).
وأنّهم "عليهم السلام" لا تخفى عليهم أخبار السماوات والأرض وأنّ عندهم مواد العلم ومعاقله ففي الرواية الصحيحة التي رواها العلامة الكليني في الكافي فقال: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر "عليه السلام" يقول - وعنده أناس من أصحابه -: عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا، أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!
فقال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين "عليهم السلام" وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟
فقال أبو جعفر "عليه السلام": يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثم أجراه فبتقدم علم إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله قام علي والحسن والحسين "عليهم السلام"، وبعلم صمت من صمت منا، ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله عز وجل أن يدفع عنهم ذلك وألحوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ولكن لمنازل وكرامة من الله، أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم) (16).
وفي بصائر الدرجات بسند صحيح قال العلامة الصفار: (حدثني يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله "عليه السلام": إنّا نجد الشيء من أحاديثنا في أيدي النّاس، قال: فقال لي: لعلّك لا تدري أنّ رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنال وأنال، ثم أومأ بيده عن يمينه وشماله ومن بين يديه ومن خلفه، [وقال:] وإنّا أهل البيت عندنا معاقل العلم وضياء الأمر وفصل ما بين النّاس) (17).
وفيه بسند موثق قال العلامة الصفار: (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك عند العامة من أحاديث رسول الله شيء يصح؟ فقال: نعم، إنّ رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنال وأنال وأنال، وعندنا معاقل العلم وفصل ما بين الناّس) (18).
وهم عالمون بكتاب الله عز وجل وبكل الحلال والحرام وبما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ومن الروايات الدالة على ذلك ما رواه العلامة الصفار بسند صحيح قال: (حدثنا محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن ذريح المحاربي وأحمد بن محمد، عن البرقي، عن صفوان، عن ذريح قال: سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول: إن أبي نعم الأب رحمة الله عليه كان يقول لو أجد ثلاثة رهط أستودعهم العلم وهم أهل لذلك لحدثت بما لا يحتاج فيه إلى نظر في حلال ولا حرام، وما يكون إلى يوم القيامة، إن حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به إلاّ عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان) (19).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا العباس بن معروف، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن أبي بصير، عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: سئل علي "عليه السلام" عن علم النبي "صلى الله عليه وآله" فقال: علم النبي علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي صلى الله عليه وآله وعلم ما كان وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة) (20).
وعنه بسند موثق قال العلامة الصفار "رحمه الله": (حدثنا محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ثعلبة، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ الله تعالى علّم رسول الله صلى الله عليه وآله القرآن وعلّمه شيئاً سوى ذلك، فما علّم الله رسوله فقد علّم رسوله صلى الله عليه وآله عليّاً "عليه السلام") (21).
وعنه بسند كالصحيح حسن قال: (حدثنا أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان وأحمد بن علي ابن الحكم عن عمر ابن أبان، عن أديم أخي أيوب، عن حمران بن أعين قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى علم رسول الله صلى الله عليه وآله الحلال والحرام والتأويل فعلّم رسول الله "صلى الله عليه وآله" عليّاً كلّه) (22).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم قال: دخلت عليه بعدما قتل أبو الخطاب (23)، قال فذكرت له ما كان يروي من أحاديثه تلك العظام قبل أن يحدث ما أحدث، فقال: فحسبك والله يا محمد أن تقول فينا يعلمون الحرام والحلال وعلم القرآن وفصل ما بين الناس، فلمّا أردت أن أقوم أخذ بثوبي فقال: يا محمد وأي شيء الحلال والحرام في جنب العلم، إنّما الحلال والحرام في شيء يسير من القرآن) (24).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله "عليه السلام": بحسبكم أن تقولوا يعلم علم الحلال والحرام، وعلم القرآن، وفصل ما بين النّاس) (25).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن ابن أذينة، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر "عليه السلام" عن هذه الرواية: ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، فقال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} نحن نعلمه) (26).
وروى العلامة الكليني قدس سرّه في الكافي فقال: (علي بن محمد، عن عبد الله بن علي، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن بريد ابن معاوية، عن أحدهما "عليهما السلام" في قوله الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فرسول الله "صلى الله عليه وآله" أفضل الراسخين في العلم، قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه) (27).
وروى العلامة الصفار رحمه الله بسند صحيح فقال: (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر "عليه السلام" في قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" أفضل الراسخين قد علمه الله جميع ما انزل الله إليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيه العلم فأجابهم الله: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} والقرآن له خاص وعام ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ) (28).
وروى العلامة الكليني قدس سرّه بسند موثق فقال: (محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى ابن أعين قال: سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول: قد ولدني رسول الله "صلى الله عليه وآله" وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنة وخبر النار، وخبر ما كان، و [خبر] ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن الله يقول فيه تبيان كل شيء) (29).
وقال ابن عبد البر: (حدثني أحمد بن فتح، قال: حدثنا حمزة بن محمد، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً "رضي الله عنه" وهو يخطب ويقول: سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدثكم به، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار أم بسهل نزلت أم بجبل ... ) (30).
وروى عبد الرّزاق الصنعاني في تفسيره بسند رجاله ثقات فقال: (عن معمر، عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً وهو يخطب وهو يقول سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل ... ) (31).
والروايات التي تفيد أنهم أعطوا علم الكتاب مستفيضة، منها ما رواه العلامة الكليني في الكافي بسند صحيح فقال: (علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير؛ ومحمد بن يحيى عن محمد بن الحسن بن الوليد عمن ذكره عن ابن أبي عمير جميعاً عن ابن أذينه عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (32) قال: إيّانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي "صلى الله عليه وآله") (33).
وروى العلامة الصفار بسند صحيح فقال: (حدثنا أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن محمد، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله "عليه السلام" قال: سألته عن قول الله عزّ وجل: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أهو علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: فمن عسى أن يكون غيره) (34).
وعنه أيضاً قال: (حدثنا عبد الله بن أحمد، عن الحسن بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن المثنى، قال: سألته عن قول الله عزّ وجل: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: نزلت في علي "عليه السلام" بعد رسول الله "صلى الله عليه وآله" وفي الأئمة بعده) (35).
بقلم : الشيخ حسن عبد الله العجمي
سعة علمهم عليهم السلام
أن الأئمة الطاهرين "عليهم السلام" قد ورثوا علم النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله"، وقد دلّت الروايات على سعة علمه "صلى الله عليه وآله"، وأنه كان عالماً بالكثير من الحقائق والأمور مما علمه الأنبياء قبله، إضافة إلى ما خصه الله عز وجل به من العلوم مما لم يخص به أحداً من الأنبياء السابقين عليه، وبما أن الأئمة الطاهرين ورثة علمه "صلى الله عليه وآله" فإن سعة علمهم بسعة علمه.
فلقد كان صلوات الله وسلامه عليه عالماً بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، دلّت على ذلك الروايات من جهة الفريقين سنة وشيعة، فمن جهة أهل السنة ما رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه وغيره من الحفاظ عن حذيفة أنّه قال: (قام فينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاّ حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وأنّه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه) (1).
وروى مسلم وغيره عن عمرو بن أخطب قال: (صلى بنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا) (2).
وأخرج الترمذي في جامعه الصحيح "سنن الترمذي" بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: (صلّى بنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يوماً صلاة العصر بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلاّ أخبرنا به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ... الرواية) قال الترمذي: (وفي الباب عن حذيفة وأبي مريم وأبي زيد بن أخطب والمغيرة بن شعبة وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّثهم بما كان وبما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا حديث حسن صحيح) (3).
وفي مجمع الزوائد للهيثمي قال: (وعن زيد بن أرقم قال: أمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالشجرات فقم ما تحتها ورش، ثم خطبنا فو الله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلاّ قد أخبرنا به يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟ قلنا الله ورسوله أولى بنا من أنفسنا، قال فمن كنت مولاه فهذا مولاه، يعني علياً، ثم أخذ بيده فبسطها ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ثم قال الهيثمي: (قلت: روى الترمذي منه من كنت مولاه فعلي مولاه فقط، رواه الطبراني وفيه حبيب بن خلاد الأنصاري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات) (4).
قلت: حبيب بن خلاّد الأنصاري الذي لم يعرفه الهيثمي هو حبيب ابن زيد بن خلاّد الأنصاري وهو ثقة، قال ابن حجر في تقريب التهذيب: (حبيب بن زيد بن خلاّد الأنصاري المدني وقد ينسب إلى جده ثقة من السابعة) (5).
ومن طرق الشيعة روى العلامة الصفار بسند صحيح عن الإمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام" أنّه قال: (سئل علي "عليه السلام" عن علم النبي "صلى الله عليه وآله" فقال: علم النبي علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي "صلى الله عليه وآله" وعلم ما كان وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة) (6).
ومن الروايات الدالة على سعة علمه صلوات الله وسلامه وعليه وأن الله سبحانه وتعالى أعلمه بالكثير من الحقائق وأطلعه عليها بعضها إجمالاً وبعضها تفصيلاً ما رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده عن جابر أنّه قال: (انكسفت الشمس في عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يوم مات إبراهيم ابن رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فقال الناس إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقام النبي "صلى الله عليه وسلم" فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، بدأ فكبر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءةً دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءةً دون القراءة الثانية، ثم ركع نحواً مما قام ثم رفع رأسه من الركوع ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضاً ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلاّ التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحواً من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا، وقال أبو بكر حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس، فقال يا أيها الناس إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، وقال أبو بكر لموت بشر فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا حتى تنجلي، ما من شيء توعدونه إلاّ قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال إنما تعلق بمحجني وإن غفل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلاّ قد رأيته في صلاتي هذه) (7).
وروى ابن خزيمة في صحيحه بسنده إلى ثعلبة بن عباد العبدي: (أنه شهد خطبة يوماً لسمرة بن جندب، فذكر في خطبته قال سمرة بن جندب: بينا أنا يوماً وغلام من الأنصار نرمي عرضاً لنا على عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في غير الناظرين في الأفق اسودت حتى كأنها تنومه، فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فو الله ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" في أمته حدثاً، فدفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز فوافقنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حين خرج إلى الناس، قال فاستقدم فصلى بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط، لا يسمع له صوت ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط ولا يسمع له صوت، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا يسمع له صوت، قال ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، قال فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، قال فسلم فحمد الله وأثنى عليه وشهد أنه لا إله إلا الله وشهد أنه عبده ورسوله، ثم قال أيها الناس إنما أنا بشر رسول الله فأذكركم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي لما أجبتموني حتى أبلغ رسالات ربي كما ينبغي لها أن تبلغ، وإن كنتم تعلمون أني قد بلغت رسالات ربي لما أخبرتموني، قال فقام الناس فقالوا شهدنا أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، قال ثم سكتوا، قال قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أما بعد فإن رجالاً يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وأنهم كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يفتن بها عباده، لينظر من يحدث منهم توبة، والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً آخرهم الأعور) (8).
وفي رواية رواها الترمذي في سننه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان عالماً بأسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم وبأسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم فقد روى بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنّه قال: (خرج علينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله إلاّ أن تخبرنا، فقال للّذي في يده اليمنى هذا كتابٌ من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثمّ قال للّذي في شماله هذا كتابٌ من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النّار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمرٌ قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وإن عمل أيّ عمل، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عمل أيّ عمل، ثمّ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بيديه فنبذهما، ثمّ قال فرغ ربّكم من العباد، فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير)، قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب صحيح) (9).
وفي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: سمعت عمر يقول: (قام فينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) (10).
بل قامت الأدلة على أنه صلوات الله وسلامه عليه أوتي من العلم مفاتيح كل شيء، فروى أهل السنة أنّ النبي "صلى الله عليه وآله" قال: (أوتيت مفاتيح كل شيء إلاّ الخمس {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}) (11).
وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: (وأخرج أحمد والطبراني بسند صحيح عن ابن عمر عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: أوتيت مفاتيح كل شيء بإسناد صحيح، وفي الصحيحين عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" مقاماً ما ترك فيه شيئاً إلى قيام الساعة إلاّ ذكره, حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وإنه ليكون منه الشيء قد كنت نسيته فأراه فاذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.
قوله: «أوتيت مفاتيح كل شيء» أي من العلوم والمعارف وسائر المغيبات.
قال القاضي عياض في الشفا في فصل ما اطلع عليه من الغيوب وما يكون ما نصه: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره, ولا ينزف غمره, وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر لكثرة رواتها واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب اهـ.
ثم أورد جملة منها فليراجع.
وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم": «إن الله قد رفع لي الدنيا فانا انظر إليها وإلى ما هو كائن فيها الى يوم القيامة كانما أنظر إلى كفي هذه».
وقد أخبر "صلى الله عليه وآله وسلم" بكثير من أحوال هذا العصر ومخترعاته، وسنطبع رسالة لطيفة في هذا الموضوع بحول الله تعالى.
قوله: «إلاّ الخمس {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... الآية}» وفي صحيح البخاري عن ابن عمر مرفوعاً «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد إلاّ الله , ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلاّ الله , ولا يعلم متى تقوم الساعة إلاّ الله , ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلاّ الله , ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلاّ الله» ومقتضى هذا أنه لم يكن "صلى الله عليه وآله وسلم" يعلم الخمس, وإليه ذهب الجمهور, لكن قال الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى: ذهب بعضهم إلى أنه "صلى الله عليه وسلم" أوتي علم الخمس أيضاً وعلم وقت الساعة والروح وأنه أمر بكتم ذلك. اهـ
وبه جزم كثير من المتأخرين.
وللإمام منصور البغدادي في هذا الموضوع كتاب اسمه «إقامة شواهد المنقول والمعقول على إحاطة علم نبينا "صلى الله عليه وسلم"» وسأل الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي العلامة المحدث عبد الملك بن محمد التجموعتي قاضي سجلماسة عن هذه المسألة فأجابه برسالة خاصة سماها «ملاك الطلب وجواب أستاذ حلب» جزم فيها بأنه "صلى الله عليه وآله" وسلم كان يعلم الخمس.
وللشيخ أحمد رضا علي خان البريلوي الهندي في هذا الموضوع ثلاث رسائل: «ملء الجيب بعلوم الغيب» و «اللؤلؤ المكنون في علم البشير ما كان وما يكون» و «إنباء المصطفى بما أسر وأخفى»، وقال العلامة أبو عبد الله محمد الحبيب بن عبد القادر السجلماسي الحسني في شرح منظومة الأسماء الحسنى للهلالي: يجب علينا أن نعتقد أنه "صلى الله عليه وسلم" أنه لم يخرج من الدنيا حتى حصل له العلم بجميع المعلومات للحديث الصحيح: أوتيت علم كل شيء وتجلى لي كل شيء , وما ورد مما يخالفه منسوخ بهذا وبه تظهر مزيته وفضيلته العلمية على سائر الأنبياء في اشتراكهم في علم الغيب المستثنى لهم في آية: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وقال فيها بعض المفسرين: يريد أو ولي ففيه حذف، لأن الولي وارث لعلم النبوة. اهـ.
وفي «شرح انموذج اللبيب» للعلامة شمس الدين محمد بن محمد بن عمر الروضي المالكي ما نصه: الصحيح كما قاله المحققون أنه أوتي علم كل شيء حتى الخمسة وحتى علم الروح وأمر بكتم ذلك اهـ.
ونحوه في شرح جوهرة اللقاني لمؤلفها وشرح الأربعين النووية للشبرخيتي وغيرهما , وفي فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمناوي في الكلام على حديث خمس لا يعلمهن إلاّ الله .. الخ ما نصه: خمس لا يعلمهن إلاّ الله على وجه الإحاطة والشمول كلياً , وجزئياً فلا ينافيه إطلاع الله بعض خواصه على كثير من المغيبات حتى من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة وإن كان للمعتزلة في ذلك مكابرة اهـ.
قلت: والذي أرجحه وأميل إليه أنه "صلى الله عليه وآله وسلم" لم يعرج من الدنيا حتى علمه الله هذه الخمس لأنه لم يزل يترقى في العلوم والمعارف كل يوم بل كل لحظة وعموم الأحاديث يشهد لذلك منها حديث البخاري عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما من شيء لم أكن أريته قبل إلاّ رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار»، وهذه الخطبة كانت بالمدينة , ومنها حديث سمرة قال: كسفت الشمس فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إني والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم»، حديث صحيح رواه أحمد وغيره. ولا ينافيه قوله في حديث الترجمة إلاّ الخمس , لأنه كان قبل أن يعلمها ثم علمها بعد ذلك وهذا كما نهى عن تفضيله على موسى ويونس وإبراهيم عليهم السلام ثم أخبر أنه أفضل الأنبياء ورد على من دعاه سيّداً بأن السيد الله , ثم أخبر أنه سيد ولد آدم وأمره الله تعالى في القرآن أن يقول للكفار {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ثم أخبر بعد ذلك أن الله أطلعه على خصامهم, ففي حديث ابن عباس ومعاذ وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك , قال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت» وذكر الحديث وهو في سنن الترمذي ومسند أحمد وغيرهما بطرق متعددة، وهو حديث صحيح وقد تكلمت عليه في «قمع الأشرار عن جريمة الانتحار» المطبوع مع «الأربعين الغمارية» وشرحه الحافظ ابن رجب في جزء مطبوع اسمه «اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى»، وهذا الحديث أحد الأدلة على علمه بالخمس أيضاً , لأن قوله: فتجلى لي كل شيء عام, بل هو أقوى صيغ العموم كما تقرر في الأصول.
قوله في حديث حذيفة قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة يعني من الفتن والحوادث وغيرها إلاّ ذكره الحديث، نحوه قول عمر: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى نسيته) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله الطبراني، وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلاّ ذكرنا منه علماً، رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح، وكذا قال أبو الدرداء رواه أبو يعلى والطبراني وغيرهما، والله أعلم) (12).
هذا العلم الواسع لرسول الله "صلى الله عليه وآله" ورثه الأئمة الطاهرون من عترته صلوات الله وسلامه عليهم، فهم خزان علم الله، كما ورد عنهم ففي الرواية الصحيحة التي رواها العلامة الكليني في كتابه الكافي فقال: (أحمد بن محمد، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن خالد، عن فضالة ابن أيوب، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قال لي أبو عبد الله "عليه السلام": يا ابن أبي يعفور إنّ الله تبارك وتعالى واحدٌ متوحدٌ بالوحدانية متفرّد بأمره، فخلق خلقاً فرّدهم لذلك الأمر، فنحن هم، يا ابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده، وشهداؤه في خلقه، وأمناؤه وخزّانه على علمه، والداعون إلى سبيله، والقائمون بذلك، فمن أطاعنا فقد أطاع الله) (13).
وهم معدن العلم وأصله، ففي الرواية الصحيحة روى العلامة الصفار رضي الله عنه فقال: (حدثني العباس بن معروف، قال: حدثنا حماد بن عيسى، عن ربعي، عن الجارود وهو أبو المنذر قال: دخلت مع أبي على علي بن الحسين بن علي "عليه السلام" فقال علي بن الحسين: ما تنقم الناس منّا، نحن والله شجرة النبوّة، وبيت الرّحمة، وموضع الرّسالة، ومعدن العلم، ومختلف الملائكة) (14).
وروى العلامة الكليني "قدس سرّه" فقال: (محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد عن أبيه "عليهما السلام" قال: قال أمير المؤمنين "عليه السلام": إنّا أهل البيت شجرة النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم) (15).
وأنّهم "عليهم السلام" لا تخفى عليهم أخبار السماوات والأرض وأنّ عندهم مواد العلم ومعاقله ففي الرواية الصحيحة التي رواها العلامة الكليني في الكافي فقال: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر "عليه السلام" يقول - وعنده أناس من أصحابه -: عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا، أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!
فقال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين "عليهم السلام" وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟
فقال أبو جعفر "عليه السلام": يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثم أجراه فبتقدم علم إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله قام علي والحسن والحسين "عليهم السلام"، وبعلم صمت من صمت منا، ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله عز وجل أن يدفع عنهم ذلك وألحوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ولكن لمنازل وكرامة من الله، أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم) (16).
وفي بصائر الدرجات بسند صحيح قال العلامة الصفار: (حدثني يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله "عليه السلام": إنّا نجد الشيء من أحاديثنا في أيدي النّاس، قال: فقال لي: لعلّك لا تدري أنّ رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنال وأنال، ثم أومأ بيده عن يمينه وشماله ومن بين يديه ومن خلفه، [وقال:] وإنّا أهل البيت عندنا معاقل العلم وضياء الأمر وفصل ما بين النّاس) (17).
وفيه بسند موثق قال العلامة الصفار: (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك عند العامة من أحاديث رسول الله شيء يصح؟ فقال: نعم، إنّ رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنال وأنال وأنال، وعندنا معاقل العلم وفصل ما بين الناّس) (18).
وهم عالمون بكتاب الله عز وجل وبكل الحلال والحرام وبما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ومن الروايات الدالة على ذلك ما رواه العلامة الصفار بسند صحيح قال: (حدثنا محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن ذريح المحاربي وأحمد بن محمد، عن البرقي، عن صفوان، عن ذريح قال: سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول: إن أبي نعم الأب رحمة الله عليه كان يقول لو أجد ثلاثة رهط أستودعهم العلم وهم أهل لذلك لحدثت بما لا يحتاج فيه إلى نظر في حلال ولا حرام، وما يكون إلى يوم القيامة، إن حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به إلاّ عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان) (19).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا العباس بن معروف، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن أبي بصير، عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: سئل علي "عليه السلام" عن علم النبي "صلى الله عليه وآله" فقال: علم النبي علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي صلى الله عليه وآله وعلم ما كان وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة) (20).
وعنه بسند موثق قال العلامة الصفار "رحمه الله": (حدثنا محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ثعلبة، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ الله تعالى علّم رسول الله صلى الله عليه وآله القرآن وعلّمه شيئاً سوى ذلك، فما علّم الله رسوله فقد علّم رسوله صلى الله عليه وآله عليّاً "عليه السلام") (21).
وعنه بسند كالصحيح حسن قال: (حدثنا أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان وأحمد بن علي ابن الحكم عن عمر ابن أبان، عن أديم أخي أيوب، عن حمران بن أعين قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى علم رسول الله صلى الله عليه وآله الحلال والحرام والتأويل فعلّم رسول الله "صلى الله عليه وآله" عليّاً كلّه) (22).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم قال: دخلت عليه بعدما قتل أبو الخطاب (23)، قال فذكرت له ما كان يروي من أحاديثه تلك العظام قبل أن يحدث ما أحدث، فقال: فحسبك والله يا محمد أن تقول فينا يعلمون الحرام والحلال وعلم القرآن وفصل ما بين الناس، فلمّا أردت أن أقوم أخذ بثوبي فقال: يا محمد وأي شيء الحلال والحرام في جنب العلم، إنّما الحلال والحرام في شيء يسير من القرآن) (24).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله "عليه السلام": بحسبكم أن تقولوا يعلم علم الحلال والحرام، وعلم القرآن، وفصل ما بين النّاس) (25).
وعنه بسند صحيح قال: (حدثنا محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن ابن أذينة، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر "عليه السلام" عن هذه الرواية: ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، فقال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} نحن نعلمه) (26).
وروى العلامة الكليني قدس سرّه في الكافي فقال: (علي بن محمد، عن عبد الله بن علي، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن بريد ابن معاوية، عن أحدهما "عليهما السلام" في قوله الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فرسول الله "صلى الله عليه وآله" أفضل الراسخين في العلم، قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه) (27).
وروى العلامة الصفار رحمه الله بسند صحيح فقال: (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر "عليه السلام" في قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" أفضل الراسخين قد علمه الله جميع ما انزل الله إليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيه العلم فأجابهم الله: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} والقرآن له خاص وعام ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ) (28).
وروى العلامة الكليني قدس سرّه بسند موثق فقال: (محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى ابن أعين قال: سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" يقول: قد ولدني رسول الله "صلى الله عليه وآله" وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنة وخبر النار، وخبر ما كان، و [خبر] ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن الله يقول فيه تبيان كل شيء) (29).
وقال ابن عبد البر: (حدثني أحمد بن فتح، قال: حدثنا حمزة بن محمد، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً "رضي الله عنه" وهو يخطب ويقول: سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدثكم به، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار أم بسهل نزلت أم بجبل ... ) (30).
وروى عبد الرّزاق الصنعاني في تفسيره بسند رجاله ثقات فقال: (عن معمر، عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً وهو يخطب وهو يقول سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل ... ) (31).
والروايات التي تفيد أنهم أعطوا علم الكتاب مستفيضة، منها ما رواه العلامة الكليني في الكافي بسند صحيح فقال: (علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير؛ ومحمد بن يحيى عن محمد بن الحسن بن الوليد عمن ذكره عن ابن أبي عمير جميعاً عن ابن أذينه عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (32) قال: إيّانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي "صلى الله عليه وآله") (33).
وروى العلامة الصفار بسند صحيح فقال: (حدثنا أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن محمد، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله "عليه السلام" قال: سألته عن قول الله عزّ وجل: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أهو علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: فمن عسى أن يكون غيره) (34).
وعنه أيضاً قال: (حدثنا عبد الله بن أحمد، عن الحسن بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن المثنى، قال: سألته عن قول الله عزّ وجل: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: نزلت في علي "عليه السلام" بعد رسول الله "صلى الله عليه وآله" وفي الأئمة بعده) (35).