مجردرأي
11-07-2014, 06:52 PM
((نصب الإمام المتَّبع في كل عصر))
قال ابن حجر: قال النووي: أجمعوا [أئمة أهل السنة]على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل( فتح الباري 13|176.) .
مسألة معرفة إمام العصر من المسائل المهمة التي تترتب عليها أعظم المصالح الدينية والدنيوية، وتُؤدَّى بها أهم الوظائف الشرعية، وقد وردت فيها أحاديث صحيحة مشتملة على التحذير الشديد، وتصف من مات جاهلاً بها بأن ميتته جاهلية.
مضافاً إلى أن علماء أهل السنة قد أكَّدوا في مصنفاتهم على أن نصب الإمام في كل عصر واجب على المسلمين كافة، بل جعلوه من أعظم الواجبات الدينية التي لا يسع المسلمين تركها أو التهاون في المبادرة إليها.
قال الإيجي في المواقف: نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعاً...
وقال: انه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: «ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به»، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متَّبع في كل عصر...(المواقف، ص395. والإيجي عاش بين سنة 700هـ وسنة 756هـ. ) .
وقال الماوردي: وعقدها ـ أي الإمامة ـ لمن يقوم بها في الأمَّة واجب
بالإجماع(الأحكام السلطانية، ص29.) .
وقال ابن حجر: قال النووي: أجمعوا على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل( فتح الباري 13|176.) .
وقال التفتازاني: نصب الإمام واجب على الخلق سمعاً عندنا وعند عامة المعتزلة(شرح المقاصد 5|235.) .
وقال ابن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على وجوب الإمامة، وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة(الفصل في الملل والأهواء والنحل 4|169.) .
وقال: لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة(المحلى 8|420.) .
إلى غير ذلك مما يطول ذكره(1) .
ومع كل ذلك فإن أهل السنة بعد عصر الخلافة عندهم أطبقوا على ترك هذا الواجب، بل تركوا الخوض في هذه المسألة وتجنبوا البحث فيها من قريب أو بعيد، فلا نرى منهم اهتماماً بالبحث في هذا الأمر مع عظم أهميته، حتى تركه من تعرض لشرح تلك الأحاديث وقابله بالإعراض والإهمال الشديدين(2) . ولعل السبب في ذلك خشية علماء أهل السنة من سخط حكّام
عصرهم إذا نفوا عنهم أهليتهم لإمامة المسلمين، وخوفهم من العامة،وحذرهم من تخطئة كل أهل السنة في ترك أمر مهم واجب لا ينبغي تركه.
والأحاديث المروية في هذه المسألة كثيرة، وً منها:
أخرج مسلم في صحيحه، والبيهقي في السنن، والهيثمي في مجمع الزوائد، والتبريزي في مشكاة المصابيح، والألباني في السلسلة الصحيحة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية(3) .
وأخرج أحمد في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، وأبو داود الطيالسي في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في حليته، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن مات بغير إمام مات ميتة جاهلية(24) .
وفي رواية أخرجها الهيثمي وابن أبي عاصم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية(5)
وفي رواية أخرى: من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية(6)
تأملات في الحديث
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات: فيه إشعار إلى أن بيعة إمام المسلمين الحق ينبغي المبادرة إليها وعدم إهمالها أو التهاون فيها خشية مباغتة الموت والوقوع في الهلاك.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وليس في عنقه بيعة:
أي ولم تكن بيعة ملازمة له لا تنفك عنه، كما في قوله تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) . فلا يجوز نقض بيعة إمام الحق ولا النكث عنها. ولأجل الدلالة على اللزوم لم يعبِّر بـ (من مات ولم يبايع إماماً...).
والبيعة:
هي المعاقدة والمعاهدة على السمع والطاعة، ولعلها مأخوذة من البيع، فكأن من بايع الإمام قد باع نفسه للإمام، وأعطاه طاعته وسمعه ونصرته.
وعليه فلا تقع البيعة إلا مع الإمام الحاضر الحي، دون الإمام الغابر الميت، لأن الميت لا تتحقق معه المعاهدة، واعتقاد إمامة الأئمة الماضين لا يستلزم تحقق البيعة لهم.
وقوله: لإمام:
يدل على أنه لا يجوز مبايعة أكثر من إمام واحد في عصر واحد، وهذا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين ودلَّت عليه الأحاديث الصحيحة عند الفريقين.
فمما ورد من طرق أهل السنة ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما(7) .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: … وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول(8) .
قال النووي: في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول [ أم ] جاهلين، وسواء كانا في بلدين أو بلد، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء... واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا(9) .
وقال البغدادي: وقالوا ـ أي أهل السنة ـ: لا تصح الإمامة إلا لواحد في جميع أرض الإسلام(10) .
ونصَّ على ذلك أيضاً ابن حزم(11) والماوردي(12) والتفتازاني(13) وغيرهم.
وقوله: مات ميتة جاهلية:
ميتة على وزن فِعْلة، وهو اسم هيئة، والمعنى: مات كميتة أهل الجاهلية.
قال النووي: أي على صفة موتهم من حيث هي فوضى لا إمام لهم(14) .
أقول:
لعل تشبيه موت من ترك بيعة إمام الزمان بميتة أهل الجاهلية من حيث أن ترك تلك البيعة يستلزم ترك متابعة إمام الحق، ويؤدي إلى متابعة أئمة
الجور، وهذا مسبِّب للوقوع في الضلال، فتكون حاله حال أهل الجاهلية الذين يموتون على ضلال.
بعض مؤهّلات إمام المسلمين وصفاته
إن إمام العصر لا بد أن تتوفر فيه عدة مزايا تؤهّله لأن يكون إماماً على سائر المسلمين دون غيره، وقد ذكر علماء أهل السنة بعضاً من تلك المزايا التي ينبغي توفرها في إمام المسلمين، ومع أنهم اختلفوا في بعض الصفات إلا أنهم يكادون يتفقون على بعض آخر منها. فمما اشترطوه:
1 ـ أن يكون قرشياً
فلا تصح إمامة غير القرشي كائناً من كان، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الأئمة من قريش(15) .
قال المناوي: ذهب الجمهور إلى العمل بقضية هذا الحديث، فشرطوا كون الإمام قرشياً(16) .
وقال: قال عياض: اشتراط كون الإمام قرشياً مذهب كافة العلماء، وقد عدّوها من مسائل الإجماع، ولا اعتداد بقول الخوارج وبعض المعتزلة.
وقال أيضاً: به ـ أي بهذا الحديث ـ احتج الشيخان يوم السقيفة، فقبله الصحب وأجمعوا عليه(17) .
ونص أيضاً على اشتراط القرشية في الإمام عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق(18) ، وابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل(19) والمحلّى(20) ، والتفتازاني في شرح المقاصد(21) ، والماوردي في الأحكام السلطانية(22) والغزالي في قواعد العقائد(23) وغيرهم.
2 ـ أن يكون عالماً مجتهداً
قال الإيجي: الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع، ليقوم بأمور الدين(24) .
وقال عبد القاهر البغدادي: وأوجبوا ـ أي أهل السنة ـ من العِلم له مقدار ما يصير به من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية(25) .
ونص أيضاً على لزوم كون إمام المسلمين مجتهداً في الأحكام الشرعية الماوردي في الأحكام السلطانية(26) ، والتفتازاني(27) ، والباقلاني في التمهيد(28) ،
وغيرهم.
3 ـ أن يكون عادلاً غير فاسق
قال البغدادي بعد أن ذكر شرط العدالة في الإمام: وأوجبوا ـ أي أهل السنة ـ من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته، وذلك بأن يكون عدلاً في دينه، مُصلِحاً لماله وحاله، غير مرتكب لكبيرة ولا مُصِرّ على صغيرة، ولا تارك للمروءة في جل أسبابه(29) .
وقال الإيجي: يجب أن يكون عدلاً لئلا يجور. وذكر أنه شرط بالإجماع(30) .
ونص على اشتراط العدالة في إمام المسلمين الماوردي(31) في الأحكام السلطانية، والغزالي في قواعد العقائد(32) ، والتفتازاني في شرح المقاصد(33) ، وغيرهم.
إلى غيرها من الصفات التي ذكروها، وفيما ذكرناه كفاية.
حيرة أهل السنة في هذا العصر
عندما نلقي نظرة على واقع أهل السنة في هذا العصر نجد أنهم لم يبايعوا إماماً واحداً لهم مع وجوبه عليهم، بل مع كونه من أعظم الواجبات كما مرَّ مفصلاً.
فلم يبايعوا واحداً من حكام المسلمين المعاصرين ولا غيرهم إماماً لهم. إما لأن الإمام يجب أن يكون قرشيًّا، وجُل حكَّام المسلمين اليوم ليسوا من قريش، والقرشي منهم لم يقم دليل على إمامته العامة على كل المسلمين، لا
عند أهل السنة ولا عند غيرهم، وإما لعدم توفّر الصفات الأخرى فيه.
محاولة لدفع الإشكال وردّها
قد يقال: إن أهل السنة في بعض البلاد الإسلامية بايعوا حاكمهم بيعة شرعية صحيحة، وبذلك يكونون قد أدَّوا ما فرضه الله عليهم من مبايعة إمام لهم في هذا الزمان.
والجواب:
1 ـ على فرض حصول بيعة (شرعية) لحاكم من حُكّام المسلمين في بلد ما، فإن باقي أهل السنة في كل البلاد الأخرى لم يبايعوا ذلك الحاكم، فإما أن تكون بيعة المبايِعين صحيحة فيجب على غيرهم متابعتهم فيها، وحيث لم يفعلوا فقد تركوا أهم الواجبات عليهم، وإما أن تكون تلك البيعة باطلة فلا اعتبار بها، فوجودها كعدمها.
2 ـ أن أولئك المبايعين إنما بايعوه على السمع والطاعة وعلى كونه حاكماً على بلادهم، لا على كونه خليفة أو إماماً لكل المسلمين، ولذلك لم نرَ حاكماً معاصراً ادَّعى الخلافة أو الإمامة على كل المسلمين، والذي يتأدَّى به الفرض هو البيعة على النحو الثاني لا الأول.
3 ـ أن الخليفة الحق لا تثبت خلافته عندهم إلا بالنص من الله ورسوله، أو بنصّ إمام الحق الذي قبله، أو بالشورى من المسلمين كافة، أو بالقهر والغلبة على سائر بلاد الإسلام، وشيء من ذلك كله لم يتم لحاكم معاصر كما هو واضح.
وتثبت الخلافة أيضاً ببيعة أهل الحل والعقد، وعليه فإن كان أولئك المبايعون هم أهل الحل والعقد(34) فبيعتهم صحيحة، وإلا فلا، ولا تُعْرَف فئة في أهل السنة اليوم موصوفة بهذه الصفة، فحينئذ لا تصح بيعة هؤلاء، ولا تكون
مُلزِمة لغيرهم، وتكون مشمولة لقول عمر: فمَن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يُتابَع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتَلا(35) .
4 ـ أن مبايعتهم لذلك الحاكم معارَضة بمبايعة غيرهم لحاكم آخر في بلاد أخرى من بلاد المسلمين، ولا يصح بيعة خليفتين في عصر واحد، ومع تحقق ذلك فإحدى البيعتين باطلة قطعاً.
ثم إن البيعة لا تصح عندهم إلا إذا كان الحاكم قرشياً عادلاً مجتهداً كما مرّ.
والحاصل:
أن كل أهل السنة لم يبايعوا إماماً واحداً لهم من الحُكّام المعاصرين ولا من غيرهم، وبذلك يكونون قد تركوا واجباً من أعظم الواجبات الشرعية، وتخلفوا عن وظيفة من أهم الوظائف الدينية.
محاولة أخرى وردّها
وقد يقال أيضاً: إن كل واحد من أهل السنة اتَّبع إماماً من أئمة المسلمين، ومن الواضح المعلوم أن أهل السنة منهم من يتّبع أبا حنيفة النعمان، ومنهم من يتَّبع مالك بن أنس، ومنهم من يتبع محمد بن إدريس الشافعي، ومنهم من يتّبع أحمد بن حنبل، فكل واحد منهم يموت وفي عنقه بيعة لإمام من هؤلاء الأئمة، فلا إشكال عليهم حينئذ.
والجواب:
1 ـ أن محل الكلام هو مبايعة الإمام الذي يتولَّى أمور المسلمين ويكون حاكماً له سلطة زمنية على الناس، وهذا هو الذي أوجبه علماء أهل السنة فيما تقدم من عباراتهم، ودلّت عليه الأحاديث السابقة، وليس محل البحث هو علماء الدين الذين يعمل الناس بفتاواهم، فإن هؤلاء لا تجب مبايعتهم بالاتفاق، بل يجب سؤالهم لمعرفة الأحكام الشرعية لا غير، كما قال جل شأنه
(فاسألوا أهل الذِّكْر إن كنتم لا تعلمون)(سورة الأنبياء، الآية 7. ) .
2 ـ لم يُفْتِ أحد من أئمة المذاهب الأربعة بوجوب أخذ البيعة له أو لغيره من فقهاء الأمصار، ولم ينقل أحد من أعلام أهل السنة أن البيعة أُخِذَت لهم، لا في عصورهم ولا في العصور المتأخرة عنهم، ولو كانت البيعة لهم واجبة لبيَّنوا ذلك للناس وحثّوهم عليها.
3 ـ أنا قلنا فيما مرَّ أن البيعة هي المعاهدة، وهي لا تتحقق إلا مع الإمام الحي الحاضر، وعليه فلا يمكن مبايعة واحد من الأئمة الماضين، لأنها مفاعلة بين طرفين، والميت لا يعلم ببيعة الحي له ولا تقع منه معاهدة معه على شيء، وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة تفصيل.
محاولة ثالثة وردّها
فإن أجابوا عن هذه المسألة بأن إمام المسلمين واحد من العلماء المعاصرين من أهل السنة.
فالجواب:
1 ـ ما قلناه فيما تقدّم يأتي هنا أيضاً، فإن محل الكلام في الإمام الذي يتولَّى أمور المسلمين ويكون حاكماً عليهم، وليس الكلام في أئمة العلم، فإن أئمة العلم لا تجب بيعتهم عند أهل السنة.
2 ـ قلنا فيما تقدم أنه يشترط في الإمام أن يكون مجتهداً، وحيث إن أهل السنة قد أغلقوا باب الاجتهاد، وحصروا التقليد في أئمة المذاهب الأربعة، فلا يوجد في علماء أهل السنة في هذا العصر إلا المقلِّدة، ومن يدَّعي الاجتهاد منهم لا يوافقونه على اجتهاده ولا يسلِّمون له به، فحينئذ لا يصلح واحد منهم لإمامة المسلمين.
3 ـ لو سلَّمنا أن واحداً من العلماء المعاصرين فيه الأهلية للإمامة عندهم،
إلا أنه لا يكون إماماً بمجرد كونه أهلاً للإمامة، وذلك لأن علماء أهل السنة أنفسهم اعتبروا أيضاً في إمام المسلمين أن يبايعه أهل الحل والعقد، أو يكون مبسوط اليد على بلاد المسلمين متسلِّطاً عليها، ولأجل ذلك عدّوا معاوية مثلاً من الخلفاء الاثني عشر الذين بشَّر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يعدّوا منهم مَن هو خير منه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار المعاصرين له الذين لم تكن لهم إمرة، كما لم يعدُّوا منهم غيرهم ممن وصفوهم بأنهم من المبشَّرين بالجنة، كسعد بن أبي وقاص مثلاً.
بل لم يعدوا من الخلفاء الاثني عشر علماء الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما، للسبب الذي ذكرناه.
محاولة رابعة وردّها
فإن قالوا: إنَّا نسلّم أن أهل السنة تركوا القيام بهذا الفرض فلم يبايعوا إماماً في هذا العصر ولا في العصور المتقدمة التي تلت عصر الخلافة، لكن لا تلزم المعصية والضلالة والموت ميتة جاهلية، وذلك إنما يلزم لو تركوه عن قدرة واختيار لا عن عجز واضطرار(36) .
فالجواب:
1 ـ أنَّا لا نسلّم أن أهل السنة عاجزون عن بيعة إمام لهم في هذا العصر، لأن البيعة هي نوع من إظهار الطاعة للحاكم، وهذا مقدور عليه، ويمكن لعلماء أهل السنة أن يرشدوا العوام في جميع البلاد إلى مبايعة من يرونه الأصلح للإمامة من حُكام المسلمين أو من غيرهم.
وخوفهم من سخط حُكَّام بلادهم لا يسوّغ لهم ترك بيان فريضة من أهم الفرائض ووظيفة من أعظم الوظائف، لأن أهل السنة لا يرون جواز التقية من الحاكم المسلم، ولهذا عدّوا من فضائل الإمام مالك بن أنس والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما الجهر ببيان المعتقد مع ما كان فيه من سخط الخلفاء والوقوع في
المحنة.
هذا مع أن هناك منابر دولية يُتمكَّن بها من بيان كل عقيدة وإيضاح كل وظيفة بلا أي محذور ولا خوف ولا ضرر، وهذا أمر مقدور للكل أو للأغلب، مع أنَّا لا نرى أحداً من أهل السنة قام به.
2 ـ مع الإغماض عن كل ذلك وتسليم أن أهل السنة عاجزون عن مبايعة إمام لهم، فهذا يرفع الإثم والعقاب عنهم، لأن الله جل شأنه لا يكلف الناس بما لا يطيقون، أما أن ميتتهم لا تكون بسبب الاضطرار جاهلية فهذا لا نسلّم به، فإن أهل الفَتْرة ـ الذي عاشوا في الجاهلية وهم لا يعلمون بدين سماوي، وكانوا مستضعفين في الأرض، ولا يفقهون من أمرهم إلا ما يتعلق بمعاشهم ـ فإن هؤلاء لا يُعذَّبون، عملاً بقوله جل شأنه (وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً) ، مع أنهم لا شك في كونهم ضُلاّلاً، لأن كل من لم يتّبع الحق ـ وإن كان معذوراً ـ فهو ضال.
وما نحن فيه كذلك، فإن حديث مسلم نص على أن كل من لم تكن في عنقه بيعة لإمام فميتته جاهلية، وبإطلاقه يشمل من كان معذوراً لجهل أو اضطرار أو عجز أو غير ذلك.
* * * * *
وعلى ضوء ما تقدّم نقول: إن أهل السنة في جميع البلاد الإسلامية إما أن يكون فيهم من هو أهل للإمامة، ومتَّصف بالصفات التي ذكروها، فحينئذ يجب عليهم جميعاً أن يبايعوه إماماً لهم.
وإما أن لا يكون فيهم مَن يتَّصف بالصفات المزبوة، فالواجب عليهم حينئذ بيعة رجل منهم يكون إماماً على جميع المسلمين، ولا يجوز ترك المسلمين من دون إمام بَرّ أو فاجر.
هذا ما نصَّ عليه علماؤهم في مصنفاتهم.
وأهل السنة في جميع البلدان لم يبايعوا إماماً لهم، فهم بأجمعهم أو أكثرهم مخالفون لفتاوى علمائهم التي دلَّت على أنه يجب على المسلمين في كل عصر أن يبايعوا مَن يصلح منهم للإمامة، ومعرضون عن الأحاديث الصحيحة، غير عاملين بمضمونها، وبذلك تكون ميتتهم جاهلية بنص الأحاديث السابقة.
======
(1) راجع إن شئت كلام ابن حزم في الفصل في الملل 4|149، والبغدادي في الفرق بين الفرق، ص349.
(2)خذ مثالاً على ذلك الإمام النووي الذي شرح صحيح مسلم، فإنه لم يعلق بحرف واحد على حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، راجع صحيح مسلم بشرح النووي 12|240، مع أن النووي توفي سنة 676هـ بعد سقوط الخلافة العباسية وتشتت بلاد المسلمين إلى دويلارت على كل دولة خليفة.
(3)صحيح مسلم 3|1478 كتاب الإمارة، باب 13، ح58، السنن الكبرى 8|156، مجمع الزوائد 5|218، مشكاة المصابيح 2|1088 ح3674، سلسلة الأحاديث الصحيحة 2|715 ح984.
(4) مسند أحمد 4|96، مجمع الزوائد 5|218، مسند الطيالسي، ص259، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7|49، حلية الأولياء 3|224، كنز العمال 1|103 ح464، 6|65 ح14863.
(5)مجمع الزوائد 5|224، 225، كتاب السنة، ص489 ح1057، قال الألباني: إسناده حسن ورجاله ثقات...
(6)مسند أحمد 3|446، كنز العمال 6|65 ح14861، كتاب السنة، ص490 ح1058، المطالب العالية 2|228.
(7) صحيح مسلم 3|1480 كتاب الإمارة، باب 15 ح61، السنن الكبرى 8|144
(8)صحيح مسلم 3|1471 كتاب الإمارة، باب 10 ح44.
(9)صحيح مسلم بشرح النووي 12|231.
(10) الفرق بين الفرق، ص350.
(11) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4|150. المحلى 8|422.
(12) الأحكام السلطانية، ص37.
(13) شرح المقاصد 5|233.
(14) شرح المقاصد 12|238
(15)أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 3|129، 183، 4|421، والطيالسي في مسنده، ص125، 284، والحاكم في مستدركه 4|501 وصححه ووافقه الذهبي،
(16) فيض القدير 3|189.
(17)فيض القدير 3|190.
(18)الفرق بين الفرق، ص349.
(19)الفصل في الملل والأهواء والنحل 4|152.
(20) المحلى 8|420.
(21)شرح المقاصد 5|243.
(22) الأحكام السلطانية، ص32.
(23)قواعد العقائد، ص230.
(24)المواقف، ص398.
(25) الفرق بين الفرق، ص349.
(26)الأحكام السلطانية، ص31.
(27)شرح المقاصد 5|233.
(28) التمهيد، ص181 (عن كتاب الإلهيات 2|518).
(29) الفرق بين الفرق، ص349.
(30)المواقف، ص389.
(31) الأحكام السلطانية، ص31.
(32) قواعد العقائد، ص230.
(33)شرح المقاصد 5|233.
(34)أهل الحل والعقد : هم أصحاب الرأي والدين والمشورة في المسلمين الذي يلزم غيرهم متابعتهم عند أهل السنة، مثل الصحابة في المدينة بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(35)صحيح البخاري 9|100 كتاب الأحكام، باب الاستخلاف. وهو الحديث الذي تقدم تخريجه في حديثنا عن بيعة أبي بكر وأنها كانت فلتة في الفصل الثاني.
(36) هذا الجواب للتفتازاني في شرح المقاصد 5|239.
قال ابن حجر: قال النووي: أجمعوا [أئمة أهل السنة]على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل( فتح الباري 13|176.) .
مسألة معرفة إمام العصر من المسائل المهمة التي تترتب عليها أعظم المصالح الدينية والدنيوية، وتُؤدَّى بها أهم الوظائف الشرعية، وقد وردت فيها أحاديث صحيحة مشتملة على التحذير الشديد، وتصف من مات جاهلاً بها بأن ميتته جاهلية.
مضافاً إلى أن علماء أهل السنة قد أكَّدوا في مصنفاتهم على أن نصب الإمام في كل عصر واجب على المسلمين كافة، بل جعلوه من أعظم الواجبات الدينية التي لا يسع المسلمين تركها أو التهاون في المبادرة إليها.
قال الإيجي في المواقف: نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعاً...
وقال: انه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: «ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به»، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متَّبع في كل عصر...(المواقف، ص395. والإيجي عاش بين سنة 700هـ وسنة 756هـ. ) .
وقال الماوردي: وعقدها ـ أي الإمامة ـ لمن يقوم بها في الأمَّة واجب
بالإجماع(الأحكام السلطانية، ص29.) .
وقال ابن حجر: قال النووي: أجمعوا على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل( فتح الباري 13|176.) .
وقال التفتازاني: نصب الإمام واجب على الخلق سمعاً عندنا وعند عامة المعتزلة(شرح المقاصد 5|235.) .
وقال ابن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على وجوب الإمامة، وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة(الفصل في الملل والأهواء والنحل 4|169.) .
وقال: لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة(المحلى 8|420.) .
إلى غير ذلك مما يطول ذكره(1) .
ومع كل ذلك فإن أهل السنة بعد عصر الخلافة عندهم أطبقوا على ترك هذا الواجب، بل تركوا الخوض في هذه المسألة وتجنبوا البحث فيها من قريب أو بعيد، فلا نرى منهم اهتماماً بالبحث في هذا الأمر مع عظم أهميته، حتى تركه من تعرض لشرح تلك الأحاديث وقابله بالإعراض والإهمال الشديدين(2) . ولعل السبب في ذلك خشية علماء أهل السنة من سخط حكّام
عصرهم إذا نفوا عنهم أهليتهم لإمامة المسلمين، وخوفهم من العامة،وحذرهم من تخطئة كل أهل السنة في ترك أمر مهم واجب لا ينبغي تركه.
والأحاديث المروية في هذه المسألة كثيرة، وً منها:
أخرج مسلم في صحيحه، والبيهقي في السنن، والهيثمي في مجمع الزوائد، والتبريزي في مشكاة المصابيح، والألباني في السلسلة الصحيحة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية(3) .
وأخرج أحمد في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، وأبو داود الطيالسي في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في حليته، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن مات بغير إمام مات ميتة جاهلية(24) .
وفي رواية أخرجها الهيثمي وابن أبي عاصم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية(5)
وفي رواية أخرى: من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية(6)
تأملات في الحديث
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات: فيه إشعار إلى أن بيعة إمام المسلمين الحق ينبغي المبادرة إليها وعدم إهمالها أو التهاون فيها خشية مباغتة الموت والوقوع في الهلاك.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وليس في عنقه بيعة:
أي ولم تكن بيعة ملازمة له لا تنفك عنه، كما في قوله تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) . فلا يجوز نقض بيعة إمام الحق ولا النكث عنها. ولأجل الدلالة على اللزوم لم يعبِّر بـ (من مات ولم يبايع إماماً...).
والبيعة:
هي المعاقدة والمعاهدة على السمع والطاعة، ولعلها مأخوذة من البيع، فكأن من بايع الإمام قد باع نفسه للإمام، وأعطاه طاعته وسمعه ونصرته.
وعليه فلا تقع البيعة إلا مع الإمام الحاضر الحي، دون الإمام الغابر الميت، لأن الميت لا تتحقق معه المعاهدة، واعتقاد إمامة الأئمة الماضين لا يستلزم تحقق البيعة لهم.
وقوله: لإمام:
يدل على أنه لا يجوز مبايعة أكثر من إمام واحد في عصر واحد، وهذا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين ودلَّت عليه الأحاديث الصحيحة عند الفريقين.
فمما ورد من طرق أهل السنة ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما(7) .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: … وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول(8) .
قال النووي: في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول [ أم ] جاهلين، وسواء كانا في بلدين أو بلد، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء... واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا(9) .
وقال البغدادي: وقالوا ـ أي أهل السنة ـ: لا تصح الإمامة إلا لواحد في جميع أرض الإسلام(10) .
ونصَّ على ذلك أيضاً ابن حزم(11) والماوردي(12) والتفتازاني(13) وغيرهم.
وقوله: مات ميتة جاهلية:
ميتة على وزن فِعْلة، وهو اسم هيئة، والمعنى: مات كميتة أهل الجاهلية.
قال النووي: أي على صفة موتهم من حيث هي فوضى لا إمام لهم(14) .
أقول:
لعل تشبيه موت من ترك بيعة إمام الزمان بميتة أهل الجاهلية من حيث أن ترك تلك البيعة يستلزم ترك متابعة إمام الحق، ويؤدي إلى متابعة أئمة
الجور، وهذا مسبِّب للوقوع في الضلال، فتكون حاله حال أهل الجاهلية الذين يموتون على ضلال.
بعض مؤهّلات إمام المسلمين وصفاته
إن إمام العصر لا بد أن تتوفر فيه عدة مزايا تؤهّله لأن يكون إماماً على سائر المسلمين دون غيره، وقد ذكر علماء أهل السنة بعضاً من تلك المزايا التي ينبغي توفرها في إمام المسلمين، ومع أنهم اختلفوا في بعض الصفات إلا أنهم يكادون يتفقون على بعض آخر منها. فمما اشترطوه:
1 ـ أن يكون قرشياً
فلا تصح إمامة غير القرشي كائناً من كان، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الأئمة من قريش(15) .
قال المناوي: ذهب الجمهور إلى العمل بقضية هذا الحديث، فشرطوا كون الإمام قرشياً(16) .
وقال: قال عياض: اشتراط كون الإمام قرشياً مذهب كافة العلماء، وقد عدّوها من مسائل الإجماع، ولا اعتداد بقول الخوارج وبعض المعتزلة.
وقال أيضاً: به ـ أي بهذا الحديث ـ احتج الشيخان يوم السقيفة، فقبله الصحب وأجمعوا عليه(17) .
ونص أيضاً على اشتراط القرشية في الإمام عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق(18) ، وابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل(19) والمحلّى(20) ، والتفتازاني في شرح المقاصد(21) ، والماوردي في الأحكام السلطانية(22) والغزالي في قواعد العقائد(23) وغيرهم.
2 ـ أن يكون عالماً مجتهداً
قال الإيجي: الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع، ليقوم بأمور الدين(24) .
وقال عبد القاهر البغدادي: وأوجبوا ـ أي أهل السنة ـ من العِلم له مقدار ما يصير به من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية(25) .
ونص أيضاً على لزوم كون إمام المسلمين مجتهداً في الأحكام الشرعية الماوردي في الأحكام السلطانية(26) ، والتفتازاني(27) ، والباقلاني في التمهيد(28) ،
وغيرهم.
3 ـ أن يكون عادلاً غير فاسق
قال البغدادي بعد أن ذكر شرط العدالة في الإمام: وأوجبوا ـ أي أهل السنة ـ من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته، وذلك بأن يكون عدلاً في دينه، مُصلِحاً لماله وحاله، غير مرتكب لكبيرة ولا مُصِرّ على صغيرة، ولا تارك للمروءة في جل أسبابه(29) .
وقال الإيجي: يجب أن يكون عدلاً لئلا يجور. وذكر أنه شرط بالإجماع(30) .
ونص على اشتراط العدالة في إمام المسلمين الماوردي(31) في الأحكام السلطانية، والغزالي في قواعد العقائد(32) ، والتفتازاني في شرح المقاصد(33) ، وغيرهم.
إلى غيرها من الصفات التي ذكروها، وفيما ذكرناه كفاية.
حيرة أهل السنة في هذا العصر
عندما نلقي نظرة على واقع أهل السنة في هذا العصر نجد أنهم لم يبايعوا إماماً واحداً لهم مع وجوبه عليهم، بل مع كونه من أعظم الواجبات كما مرَّ مفصلاً.
فلم يبايعوا واحداً من حكام المسلمين المعاصرين ولا غيرهم إماماً لهم. إما لأن الإمام يجب أن يكون قرشيًّا، وجُل حكَّام المسلمين اليوم ليسوا من قريش، والقرشي منهم لم يقم دليل على إمامته العامة على كل المسلمين، لا
عند أهل السنة ولا عند غيرهم، وإما لعدم توفّر الصفات الأخرى فيه.
محاولة لدفع الإشكال وردّها
قد يقال: إن أهل السنة في بعض البلاد الإسلامية بايعوا حاكمهم بيعة شرعية صحيحة، وبذلك يكونون قد أدَّوا ما فرضه الله عليهم من مبايعة إمام لهم في هذا الزمان.
والجواب:
1 ـ على فرض حصول بيعة (شرعية) لحاكم من حُكّام المسلمين في بلد ما، فإن باقي أهل السنة في كل البلاد الأخرى لم يبايعوا ذلك الحاكم، فإما أن تكون بيعة المبايِعين صحيحة فيجب على غيرهم متابعتهم فيها، وحيث لم يفعلوا فقد تركوا أهم الواجبات عليهم، وإما أن تكون تلك البيعة باطلة فلا اعتبار بها، فوجودها كعدمها.
2 ـ أن أولئك المبايعين إنما بايعوه على السمع والطاعة وعلى كونه حاكماً على بلادهم، لا على كونه خليفة أو إماماً لكل المسلمين، ولذلك لم نرَ حاكماً معاصراً ادَّعى الخلافة أو الإمامة على كل المسلمين، والذي يتأدَّى به الفرض هو البيعة على النحو الثاني لا الأول.
3 ـ أن الخليفة الحق لا تثبت خلافته عندهم إلا بالنص من الله ورسوله، أو بنصّ إمام الحق الذي قبله، أو بالشورى من المسلمين كافة، أو بالقهر والغلبة على سائر بلاد الإسلام، وشيء من ذلك كله لم يتم لحاكم معاصر كما هو واضح.
وتثبت الخلافة أيضاً ببيعة أهل الحل والعقد، وعليه فإن كان أولئك المبايعون هم أهل الحل والعقد(34) فبيعتهم صحيحة، وإلا فلا، ولا تُعْرَف فئة في أهل السنة اليوم موصوفة بهذه الصفة، فحينئذ لا تصح بيعة هؤلاء، ولا تكون
مُلزِمة لغيرهم، وتكون مشمولة لقول عمر: فمَن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يُتابَع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتَلا(35) .
4 ـ أن مبايعتهم لذلك الحاكم معارَضة بمبايعة غيرهم لحاكم آخر في بلاد أخرى من بلاد المسلمين، ولا يصح بيعة خليفتين في عصر واحد، ومع تحقق ذلك فإحدى البيعتين باطلة قطعاً.
ثم إن البيعة لا تصح عندهم إلا إذا كان الحاكم قرشياً عادلاً مجتهداً كما مرّ.
والحاصل:
أن كل أهل السنة لم يبايعوا إماماً واحداً لهم من الحُكّام المعاصرين ولا من غيرهم، وبذلك يكونون قد تركوا واجباً من أعظم الواجبات الشرعية، وتخلفوا عن وظيفة من أهم الوظائف الدينية.
محاولة أخرى وردّها
وقد يقال أيضاً: إن كل واحد من أهل السنة اتَّبع إماماً من أئمة المسلمين، ومن الواضح المعلوم أن أهل السنة منهم من يتّبع أبا حنيفة النعمان، ومنهم من يتَّبع مالك بن أنس، ومنهم من يتبع محمد بن إدريس الشافعي، ومنهم من يتّبع أحمد بن حنبل، فكل واحد منهم يموت وفي عنقه بيعة لإمام من هؤلاء الأئمة، فلا إشكال عليهم حينئذ.
والجواب:
1 ـ أن محل الكلام هو مبايعة الإمام الذي يتولَّى أمور المسلمين ويكون حاكماً له سلطة زمنية على الناس، وهذا هو الذي أوجبه علماء أهل السنة فيما تقدم من عباراتهم، ودلّت عليه الأحاديث السابقة، وليس محل البحث هو علماء الدين الذين يعمل الناس بفتاواهم، فإن هؤلاء لا تجب مبايعتهم بالاتفاق، بل يجب سؤالهم لمعرفة الأحكام الشرعية لا غير، كما قال جل شأنه
(فاسألوا أهل الذِّكْر إن كنتم لا تعلمون)(سورة الأنبياء، الآية 7. ) .
2 ـ لم يُفْتِ أحد من أئمة المذاهب الأربعة بوجوب أخذ البيعة له أو لغيره من فقهاء الأمصار، ولم ينقل أحد من أعلام أهل السنة أن البيعة أُخِذَت لهم، لا في عصورهم ولا في العصور المتأخرة عنهم، ولو كانت البيعة لهم واجبة لبيَّنوا ذلك للناس وحثّوهم عليها.
3 ـ أنا قلنا فيما مرَّ أن البيعة هي المعاهدة، وهي لا تتحقق إلا مع الإمام الحي الحاضر، وعليه فلا يمكن مبايعة واحد من الأئمة الماضين، لأنها مفاعلة بين طرفين، والميت لا يعلم ببيعة الحي له ولا تقع منه معاهدة معه على شيء، وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة تفصيل.
محاولة ثالثة وردّها
فإن أجابوا عن هذه المسألة بأن إمام المسلمين واحد من العلماء المعاصرين من أهل السنة.
فالجواب:
1 ـ ما قلناه فيما تقدّم يأتي هنا أيضاً، فإن محل الكلام في الإمام الذي يتولَّى أمور المسلمين ويكون حاكماً عليهم، وليس الكلام في أئمة العلم، فإن أئمة العلم لا تجب بيعتهم عند أهل السنة.
2 ـ قلنا فيما تقدم أنه يشترط في الإمام أن يكون مجتهداً، وحيث إن أهل السنة قد أغلقوا باب الاجتهاد، وحصروا التقليد في أئمة المذاهب الأربعة، فلا يوجد في علماء أهل السنة في هذا العصر إلا المقلِّدة، ومن يدَّعي الاجتهاد منهم لا يوافقونه على اجتهاده ولا يسلِّمون له به، فحينئذ لا يصلح واحد منهم لإمامة المسلمين.
3 ـ لو سلَّمنا أن واحداً من العلماء المعاصرين فيه الأهلية للإمامة عندهم،
إلا أنه لا يكون إماماً بمجرد كونه أهلاً للإمامة، وذلك لأن علماء أهل السنة أنفسهم اعتبروا أيضاً في إمام المسلمين أن يبايعه أهل الحل والعقد، أو يكون مبسوط اليد على بلاد المسلمين متسلِّطاً عليها، ولأجل ذلك عدّوا معاوية مثلاً من الخلفاء الاثني عشر الذين بشَّر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يعدّوا منهم مَن هو خير منه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار المعاصرين له الذين لم تكن لهم إمرة، كما لم يعدُّوا منهم غيرهم ممن وصفوهم بأنهم من المبشَّرين بالجنة، كسعد بن أبي وقاص مثلاً.
بل لم يعدوا من الخلفاء الاثني عشر علماء الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما، للسبب الذي ذكرناه.
محاولة رابعة وردّها
فإن قالوا: إنَّا نسلّم أن أهل السنة تركوا القيام بهذا الفرض فلم يبايعوا إماماً في هذا العصر ولا في العصور المتقدمة التي تلت عصر الخلافة، لكن لا تلزم المعصية والضلالة والموت ميتة جاهلية، وذلك إنما يلزم لو تركوه عن قدرة واختيار لا عن عجز واضطرار(36) .
فالجواب:
1 ـ أنَّا لا نسلّم أن أهل السنة عاجزون عن بيعة إمام لهم في هذا العصر، لأن البيعة هي نوع من إظهار الطاعة للحاكم، وهذا مقدور عليه، ويمكن لعلماء أهل السنة أن يرشدوا العوام في جميع البلاد إلى مبايعة من يرونه الأصلح للإمامة من حُكام المسلمين أو من غيرهم.
وخوفهم من سخط حُكَّام بلادهم لا يسوّغ لهم ترك بيان فريضة من أهم الفرائض ووظيفة من أعظم الوظائف، لأن أهل السنة لا يرون جواز التقية من الحاكم المسلم، ولهذا عدّوا من فضائل الإمام مالك بن أنس والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما الجهر ببيان المعتقد مع ما كان فيه من سخط الخلفاء والوقوع في
المحنة.
هذا مع أن هناك منابر دولية يُتمكَّن بها من بيان كل عقيدة وإيضاح كل وظيفة بلا أي محذور ولا خوف ولا ضرر، وهذا أمر مقدور للكل أو للأغلب، مع أنَّا لا نرى أحداً من أهل السنة قام به.
2 ـ مع الإغماض عن كل ذلك وتسليم أن أهل السنة عاجزون عن مبايعة إمام لهم، فهذا يرفع الإثم والعقاب عنهم، لأن الله جل شأنه لا يكلف الناس بما لا يطيقون، أما أن ميتتهم لا تكون بسبب الاضطرار جاهلية فهذا لا نسلّم به، فإن أهل الفَتْرة ـ الذي عاشوا في الجاهلية وهم لا يعلمون بدين سماوي، وكانوا مستضعفين في الأرض، ولا يفقهون من أمرهم إلا ما يتعلق بمعاشهم ـ فإن هؤلاء لا يُعذَّبون، عملاً بقوله جل شأنه (وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً) ، مع أنهم لا شك في كونهم ضُلاّلاً، لأن كل من لم يتّبع الحق ـ وإن كان معذوراً ـ فهو ضال.
وما نحن فيه كذلك، فإن حديث مسلم نص على أن كل من لم تكن في عنقه بيعة لإمام فميتته جاهلية، وبإطلاقه يشمل من كان معذوراً لجهل أو اضطرار أو عجز أو غير ذلك.
* * * * *
وعلى ضوء ما تقدّم نقول: إن أهل السنة في جميع البلاد الإسلامية إما أن يكون فيهم من هو أهل للإمامة، ومتَّصف بالصفات التي ذكروها، فحينئذ يجب عليهم جميعاً أن يبايعوه إماماً لهم.
وإما أن لا يكون فيهم مَن يتَّصف بالصفات المزبوة، فالواجب عليهم حينئذ بيعة رجل منهم يكون إماماً على جميع المسلمين، ولا يجوز ترك المسلمين من دون إمام بَرّ أو فاجر.
هذا ما نصَّ عليه علماؤهم في مصنفاتهم.
وأهل السنة في جميع البلدان لم يبايعوا إماماً لهم، فهم بأجمعهم أو أكثرهم مخالفون لفتاوى علمائهم التي دلَّت على أنه يجب على المسلمين في كل عصر أن يبايعوا مَن يصلح منهم للإمامة، ومعرضون عن الأحاديث الصحيحة، غير عاملين بمضمونها، وبذلك تكون ميتتهم جاهلية بنص الأحاديث السابقة.
======
(1) راجع إن شئت كلام ابن حزم في الفصل في الملل 4|149، والبغدادي في الفرق بين الفرق، ص349.
(2)خذ مثالاً على ذلك الإمام النووي الذي شرح صحيح مسلم، فإنه لم يعلق بحرف واحد على حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، راجع صحيح مسلم بشرح النووي 12|240، مع أن النووي توفي سنة 676هـ بعد سقوط الخلافة العباسية وتشتت بلاد المسلمين إلى دويلارت على كل دولة خليفة.
(3)صحيح مسلم 3|1478 كتاب الإمارة، باب 13، ح58، السنن الكبرى 8|156، مجمع الزوائد 5|218، مشكاة المصابيح 2|1088 ح3674، سلسلة الأحاديث الصحيحة 2|715 ح984.
(4) مسند أحمد 4|96، مجمع الزوائد 5|218، مسند الطيالسي، ص259، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7|49، حلية الأولياء 3|224، كنز العمال 1|103 ح464، 6|65 ح14863.
(5)مجمع الزوائد 5|224، 225، كتاب السنة، ص489 ح1057، قال الألباني: إسناده حسن ورجاله ثقات...
(6)مسند أحمد 3|446، كنز العمال 6|65 ح14861، كتاب السنة، ص490 ح1058، المطالب العالية 2|228.
(7) صحيح مسلم 3|1480 كتاب الإمارة، باب 15 ح61، السنن الكبرى 8|144
(8)صحيح مسلم 3|1471 كتاب الإمارة، باب 10 ح44.
(9)صحيح مسلم بشرح النووي 12|231.
(10) الفرق بين الفرق، ص350.
(11) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4|150. المحلى 8|422.
(12) الأحكام السلطانية، ص37.
(13) شرح المقاصد 5|233.
(14) شرح المقاصد 12|238
(15)أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 3|129، 183، 4|421، والطيالسي في مسنده، ص125، 284، والحاكم في مستدركه 4|501 وصححه ووافقه الذهبي،
(16) فيض القدير 3|189.
(17)فيض القدير 3|190.
(18)الفرق بين الفرق، ص349.
(19)الفصل في الملل والأهواء والنحل 4|152.
(20) المحلى 8|420.
(21)شرح المقاصد 5|243.
(22) الأحكام السلطانية، ص32.
(23)قواعد العقائد، ص230.
(24)المواقف، ص398.
(25) الفرق بين الفرق، ص349.
(26)الأحكام السلطانية، ص31.
(27)شرح المقاصد 5|233.
(28) التمهيد، ص181 (عن كتاب الإلهيات 2|518).
(29) الفرق بين الفرق، ص349.
(30)المواقف، ص389.
(31) الأحكام السلطانية، ص31.
(32) قواعد العقائد، ص230.
(33)شرح المقاصد 5|233.
(34)أهل الحل والعقد : هم أصحاب الرأي والدين والمشورة في المسلمين الذي يلزم غيرهم متابعتهم عند أهل السنة، مثل الصحابة في المدينة بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(35)صحيح البخاري 9|100 كتاب الأحكام، باب الاستخلاف. وهو الحديث الذي تقدم تخريجه في حديثنا عن بيعة أبي بكر وأنها كانت فلتة في الفصل الثاني.
(36) هذا الجواب للتفتازاني في شرح المقاصد 5|239.