وهج الإيمان
08-08-2014, 09:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام من كتاب البدايه والنهايه للعلامه إبن كثير
كثر ورود الكتب عليه -الحسين (ع) _ من بلاد العراق يدعونه إليهم - وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد - فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمذاني، وعبد الله بن والٍ معمها كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية.فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدهما نفرا منهم: قيس بن مسهر الضدائي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكوا الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين.
ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث و يزيد بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي:
أما بعد: فقد أخضرت الجنان، وأينعت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك.
فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم.
فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما، بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه.
وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على براري مهجورة المسالك.
فكان أحد الدليلين منهما أول هالك، وذلك من شدة العطش، وقد أضلوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له: المضيق، من بطن خبيت، فتطير به مسلم بن عقيل، فتلبث مسلم على ما هنالك ومات الدليل الآخر.
فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم.
فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له: مسلم بن عوسجة الأسدي.
وقيل: نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي فالله أعلم.
فتسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا.
فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره.
وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خّبره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة.
وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليّ، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته.
فقام إليه رجل يقال له: عبد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي.
فقال له: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشمة، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين.
فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأقوياء الأعزين في معصية الله.
ثم نزل فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، فبعث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره.
فقال سرجون: أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا؟
قال: نعم!
قال: فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها.
وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره.
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه، وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة.
فلما دخلها متلثما بعمامة سوداء، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال: سلام عليكم.
فيقولون: وعليكم السلام مرحبا بابن رسول الله - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه - وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكبا.
فقال لهم مسلم بن عمرو: من جهة يزيد، تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد، فتحقق عبيد الله الخبر، ونزل قصر الإمارة من الكوفة.
فلما استقر أمره أرسل مولى أبي رهم - وقيل: كان مولى له يقال له: معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى.
فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثمامة العامري بأمر مسلم بن عقيل - وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح - وكان من فرسان العرب، فرجع ذلك المولى وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها.
وقد تحول مسلم بن عقيل إلى دار هانئ بن حميد بن عروة المرادي، ثم إلى دار شريك بن الأعور، وكان من الأمراء الأكابر، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته.
فبعث إلى هانئ يقول له: ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني.
فبعثه إليه فقال له شريك: كن أنت في الخباء، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء وهي إشارتي إليك، فاخرج فاقتله.
فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة، وقام من بين يديه غلام يقال له مهران، فتحدث عنده ساعة.
ثم قال شريك: اسقوني، فتجبن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماء، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثا.
ثم قال: اسقوني، ولو كان فيه ذهاب نفسي أتحمونني من الماء؟
ففهم مهران الغدر، فغمز مولاه فنهض سريعا وخرج.
فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك.
فقال: سأعود!
فخرج به مولاه فأركبه وطرد به - أي ساق به - وجعل يقول له مولاه: إن القوم أرادوا قتلك.
فقال: ويحك إني بهم لرفيق، فما بالهم؟
وقال شريك لمسلم: ما منعك أن تخرج فتقتله؟
قال: حديث بلغني عن رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisource/ar/thumb/b/b7/%D8%B5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D8%B9 %D9%84%D9%8A%D9%87_%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85.svg/18px-%D8%B5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D8%B9 %D9%84%D9%8A%D9%87_%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85.svg.pn g (http://ar.wikisource.org/wiki/%D9%85%D9%84%D9%81:%D8%B5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84 %D9%84%D9%87_%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87_%D9%88%D8%B3 %D9%84%D9%85.svg) أنه قال: «الإيمان ضد الفتك، لا يفتك مؤمن»، وكرهت أن أقتله في بيتك.
فقال: أَما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد وليكفينك أمر البصرة، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا، ومات شريك بعد ثلاث.
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم، فأغلق باب القصر وقال: ما أنا بمسلم إليك أمانتي.
فقال له عبيد الله: افتح لأفتحنه، ففتح وهو يظنه الحسين، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة وأمر مناديا فنادى: إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده.
ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الزورية وأهل الريب والخلاف والشقاق، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب أو نفي، وأسقطت عرافته من الديوان - وكان هانئ أحد الأمراء الكبار - ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد الله وقال: ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء؟
فقالوا: أيها الأمير إنه يشتكي.
فقال: إنه بلغني أنه يجلس على باب داره.
وزعم بعضهم: أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده، وقد هموا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره.
فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد، فالتفت عبيد الله إلى القاضي فقال متمثلا بقول الشاعر:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
فلما سلم هانئ على عبيد الله قال: يا هانئ أين مسلم بن عقيل؟
قال: لا أدري.
فقام ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع في داره، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم.
فقال: أتعرف هذا؟
قال: نعم!
فلما رآه هانئ قطع وأسقط في يده.
فقال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليَّ.
فقال عبيد الله: فأتني به.
فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه.
فقال: أدنوه مني، فأدنوه فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله فدفع عن ذلك.
وقال عبيد الله: قد أحل الله لي دمك، لأنك حروري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار، وجاء قومه من بني مذحج مع عمرو بن الحجاج فوقفوا على باب القصر يظنون أنه قد قتل.
فسمع عبيد الله لهم جلبة، فقال لشريح القاضي وهو عنده: أخرج إليهم فقل لهم إن الأمير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل.
فقال لهم: إن صاحبكم حي، وقد ضربه سلطاننا ضربا لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم.
فتفرقوا إلى منازلهم، وسمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره: يا منصور أمت.
فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عبيد، ومعه راية خضراء، عبد الله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو في القلب إلى عبيد الله، وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذرهم من الاختلاف، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره.
فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون: جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب.
فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم.
وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك.
ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟
فتخاذل الناس وقصّروا وتصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل، حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس.
ثم تقالّوا حتى بقي في ثلاثمائة، ثم تقالّوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة.
يتبع .......
اللهم صل على محمد وآل محمد
مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام من كتاب البدايه والنهايه للعلامه إبن كثير
كثر ورود الكتب عليه -الحسين (ع) _ من بلاد العراق يدعونه إليهم - وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد - فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمذاني، وعبد الله بن والٍ معمها كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية.فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدهما نفرا منهم: قيس بن مسهر الضدائي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكوا الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين.
ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث و يزيد بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي:
أما بعد: فقد أخضرت الجنان، وأينعت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك.
فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم.
فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما، بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه.
وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على براري مهجورة المسالك.
فكان أحد الدليلين منهما أول هالك، وذلك من شدة العطش، وقد أضلوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له: المضيق، من بطن خبيت، فتطير به مسلم بن عقيل، فتلبث مسلم على ما هنالك ومات الدليل الآخر.
فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم.
فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له: مسلم بن عوسجة الأسدي.
وقيل: نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي فالله أعلم.
فتسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا.
فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره.
وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خّبره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة.
وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليّ، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته.
فقام إليه رجل يقال له: عبد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي.
فقال له: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشمة، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين.
فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأقوياء الأعزين في معصية الله.
ثم نزل فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، فبعث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره.
فقال سرجون: أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا؟
قال: نعم!
قال: فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها.
وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره.
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه، وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة.
فلما دخلها متلثما بعمامة سوداء، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال: سلام عليكم.
فيقولون: وعليكم السلام مرحبا بابن رسول الله - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه - وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكبا.
فقال لهم مسلم بن عمرو: من جهة يزيد، تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد، فتحقق عبيد الله الخبر، ونزل قصر الإمارة من الكوفة.
فلما استقر أمره أرسل مولى أبي رهم - وقيل: كان مولى له يقال له: معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى.
فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثمامة العامري بأمر مسلم بن عقيل - وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح - وكان من فرسان العرب، فرجع ذلك المولى وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها.
وقد تحول مسلم بن عقيل إلى دار هانئ بن حميد بن عروة المرادي، ثم إلى دار شريك بن الأعور، وكان من الأمراء الأكابر، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته.
فبعث إلى هانئ يقول له: ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني.
فبعثه إليه فقال له شريك: كن أنت في الخباء، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء وهي إشارتي إليك، فاخرج فاقتله.
فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة، وقام من بين يديه غلام يقال له مهران، فتحدث عنده ساعة.
ثم قال شريك: اسقوني، فتجبن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماء، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثا.
ثم قال: اسقوني، ولو كان فيه ذهاب نفسي أتحمونني من الماء؟
ففهم مهران الغدر، فغمز مولاه فنهض سريعا وخرج.
فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك.
فقال: سأعود!
فخرج به مولاه فأركبه وطرد به - أي ساق به - وجعل يقول له مولاه: إن القوم أرادوا قتلك.
فقال: ويحك إني بهم لرفيق، فما بالهم؟
وقال شريك لمسلم: ما منعك أن تخرج فتقتله؟
قال: حديث بلغني عن رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisource/ar/thumb/b/b7/%D8%B5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D8%B9 %D9%84%D9%8A%D9%87_%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85.svg/18px-%D8%B5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D8%B9 %D9%84%D9%8A%D9%87_%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85.svg.pn g (http://ar.wikisource.org/wiki/%D9%85%D9%84%D9%81:%D8%B5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84 %D9%84%D9%87_%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87_%D9%88%D8%B3 %D9%84%D9%85.svg) أنه قال: «الإيمان ضد الفتك، لا يفتك مؤمن»، وكرهت أن أقتله في بيتك.
فقال: أَما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد وليكفينك أمر البصرة، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا، ومات شريك بعد ثلاث.
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم، فأغلق باب القصر وقال: ما أنا بمسلم إليك أمانتي.
فقال له عبيد الله: افتح لأفتحنه، ففتح وهو يظنه الحسين، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة وأمر مناديا فنادى: إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده.
ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الزورية وأهل الريب والخلاف والشقاق، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب أو نفي، وأسقطت عرافته من الديوان - وكان هانئ أحد الأمراء الكبار - ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد الله وقال: ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء؟
فقالوا: أيها الأمير إنه يشتكي.
فقال: إنه بلغني أنه يجلس على باب داره.
وزعم بعضهم: أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده، وقد هموا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره.
فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد، فالتفت عبيد الله إلى القاضي فقال متمثلا بقول الشاعر:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
فلما سلم هانئ على عبيد الله قال: يا هانئ أين مسلم بن عقيل؟
قال: لا أدري.
فقام ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع في داره، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم.
فقال: أتعرف هذا؟
قال: نعم!
فلما رآه هانئ قطع وأسقط في يده.
فقال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليَّ.
فقال عبيد الله: فأتني به.
فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه.
فقال: أدنوه مني، فأدنوه فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله فدفع عن ذلك.
وقال عبيد الله: قد أحل الله لي دمك، لأنك حروري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار، وجاء قومه من بني مذحج مع عمرو بن الحجاج فوقفوا على باب القصر يظنون أنه قد قتل.
فسمع عبيد الله لهم جلبة، فقال لشريح القاضي وهو عنده: أخرج إليهم فقل لهم إن الأمير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل.
فقال لهم: إن صاحبكم حي، وقد ضربه سلطاننا ضربا لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم.
فتفرقوا إلى منازلهم، وسمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره: يا منصور أمت.
فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عبيد، ومعه راية خضراء، عبد الله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو في القلب إلى عبيد الله، وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذرهم من الاختلاف، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره.
فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون: جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب.
فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم.
وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك.
ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟
فتخاذل الناس وقصّروا وتصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل، حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس.
ثم تقالّوا حتى بقي في ثلاثمائة، ثم تقالّوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة.
يتبع .......