المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هلا


خادم الشيعة
11-08-2014, 07:18 PM
من العظماء من إذا استغرقت في عناصر شخصيّته، فإنَّك تلتقي بذاته في نطاق الدائرة المحدودة من تلك العناصر الّتي جعلت منه إنساناً عظيماً، صاحب فكرٍ، أو صاحب قوّةٍ، وما إلى ذلك مما يمنح شخصيّته ضخامتها الذّاتية الّتي لا تمتدّ إلى أبعد من ذلك. ومن العظماء من إذا استغرقت في داخل شخصيّته، فإنَّك تنفتح على العالم كلّه. ذلك هو الفرق بين عظيم يجمع عناصر عظمته من أجل أن يؤكّد ذاته، وعظيم يجمع هذه العناصر من أجل أن يعطي الحياة عظمة، ويتّجه بالإنسان إلى مواقع العظمة، حتى تكون عظمته حركة في الحياة، وحركة في الإنسان، ويجتمع الإنسان والحياة، وينطلقا ليعيشا مع أجواء العظمة في اللّه العليّ العظيم.
من أولئك، أنبياء اللّه، الذين عاشوا للّه، فاكتشفوا الحياة من خلاله، لأنَّها هبته، واكتشفوا الإنسان من خلاله، لأنَّه خلقه. وبذلك، فإنَّهم لم يعيشوا مع اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ استغراقاً في ذاته، بالمعنى العاطفي للكلمة، لتكون كلّ حياتهم مجرّد تأوّهات وتنهّدات وحسرات وما إلى ذلك، ولكنَّهم رأوا أنَّهم عندما ينقذون الإنسان من جهله، فإنهم يعبدون اللّه بذلك، فقد ارتفعوا إلى اللّه من خلال رفعهم للإنسان إلى مستوى المسؤوليّة عن الحياة، من خلال تعاليم اللّه، وعاشوا الآلام والحسرات مع اللّه، من خلال حملهم لآلام الإنسان وتنهّداته، من أجل أن تنطلق روحانيّتهم في قلب مسؤوليّتهم.
ولذلك، إنّ الأنبياء ليسوا شخصيّاتٍ عظيمةً تعيش في المجال الطبقي الذي يصنعه النّاس لعظمائهم، ولكنَّ الأنبياء كانوا يعيشون مع النّاس، وكانوا فيهم كأحدهم، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، يفتحون قلوبهم لإنسان يعيش ألماً، من أجل أن يفسحوا المجال للفرح حتّى يطرد ذلك الألم، يتواضعون للنّاس، يستمعون إلى آلامهم، يعيشون معهم، لا يتحسّسون في أنفسهم أيّة حالة علوّ، وهم في المراتب العليا. وممّا تنقله لنا السيرة، أنَّ رسول اللّه كان يسير ذات يوم، ورأته امرأة، فارتعدت هيبةً له، فقال(ص): "ما عليك، إنَّما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد".
لم ينفتح الرّسول(ص) على ما عاشته من هيبته، لتكون هيبته فاصلاً بينها وبين إحساسها الإنساني به وإحساسه الإنساني بها، ولم يرد للعظمة أن تكون حاجزاً بين إنسان وإنسان، كما يفعل الكثيرون ممن يتخيّلون أنفسهم عظماء، أو يرفعهم النّاس إلى صفوف العظماء، فإذا بك تجد بينهم وبين النّاس حواجز وحواجز، فلا يعيشون التفاعل مع النّاس، وبذلك، تسقط عظمتهم من خلال ما كانوا يؤكّدونه من عظمتهم.
سرّ الإنسانيّة في النبوّة
أمّا رسول اللّه(ص)، فقد ارتفع إلى أعلى درجات العظمة، عندما عاش حياة الإنسان محتضناً له، ليرحمه وليرأف به، لأنَّ سرّ إنسانيّته في سرّ نبوّته، وفي سرّ حركته في الحياة. لذلك، قد نجد أنَّ بعض النّاس يتحدّثون في أشعارهم عن جمال الرّسول(ص)، وعن لون عينيه، وعن جمال وجهه، ويتغزّلون به من خلال ذلك، في الوقت الّذي نرى أنَّ اللّه لم يتحدّث عن كلّ ذلك. والسبب، أنَّ اللّه أراد أن يقول لنا: إنَّ الأنبياء الّذين هم رسل اللّه إلى النّاس، انطلقوا مع الإنسان في صفاته الإنسانيّة التي تلتقي بالإنسان الآخر؛ فأن تكون أيّ شيء في جمالك، أن تكون أيّ شيء في خصائص جسدك، فذاك شيء يخصّك، ولا علاقة له بالنّاس، لكن ما هي أخلاقك؟ ما هي انفعالاتك بالنّاس؟ ما هو احتضانك لحياة النّاس؟ ما هي طبيعة أحاسيسك؟ هل هي أحاسيس ذاتيّة تعيشها في ذاتك، أو هي أحاسيس إنسانيّة تحتضن بها أحاسيس النّاس؟
كيف قدّم اللّه الرّسول لنا؟ لم يذكر لنا نسبه، ونحن دائماً نصرّ على العائليّة في الحديث، فلم يتحدّث لنا عن هاشميته، ولا عن قرشيته، ولا عن مكيته، ولم يحدّثنا عن اسم أبيه، وعن اسم أمّه، ولكنه حدّثنا عنه بصفته الرسولية الرسالية: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}. لم يأتِ من فوق ليطلّ عليكم من علياء العظمة، فقد ولد بينكم، وعاش معكم، وتألّم كما تتألّمون، وعاش الجوع كما تعيشون، وعاش اليُتم كما تعيشون اليُتم عندما تكونون أيتاماً. {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، وكلمة "من أنفسكم" تحمل في داخلها عمق المعنى الإنساني الذي يجعل النبيّ(ص) في الصورة القرآنية إنساناً مندمجاً بالنّاس الآخرين، يعيش معهم من داخل حياتهم، ومن داخل آلامهم، ومن داخل أحلامهم، ومن داخل قضاياهم، بحيث لا يوجد بينهم وبينه أيّ فاصل. إنَّه يتابعكم وأنتم تتألمون، يتابعكم وأنتم تتعبون، يتابعكم وأنتم تواجهون مشاكل الحياة الّتي تثقلكم، يعزّ عليه ذلك ويؤلمه ويثقله، لأنَّه يعيش دائماً في حالة نفسيّة متحفّزة تراقب كلّ متاعبكم ومشاقكم وترصدها. {حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، وكلمة "حريص" هنا تختزن في داخلها الكثير من الحنان، والأبوّة، والاحتضان، والعاطفة، فهو يحرص عليكم فيضمّكم إليه، فتعيشون في قلبه، ويقدّم لكم حلولاً لمشاكل حياتكم وكلّ تعقيداتكم. ويحرص عليكم فيوحّدكم، ويجمع شملكم، تماماً كما يحرص الأب على أبنائه، والأمّ على أولادها. يحرص عليكم فيخاف أن تضيعوا، وأن تسقطوا، وأن تموتوا، وهو {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[1]؛ الرّأفة كلّها والرّحمة كلّها، والرّحمة في القرآن الكريم ليست مجرّد حالة عاطفية، ونبضة قلب، وخفقة إحساس، بل الرّحمة هي حركة الإنسان فيما يمكن له أن يحمي الإنسان، من نفسه، ومن غيره، من أجل الانطلاق بالإنسان.
رسول الرّحمة
ألم نقرأ الآية الثانية وهي تحدّثنا عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}؛ هذه الرحمة الإلهية التي أنزلها اللّه على النّاس من خلال تجسّدها في النبيّ، بحيث بعث إليهم رسولاً يعيش وعي الواقع، ويواجه كلّ التحجّر؛ تحجّر التقاليد والعادات والعقائد والتعقيدات، وما إلى ذلك، فيواجه ذلك وهو يرى أنَّ هذا التحجّر يمكن أن يتحوّل إلى حجارة تدميه، تماماً كما كانت الحجارة تدمي رجليه وهو في الطّائف، وكما كانت حجارة القذارات تثقل جسده وهو عائد من البيت الحرام أو ساجد بين يديّ ربِّه. كان يعرف أنَّ هناك تحجّراً، وأنَّ الّذي يريد أن يبعث الينابيع في قلوب النّاس، لا بُدَّ له من أن يكتشف في الحجارة شيئاً من الينبوع، لأنَّ اللّه حدّثنا أنَّ من الحجارة ما يتفجّر منه الماء، فهناك ينابيع في قلب الحجارة، لذلك، لا تنظر إلى حجريّة الحجارة، ولكن انفذ إلى أعماقها.
لذلك، لا تنفذ إلى النّاس المتحجّرين لتقول إنَّ هؤلاء لا ينفع معهم كلام، ولا يمكن أن ينطلقوا إلى الحوار، اصبر جيّداً، وانطلق بالينبوع من قلبك، وليكن قلبك ولسانك ليّنين، فإنَّ لين القلب ينفذ إلى أعماق الحجارة ليخرج منها الماء، ولين الكلمة ينفذ إلى حجارة العقل من أجل أن يفتح فيها أكثر من ثغرة. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[2]، قال ذلك لكلّ إنسان يحمل مسؤوليّة فكر يريد أن يُقنع به إنساناً، أو يحمل مسؤوليّة عاطفة يريد أن يفتح عليها قلب إنسان، قال: أيُّها الإنسان المسؤول، إنّ المسؤوليّة تعني وعي إنسانيّة الآخر والصّبر عليه، فإن كنت مسؤولاً لا تصبر، ابتعد عن المسؤولية، لأنَّك سوف تثقل النّاس فيما تعتبره مسؤوليّتك، وإن لم تعِ أمور النّاس، ولم تفهم حركيّة عقولهم وقلوبهم وأوضاعهم الحياتية، فكيف يمكنك أن تخاطبهم؟ فتِّش عن مفتاح الشخصيّة، وهو مفتاحٌ لا تصنعه عند صانع المفاتيح، ولكن تصنعه وتأخذه من خلال خالق المفاتيح: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}[3].
ومن مفاتيح الغيب تنطلق مفاتيح الرّسالة، ومن مفاتيح الرّسالة تنطلق مفاتيح الوعي وتنفتح على الحياة كلّها. إنّ صفات الإنسان هي رسالته، ولذلك، إذا أردت أن تتحدّث عن صاحب أيّ فكرة، لا بُدَّ من أن تتحدّث عن أخلاقيته في حركة الفكرة، لأنَّ ذلك هو الرابط الأساسي له بالنّاس. أمّا في مجال العلاقة بالإنسان الذي يتحلَّى بالجمال، ويتمتع بقوّة جسدية، فذلك ينحصر في المجال الذاتي لشخصيته. أمّا علاقة الإنسان بالإنسان، فهي علاقة حركة الفكر الذي يحتاجه الإنسان من إنسان آخر.
الأسوة والقدوة
وهذا ما يحدّثنا اللّه عنه في صفات رسوله(ص)، فإنَّه يقول لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[4]، فتقولون: هذه صفات رسول اللّه، فأين نحن من رسول اللّه؟ إنَّ اللّه يقول لكم: إنَّ رسول اللّه انطلق في سيرته من خلال رسالته، ورسالته بين أيديكم، فإذا لم تستطيعوا أن تقتربوا من مستوى العظمة في وعيه لرسالته، ولم تستطيعوا أن تبلغوا القمّة، فحاولوا أن تقتربوا من القمّة ولو قليلاً. والقدوة في المسألة الإنسانيّة هي إيحاءٌ لك بأنّك تستطيع أن تقترب من القمّة إذا لم تستطع أن تصل إليها. وهكذا، لن يكون الرّسول(ص) مجرّد رسول في التّاريخ، ولكنَّه ـ وذلك سرُّ عظمته ـ كان رسالة في رسوليّته، وكانت رسوليّته هي الامتداد لشخصيّته، حتّى إنَّنا نشعر بأنَّ حضوره فينا ونحن نصلّي عليه، ونستحضر سيرته، وندرس سنّته، ونقرأ القرآن الذي بلَّغه، نشعر بأنَّ حضوره فينا كأفضل الحضور، وأعظم من حضور كثيرٍ من النّاس الّذين يحسبون أنفسهم حاضرين، ولكنَّهم غائبون عن الأمّة. قد يكونون حاضرين في السّاحة بأجسادهم، ولكنَّهم غائبون عن عقول الأمّة وقلوبها وإحساسها. وقضيّة الحضور والغياب هي في مدى وعي النّاس الّذين تعيش في داخلهم، لا من خلال الحجم الّذي تتّخذه لنفسك في سلطانك.
لذلك، مَنْ مِنَّا ـ وكلّ واحد منّا يحمل مسؤوليّة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة؛ مسؤوليّته العائلية، التربوية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، وأيّ شيء فيما يتعامل معه النّاس من مسؤوليات ـ يعيش هذه الروح في الكلمة اللّيّنة، والقلب اللّيّن؛ الروح التي يشقّ عليها تعب الّذين يعيشون في داخل مسؤوليّتك، ويعيش الحرص على حياة النّاس الذين يتحرّكون من خلال مسؤوليته؟!
لن نكون في خطّ رسول اللّه إذا لم يتحوَّل كلّ واحد منَّا إلى رسول اللّه، ولو بنسبة عشرة في المائة، أو من خلال القدوة. وعلى الإنسان، في حال اعترضته مشاكل نفسية وبيئية وما إلى ذلك، أن يخترق كلّ الحواجز. والمهمّ في كلّ ذلك، أن نمتلك الإرادة.
قصتنا في كثيرٍ من الحالات، هي هذا الفاصل بين الفكرة والإرادة، بين الرّغبة والحركة، فالرّغبات تبقى أحلاماً، وبدلاً من أن نُنزل هذه الأحلام إلى الواقع، نحاول أن ننطلق بها إلى الخيال، والفكرة تبقى في عقولنا مجرّد معلومات، بينما القيمة الكامنة في المعلومات، هي عندما تتحوّل إلى واقع، وإلا كانت وهماً. كثيرٌ من الفلاسفة حشروا أنفسهم، وتحوّلت فلسفاتهم إلى هواء، وأصبحت مجرّد شيء يُتعب عقلك ولا يغذّي الحياة، وجاء النّاس الّذين يفكّرون في الإنسان في رسالتهم، واستطاعوا أن ينطلقوا بالإنسان إلى مجالات واسعة.
إذاً، قيمة الفكرة أن تتحوّل إلى واقع. ونحن نعرف، حتّى في قرآننا وفي سنّتنا، أنَّه لا قيمة للإيمان إذا لم يكن مقترناً بالعمل الصّالح، لأنَّ العمل الصّالح هو حركية الإيمان في واقعك، كما أنَّ الإيمان هو حركيّة الصّلاح في عقلك. وعندما تكون صالحاً في عقلك من خلال إيمانك، وتكون صالحاً في عملك من خلال حركة إيمانك، عند ذلك يمكن أن تعطي الحياة صلاحاً، وهذا هو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[5]؛ هل الخلق ابتسامة؟ هل الخلق مجرّد مصافحة حنون؟ هل هو مجرّد مجاملات؟ هل الخلق حالة عناق أو احتضان؟ الخلق هو أنت في كلّ حركتك في الحياة، فالأخلاق تختصر كلّ حياتك، فعلاقتك بنفسك هي خُلُق، علاقتك باللّه، علاقتك بعيالك، علاقتك بالنّاس الّذين تعمل معهم ويعملون معك، علاقتك بالحكم، بالحاكم، بالقضايا الكبرى. وبعبارة أخرى، الأخلاق ليست شيئاً على هامش حياتنا، إنَّما هي كلّ حياتنا، هي أسلوبنا في الحياة، أسلوبنا في التعامل، أسلوبنا في الكلام، أسلوبنا في اتخاذ المواقف، أسلوبنا في تحديد المواقع، أسلوبنا في مواجهة التحدّيات. ولذلك، رأينا أنَّ رسول اللّه(ص) اختصر الإسلام كلّه بكلمة واحدة: "إنَّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق"[6].
الرسالات كلُّها هي حركةٌ في واقع الإنسان، من أجل أن تتمِّم له أخلاقه. ولكلّ مرحلة أخلاقها، وتأتي المرحلة الثانية لتكمل ما نقص ممّا جدّ واستجدَّ من قضايا الحياة ومشاكلها، حتى كان ختام الأخلاق الرسالية هو ختام الرسالة في محمَّد(ص)، الذي جاء ليتمِّم للإنسان أخلاقه ويكملها، وانطلق بالإسلام لا ليكون ديناً في مقابل الأديان، ولكنَّه دين يحتضن كلّ الأديان، مصدّقاً لما بين يديه، يؤمن بالرّسل كلّهم، وينطلق ليأخذ من كلّ رسالة ما أراد اللّه له أن يأخذه ممّا يبقى للحياة، لأنَّ هناك شيئاً في الرّسالات قد يكون مرحليّاً، ولذلك، جاء عيسى(ع) ليحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم، وجاء موسى قبله ليحرّم عليهم بعض ما أحلّ لهم. والقضيّة هي أنَّ قيمة الإسلام هي هذه، فالإسلام ليس ديناً في مواجهة اليهوديّة، كما يواجه الفكر الخصم فكراً خصماً آخر، وليس في مواجهة النصرانيّة، ولكنَّه يحتضن ما يبقى من النصرانيّة، وما يبقى من اليهوديّة، وما يبقى من صحف إبراهيم، وما يبقى من كلّ النبوَّات، صغيراً أو كبيراً، ليقول للإنسان كلّه: أيُّها الإنسان، لقد كان هناك تاريخ للرسالات، وأنا اختصرت لك كلّ هذا التاريخ، آمن بالرسل كلّهم، ولتكن حياتك في خطّ الرسل كلّهم، فأنا خاتمهم وأنا معهم أسير.
خصوصيّة الإسلام
ولذلك، فإنَّ مقدّسات اليهوديّة في رموزها هي مقدّساتنا، وكذلك فيما يتعلّق برموز النصرانيّة ومقدّساتها. قد ينطلق يهودي أو نصراني ليسبّ مقدّساتنا، ولكنَّنا لا نستطيع أن نقوم بردّ فعل لنسبّ مقدّسات هذا أو ذاك، لأنَّ مقدّساتهم مقدّساتنا، ولأنَّ موسى كما عيسى، هما من أنبيائنا، ولأنَّ مريم العذراء(ع) هي الإنسانة الّتي كرّمها اللّه وطهَّرها وفضَّلها على نساء العالمين. لذلك، ماذا نقول؟ إنَّنا ندعو لهم بالهداية، فهذا هو ردّ فعلنا، وهكذا نتعلّم من هذه الشمولية في حركة الإسلام، الذي يمثّل إسلام القلب والعقل والفكر والوجه للّه ـ سبحانه وتعالى ـ أن ننطلق لنكون المنفتحين على الحياة كلّها، وذلك من خلال انفتاحنا على الرسول والرسالة.
فنحن نقرأ القرآن وهو يحدّثنا عن كلّ ما أثير حول الرّسول(ص)، من خلال ما قال عنه المشركون، بأنَّه ساحر، وشاعر، وكاهن، وكاذب، كما قالوا عن القرآن بأنَّه: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا}[7]، وقالوا عنه: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}[8]. لقد حدّثنا القرآن عن كلّ ذلك، وبلّغ الرسول(ص) هذه الاتهامات للنّاس، قائلاً للذين لم يعيشوا تجربة مكة، ومن خلال آيات اللّه: هذا نبيّكم، لقد قيل عنه إنَّه مجنون، وقيل عنه إنَّه كاذب وساحر وكاهن، وقيل عن قرآنكم إنَّ هناك بشراً علّمه للنبي! لم يخف أن يضلّ النّاس بالحديث عن نقاط الضعف التي أثاروها زوراً وبهتاناً.
ونستوحي من خلال ذلك، أنَّ الإنسان الذي يملك الحقّ، لا يخاف من كلّ الكلمات التي تصوّر حقّه باطلاً، فإذا كنت إنساناً تملك قوّة الحقّ في حياتك، فليقل النّاس ما يقولون، وعليك أن لا تخاف، لأنَّ الحقّ أقوى من كلّ ما يقولون إذا كانوا يقولون الباطل، واللّه تكفّل بأن يزهق الباطل، أن يزهقه من عقول النّاس إذا لم يُزهق من حياتهم.
كما أنَّنا نتعلّم من ذلك، أن لا نتعقّد عندما نكون مسؤولين، أن لا نتعقّد من الاتهامات التي توجّه إلينا... كن مسؤولاً في موقع ديني، وكن مسؤولاً في موقع اجتماعي، وكن مسؤولاً في موقع رسالي، إنَّ معنى مسؤوليّتك هي أنَّك تقف موقف التحدّي لفكر الآخرين ولمصالح الآخرين أو لأوضاع الآخرين، ولذلك، من الطبيعي أن يحاربك الآخرون منذ البداية بما يكذبون ويفترون، وعليك أن تعتبر أنَّ ذلك أمر طبيعي في ساحة الصراع.
في مواجهة الشّتائم
والإنسان الذي يخاف أن يشتمه النّاس، أو أن يتّهموه، أو أن يرجموه، عليه أن ينسحب من المسؤولية، لأنَّ المسؤولية تحتاج إلى إنسانٍ يملك صلابة العقل الّذي لا تهزّه التحدّيات الفكريّة، وصلابة القلب الّذي لا تُسقطه التحدّيات الانفعاليّة، وصلابة الموقف الّذي لا تهزّه التحدّيات الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة. عندما تريد أن تكون مسؤولاً، حاول أن تصلّب عضلاتك، لا عضلات يديك، بل عضلات عقلك، لأنَّ للعقل عضلات، وحاول أن تصلّب عضلات قلبك، وعضلات حركتك، عند ذلك، تكون كما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) لولده محمَّد وهو يقف في المعركة: "تزول الجبال ولا تزل... أعرِ اللّه جمجمتك، تدْ في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم"[9].
وكانت هناك جبال من الشّتائم والاتهامات لرسول اللّه، وزالت كلّ تلك الجبال، وبقي رسول اللّه وبقيت رسالته. لقد قالوا عنه إنَّه مجنون، فتعلّموا أساليبه عندما تواجهكم الأساليب الظّالمة غير الواعية، لقد قال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}[10]. تصوّر إذا كنت شخصاً محترماً في عائلتك، في موقعك الاقتصاديّ، في موقعك السياسيّ، ويأتي من يتّهمك بالجنون، فكيف تردّ؟ ونسوق مثالاً على ذلك، ما كان يتعرّض له رسول اللّه(ص) من أقربائه، كأبي لهب، الذي كان يتتبّعه ويقول: "لا تصدّقوا ابن أخي، فإنَّه مجنون، ومن أعرف بالإنسان من عمّه"، كيف تكون أعصابك؟ كيف تكون ردود فعلك؟ ألا تنطلق لتستبدل شتيمة وكلمة جارحة بكلمة جارحة؟! وكلّنا نعتبر أنَّ لنا العذر: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[11]، ولكنَّ رسول اللّه لم يكن شخصاً يستغرق في ذاته، بعد أن قال اللّه له لا تنفعل ولا تحزن، فالقضية ليست قضيتك، {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[12]، ولذلك، يقول له: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[13]، فالقضيّة هي قضيّة رسالة، فلا بُدَّ من أن تحطِّم الحواجز. وتحطيم الحواجز الإنسانيّة أخطر من تحطيم الحواجز الحديديّة وما إلى ذلك.
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، أراد أن يعلّمهم المنهج في وعي القضايا التي يخطئون فيها، لقد انطلق هذا الأسلوب القرآني ليتعامل معهم كما يتعامل مع إنسان مخطئ يريد له أن يكتشف خطأه، لا أن يقنعه بخطئه، أن يقول له إنّي أدلّك على المنهج الذي إذا أخذت به، فإنَّك تستطيع أن تكتشف خطأك بنفسك. ما هو المنهج؟ إنَّ المشكلة ـ هكذا أراد اللّه لرسوله أن يقول لهم ـ هي أنَّكم مجتمعون، فلا يملك أحدٌ منكم عقله بشكل مستقلّ، لأنَّ الإنسان عندما يكون مع النّاس، فإنَّ عقله يكون عقل النّاس... راقبوا ذلك في أوضاعكم، قد تجلسون في محفل والنّاس يصفّقون، فإنَّكم ترون أنفسكم مشدودين إلى أن تصفّقوا، دون أن تعرفوا لماذا يصفّقون، وهكذا عندما تنطلق تظاهرات، ويهتف فيها إنسان بسقوط إنسان، أو بحياة إنسان، فإنَّك ترى نفسك تهتف دون أن تعرف لماذا وما هي المناسبة. هذا ما عبّر عنه بعض علماء النفس "بالعقل الجمعي". وبعبارة أخرى، يفقد الإنسان في هذه الحالة عقله الذاتي، وبالتالي صفاء التّفكير وصفاء المنطق.
لذلك، كأنَّ النبيّ(ص) يقول لهم من خلال هذه الآية: أنا لا أقول لكم إنّي مجنون أو لست مجنوناً، لا أدافع عن نفسي بشكل مباشر، لكن أنصحكم وأطلب منكم شيئاً واحداً، وهو أن تقوموا للّه، واجهوا القضية من موقع إرادة وعي الحقيقة، لا من موقع العصبيّة؛ مثنى، اثنين اثنين تتحدّثان فيما بينكما؛ فرادى، واحداً واحداً يفكّر. فكِّروا مثنى وفرادى، فكِّروا في كلماتي، فكِّروا في طريقتي في الحياة، فكِّروا في كلّ أوضاعي، فإنَّكم إذا فكَّرتم بهدوء، فستعرفون أنَّ صاحبكم ليس مجنوناً، ولكنَّه يحدّثكم عن شيءٍ على جانب كبير من الأهميّة يخصُّ مصيركم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[14].
وهذا المنهج هو المنهج الّذي يضعه الإسلام أمام الإنسان ليقول له: عندما تريد أن تركّز فكرةً لتعيش صفاءها ونقاءها وعمقها، اجلس مع نفسك وفكِّر، اجلس مع إنسان آخر وفكِّر معه، وإيّاك أن تتبنّى أفكاراً أو أن تضع أفكارك وأنت بين النّاس، لأنَّ النّاس سيفرضون عليك بهذا التيّار الضّاغط، فكراً لم تختره، وفكراً لو حرّكته بهدوء لما اقتنعت به، تماماً كما هو التيّار عندما تقف في مواجهته، فإنَّك لا بُدَّ من أن تسير معه. أمّا عندما يكون البحر هادئاً، فإنَّك تستطيع أن تسبح بإرادتك، وتعرف كيف تحرّك يديك بطريقتك الخاصّة.
وهكذا، كان أسلوبه يتنوّع، من خلال أنَّه يريد للنّاس أن يقتنعوا على أساس وعيهم للقضية. ولذلك، لم يكن يستعجل اللّه العذاب، بل كان يقول: "اللّهمّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"[15]. هل نطيق مثل ذلك؟ هل يطيق المسؤولون مثل ذلك؟ أيّاً كان المسؤولون؟! إنَّ المسلمين لا بُدَّ من أن يكونوا كذلك، لأنَّ هذه ليست صفة من خصائص الرّسالة في شخصيّة الرسول، ولكنَّها صفةٌ من خصائص الرّسول في معنى الرسالة، ويمكن للنّاس أن يأخذوا بها. كان الرّسول يخاطب الآخرين، ولو لم يكونوا قادرين على ذلك، لما خاطبهم بذلك.
* محاضرة
[1] (التوبة: 128).
[2] (آل عمران: 159).
[3] (الأنعام: 59).
[4] (الأحزاب: 21).
[5] (القلم: 4).
[6]بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 16، ص 210.
[7] (الفرقان: 5).
[8] (النحل: 103).
[9] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 44.
[10] (سبأ: 46).
[11] (البقرة: 194).
[12] (الأنعام: 33).
[13] (لقمان: 17).
[14] (سبأ: 46).
[15]بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 95، ص 168.