شجون الزهراء
26-09-2014, 05:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
شروط الدخول بالولاية الكاملة لأهل البيت(عليهم السلام)
«وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَكُونُ لَنَا وَلِيّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَقَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ يَحْزُنْكَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يَسُرَّكَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللهِ فَإِنْ كُنْتَ سَالِكاً سَبِيلَهُ، زَاهِداً فِي تَزْهِيدِهِ، رَاغِباً فِي تَرْغِيبِهِ، خَائِفاً مِنْ تَخْوِيفِهِ فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَإِنَّهُ لا يَضُرُّكَ مَا قِيلَ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُبَايِناً لِلْقُرْآنِ فَمَاذَا الَّذِي يَغُرُّكَ مِنْ نَفْسِكَ»
أنّ الولاية الكاملة لأهل البيت (عليهم السلام) منوطة بأن ينتهج المرء سبيلاً لا يعتقد فيه بالأصالة لأيّ قيمة ما عدا رضا الله عزّ وجلّ ورضا أوليائه. فلا يكون إرضاؤه لأبويه، أو رفاقه، أو زوجه أو أولاده، ...الخ بما ينافي رضا الله تعالى أوّلاً، وأن يكون سعيه لإرضائهم راجعاً لكون الله يطلب منه ذلك ثانياً؛ أي إنّه يحترم أبويه، ويعامل أولاده برأفة لأنّ الله أمره بذلك، وأن لا يكون لحكم الناس أيّ أثر على فرحه أو حزنه.
يقول (سلام الله عليه): اعرض نفسك على القرآن الكريم، فإن كنت سالكاً سبيله، وكانت حالاتك مطابقة لأوامر الله تعالى؛ فإن قال لك: خفْ، فأنت تخاف، وإذا قال لك: تقدّم، فانّك تتقدّم، وعندما يقول لك: قف، فأنت تقف، وحينما يقول لك: أَحِبّ، فأنت تُحبّ، وإن قال لك: ابغض، فانّك تبغض، وبشكل عامّ إذا لم تكن لديك حاجة أصيلة، فاثبت على وضعك هذا وأبشر، واعلم أنّه لن يضرّك كلّ ما قاله ويقوله الناس فيك من القول السيّئ. أمّا إذا كنت تقف في الجهة المعاكسة للقرآن تماماً ولا يوافق سلوكُك تعاليمَ القرآن، وكنت متعلّقاً بلذائذ الدنيا عندما يقول لك القرآن: «كن راغباً عنها»، وينتابك التقاعس والكسل حينما يقول لك: تسابقوا من أجل نعم الجنّة: «وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»1، فكيف – والحال هذه – تخدع نفسك وترضى عنها؟! فإذا كنت تستاء إذا عابك الناس فاعلم أنّك مملوء بالعيوب من قمّة رأسك إلى أخمص قدميك. فلماذا كلّ هذا الإعجاب بالنفس والرضا عنها؟!
حذار من التعب أو اليأس في هذا النزال
هذا المقطع من كلام الإمام (عليه السلام) ينطوي على مبحث رفيع المستوى وصعب المنال للغاية. ومن الواضح أنّه (عليه السلام) قد أسدى هذا النصح لجابر إذ وجد فيه الاستعداد لتقبّله؛ أمّا أمثالنا فقد نصاب باليأس عندما نسمع مثل هذا الكلام ونقول: بما أنّنا لا نستطيع أن نكون كذلك فلن نُعَدّ من أصحاب ولاية أهل البيت (عليهم السلام). ولعلّ هذا الشيء هو الذي جعل الإمام (عليه السلام) يُتبِع حديثه هذا ببيان عامّ تربويّ مشبّهاً المؤمن في هذه الدنيا بالمصارع الذي يتصارع مع نفسه ويحاول التغلّب عليها، فتارةً تعلو همّته وتقوى إرادته فيوفَّق بعون من الله عزّ وجلّ في الغلبة على النفس وصرعها، وتارةً اُخرى تصرعه النفس وتطرحه أرضاً. فأبطال المصارعة لم يصبحوا أبطالاً بين ليلة وضحاها، بل إنّهم قد عكفوا على التمرين لفترات طويلة وصُرِعوا وصَرَعوا مراراً حتّى بلغوا هذه المرحلة، وإنّه ليس أمام كلّ مَن يرغب في الوصول إلى هذا المستوى سوى هذا الدرب. وكذا المؤمن فهو في حالة مصارعة مع نفسه؛ فقد تتغلّب عليه النفس أحياناً وتصرعه أرضاً، لكن لا ينبغي أن ييأس ويقول: «إنّني لن أستطيع التغلّب على نفسي. فأنا غارق لا محالة، ولا فرق إن غرقت بين شبر من الماء ومائة شبر»! لكن الأمر ليس بهذه الصورة، فكلّما قلّت المسافة التي تفصلنا عن سطح الماء كان أفضل، وحتّى المقدار القليل يكون ذا أهمّية أيضاً. فإن صُرعت أرضاً مرّةً فانهض وواصل النزال مع نفسك بهمّة أصلب وعزيمة أشدّ رسوخاً وتوكّل على الله تعالى، وستنتصر في المرّة الثانية. فالدنيا حلبة مصارعة، وعلى كلّ امرئ أن يصارع فيها نفسه باستمرار.
الحبّ يذلّل المصاعب
يشير الإمام (سلام الله عليه) في هذا المقطع إلى التفاتات تربويّة قيّمة، فيقول: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَعْنِيٌّ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِيَغْلِبَهَا عَلَى هَوَاهَا»؛ فديدن المؤمن واهتماماته هي في جهاد نفسه «فَمَرَّةً يُقِيمُ أَوَدَهَا وَيُخَالِفُ هَوَاهَا فِي مَحَبَّةِ الله»؛ فهو يتمكّن أحياناً من تقويم اعوجاجاتها وانحرافاتها ويخالف هواها في سبيل محبّة الله عزّ وجلّ. وهذه العبارة تحتوي على ملاحظة جديرة بالاهتمام؛ فلو أنّه (عليه السلام) لم يقل: «فِي مَحَبَّةِ الله» لكانت العبارة تامّة، فلماذا أضاف هذا الجار والمجرور؟ الجواب: هذا الجار والمجرور هو لتبيين سبيل شيّق للتغلّب على الهوى بحيث يتمكّن المرء بسلوكه من التغلّب على هواه من جانب والشعور باللذّة من جانب آخر. فإن عثر الإنسان على هذا السبيل وعرف قدره فسيجد أنّه سبيل قيّم إلى أبعد الحدود.
نقرأ في المناجاة «إلهي لم يكن لي حولٌ فأنتقلَ به عن معصيتك إلاّ في وقت أيقظتني لمحبّتك وكما أردتَ أن أكونَ كنتُ»2، فمخالفة النفس تكون أيسر إذا كانت محفوفة بجوّ من المحبّة. فالطفل المتعلّق كثيراً بأبويه عندما يزداد عبثه وإيذاؤه للآخرين ولا يصغي لتوجيهات أبويه تقول له اُمّه: «إذا كنت تحبّني فلا تفعل ذلك». فإن كان النهج المتّبَع في تربيته صحيحاً وكانت عواطفه مشبعة فسيشكّل هذا الكلام أفضل رادع يردعه عن ممارسة الأعمال القبيحة. فإن كان قلب الإنسان عامراً حقّاً بمحبّة الله تعالى، وكان يدرك أنّ الله أحبّ من أيّ محبوب، وأنّ كلّ سبب للمحبّة هو في الواقع شعاع من الفيوضات اللامتناهية له عزّ وجلّ، فإنّه سيترك القبيح بكلّ سهولة ويسر إذا قال له ربّه: «إذا كنت تحبّني فلا تفعل ذلك». لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل يقول الله مثل هذا القول؟ والجواب: نعم، فعندما يقول الباري جلّت آلاؤه في كتابه العزيز: «إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»3، أو يقول: «اللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ»4 فهو في الحقيقة يستخدم النهج التربويّ ذاته؛ فكأنّه يقول: إذا كنت تحبّني فلا تتكبّر، و: إذا كنت تحبّني فكن من الصابرين. فهذه الطريقة هي من أفضل السبل التي يمكن أن يسلكها المرء لترك المعصية. ومن هنا فإنّ ذكر الإمام (عليه السلام) لهذه العبارة: «فِي مَحَبَّةِ الله» يتضمّن – في حقيقة الأمر – إشارة لهذه الطريقة المثلى.
الله ناصر المؤمن
«وَمَرَّةً تَصْرَعُهُ نَفْسُهُ فَيَتَّبِعُ هَوَاهَا»: أي يتّبع ما تهوى وتحبّ. ففي نزال المصارعة هذا تتغلّب النفس على الإنسان حيناً فتصرعه، ويغلبها هو طوراً فيطرحها أرضاً. فعندما يذوق الشخص المتفلّت من الالتزامات الدينيّة طعم المعصية مرّة تراه يلهث وراءها بولع وشغف في كلّ مرّة. أمّا المؤمن فهو ليس بهذه الصورة، والمؤمن المفتَرَض هنا هو ذلك الإنسان الذي يكون في حالة صراع مع نفسه وهو يحاول صرعها على الدوام لكنّه يخفق من باب الصدفة في هذا النزال فتصرعه نفسه. فالله في هذه الحالة يمدّ له يد العون ولا يدعه يُسحَق تحت سطوة نفسه تقديراً لما اتّصف به من الإيمان والتقوى.
«فَيَنْعَشُهُ اللهُ فَيَنْتَعِشُ، وَيُقِيلُ اللهُ عَثْرَتَهُ فَيَتَذَكَّرُ، وَيَفْزَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ»؛ فشخص كهذا يساعده الله على الوقوف على قدميه مرّة اخرى ليستمرّ في النزال مع النفس، ويغضّ جلّ وعلا طرفه عن عثراته، وهو (هذا الإنسان) بدوره يتذكّر ويتنبّه بأنّه قد اقترف خطأ عظيماً. وفي إثر الخوف الناشئ من هذه الحالة يزيد الله في بصيرته ومعرفته، فتراه لذلك يستأنف النزال بقوّة أشدّ وعزيمة أكبر.
الروعة في أنّه يبدّل السيّئات إلى حسنات
الالتفاتة التربويّة الاُخرى التي ينطوي عليها هذا الكلام هي أنّ المرء في هذا النزال ليس أنّه لا ينبغي أن يتسلّل اليأس إلى قلبه إذا سقط أرضاً فحسب، بل لابدّ أن يحدوه الأمل بتنامي قوّته أيضاً. فعليه أن يتوجّه إلى الله بعد سقوطه ويلجأ إليه بالتوبة والإنابة، قائلاً له: «إلهي! أخشى أن اُصرع إنْ أنا اتّكلت على قدرتي. فكن أنت معيني وحافظي». هذا الالتفات إلى الباري عزّ وجلّ والخوف من سخطه يبعث على تقوية روح الإنسان وتعزيز إرادته الأمر الذي يضفي كمالاً إلى كماله. ولعلّ المراد من قوله تعالى: «يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»5 هو أنّ الإنسان إذا تاب بعد ارتكاب الخطيئة، فإنّ نفس هذه الحالة المتمثّلة بالإنابة واللجوء إلى الله هي ضرب من ضروب العبادة وهي حالة لم تكن موجودة لديه قبل اقتراف الذنب. فمضافاً إلى أنّ حالة التضرّع والتوسّل هذه تساعد على محو عمله السابق، فإنّها تضفي عليه كمالاً مضاعفاً، أي إنّها تُزوّده بقدرة أكبر على اكتساب النورانيّة.
العلاقة بين الخوف والمعرفة
ثمّ يستدلّ الإمام (سلام الله عليه) بآية من الذكر الحكيم فيقول: وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ»6. فالمؤمن الذي تبدُر منه زلّة في حين من الأحيان لا يُعدّ من أتباع الشيطان وليس ثمّة شيطان مُقيَّض له بحيث يكون قرينه ورفيقه. فما يُستفاد من الآيات القرآنيّة هو أنّ العلاقة بين الشيطان والناس لا تكون بشكل واحد؛ فبعض الناس يتجسّد الشيطان فيهم بالكامل، وبعضٌ يكونون قرناء الشيطان أي يصبح الشيطان رفيقاً دائميّاً لهم، أمّا البعض الآخر فلا يوجد شيطان قرين أو مُوَكَّل بهم بشكل مستمرّ، بل إنّ الشياطين التي تطوف وتدور على نحو متواصل تميل عليهم إذا رأت ضالّتها فيهم؛ وهو قوله تعالى: «إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» وهذا الميل من قبل الشيطان على المرء يمثّل تلك الزلّة التي تنتاب الإنسان في حين من الأحيان. وبمجرّد أن يرتكب اُناس كهؤلاء الخطيئة فانّهم ينتبهون إلى قبيح فعلهم، فإذا التفتوا إلى العقاب الذي ينتظرهم جرّاء هذا الفعل فانّ بصيرتهم تتفتّح: «فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ».
يقول عزّ من قائل: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»7. إذن هناك تناسب بين الخشية والعلم؛ فكلّما زاد علم المرء بالله، وبصفاته، وبحكمته، وبأهدافه، ازداد الخوف في قلبه؛ أي زاد شعوره بالحقارة والضعف في مقابل بارئه والخوف من سقوطه من عين الله عزّ وجلّ. فإذا تنامت هذه الحالة في نفسه كثُر لجوؤه إلى الله تعالى وتضاعف لذلك لطف الله به، فتراه يطوي مراتب الكمال الواحدة تلو الاُخرى حتّى يصل إلى أعلاها.
إذن لابدّ أن يكون خوفكم جدّياً؛ فكثيرون هم الذين يدّعون الخوف من الله ومن عذابه بَيْد أنّ خوفهم لا يتّسم بالجدّية. فالناس في العادة يخشون محن الحياة الدنيا وعذابها وهم لهذا السبب يبذلون قُصارى جهودهم في سبيل الخلاص منها. فإذا كانت خشيتنا من عذاب الله عزّ وجلّ خشية حقيقيّة فلابدّ أن يكون حذرنا أشدّ. فإذا كان خوف المرء خوفاً جدّياً فهو حتماً سيزيد في بصيرته: «فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ».
الإنسان المؤمن هو باستمرار في حالة صراع مع نفسه وإنّ الله ناصره في هذا النزال وهو لا يتخلّى عنه بتاتاً. فإن زلّ وسقط أرضاً، فإنّ الله لمعرفته بأنّه من أهل الإيمان وأنّه قد عزم على عدم اقتراف المعصية سيمدّ إليه يده ويُنهِضه ليستأنف النزال من جديد. ففي كلّ مرّة يُصرع فيها أرضاً تزداد قوّته وتتضاعف منعته أمام خصمه حتّى يبلغ حدّاً يستطيع معه الدخول في نطاق ولاية أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين). فبعد أن أشار إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى تلك الشروط الصعبة، استدرك فذكر هذه الملاحظات كي لا ييأس الآخرون من العثور على سبيل الوصول إلى الكمال المتمثّل بالولاية. فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن ينتابه اليأس نتيجة مصارعة النفس أو السقوط أرضاً، بل ينبغي أن تكون عزيمته أكثر رسوخاً، وخوفه أشدّ كي يزيد الله جلّ شأنه في بصيرته.
زاد الله تعالى في بصيرتنا أجمعين.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
------------------------------------
1. سورة المطفّفين، الآية 26.
2. إقبال الأعمال، ص686.
3. سورة لقمان، الآية 18؛ وانظر سورة الحديد، الآية 23.
4. سورة آل عمران، الآية 146.
5. سورة الفرقان، الآية 70.
6. سورة الأعراف، الآية 201.
7. سورة فاطر، الآية 28.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
شروط الدخول بالولاية الكاملة لأهل البيت(عليهم السلام)
«وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَكُونُ لَنَا وَلِيّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَقَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ يَحْزُنْكَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يَسُرَّكَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللهِ فَإِنْ كُنْتَ سَالِكاً سَبِيلَهُ، زَاهِداً فِي تَزْهِيدِهِ، رَاغِباً فِي تَرْغِيبِهِ، خَائِفاً مِنْ تَخْوِيفِهِ فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَإِنَّهُ لا يَضُرُّكَ مَا قِيلَ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُبَايِناً لِلْقُرْآنِ فَمَاذَا الَّذِي يَغُرُّكَ مِنْ نَفْسِكَ»
أنّ الولاية الكاملة لأهل البيت (عليهم السلام) منوطة بأن ينتهج المرء سبيلاً لا يعتقد فيه بالأصالة لأيّ قيمة ما عدا رضا الله عزّ وجلّ ورضا أوليائه. فلا يكون إرضاؤه لأبويه، أو رفاقه، أو زوجه أو أولاده، ...الخ بما ينافي رضا الله تعالى أوّلاً، وأن يكون سعيه لإرضائهم راجعاً لكون الله يطلب منه ذلك ثانياً؛ أي إنّه يحترم أبويه، ويعامل أولاده برأفة لأنّ الله أمره بذلك، وأن لا يكون لحكم الناس أيّ أثر على فرحه أو حزنه.
يقول (سلام الله عليه): اعرض نفسك على القرآن الكريم، فإن كنت سالكاً سبيله، وكانت حالاتك مطابقة لأوامر الله تعالى؛ فإن قال لك: خفْ، فأنت تخاف، وإذا قال لك: تقدّم، فانّك تتقدّم، وعندما يقول لك: قف، فأنت تقف، وحينما يقول لك: أَحِبّ، فأنت تُحبّ، وإن قال لك: ابغض، فانّك تبغض، وبشكل عامّ إذا لم تكن لديك حاجة أصيلة، فاثبت على وضعك هذا وأبشر، واعلم أنّه لن يضرّك كلّ ما قاله ويقوله الناس فيك من القول السيّئ. أمّا إذا كنت تقف في الجهة المعاكسة للقرآن تماماً ولا يوافق سلوكُك تعاليمَ القرآن، وكنت متعلّقاً بلذائذ الدنيا عندما يقول لك القرآن: «كن راغباً عنها»، وينتابك التقاعس والكسل حينما يقول لك: تسابقوا من أجل نعم الجنّة: «وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»1، فكيف – والحال هذه – تخدع نفسك وترضى عنها؟! فإذا كنت تستاء إذا عابك الناس فاعلم أنّك مملوء بالعيوب من قمّة رأسك إلى أخمص قدميك. فلماذا كلّ هذا الإعجاب بالنفس والرضا عنها؟!
حذار من التعب أو اليأس في هذا النزال
هذا المقطع من كلام الإمام (عليه السلام) ينطوي على مبحث رفيع المستوى وصعب المنال للغاية. ومن الواضح أنّه (عليه السلام) قد أسدى هذا النصح لجابر إذ وجد فيه الاستعداد لتقبّله؛ أمّا أمثالنا فقد نصاب باليأس عندما نسمع مثل هذا الكلام ونقول: بما أنّنا لا نستطيع أن نكون كذلك فلن نُعَدّ من أصحاب ولاية أهل البيت (عليهم السلام). ولعلّ هذا الشيء هو الذي جعل الإمام (عليه السلام) يُتبِع حديثه هذا ببيان عامّ تربويّ مشبّهاً المؤمن في هذه الدنيا بالمصارع الذي يتصارع مع نفسه ويحاول التغلّب عليها، فتارةً تعلو همّته وتقوى إرادته فيوفَّق بعون من الله عزّ وجلّ في الغلبة على النفس وصرعها، وتارةً اُخرى تصرعه النفس وتطرحه أرضاً. فأبطال المصارعة لم يصبحوا أبطالاً بين ليلة وضحاها، بل إنّهم قد عكفوا على التمرين لفترات طويلة وصُرِعوا وصَرَعوا مراراً حتّى بلغوا هذه المرحلة، وإنّه ليس أمام كلّ مَن يرغب في الوصول إلى هذا المستوى سوى هذا الدرب. وكذا المؤمن فهو في حالة مصارعة مع نفسه؛ فقد تتغلّب عليه النفس أحياناً وتصرعه أرضاً، لكن لا ينبغي أن ييأس ويقول: «إنّني لن أستطيع التغلّب على نفسي. فأنا غارق لا محالة، ولا فرق إن غرقت بين شبر من الماء ومائة شبر»! لكن الأمر ليس بهذه الصورة، فكلّما قلّت المسافة التي تفصلنا عن سطح الماء كان أفضل، وحتّى المقدار القليل يكون ذا أهمّية أيضاً. فإن صُرعت أرضاً مرّةً فانهض وواصل النزال مع نفسك بهمّة أصلب وعزيمة أشدّ رسوخاً وتوكّل على الله تعالى، وستنتصر في المرّة الثانية. فالدنيا حلبة مصارعة، وعلى كلّ امرئ أن يصارع فيها نفسه باستمرار.
الحبّ يذلّل المصاعب
يشير الإمام (سلام الله عليه) في هذا المقطع إلى التفاتات تربويّة قيّمة، فيقول: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَعْنِيٌّ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِيَغْلِبَهَا عَلَى هَوَاهَا»؛ فديدن المؤمن واهتماماته هي في جهاد نفسه «فَمَرَّةً يُقِيمُ أَوَدَهَا وَيُخَالِفُ هَوَاهَا فِي مَحَبَّةِ الله»؛ فهو يتمكّن أحياناً من تقويم اعوجاجاتها وانحرافاتها ويخالف هواها في سبيل محبّة الله عزّ وجلّ. وهذه العبارة تحتوي على ملاحظة جديرة بالاهتمام؛ فلو أنّه (عليه السلام) لم يقل: «فِي مَحَبَّةِ الله» لكانت العبارة تامّة، فلماذا أضاف هذا الجار والمجرور؟ الجواب: هذا الجار والمجرور هو لتبيين سبيل شيّق للتغلّب على الهوى بحيث يتمكّن المرء بسلوكه من التغلّب على هواه من جانب والشعور باللذّة من جانب آخر. فإن عثر الإنسان على هذا السبيل وعرف قدره فسيجد أنّه سبيل قيّم إلى أبعد الحدود.
نقرأ في المناجاة «إلهي لم يكن لي حولٌ فأنتقلَ به عن معصيتك إلاّ في وقت أيقظتني لمحبّتك وكما أردتَ أن أكونَ كنتُ»2، فمخالفة النفس تكون أيسر إذا كانت محفوفة بجوّ من المحبّة. فالطفل المتعلّق كثيراً بأبويه عندما يزداد عبثه وإيذاؤه للآخرين ولا يصغي لتوجيهات أبويه تقول له اُمّه: «إذا كنت تحبّني فلا تفعل ذلك». فإن كان النهج المتّبَع في تربيته صحيحاً وكانت عواطفه مشبعة فسيشكّل هذا الكلام أفضل رادع يردعه عن ممارسة الأعمال القبيحة. فإن كان قلب الإنسان عامراً حقّاً بمحبّة الله تعالى، وكان يدرك أنّ الله أحبّ من أيّ محبوب، وأنّ كلّ سبب للمحبّة هو في الواقع شعاع من الفيوضات اللامتناهية له عزّ وجلّ، فإنّه سيترك القبيح بكلّ سهولة ويسر إذا قال له ربّه: «إذا كنت تحبّني فلا تفعل ذلك». لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل يقول الله مثل هذا القول؟ والجواب: نعم، فعندما يقول الباري جلّت آلاؤه في كتابه العزيز: «إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»3، أو يقول: «اللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ»4 فهو في الحقيقة يستخدم النهج التربويّ ذاته؛ فكأنّه يقول: إذا كنت تحبّني فلا تتكبّر، و: إذا كنت تحبّني فكن من الصابرين. فهذه الطريقة هي من أفضل السبل التي يمكن أن يسلكها المرء لترك المعصية. ومن هنا فإنّ ذكر الإمام (عليه السلام) لهذه العبارة: «فِي مَحَبَّةِ الله» يتضمّن – في حقيقة الأمر – إشارة لهذه الطريقة المثلى.
الله ناصر المؤمن
«وَمَرَّةً تَصْرَعُهُ نَفْسُهُ فَيَتَّبِعُ هَوَاهَا»: أي يتّبع ما تهوى وتحبّ. ففي نزال المصارعة هذا تتغلّب النفس على الإنسان حيناً فتصرعه، ويغلبها هو طوراً فيطرحها أرضاً. فعندما يذوق الشخص المتفلّت من الالتزامات الدينيّة طعم المعصية مرّة تراه يلهث وراءها بولع وشغف في كلّ مرّة. أمّا المؤمن فهو ليس بهذه الصورة، والمؤمن المفتَرَض هنا هو ذلك الإنسان الذي يكون في حالة صراع مع نفسه وهو يحاول صرعها على الدوام لكنّه يخفق من باب الصدفة في هذا النزال فتصرعه نفسه. فالله في هذه الحالة يمدّ له يد العون ولا يدعه يُسحَق تحت سطوة نفسه تقديراً لما اتّصف به من الإيمان والتقوى.
«فَيَنْعَشُهُ اللهُ فَيَنْتَعِشُ، وَيُقِيلُ اللهُ عَثْرَتَهُ فَيَتَذَكَّرُ، وَيَفْزَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ»؛ فشخص كهذا يساعده الله على الوقوف على قدميه مرّة اخرى ليستمرّ في النزال مع النفس، ويغضّ جلّ وعلا طرفه عن عثراته، وهو (هذا الإنسان) بدوره يتذكّر ويتنبّه بأنّه قد اقترف خطأ عظيماً. وفي إثر الخوف الناشئ من هذه الحالة يزيد الله في بصيرته ومعرفته، فتراه لذلك يستأنف النزال بقوّة أشدّ وعزيمة أكبر.
الروعة في أنّه يبدّل السيّئات إلى حسنات
الالتفاتة التربويّة الاُخرى التي ينطوي عليها هذا الكلام هي أنّ المرء في هذا النزال ليس أنّه لا ينبغي أن يتسلّل اليأس إلى قلبه إذا سقط أرضاً فحسب، بل لابدّ أن يحدوه الأمل بتنامي قوّته أيضاً. فعليه أن يتوجّه إلى الله بعد سقوطه ويلجأ إليه بالتوبة والإنابة، قائلاً له: «إلهي! أخشى أن اُصرع إنْ أنا اتّكلت على قدرتي. فكن أنت معيني وحافظي». هذا الالتفات إلى الباري عزّ وجلّ والخوف من سخطه يبعث على تقوية روح الإنسان وتعزيز إرادته الأمر الذي يضفي كمالاً إلى كماله. ولعلّ المراد من قوله تعالى: «يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»5 هو أنّ الإنسان إذا تاب بعد ارتكاب الخطيئة، فإنّ نفس هذه الحالة المتمثّلة بالإنابة واللجوء إلى الله هي ضرب من ضروب العبادة وهي حالة لم تكن موجودة لديه قبل اقتراف الذنب. فمضافاً إلى أنّ حالة التضرّع والتوسّل هذه تساعد على محو عمله السابق، فإنّها تضفي عليه كمالاً مضاعفاً، أي إنّها تُزوّده بقدرة أكبر على اكتساب النورانيّة.
العلاقة بين الخوف والمعرفة
ثمّ يستدلّ الإمام (سلام الله عليه) بآية من الذكر الحكيم فيقول: وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ»6. فالمؤمن الذي تبدُر منه زلّة في حين من الأحيان لا يُعدّ من أتباع الشيطان وليس ثمّة شيطان مُقيَّض له بحيث يكون قرينه ورفيقه. فما يُستفاد من الآيات القرآنيّة هو أنّ العلاقة بين الشيطان والناس لا تكون بشكل واحد؛ فبعض الناس يتجسّد الشيطان فيهم بالكامل، وبعضٌ يكونون قرناء الشيطان أي يصبح الشيطان رفيقاً دائميّاً لهم، أمّا البعض الآخر فلا يوجد شيطان قرين أو مُوَكَّل بهم بشكل مستمرّ، بل إنّ الشياطين التي تطوف وتدور على نحو متواصل تميل عليهم إذا رأت ضالّتها فيهم؛ وهو قوله تعالى: «إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» وهذا الميل من قبل الشيطان على المرء يمثّل تلك الزلّة التي تنتاب الإنسان في حين من الأحيان. وبمجرّد أن يرتكب اُناس كهؤلاء الخطيئة فانّهم ينتبهون إلى قبيح فعلهم، فإذا التفتوا إلى العقاب الذي ينتظرهم جرّاء هذا الفعل فانّ بصيرتهم تتفتّح: «فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ».
يقول عزّ من قائل: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»7. إذن هناك تناسب بين الخشية والعلم؛ فكلّما زاد علم المرء بالله، وبصفاته، وبحكمته، وبأهدافه، ازداد الخوف في قلبه؛ أي زاد شعوره بالحقارة والضعف في مقابل بارئه والخوف من سقوطه من عين الله عزّ وجلّ. فإذا تنامت هذه الحالة في نفسه كثُر لجوؤه إلى الله تعالى وتضاعف لذلك لطف الله به، فتراه يطوي مراتب الكمال الواحدة تلو الاُخرى حتّى يصل إلى أعلاها.
إذن لابدّ أن يكون خوفكم جدّياً؛ فكثيرون هم الذين يدّعون الخوف من الله ومن عذابه بَيْد أنّ خوفهم لا يتّسم بالجدّية. فالناس في العادة يخشون محن الحياة الدنيا وعذابها وهم لهذا السبب يبذلون قُصارى جهودهم في سبيل الخلاص منها. فإذا كانت خشيتنا من عذاب الله عزّ وجلّ خشية حقيقيّة فلابدّ أن يكون حذرنا أشدّ. فإذا كان خوف المرء خوفاً جدّياً فهو حتماً سيزيد في بصيرته: «فَيَزْدَادُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِيدَ فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ».
الإنسان المؤمن هو باستمرار في حالة صراع مع نفسه وإنّ الله ناصره في هذا النزال وهو لا يتخلّى عنه بتاتاً. فإن زلّ وسقط أرضاً، فإنّ الله لمعرفته بأنّه من أهل الإيمان وأنّه قد عزم على عدم اقتراف المعصية سيمدّ إليه يده ويُنهِضه ليستأنف النزال من جديد. ففي كلّ مرّة يُصرع فيها أرضاً تزداد قوّته وتتضاعف منعته أمام خصمه حتّى يبلغ حدّاً يستطيع معه الدخول في نطاق ولاية أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين). فبعد أن أشار إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى تلك الشروط الصعبة، استدرك فذكر هذه الملاحظات كي لا ييأس الآخرون من العثور على سبيل الوصول إلى الكمال المتمثّل بالولاية. فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن ينتابه اليأس نتيجة مصارعة النفس أو السقوط أرضاً، بل ينبغي أن تكون عزيمته أكثر رسوخاً، وخوفه أشدّ كي يزيد الله جلّ شأنه في بصيرته.
زاد الله تعالى في بصيرتنا أجمعين.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
------------------------------------
1. سورة المطفّفين، الآية 26.
2. إقبال الأعمال، ص686.
3. سورة لقمان، الآية 18؛ وانظر سورة الحديد، الآية 23.
4. سورة آل عمران، الآية 146.
5. سورة الفرقان، الآية 70.
6. سورة الأعراف، الآية 201.
7. سورة فاطر، الآية 28.