شجون الزهراء
08-12-2014, 12:43 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ *وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}(يس/60-62).
بدء المعاناة
بدأت معاناة الإنسان من إبليس، منذ أن خلق الله آدم ليكون خليفته في الأرض، وحين طلب الله منه أن يسجد لآدم تكريماً له، أبى وعصى واستكبر، وهو الّذي عبد الله آلاف السّنين مع الملائكة، وكانت حجّته: أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين.
لقد تمرّد إبليس على إرادة الله سبحانه، فطرده من ساحة رحمته، ومنذ تلك اللّحظة، أعلن عداوته للإنسان وملاحقته له، وكان آدم وحوّاء أوّل ضحاياه، ورّطهما في الأكل من شجرة نهاهما الله عنها، وأخرجهما من الجنّة، وهكذا بدأت معاناة الإنسان معه، لذلك حذّرنا الله منه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر/6)، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(يوسف/5).
لم يصف القرآن الكريم أيّ كائن من الكائنات، بالصّفة الّتي وصف بها الشّيطان أنّه عدوّ. وقد ترجم هذه الصّفة إلى حربٍ مفتوحةٍ مع الإنسان، كما قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف/16-17).
{لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا... وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}(النّساء/118-119).
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر/ 39].
سلاح المواجهة
أيّها الأحبّة: من رحمة الله بنا، أنّه لم يترك إبليس ينفّذ مشروعه بكلّ حريّة، بل أمدّ الإنسان بكلّ الوسائل الّتي تقيه من عبثه بفكره وإيمانه. صحيح أنّه أعطى للشّيطان حريّة التحرّك في حياة الإنسان، بحيث بات قادراً على إغوائه وإضلاله، لكنّه في الوقت نفسه، أعطى الإنسان أيضاً القدرة على أن يقبل أو يرفض هذا التدخّل... والسّلاح الّذي تملكه هو أمضى من سلاحه، فأنت تملك عقلاً قادراً على أن يُميّزُ الخير من الشّرّ، بين الحسن والقبيح، بين ما هو صالح لك وما هو فاسد... وقد ملّكك الله إيماناً وإرادة صلبة، وزوّدك بتعاليم الأنبياء، وحذّرك من الشّيطان: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا...}(الأعراف/27)، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(المائدة/91)...
والشّيطان، أيّها الأحبّة، يبحث عن أسهل الأبواب لتوريط الإنسان، وما أكثرها هذه الأيّام! وهو لا يوفّر أيّ فرصة لإيقاع النّاس بحبائله، ويستخدم الأسلوب المناسب في المكان المناسب، فهو مخطّط بارع لا يستعجل النّتائج، بل يعتمد سياسة الخطوة خطوة.
انظر ماذا يفعل بشابّ يريد جرّه إلى مجلسٍ ليعصي الله فيه؛ إنّه يُزيّن له محاسن الجلسة، يُمنّيه بما سيجده من ملذّات. هو لا يدفعه دفعاً، بل يأخُذُه برفق. المهمّ أن يوصله إلى الباب، يوسوس له: لا ضرر في أن تتفرّج، من حقّك أن تعيش شبابك، العمر طويل أمامنا ويمكنك أن تتوب فيما بعد، أجّل الصّلاة، أجّل العمل...
والنّتيجة أنّ هذا الشّابّ الّذي كان ضحيّة سهلة، سينغمس في هذه اللّعبة، ومع كلّ خطوة جديدة في المستنقع، يتحوّل إلى لعبة طيّعة في يد الشّيطان، هذا إذا لم يتحوّل إلى جنديّ مطيع من جنوده وأعوانه.
مثل هؤلاء لا يجد الشّيطان عناءً كبيراً في جرّهم إلى حظيرته وإضلالهم، والتحدّي الأكبر، هو مع مؤمنٍ تمرّس بالإيمان، فهو لن يأتيه من قبل ذنب واضح أو معصية فاقعة ومكشوفة، كأن يحاول إقناعه بشرب الخمر، أو جرّه إلى ترك الصّلاة والصّيام، فقد لا يجد أذناً صاغية له، بل يستعمل معه أسلوباً آخر كي يُظهر له الباطل بصورة الحقّ، فقد يجرّه إلى مرض الغيبة بحجّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو يجرّه إلى أن يترجم دفاعه عن طائفته ومذهبه إلى موقفٍ يثير فتنة أو نزاعاً، باعتبار ذلك دفاعاً عن الحقّ، أو يرى في الكذب مصلحةً إسلاميّةً، أو أنّ له الحقّ في أخذه مالاً لا حقّ له فيه.
تحدّي الإرادة
أيّها الأحبَّة: الكثير منَّا يضعون الشَّيطان دائماً في قفص الاتّهام، يحمّلونه كلّ تبعات ذنوبهم، ويظهرون أنفسهم بريئين من كلّ ذنب ومعصية، فالشَّيطان، في نظرهم، هو السَّبب في كلّ مشاكلهم ومشاكل الحياة.
فإذا استغابوا، وعابهم أحد، سارعوا إلى القول: "الحقّ على الشّيطان"، وإذا أخرجهم الغضب عن طورهم واقترفوا غلطةً كبيرة بحقّ إنسان، سارعوا للاعتذار: "لعن الله الشّيطان".
وهكذا يتحمّل الشّيطان لعناتهم عند كلّ زلّة أو هفوة، مع العلم أنَّ الإنسان دائماً هو الّذي يخطو الخطوة الأولى نحو الشّيطان، ويسمح له بالدّخول ضيفاً إلى روحه ونفسه وإرادته. والشّيطان لا يُلغي إرادة الإنسان. وهذه الصّورة هي الّتي سيشير إليها الشَّيطان يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}(إبراهيم/22).
أيّها الأحبّة: إنّ مواجهة الشّيطان بأيدينا، فنحن قادرون عليه، والله سبحانه يقول لنا: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}(النّساء/76).
هو لن يتمكّن من أن يصل إلى ساحة العابدين، والطّائعين، والمصلّين، والمخلصين، والمتوكّلين، والذّاكرين لله، الشّاكرين له، الباذلين، والمحبّين... نعم، سيتمكّن من ساحة الّذين يتولّونه، يعطونه زمام قيادتهم، يتركون له الأمر والنّهي...
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(النّحل/99-100). {إِنَّ عبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(الحجر/42).
عن الإمام الصّادق(ع): "خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة وسائر النّاس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع عند المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له".
وقد أشار النبيّ(ص) إلى الأسلوب الّذي يقضي به على الشّيطان، فقال: "ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد عنكم الشّيطان كما يتباعد المشرق عن المغرب؟ فقيل: نعم، قال: الصّوم يسوّد وجهه، والصّدقة تكسر ظهره، والحبّ لله والمؤازرة على العمل الصّالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه".
الشّيطان يطوّر أساليبه
أيّها الأحبّة: لم يعد إبليس فرداً واحداً، بات له جنود وأعوان وأتباع، وقد طوَّر أساليبه فأصبح مؤسَّسات ودولاً ومواقع وجهات، بتنا نجده في السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتّى في ساحة الدّين، هو موجود في كلّ متكبّر وطاغية وظالم، في كلّ كاذب ومخادع وداعية انحراف وفساد، نجده في كلّ متعصّب منغلق لا يقبل بالآخر لأنّه آخر ومختلف عنه، نجده في كلّ عامل لبثّ الفتنة والفرقة وإثارة الأحقاد والعداوات، نجده في كلّ مثبط للعزائم ولا يريد للنّاس أن يعملوا للخير...
لا يكفي أن نلعن الشّيطان أو أن نحمّله مسؤوليّة كلّ معاصينا، بل أن نمنع حركته في حياتنا، في حياة أولادنا ومجتمعنا وأمّتنا، أن نوقف مشاريعه، أن نبقى واعين كي لا يغدر بنا، أن نتعوّذ منه بالله في كلّ لحظة: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}(المؤمنون/97-98)، وأن ندعو: "اللّهمَّ إنَّا نعوذ بك من نزعات الشَّيطان الرَّجيم وكيده ومكائده، ومن الثّقة بأمانيه ومواعيده وغروره ومصائده، أو أن يحسُن عندنا ما حسَّن لنا، أو أن يثقُل علينا ما كرّه لنا".
"وَاجْعَلْ آباءَنَا وَأُمَّهَاتِنا وَأَوْلاَدَنَا وَأَهَالِينا وَذَوِي أَرْحَامِنَا وَقَرَابَاتِنَا وَجِيْرَانَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْهُ فِي حِرْز حَارِز، وَحِصْن حَافِظ، وَكَهْف مَانِع، وَألْبِسْهُمْ مِنْهُ جُنَناً وَاقِيَةً، وَأَعْطِهِمْ عَلَيْهِ أَسْلِحَةً مَاضِيَة"، يا أرحم الرّاحمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ *وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}(يس/60-62).
بدء المعاناة
بدأت معاناة الإنسان من إبليس، منذ أن خلق الله آدم ليكون خليفته في الأرض، وحين طلب الله منه أن يسجد لآدم تكريماً له، أبى وعصى واستكبر، وهو الّذي عبد الله آلاف السّنين مع الملائكة، وكانت حجّته: أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين.
لقد تمرّد إبليس على إرادة الله سبحانه، فطرده من ساحة رحمته، ومنذ تلك اللّحظة، أعلن عداوته للإنسان وملاحقته له، وكان آدم وحوّاء أوّل ضحاياه، ورّطهما في الأكل من شجرة نهاهما الله عنها، وأخرجهما من الجنّة، وهكذا بدأت معاناة الإنسان معه، لذلك حذّرنا الله منه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر/6)، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(يوسف/5).
لم يصف القرآن الكريم أيّ كائن من الكائنات، بالصّفة الّتي وصف بها الشّيطان أنّه عدوّ. وقد ترجم هذه الصّفة إلى حربٍ مفتوحةٍ مع الإنسان، كما قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف/16-17).
{لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا... وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}(النّساء/118-119).
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر/ 39].
سلاح المواجهة
أيّها الأحبّة: من رحمة الله بنا، أنّه لم يترك إبليس ينفّذ مشروعه بكلّ حريّة، بل أمدّ الإنسان بكلّ الوسائل الّتي تقيه من عبثه بفكره وإيمانه. صحيح أنّه أعطى للشّيطان حريّة التحرّك في حياة الإنسان، بحيث بات قادراً على إغوائه وإضلاله، لكنّه في الوقت نفسه، أعطى الإنسان أيضاً القدرة على أن يقبل أو يرفض هذا التدخّل... والسّلاح الّذي تملكه هو أمضى من سلاحه، فأنت تملك عقلاً قادراً على أن يُميّزُ الخير من الشّرّ، بين الحسن والقبيح، بين ما هو صالح لك وما هو فاسد... وقد ملّكك الله إيماناً وإرادة صلبة، وزوّدك بتعاليم الأنبياء، وحذّرك من الشّيطان: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا...}(الأعراف/27)، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(المائدة/91)...
والشّيطان، أيّها الأحبّة، يبحث عن أسهل الأبواب لتوريط الإنسان، وما أكثرها هذه الأيّام! وهو لا يوفّر أيّ فرصة لإيقاع النّاس بحبائله، ويستخدم الأسلوب المناسب في المكان المناسب، فهو مخطّط بارع لا يستعجل النّتائج، بل يعتمد سياسة الخطوة خطوة.
انظر ماذا يفعل بشابّ يريد جرّه إلى مجلسٍ ليعصي الله فيه؛ إنّه يُزيّن له محاسن الجلسة، يُمنّيه بما سيجده من ملذّات. هو لا يدفعه دفعاً، بل يأخُذُه برفق. المهمّ أن يوصله إلى الباب، يوسوس له: لا ضرر في أن تتفرّج، من حقّك أن تعيش شبابك، العمر طويل أمامنا ويمكنك أن تتوب فيما بعد، أجّل الصّلاة، أجّل العمل...
والنّتيجة أنّ هذا الشّابّ الّذي كان ضحيّة سهلة، سينغمس في هذه اللّعبة، ومع كلّ خطوة جديدة في المستنقع، يتحوّل إلى لعبة طيّعة في يد الشّيطان، هذا إذا لم يتحوّل إلى جنديّ مطيع من جنوده وأعوانه.
مثل هؤلاء لا يجد الشّيطان عناءً كبيراً في جرّهم إلى حظيرته وإضلالهم، والتحدّي الأكبر، هو مع مؤمنٍ تمرّس بالإيمان، فهو لن يأتيه من قبل ذنب واضح أو معصية فاقعة ومكشوفة، كأن يحاول إقناعه بشرب الخمر، أو جرّه إلى ترك الصّلاة والصّيام، فقد لا يجد أذناً صاغية له، بل يستعمل معه أسلوباً آخر كي يُظهر له الباطل بصورة الحقّ، فقد يجرّه إلى مرض الغيبة بحجّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو يجرّه إلى أن يترجم دفاعه عن طائفته ومذهبه إلى موقفٍ يثير فتنة أو نزاعاً، باعتبار ذلك دفاعاً عن الحقّ، أو يرى في الكذب مصلحةً إسلاميّةً، أو أنّ له الحقّ في أخذه مالاً لا حقّ له فيه.
تحدّي الإرادة
أيّها الأحبَّة: الكثير منَّا يضعون الشَّيطان دائماً في قفص الاتّهام، يحمّلونه كلّ تبعات ذنوبهم، ويظهرون أنفسهم بريئين من كلّ ذنب ومعصية، فالشَّيطان، في نظرهم، هو السَّبب في كلّ مشاكلهم ومشاكل الحياة.
فإذا استغابوا، وعابهم أحد، سارعوا إلى القول: "الحقّ على الشّيطان"، وإذا أخرجهم الغضب عن طورهم واقترفوا غلطةً كبيرة بحقّ إنسان، سارعوا للاعتذار: "لعن الله الشّيطان".
وهكذا يتحمّل الشّيطان لعناتهم عند كلّ زلّة أو هفوة، مع العلم أنَّ الإنسان دائماً هو الّذي يخطو الخطوة الأولى نحو الشّيطان، ويسمح له بالدّخول ضيفاً إلى روحه ونفسه وإرادته. والشّيطان لا يُلغي إرادة الإنسان. وهذه الصّورة هي الّتي سيشير إليها الشَّيطان يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}(إبراهيم/22).
أيّها الأحبّة: إنّ مواجهة الشّيطان بأيدينا، فنحن قادرون عليه، والله سبحانه يقول لنا: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}(النّساء/76).
هو لن يتمكّن من أن يصل إلى ساحة العابدين، والطّائعين، والمصلّين، والمخلصين، والمتوكّلين، والذّاكرين لله، الشّاكرين له، الباذلين، والمحبّين... نعم، سيتمكّن من ساحة الّذين يتولّونه، يعطونه زمام قيادتهم، يتركون له الأمر والنّهي...
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(النّحل/99-100). {إِنَّ عبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(الحجر/42).
عن الإمام الصّادق(ع): "خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة وسائر النّاس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع عند المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له".
وقد أشار النبيّ(ص) إلى الأسلوب الّذي يقضي به على الشّيطان، فقال: "ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد عنكم الشّيطان كما يتباعد المشرق عن المغرب؟ فقيل: نعم، قال: الصّوم يسوّد وجهه، والصّدقة تكسر ظهره، والحبّ لله والمؤازرة على العمل الصّالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه".
الشّيطان يطوّر أساليبه
أيّها الأحبّة: لم يعد إبليس فرداً واحداً، بات له جنود وأعوان وأتباع، وقد طوَّر أساليبه فأصبح مؤسَّسات ودولاً ومواقع وجهات، بتنا نجده في السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتّى في ساحة الدّين، هو موجود في كلّ متكبّر وطاغية وظالم، في كلّ كاذب ومخادع وداعية انحراف وفساد، نجده في كلّ متعصّب منغلق لا يقبل بالآخر لأنّه آخر ومختلف عنه، نجده في كلّ عامل لبثّ الفتنة والفرقة وإثارة الأحقاد والعداوات، نجده في كلّ مثبط للعزائم ولا يريد للنّاس أن يعملوا للخير...
لا يكفي أن نلعن الشّيطان أو أن نحمّله مسؤوليّة كلّ معاصينا، بل أن نمنع حركته في حياتنا، في حياة أولادنا ومجتمعنا وأمّتنا، أن نوقف مشاريعه، أن نبقى واعين كي لا يغدر بنا، أن نتعوّذ منه بالله في كلّ لحظة: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}(المؤمنون/97-98)، وأن ندعو: "اللّهمَّ إنَّا نعوذ بك من نزعات الشَّيطان الرَّجيم وكيده ومكائده، ومن الثّقة بأمانيه ومواعيده وغروره ومصائده، أو أن يحسُن عندنا ما حسَّن لنا، أو أن يثقُل علينا ما كرّه لنا".
"وَاجْعَلْ آباءَنَا وَأُمَّهَاتِنا وَأَوْلاَدَنَا وَأَهَالِينا وَذَوِي أَرْحَامِنَا وَقَرَابَاتِنَا وَجِيْرَانَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْهُ فِي حِرْز حَارِز، وَحِصْن حَافِظ، وَكَهْف مَانِع، وَألْبِسْهُمْ مِنْهُ جُنَناً وَاقِيَةً، وَأَعْطِهِمْ عَلَيْهِ أَسْلِحَةً مَاضِيَة"، يا أرحم الرّاحمين.