م_علي
15-12-2014, 03:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
في الواقع قضية الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه أخذت اتجاهاً عظيماً مما اذهل العقول وتحيرت الاذهان ، فقد كانت الارقام القياسية التي تتبجح بها الشخصيات والدول ضلت صامته منكسة رأسها من شدة الخجل امام الارقام القياسية التي حازت عليها الزيارة الاربعينة لأبي الشهداء الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه فقد كانت لا نضير لها .. على كل حال .. بدأت الاقلام تكتب تجربتها في المشاركة المليونية لزيارة ابي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه ، والبعض يتناول جزء تأثر به ، ولكن أعجبتني مقارة لشخص عاش التجربتين ؛ تجربة حج بيت الله الحرام وبين تجربة زيارة الاربعين وعلى ما يبدو انه من اخواننا العرب لانه لم يذكر شيء عن شخصيته او اسمه ، فرأيت لابد من ان اطرحها امام اخواننا ...
زيارة الأربعين والحج المبارك:
كرم العراقيين الندي، وبخل السلطات السعودية!
1ـ بادئ ذي بدء أعلن أنّ المقارنة في هذه الخواطر ليست بين الأماكن المطهرة في العراق، من جهة/ ومكة المكرّمة، من جهة أخرى. بل.. هي مقارنة بين العراقيين الكرماء/ والسلطات السعودية البخيلة، ولا أمسّ الشعب السعودي الأبيّ الشريف بأيّ أذى!!، فهي مقارنة بين بشر وبشر، وجهود وجهود، وبسطاء وسلطات، وفقراء معدمين كرماء/ ومترفين أغنياء بخلاء، وليست بين مكة والنجف وكربلاء، ولا بين مكان ومكان في القداسة والمنزلة وغيرها..
2ـ مذ سقط النظام العراقي الصدامي البائد المجرم في 1423هـ/ 2003م، وأنا أمضي سنوياً في شهر صفر المظفر لزيارة الأربعين في العراق الطاهرة، وأقصد أبا عبد الله الحسين الشهيد (ع)، وكذلك أحج سنوياً لبيت الله المبارك في مكة المكرمة (زادها الله شرفاً)، فمنّ الله عليّ بأكثر من عشر زيارات متتالية، وأكثر من عشر حجات متوالية، وأسأل الله القبول، والتوفيق لهما ما حييت.
3ـ في كلّ مرة نذهب إلى العراق تهبط طائرتنا في مطار النجف الأشرف، ونذهب لزيارة الإمام أمير المؤمنين علي (ع) ليوم أو يومين، نرمي فيها وعثاء السفر، ونحشذ فيها طاقتنا، ثم نشدّ الرحال مشياً على الأقدام نحو كربلاء الحسين.
4ـ الطريق ما بين النجف وكربلاء يقارب الـ 80 كيلومتراً، أي طول الرياض كاملة من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، ويفوق المسافة ما بين الجبيل والدمام، نقطعه ـ مشياً على الأقدام ـ فيما يقارب اليومين الكاملين.
5ـ طيلة الطريق بين النجف وكربلاء لنا (كمشاية) لا نحتاج إلى أيّ من اللوازم، فلا نستأجر شقة ولا غرفة، ولا نشتري شيئاً: لا أكلاً، ولا شرباً، ولا دواء، ولا أيّ شيء آخر، فكلّ العراقيين كرماء، معدنهم الجود، وأيديهم السماحة والندى والبذل والعطاء، وكلّهم فتح بيته مضيفاً مجانياً، يوفر فيه الأكل والشرب والنوم والتدليك وغسل الملابس، و....، مجاناً.
6ـ وعلى جانبي الطريق الممتدّ من النجف إلى كربلاء، ومن جميع المدن العراقية الأخرى إلى كربلاء، توجد مضافات مجانية تناديك بلسان المحبّ العاشق الولهان: "شايات أغاتي، ماي، حليب، خبز، قيمة، تمّن ولحم، فواكه، و....".
7ـ يشعر العراقيون براحة عظيمة بهيجة وغبطة مشرقة مذهلة تتورد على وجوههم، وتفترّ على ثغورهم عندما تأكل من عندهم، أو تشرب، أو تسكن، أو عندما يغسلون رجلك وثيابك، ويبتهجون ابتهاج مَن نزلت عليه السكينة، وحلّ عليه الرضا، ويلحّون عليك إلحاح العاشق، ويمسكونك من يديك، ويسحبونك لمضايفهم، ويتنافسون عليك، ويحزنون لو رددتَهم، أو لم تأكل أو تشرب منهم، وكأنّ البركة غادتهم!!
8ـ في الطريق إلى كربلاء المقدّسة ـ ونحن مشاة ـ توقفنا لنأكل من أحد المضايف، وكان إلى وجهه مضيف آخر، وبينما كان الثاني يريدنا أن نذهب معه لمضيفه قال له الأول: "سيدي، هذول الزوار ضيوفي آنا، وكلّ ما يردون موجود عندي"!!
ذهبنا معه فأصبنا بحالة هلع مبكية؛ حين وجدنا زوجته وجميع أولاده وبناته يخدمون الزوار، وجميع غرف البيت فُرّغت منهم للزوار وخدمتهم!!
9ـ بعد أن مشينا فوق العشرين كيلومتراً وقفنا لخيمة تدليك لندلك أرجلنا، ونستريح قليلاً، فكان نصيبي عند كهل عمره ينوف على الخامسة والستين، شعره أبيض ولحيته ناصعة البياض، ويملك شهادة دكتوراه، ترددتُ كثيراً في وضع رجلي عنده، فسفينة عمري لا زالت تمخر العقد الثالث، انتبه لي وقال: "زاير، أغاتي، عيوني، نور قلبي، حط رجلك هنانا"، قلتُ له: "أخجل أن يدلك رجلي شخص بعمرك وشهادتك!!"، فأجاب: "أغاتي، مو أنت زاير الحسين، ما فيه أحد منّا كبير على الحسين، كلنا خدام، حط رجلك، سيدي"، فوضعتها، ودلكها بود وتحنان بالغين، وهو يمازحني، ويضحك معي!!!
10ـ في إحدى السنوات حين وصلنا إلى كربلاء الطاهرة، وأردنا أن نستأجر شقة من أحد العراقيين، كانت ـ بالفعل ـ جميلة وواسعة وفاخرة وقريبة من حرم الإمام الحسين (ع)، فطلب علينا 200 ريال قيمة إيجار لليوم، ومع علمنا أنّه سعر زهيد مقارنة بالموسم، خاصمناه، وقلنا له: هو مبلغ عالي، سنذهب إلى غيرك لنرى، فقال: "أغاتي، اسكنوا ببلاش"، قلنا: "لا.."، قال: "كم تريدون؟!"، قلنا: "نصف القيمة، يعني 100 ريال فقط"، فقال: "حبيبي، صار، أنا عاهدت الحسين ما أزعل زايره"، قلنا له: "نكتب"، قال: "مثل ما تريدون، أغاتي".
وحين أردنا الخروج أعطيناه المبلغ، فوضعه في جيبه ولم يعده!!، قلنا له: "عُدّه"، فقال: "كل شي من الحسين بركة، وأنا ما أعدّ على زوار أبي عبد الله الحسين، هم ضيوفنا، ولازم نكرمهم"، فأخذنا المبلغ منه، وعددناه أمامه، لنعلمه أنّنا حسبنا اليوم بـ 100، فقبّله، ووضعه في جيبه راضياً، وقال: "استريحوا أغاتي، هسّة أنزل أغراضكم"، ونادى أخاه عباس، وفعلا ذلك!!
11ـ في كلّ خطوة من خطوات مسيرنا في العراق، وكلّ آن بتناه في رحابه الزاهرة النضرة، كانت قلوبنا تخفق وتلهج: أيّ حبّ (عابسي) زلال مجنون هذا الذي شربه العراقيون؟!!، ومن أيّ نهر فيّاض ارتوت به مهجهم؟!!!
21 قرأتُ في إحدى الصحف العراقية إحصائيات عن أربعين الحسين (ع) في العام الماضي 1435هـ، وفيها:
🔸 "بلغ عدد الزوار من تاريخ 10 صفر لغاية 20 صفر حوالي 25 مليون زائر ـ حسب إحصائية مركز الإحصائيات في كربلاء ـ، وبلغ عدد المضائف لخدمة الزائرين في طرق المشاية حوالي 3 ملايين مضيف، وعدد المضائف المنتشرة في كربلاء القديمة والجديدة حوالي 300 ألف مضيف، وبلغت مصاريف المأكولات لإطعام الزائرين حوالي 5 مليار دولار، كما بلغ عدد المواكب الحسينية في كربلاء حوالي 3 آلاف موكب موزعة على 5 أيام لغاية يوم الأربعين".🔸
13ـ ما سبق هو غيض من فيض رحلة الحبّ والودّ والعشق والوله والهيام، .. رحلة المشاية بين النجف وكربلاء، والآن فلنيمّم وجوهنا قليلاً نحو مكة المكرّمة وبلادنا الغالية!!
14ـ في طريقنا من مكة إلى عرفة منع الشرطي دخول الباصات؛ بحجة عدم التصريح، فقطعنا المسافة مشياً، وتبدّد جمعنا، ولأنّ الوقت كان صيفاً ضارياً ألهبتنا الشمس بسياطها المحرقة، وطوال طريق مسافته تزيد على العشرة كيلومترات، ذرعت عيوننا كلّ حنايا الطريق لعلّنا نجد علبة ماء نشربها، ولو كان سعرها خمسين ريالاً، فقد أجهدنا الظمأ، وقطّع مهجنا العطش، ولفح أجسادنا حرّ الشمس؛ فلم نجد، لا بيعاً بمال، ولا توزيعاً مجانياً خيرياً، حتى سقطنا على جانبي الطريق نتلهف لجرعة ماء، ولم نجدها، فالتقطنا خيوط تعبنا، وأكملنا المشوار، ونحن نتفتت من الظمأ، ولم نشرب قطرة ماء حتى وصلنا إلى مخيمات الحملة!!، وفي قلوبنا تشرق كربلاء، والكرم العراقي الذي لا يوصف!!
15ـ في عرفة ومزدلفة ومنى ذهبتُ إلى الحمامات، ووقفت مع الناس في الطوابير المصطفة للدخول، ولم يصل دوري إلا بعد ساعة أو أكثر كنتُ أقبض فيها على نار بطني!!
وفي مزدلفة افترشنا ـ كسائر الناس ـ الأرض، ونمنا على الإسفلت (الوثير)!!، فهنا لا مضايف، ولا خيام راحة، ولا هم يحزنون!!!
من جديد أطلت علينا بوجهها المشرق البهي الوضّاء العراق والنجف وكربلاء، وتذكرنا أنّ كلّ البيوت في المسافة الممتدة بين النجف ـ كربلاء، بكلّ ما فيها من مرافق، ومنها الحمامات لقضاء الحاجة، والغرف والصالات للاسترخاء، وما فيها من مشروبات ومأكولات وخدمة، مفروشة تحت أقدام الزوار، هي لهم..، بينما أهل البيت يخدمون، وإذا ناموا.. ناموا فوق السطح: يفترشون الإسمنت، ويعانقون الشمس نهاراً والبرد ليلاً، ويتدثرون بلحاف السماء.
16- أكثر من خمسة وعشرين مليون زائر للحسين في الأربعين، ولا تضيق بهم ذرعاً النجف، ولا كربلاء، ولا بغداد، وتحتضنهم احتضان الأم الحنون، ولا يضيق بهم ذرعاً أهل العراق الفقراء المعدمون!!
وحجاج بيت الله الحرام من حجاج الداخل والخارج لا يصل عددهم إلى خمسة ملايين، وخلفهم أغنى دولة نفطية، يتبجّح حاكمها بأنّه (خادم الحرمين)!!، وتتبجّح سلطاتها بأنّها أرض الحرمين، وأطهر بقاع الأرض، ومع ذلك تضيق بهم ذرعاً، وتريد تصريفهم بأسرع وقت، فهي تخاف الأمن، وتخاف المرض، وتخاف الإدارة، ونزدان في أيام الحجّ بغلاء في الإيجار، وغلاء في المبيعات، وغلاء في المواصلات، حتى يصل (تخطير) الحاج نفق المعيصم وحده، والذي لا يتعدى 500 متر، وبالدراجة النارية (الماطور) إلى مئة ريال!!!!
17ـ استغربتُ كثيراً: كيف يوفر الشعب العراقي الفقير كلّ هذه الضيافة المجانية لأكثر من خمسة وعشرين مليون زائر للحسين، ودولتنا النفطية ذات الميزانية التريليوينية الفلكية؛ يظمأ فيها الحجّاج، وينهشهم وحش الجوع، ولا يجدون جرعة ماء ـ حتى بيعاً، فضلاً عن التوزيع الخيري!! ـ يبلون بها ريقهم!!!!
18ـ ومع أنّ زوّار الحسين في الأربعين يتجاوز عددهم الخمسة والعشرين مليون زائر، وكثير منهم يشقون الطريق إلى الحسين مشاة، ويأكلون ويشربون وينامون في مضافات الطريق، إلا أنّ الطرق نظيفة، والروائح شذية، يزينها العراقيون بالمسك والعنبر، بينما تتكدس طرق مكة، ولا سيما المشاعر الثلاثة: (عرفة، ومزدلفة، ومنى) بالقاذورات، وتعجّ بالأوساخ، وتتصايح من فورة النتن!!!!
فأين يكمن الخلل؟!!
19ـ الخلل يكمن في شيء واحد هو: نفوسنا ووجداننا وعواطفنا ومشاعرنا:
العراقيون يموتون حبّاً في أهل البيت، ومنهم علي والحسين والكاظِمَين والعسكريين (ع)، ويفدونهم بكلّ ما يملكون، بل ويفدونهم بنفوسهم الغالية، ويترشح حبّهم لأممتهم على زوّار أئمتهم؛ فيحبّونهم، ويشعرون أنّهم أنفسهم وذاتهم وكيانهم، ويحرصون عليهم حرصهم على أعينهم وذواتهم وفلذات أكبادهم، ويغسلون أرجلهم وثيابهم، ويتهافتون ويتبارون ليقدموا لهم الماء والشاي والحليب وسائر أنواع المأكولات، وفي قلوبهم يشقشق حبّ الحسين، وحبّ من يحبّ الحسين!!
أما السلطات السعودية المهرّجة البائسة الممسكة فتنظر للحجّ بوصفه (مصيبة وكارثة)، تريد أن تتجاوزها بأسرع وقت، وأدنى خطر، وأقلّ كلفة، فلا تسهر على خدمة حجاج، بل تمنع المبادرين الأخيار أن يخدموهم، فتمنعهم من توزيع الماء والغذاء؛ لئلا يظهر وجهها القبيح
لا تنسونا من دعـــائكم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
في الواقع قضية الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه أخذت اتجاهاً عظيماً مما اذهل العقول وتحيرت الاذهان ، فقد كانت الارقام القياسية التي تتبجح بها الشخصيات والدول ضلت صامته منكسة رأسها من شدة الخجل امام الارقام القياسية التي حازت عليها الزيارة الاربعينة لأبي الشهداء الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه فقد كانت لا نضير لها .. على كل حال .. بدأت الاقلام تكتب تجربتها في المشاركة المليونية لزيارة ابي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه ، والبعض يتناول جزء تأثر به ، ولكن أعجبتني مقارة لشخص عاش التجربتين ؛ تجربة حج بيت الله الحرام وبين تجربة زيارة الاربعين وعلى ما يبدو انه من اخواننا العرب لانه لم يذكر شيء عن شخصيته او اسمه ، فرأيت لابد من ان اطرحها امام اخواننا ...
زيارة الأربعين والحج المبارك:
كرم العراقيين الندي، وبخل السلطات السعودية!
1ـ بادئ ذي بدء أعلن أنّ المقارنة في هذه الخواطر ليست بين الأماكن المطهرة في العراق، من جهة/ ومكة المكرّمة، من جهة أخرى. بل.. هي مقارنة بين العراقيين الكرماء/ والسلطات السعودية البخيلة، ولا أمسّ الشعب السعودي الأبيّ الشريف بأيّ أذى!!، فهي مقارنة بين بشر وبشر، وجهود وجهود، وبسطاء وسلطات، وفقراء معدمين كرماء/ ومترفين أغنياء بخلاء، وليست بين مكة والنجف وكربلاء، ولا بين مكان ومكان في القداسة والمنزلة وغيرها..
2ـ مذ سقط النظام العراقي الصدامي البائد المجرم في 1423هـ/ 2003م، وأنا أمضي سنوياً في شهر صفر المظفر لزيارة الأربعين في العراق الطاهرة، وأقصد أبا عبد الله الحسين الشهيد (ع)، وكذلك أحج سنوياً لبيت الله المبارك في مكة المكرمة (زادها الله شرفاً)، فمنّ الله عليّ بأكثر من عشر زيارات متتالية، وأكثر من عشر حجات متوالية، وأسأل الله القبول، والتوفيق لهما ما حييت.
3ـ في كلّ مرة نذهب إلى العراق تهبط طائرتنا في مطار النجف الأشرف، ونذهب لزيارة الإمام أمير المؤمنين علي (ع) ليوم أو يومين، نرمي فيها وعثاء السفر، ونحشذ فيها طاقتنا، ثم نشدّ الرحال مشياً على الأقدام نحو كربلاء الحسين.
4ـ الطريق ما بين النجف وكربلاء يقارب الـ 80 كيلومتراً، أي طول الرياض كاملة من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، ويفوق المسافة ما بين الجبيل والدمام، نقطعه ـ مشياً على الأقدام ـ فيما يقارب اليومين الكاملين.
5ـ طيلة الطريق بين النجف وكربلاء لنا (كمشاية) لا نحتاج إلى أيّ من اللوازم، فلا نستأجر شقة ولا غرفة، ولا نشتري شيئاً: لا أكلاً، ولا شرباً، ولا دواء، ولا أيّ شيء آخر، فكلّ العراقيين كرماء، معدنهم الجود، وأيديهم السماحة والندى والبذل والعطاء، وكلّهم فتح بيته مضيفاً مجانياً، يوفر فيه الأكل والشرب والنوم والتدليك وغسل الملابس، و....، مجاناً.
6ـ وعلى جانبي الطريق الممتدّ من النجف إلى كربلاء، ومن جميع المدن العراقية الأخرى إلى كربلاء، توجد مضافات مجانية تناديك بلسان المحبّ العاشق الولهان: "شايات أغاتي، ماي، حليب، خبز، قيمة، تمّن ولحم، فواكه، و....".
7ـ يشعر العراقيون براحة عظيمة بهيجة وغبطة مشرقة مذهلة تتورد على وجوههم، وتفترّ على ثغورهم عندما تأكل من عندهم، أو تشرب، أو تسكن، أو عندما يغسلون رجلك وثيابك، ويبتهجون ابتهاج مَن نزلت عليه السكينة، وحلّ عليه الرضا، ويلحّون عليك إلحاح العاشق، ويمسكونك من يديك، ويسحبونك لمضايفهم، ويتنافسون عليك، ويحزنون لو رددتَهم، أو لم تأكل أو تشرب منهم، وكأنّ البركة غادتهم!!
8ـ في الطريق إلى كربلاء المقدّسة ـ ونحن مشاة ـ توقفنا لنأكل من أحد المضايف، وكان إلى وجهه مضيف آخر، وبينما كان الثاني يريدنا أن نذهب معه لمضيفه قال له الأول: "سيدي، هذول الزوار ضيوفي آنا، وكلّ ما يردون موجود عندي"!!
ذهبنا معه فأصبنا بحالة هلع مبكية؛ حين وجدنا زوجته وجميع أولاده وبناته يخدمون الزوار، وجميع غرف البيت فُرّغت منهم للزوار وخدمتهم!!
9ـ بعد أن مشينا فوق العشرين كيلومتراً وقفنا لخيمة تدليك لندلك أرجلنا، ونستريح قليلاً، فكان نصيبي عند كهل عمره ينوف على الخامسة والستين، شعره أبيض ولحيته ناصعة البياض، ويملك شهادة دكتوراه، ترددتُ كثيراً في وضع رجلي عنده، فسفينة عمري لا زالت تمخر العقد الثالث، انتبه لي وقال: "زاير، أغاتي، عيوني، نور قلبي، حط رجلك هنانا"، قلتُ له: "أخجل أن يدلك رجلي شخص بعمرك وشهادتك!!"، فأجاب: "أغاتي، مو أنت زاير الحسين، ما فيه أحد منّا كبير على الحسين، كلنا خدام، حط رجلك، سيدي"، فوضعتها، ودلكها بود وتحنان بالغين، وهو يمازحني، ويضحك معي!!!
10ـ في إحدى السنوات حين وصلنا إلى كربلاء الطاهرة، وأردنا أن نستأجر شقة من أحد العراقيين، كانت ـ بالفعل ـ جميلة وواسعة وفاخرة وقريبة من حرم الإمام الحسين (ع)، فطلب علينا 200 ريال قيمة إيجار لليوم، ومع علمنا أنّه سعر زهيد مقارنة بالموسم، خاصمناه، وقلنا له: هو مبلغ عالي، سنذهب إلى غيرك لنرى، فقال: "أغاتي، اسكنوا ببلاش"، قلنا: "لا.."، قال: "كم تريدون؟!"، قلنا: "نصف القيمة، يعني 100 ريال فقط"، فقال: "حبيبي، صار، أنا عاهدت الحسين ما أزعل زايره"، قلنا له: "نكتب"، قال: "مثل ما تريدون، أغاتي".
وحين أردنا الخروج أعطيناه المبلغ، فوضعه في جيبه ولم يعده!!، قلنا له: "عُدّه"، فقال: "كل شي من الحسين بركة، وأنا ما أعدّ على زوار أبي عبد الله الحسين، هم ضيوفنا، ولازم نكرمهم"، فأخذنا المبلغ منه، وعددناه أمامه، لنعلمه أنّنا حسبنا اليوم بـ 100، فقبّله، ووضعه في جيبه راضياً، وقال: "استريحوا أغاتي، هسّة أنزل أغراضكم"، ونادى أخاه عباس، وفعلا ذلك!!
11ـ في كلّ خطوة من خطوات مسيرنا في العراق، وكلّ آن بتناه في رحابه الزاهرة النضرة، كانت قلوبنا تخفق وتلهج: أيّ حبّ (عابسي) زلال مجنون هذا الذي شربه العراقيون؟!!، ومن أيّ نهر فيّاض ارتوت به مهجهم؟!!!
21 قرأتُ في إحدى الصحف العراقية إحصائيات عن أربعين الحسين (ع) في العام الماضي 1435هـ، وفيها:
🔸 "بلغ عدد الزوار من تاريخ 10 صفر لغاية 20 صفر حوالي 25 مليون زائر ـ حسب إحصائية مركز الإحصائيات في كربلاء ـ، وبلغ عدد المضائف لخدمة الزائرين في طرق المشاية حوالي 3 ملايين مضيف، وعدد المضائف المنتشرة في كربلاء القديمة والجديدة حوالي 300 ألف مضيف، وبلغت مصاريف المأكولات لإطعام الزائرين حوالي 5 مليار دولار، كما بلغ عدد المواكب الحسينية في كربلاء حوالي 3 آلاف موكب موزعة على 5 أيام لغاية يوم الأربعين".🔸
13ـ ما سبق هو غيض من فيض رحلة الحبّ والودّ والعشق والوله والهيام، .. رحلة المشاية بين النجف وكربلاء، والآن فلنيمّم وجوهنا قليلاً نحو مكة المكرّمة وبلادنا الغالية!!
14ـ في طريقنا من مكة إلى عرفة منع الشرطي دخول الباصات؛ بحجة عدم التصريح، فقطعنا المسافة مشياً، وتبدّد جمعنا، ولأنّ الوقت كان صيفاً ضارياً ألهبتنا الشمس بسياطها المحرقة، وطوال طريق مسافته تزيد على العشرة كيلومترات، ذرعت عيوننا كلّ حنايا الطريق لعلّنا نجد علبة ماء نشربها، ولو كان سعرها خمسين ريالاً، فقد أجهدنا الظمأ، وقطّع مهجنا العطش، ولفح أجسادنا حرّ الشمس؛ فلم نجد، لا بيعاً بمال، ولا توزيعاً مجانياً خيرياً، حتى سقطنا على جانبي الطريق نتلهف لجرعة ماء، ولم نجدها، فالتقطنا خيوط تعبنا، وأكملنا المشوار، ونحن نتفتت من الظمأ، ولم نشرب قطرة ماء حتى وصلنا إلى مخيمات الحملة!!، وفي قلوبنا تشرق كربلاء، والكرم العراقي الذي لا يوصف!!
15ـ في عرفة ومزدلفة ومنى ذهبتُ إلى الحمامات، ووقفت مع الناس في الطوابير المصطفة للدخول، ولم يصل دوري إلا بعد ساعة أو أكثر كنتُ أقبض فيها على نار بطني!!
وفي مزدلفة افترشنا ـ كسائر الناس ـ الأرض، ونمنا على الإسفلت (الوثير)!!، فهنا لا مضايف، ولا خيام راحة، ولا هم يحزنون!!!
من جديد أطلت علينا بوجهها المشرق البهي الوضّاء العراق والنجف وكربلاء، وتذكرنا أنّ كلّ البيوت في المسافة الممتدة بين النجف ـ كربلاء، بكلّ ما فيها من مرافق، ومنها الحمامات لقضاء الحاجة، والغرف والصالات للاسترخاء، وما فيها من مشروبات ومأكولات وخدمة، مفروشة تحت أقدام الزوار، هي لهم..، بينما أهل البيت يخدمون، وإذا ناموا.. ناموا فوق السطح: يفترشون الإسمنت، ويعانقون الشمس نهاراً والبرد ليلاً، ويتدثرون بلحاف السماء.
16- أكثر من خمسة وعشرين مليون زائر للحسين في الأربعين، ولا تضيق بهم ذرعاً النجف، ولا كربلاء، ولا بغداد، وتحتضنهم احتضان الأم الحنون، ولا يضيق بهم ذرعاً أهل العراق الفقراء المعدمون!!
وحجاج بيت الله الحرام من حجاج الداخل والخارج لا يصل عددهم إلى خمسة ملايين، وخلفهم أغنى دولة نفطية، يتبجّح حاكمها بأنّه (خادم الحرمين)!!، وتتبجّح سلطاتها بأنّها أرض الحرمين، وأطهر بقاع الأرض، ومع ذلك تضيق بهم ذرعاً، وتريد تصريفهم بأسرع وقت، فهي تخاف الأمن، وتخاف المرض، وتخاف الإدارة، ونزدان في أيام الحجّ بغلاء في الإيجار، وغلاء في المبيعات، وغلاء في المواصلات، حتى يصل (تخطير) الحاج نفق المعيصم وحده، والذي لا يتعدى 500 متر، وبالدراجة النارية (الماطور) إلى مئة ريال!!!!
17ـ استغربتُ كثيراً: كيف يوفر الشعب العراقي الفقير كلّ هذه الضيافة المجانية لأكثر من خمسة وعشرين مليون زائر للحسين، ودولتنا النفطية ذات الميزانية التريليوينية الفلكية؛ يظمأ فيها الحجّاج، وينهشهم وحش الجوع، ولا يجدون جرعة ماء ـ حتى بيعاً، فضلاً عن التوزيع الخيري!! ـ يبلون بها ريقهم!!!!
18ـ ومع أنّ زوّار الحسين في الأربعين يتجاوز عددهم الخمسة والعشرين مليون زائر، وكثير منهم يشقون الطريق إلى الحسين مشاة، ويأكلون ويشربون وينامون في مضافات الطريق، إلا أنّ الطرق نظيفة، والروائح شذية، يزينها العراقيون بالمسك والعنبر، بينما تتكدس طرق مكة، ولا سيما المشاعر الثلاثة: (عرفة، ومزدلفة، ومنى) بالقاذورات، وتعجّ بالأوساخ، وتتصايح من فورة النتن!!!!
فأين يكمن الخلل؟!!
19ـ الخلل يكمن في شيء واحد هو: نفوسنا ووجداننا وعواطفنا ومشاعرنا:
العراقيون يموتون حبّاً في أهل البيت، ومنهم علي والحسين والكاظِمَين والعسكريين (ع)، ويفدونهم بكلّ ما يملكون، بل ويفدونهم بنفوسهم الغالية، ويترشح حبّهم لأممتهم على زوّار أئمتهم؛ فيحبّونهم، ويشعرون أنّهم أنفسهم وذاتهم وكيانهم، ويحرصون عليهم حرصهم على أعينهم وذواتهم وفلذات أكبادهم، ويغسلون أرجلهم وثيابهم، ويتهافتون ويتبارون ليقدموا لهم الماء والشاي والحليب وسائر أنواع المأكولات، وفي قلوبهم يشقشق حبّ الحسين، وحبّ من يحبّ الحسين!!
أما السلطات السعودية المهرّجة البائسة الممسكة فتنظر للحجّ بوصفه (مصيبة وكارثة)، تريد أن تتجاوزها بأسرع وقت، وأدنى خطر، وأقلّ كلفة، فلا تسهر على خدمة حجاج، بل تمنع المبادرين الأخيار أن يخدموهم، فتمنعهم من توزيع الماء والغذاء؛ لئلا يظهر وجهها القبيح
لا تنسونا من دعـــائكم