شجون الزهراء
27-12-2014, 02:20 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
وكان ذلك القائد الذي نصَّبه اللـه للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السّلام)، الذي كان صورةً حية وماثلة للتعاليم والْمُثل الإسلامية جميعاً .
قبض النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة ، بعد أن اكتملت الرسالة الإلهية ، وبتحقيق آخر هدف من أهدافها الرئيسية ، وهو نصب القائد والمنفِّذ الصالح، وإرساء قواعد القيادة الصالحة للمسلمين إلى الأبد .
وكان ذلك القائد الذي نصَّبه اللـه للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السّلام)، الذي كان صورةً حية وماثلة للتعاليم والْمُثل الإسلامية جميعاً .
وكانت تلك القيادة التي أمر بها اللـه تعالى ، قيادة الفرد الذي أدرك الشريعة الإسلامية إدراكاً كاملاً ، حتى صار فقيهاً في أحكامها ، بصيراً بأهدافها ، ثم طبّقها على نفسه ، وامتزج فيها وتجاوبت أطرافه لها، ثم عرف الناس ذلك منه واطمأنوا على زعامته ، فجعلوه حجة بينهم وبين ربهم .
ولما اكتملت أهداف الرسالة ، اكتملت مسؤوليات الرسول وأعلن اللـه ذلك بقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة/3)
ومرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) واشتدّ مرضه . وأخذ السم الذي دس إليه يؤثر فيه ، يوماً بعد يوم .. وكل يوم كان يقضيه الرسول ، كان خطوة إلى الموت .
وفاطمة (عليها السّلام) تعرف أباها كأفضل ما تكون المعرفة . تعرف فضله ، ومجده وتعرف خدماته في سبيل اللـه والإنسانية .. وهي تحبه ، لأنه والدها ، وكان أحب الناس إلى اللـه جميعاً ، واللـه أحب إلى فاطمة من كل شيء .
فهي تحب أباها ، لأنه أقرب إليها ، ولأنه رسول اللـه الذي يجب أن تكنّ له الحب والإحترام .
وأما الآن فهي ترى والدها يجود بنفسه ، فلم تستطع أن تصبر على هذا المنظر الكئيب .. فخرجت .. وأُخرج كل من كان في الغرفة ، إلاّ عليّاً (عليه السّلام) ، الذي كان يراقب أحوال الرسول (صلى الله عليه وآله). ذهبت فاطمة إلى بيتها ، وقبل أن يستقر بها المجلس ، إذا بها تسمع الصياح قد ارتفع من حجرة الرسول . وكانت قريبة إلى بيت فاطمة عليها الصلاة والسلام ، فأسرعت إليها مدهوشة ، وإذا بها تنبأ بوفاة والدها .
كان لموت الرسول (صلى الله عليه وآله) أثر عميق وبليغ في فؤاد فاطمة (عليها السّلام) حتى أنها ما رؤيت مبتسمةً بعده قط ، إلاّ حين نَعَى إليها نفسَها ، حيث علمت باقتراب أجلها وحلول ميعاد الالتحاق بأبيها .
فمازالت فاطمة بعد أبيها معصبة الرأس ، ناحلــة الجسم ، منهَّدة الركن ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة .
وبلغ بها البكاء على أبيها أنَّ أهل المدينة شكوا إلى أمير المؤمنين أمرها واقترحوا عليها أن تبكي إما ليلاً أو نهاراً . بيد أنها لما سمعت بذلك اشتد بكاؤها وأبت إلاّ أن تبكي على والدها أبداً ، حتى تلتحق به ، وأضافت بأنه ما أقل مكثي بين أظهرهم .
وقد كان لبكاء فاطمة أثر ديني ، كما كان لمنع أهل المدينة مغزى سياسي .. كانت فاطمة تبكي فتلفت أنظــار العالم إلى أنها هي المخصوصة بالنبي (صلى الله عليه وآله) . وهــي بقيَّته في الأرض ، ومنها نسكه الطاهر المطهَّر ، وأولادها أولاده إلى أبد الآبدين . وكان لمنع أهل المدينة لها من البكاء تحدٍّ لهذا البيت - بيت أمير المؤمنين (عليه السّلام) - الذي يحمل أعباء حفظ الرسالة بعد النبيِّ ، وتحدٍّ للنبيِّ ولكل ما جاء به عن ربَّه ، بدأوا يظهرونه مرةً بعد مرة إلى أن انتهى بأخذ فدك ، ونهبها وغصبها .
النصوص تتحدث عن فضائل الزهراء عليها السلام
ألف - العابدة الزاهدة :
1- روى ابن شهر اشوب عن الحسن البصري أنه قال : ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة ، كانت تقوم حتى تورَّمت قدماها .
2- وروي عن الإمام الحسن(عليه السّلام)أنه قال : رأيت أمي فاطمة ليلة الجمعة وقد وقفت للعبادة .. ومازالت بين راكعة وساجدة وقائمة وقاعدة ، حتى أسفر الصبح . وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ، تسميهم بأسمائهــــم .. قـال الإمام (عليه السلام) فقلت يا أماه : لماذا لم تدعي لنفسك ، وإنما دعوتِ لسائر المؤمنين ؟ قالت : يا بُنَيَّ الجار ثم الدار .
3- وروي عن الصادق (عليه السّلام) انه حدّث : بانه دخل رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) على فاطمة يوماً ، فرآها قد لبست ثوباً من صوف الإبل . وهي تطحن بيديها ، وترضع ابنها ، فلما رأى الرسول ذلك بكى وقال : بنيّة ، ذوقي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة . فقالت فاطمة : أحمد اللـه على نعمائه وأشكره على آلائه .. فنزلت هذه الآية : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى/5)
4- وروى أحمــد بن حنبل في مسنده : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا سافر ، آخر عهده بإنسان، فاطمة.
وأوّل من يدخل عليه إذا قدم فاطمة . فقدم من غزاة ، فأتاها فإذا بمسع [1] على بابها ، ورأى على الحسن والحسين ، قلبين [2] من فضة فرجع ولم يدخل عليها . فظنت أنه من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيَّين ، فقطعتهما . فبكى الصبيان فقسمته بينهما فانطلقا إلى رسول اللـه وهما يبكيان فأخذه منهما ، وقال : ( يا ثوبان - هو مولى الرسول الراوي لهذا الحديث - اذهب بهذا إلى بني فلان واشتر لفاطمة قلادة من عصب - وهو سن دابة بحرية - وسوارين من غاح ، فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ) .
وفــي رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين وصلت إليه هذه الأمتعة وأمرته فاطمــــة بإنفاقها في سبيل اللـه قال : ( فعلت فداها أبوها ، فعلت فداها أبوها ، فعلت فداها أبوها ، ومثل هذا الحديث ما روي عن الرضا (عليه السّلام) عن آبائه ، عن علي بن الحسين (عليه السّلام) أنه قال : حدّثتني اسماء بنت عميس قالت : كنت عند فاطمة (عليه السّلام) إذ دخل عليها رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب (عليه السّلام) من فيء ، فقال لها رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) : يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة ، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة - أي أَمَةً - فأعتقتها ، فسرَّ رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ) .
5- وروى الصدوق ( ره ) عن عليّ (عليه السّلام) أنه قال :
( إنَّ فاطمة (عليها السّلام) أستقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها ، وطحنت بالرحى حتى نحلت [3] يداها، وكسحت [4] البيت حتى أغبرت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت [5] ثيابها ) الحديث .
6- وكانت فاطمة(عليها السّلام)تتحمل مع علي مشاكل الحياة في ظروف الجهاد الصعبة فقد جاء في الحديث عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال :
( إن فاطمة (عليها السّلام) ضمنت لعلي (عليه السّلام) عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت وضمن لها علي (عليه السّلام) ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام ، فقال لها يوماً : يا فاطمة هل عندك شيء ؟ قالت : والذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به . قال : أفلا أخبرتني ؟ قالت : كان رسول اللـه نهاني أن أسألك شيئاً . فقال : لا تسألين ابن عمّك شيئاً إن جاءك بشيء ، وإلاّ فلا تسأليه .
قال فخرج(عليه السّلام)فلقي رجلاً فاستقرض منه ديناراً ثمَّ أقبل به وقد أمسى فَلقي المقداد ابن الأسود فقال للمقداد : ما أخرجك في هذه الساعة ؟ قال : الجوع والذي عظّم حقك يا أمير المؤمنين ، قال : قلت لأبي جعفر(عليه السّلام): ورسول اللـه (صلى الله عليه وآله) حيٌّ ، قال : ورسول اللـه (صلى الله عليه وآله) حيٌّ ؟ قال : فهو أخرجني وقد استقرضت ديناراً وسأؤثرك به فدفعه إليه فأقبل فوجد رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) جالساً وفاطمة تصلي وبينهما شـيء مغطّى . فلمّا فرغت أجترّت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم قال : يا فاطمة أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللـه إن اللـه يرزق من يشاء بغير حساب ، فقال له رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) : ألا أحدِّثك بمثلك ومثلها ؟ قال : بلى ، قال : مثلك مثل زكريا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً قال : يا مريم أنّى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللـه إنّ اللـه يرزق من يشاء بغير حساب . فأكلوا منها شهراً وهي الجفنة التي يأكل منها القائم (عليه السّلام) وهي عندنا ) .
وفي حديث آخر مأثور في المراسيل أن الحسن والحسين كان عليهما ثياب خَلَقة وقد قرب العيد ، فقالا لأمهما فاطمة (عليها السّلام) :
( إنّ بني فلان خِيطت لهم الثياب الفاخرة ، أفلا تخيطين لنا ثياباً للعيد يا أماه ؟ فقالت : يخاط لكما إن شاء اللـه ، فلما أن جاء العيد جاء جبرائيل بقميصين من حلل الجنّة إلى رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، فقال له رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) : ما هذا يا أخي جبرائيل ؟ فأخبره بقول الحسن والحسين لفاطمة وبقول فاطمة يخاط لكما إن شاء ، ثمَّ قال جبرائيل : قال اللـه تعالى لما سمع قولها : لانستحسن أن نكذِّب فاطمة بقولها ، يخاط لكما إن شاء اللـه .
وعن سعيد الحفّاظ الديلمي بإسناده عن أنس قال : قال رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) :
( بينما أهل الجنّة في الجنّة يتنعمون ، وأهل النار في النار يعذبون إذا لأهل الجنّة نور ساطع ، فيقول بعضهم لبعض : ما هذا النور لعلَّ ربُّ العزَّة اطَّلع فنظر إلينا . فيقول لهم رضوان : لا ، ولكن عليّاً (عليه السّلام) مازح فاطمة فتبسمت فأضاء ذلك النور من ثناياها ) .[6]
ولم يكد الإمام علي (عليه السّلام) يفرغ من دفن رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) حتى هبت على الأمة رياح الجاهلية وأوشكت أن تقتلع شجرة الإسلام الطرية .. وكان على بيت الرسالة أن يقف كالجبل الأشم في وجه عواصف الرِّدة . ويحافظ على كيان الإسلام وفاءً بعهده مع رسول اللـه ، وتحقيقاً لدوره المرسوم الذي عبّر عنه صاحب الوحي (صلى الله عليه وآله) حيث قال :
( إني تارك فيكم الثقلَين : كتابَ اللـه ، وعترتي أهلَ بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً ) .
وحين قال : ( مَثًلُ أهل بيتي كسفينة نوح ، مَن ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها هلك ) .
وحين قال : ( فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني ، ومن أغضبها فقد أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب اللـه ) .
وكانت فاطمة قطب الرحى في بيت الرسالة .. فماذا فعلت وكيف نهضت بأعباء الحركة التصحيحية ؟
والجــواب : أنه بالرغم من سيطرة الإسلام السياسية على شبه الجزيرة العربية التي ضمنت دخول الناس
أفواجــاً في دين اللـه ، ابتداء من صلح الحديبية ، فإن دعائم الإيمان وشرائع الإسلام لَمَّا تَترسَّخ في النفوس ..
بل كانت النفوس الطامحة للمغانم . والتي مردت على النفاق ، تهدد سلامة المجتمع الإسلامي ، خصوصاً بعد غياب النبي (صلى الله عليه وآله) الذي كان يشكِّل : الرسول ، والقائد ، والأب ، والعمد ، والثقل الأعظم في الدين والدولة والمجتمع .
وبالرغم من أن الرسول لم يترك فرصة إلاّ انتهزها لتوجيه أنظار المسلمين إلى الخط الرسالي الذي يمثل الصراط المستقيم في الأمة ويؤدي دوره ، وينهض بذات المسؤوليات التي كان يقوم بها ، كل ذلك من أجل التعويض عن الفراغ الذي كان سيسببه غيابه (صلى الله عليه وآله) عن الأمة .
وكان أعظم مناسبة أكَّد فيها الرسول دور وصيّه ، الإمام علي (عليه السّلام) وأهل بيته الصدِّيقين ، هي مناسبة عودته من حجة الوداع وتوقُّفه في منطقة صحراوية سميت باسم “ غدير خُم “ فاشتهرت المناسبة بغدير خم حيث رفع النبي يد الإمام علي (عليه السّلام) أمام أكثر من مائة ألف من مرافقيه وقال : ( من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ) .
أقول بالرغم من ذلك كله ، فإنّ تكريس عهد الوصاية بعد عهد الرسالة لم يتم من دون صعوبات ، بل تضحيات . وكانت فاطمة الزهراء أول مضحية في سبيل اللـه . ومن أجل هذا الهدف .
كانت صرخة محمدية دوت في حياة الأمة قائلة : إن مات محمد فإن خطه لم يمت .. وإن سكت محمد (صلى الله عليه وآله) فإن بضعته الطاهرة تنطق عنه ، وتُخرس أصوات الجاهلية بكل قوة .
كانت فاطمة البدر الزاهر الذي تحدَّى ظلام الأفق بعد غياب شمس الرسالة وهي تقول : إن كان الوحي قد انقطع وغاب ، فإن شعاعه لايزال منيراً ، لأنه صب في ضمير فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) كل وكانت فاطمة الشمس الدافئة التي التمس الناس منها الدفء في عهد كاد زمهرير حب الراحة والركون إلى الدعة تقضي على حرارة الإيمان وعنفوان الجهاد والتضحية .
لم تقف فاطمة الزهراء ، ضد السلطة السياسية ، بقدر ما وقفت ضد عوامل الضعف والتواني التي كادت تتغلب على المجتمع ، وبالذات على الطليعة ، من المهاجرين والأنصار ..
وقد اتبعت فاطمة (عليها السّلام) خُططاً حكيمة ، لتحقيق الهدف ، ومن أبرزها :
أولاً : تحريض النساء على رجالهن .
ثانياً : إحياء ذكرَى الرسول في الأمة ، بالوله إليه والبكاء عليه .
فاطمة الزهراء تحرض نساء المدينة :
لـــم تعش فاطمة الزهراء (عليها السّلام) بعد أبيها إلاّ تسعين يوماً حسب بعض التواريخ . وأما حسب البعض الآخــر فانها عاشت أقل من ذلك بكثير وخلال الفترة كانت حزينة كئيبة منهَّدة الركن ، بل كانت مريضة طريحة الفراش ، فزارتها نسوة من المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها في علتها ، فقلن : السلام عليكِ يا بنت رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، كيف أصبحتِ ؟
فقالت : أصبحت واللـه عائفة لدنياكنَّ ، قالية لرجالكن لفظتهم بعد إذ عجمتهم [7] وسئمتهم بعد أن سبرتهم فَقُبحاً لأفون الرَّأي ، وخطل القول ، وخَوَر القناة [8] ، ولبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط اللـه عليهم وفي العذاب هم خالدون ، لاجرم واللـه لقد قلّدتُهم ربقتها ، وشننتُ عليهم غارها ، فجدعاً ورغماً للقوم الظالمين . [9]
ويحهم أَنَّى زحزحوها عن أبي الحسن ، ما نقموا واللـه منه إلاّ نكير سيفه [10] ونكال وقعه ، وتنمّره في ذات اللـه [11] ، وتاللـه لو تكافّوا عليه من زمام نبذه إليه رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) لاعتلقه ، ثمَّ لسار بهم سيرة سحجاً [12] ، بجحاً ، فإنه قواعد الرسالة ، ورواسي النبوَّة ، ومهبط الرُّوح الأمين ، والطَّبين [13] بأمر الدين والدُّنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .
واللـه لايكتلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولا وردهم منهلاً رويّاً فضفاضاً [14] تطفح ضفَّته ، ولا صدرهم بطاناً قد خثر بهم الرّيُّ غير متحل بطائل إلاّ تغمر الناهل وردع سورة سغب [15] ، ولفتحت عليهم . بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللـه بما كانوا يكسبون .
فهلمَّ فاسمع ، فما عشت أراك الدَّهر عجباً ، وإن تعجب بعد الحادث فما بالهم ؟ بأيِّ سند استندوا ، أم بأية عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا .
استبدلوا الذنابي بالقوادم ، والحرون بالقاحم ، والعجز بالكاهل [16]، فتعساً لقوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون ، أفمن يهدي إلى الحقِّ أحق أن يُتبع أمَّن لا يَهِدي إلا أن يُهدى ، فمالكم كيف تحكمون ؟..
لقحت فنظرت ريثما تنتج ، ثمَّ احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً ، وذعافاً ممضّاً [17] هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسكن الأولون ، ثمَّ طيبوا بعد ذلك عن أنفسكم لفتنها ، ثمَّ اطمئنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم ، وهرج دائما شامل ، واستبداد من الظالين ، فزرع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لهم ، وقد عميت عليهم الأنباء ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .
ـــــــــــــــ
([1]) وهو كساء .
([2]) أي سوارين .
([3]) كما يحدث عند كثرة ممارسة العمل .
([4]) أي كنست .
([5]) أي أسودت .
([6]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 75 .
([7]) " عائفة " كارهة . و " قالية " مبغضة و " لفظت " الشيء من فمي - رميته و " عجمت " العود - إذا عضضته .
([8]) " شنــــأه " أبغضه و " سبرتهم " اختبرتم و " الفلول " - التلمة والكسر و " الخور " - الضعــــف و " الخطل " الفاسد المضطرب .
([9]) " لقد قلدتهم ربقتها " جعلت أتم الخطيئة في رقابهم و " شننت عليهم غارها " فرقت الفارة عليهم من كل صوب و " جدعاً " قطع الأنف والأذن أو الشفة .
([10]) " نكير سيفه " انكار سوفه وخوف شجاعته .
([11]) " نكال وقعه " هيبة صدمته في الحرب و " تنمّره في ذات اللـه " - سكرته من أجل اللـه كما النمر لاتكفاه إلاّ غاضباً شديداً .
([12]) " لو تكافوا عليه من زمام " لو منعوا أنفسهم عن التصرف في مفوداً أعطاه الرسول و " لاعتلقه " أخذ المقود بحب شديد .
([13]) " سيراً سحجاً " سيراً ليناً سهلاً . " الطبين " الفطن الحاذق .
([14]) " لايكتلم " لا يجرح و " الخشاش " ما يجعل في أنف البعير وربما التعبير كناية عن قدرته الكبيرة على متابعة السير . و " يتعتع راكبه " يزعج راكبه " المنهل " المورد " و " الفضفاض " الواسع .
([15]) " ردع سورة سغب " مقاومة شدة الجوع .
([16]) " الذنابي بالقوادم " المتأخر بالمتقدم والذنابي آخر ريش الطائر والقوادم أول ريشه . و " الحرون " الفرس الذي لاينقاد استعير للجاهل و " القاحم " و " العجز بالكاهل " المتأخر بالمتقدم .
([17]) " لقحت " حملت " فريت لما تنتج " انتظروا ساعة الولادة و " ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً " دعوا القدح يمتلئ من الدم العبيط ، و " ذعافاً ممضّاً " سُماً مراً .
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
وكان ذلك القائد الذي نصَّبه اللـه للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السّلام)، الذي كان صورةً حية وماثلة للتعاليم والْمُثل الإسلامية جميعاً .
قبض النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة ، بعد أن اكتملت الرسالة الإلهية ، وبتحقيق آخر هدف من أهدافها الرئيسية ، وهو نصب القائد والمنفِّذ الصالح، وإرساء قواعد القيادة الصالحة للمسلمين إلى الأبد .
وكان ذلك القائد الذي نصَّبه اللـه للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السّلام)، الذي كان صورةً حية وماثلة للتعاليم والْمُثل الإسلامية جميعاً .
وكانت تلك القيادة التي أمر بها اللـه تعالى ، قيادة الفرد الذي أدرك الشريعة الإسلامية إدراكاً كاملاً ، حتى صار فقيهاً في أحكامها ، بصيراً بأهدافها ، ثم طبّقها على نفسه ، وامتزج فيها وتجاوبت أطرافه لها، ثم عرف الناس ذلك منه واطمأنوا على زعامته ، فجعلوه حجة بينهم وبين ربهم .
ولما اكتملت أهداف الرسالة ، اكتملت مسؤوليات الرسول وأعلن اللـه ذلك بقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة/3)
ومرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) واشتدّ مرضه . وأخذ السم الذي دس إليه يؤثر فيه ، يوماً بعد يوم .. وكل يوم كان يقضيه الرسول ، كان خطوة إلى الموت .
وفاطمة (عليها السّلام) تعرف أباها كأفضل ما تكون المعرفة . تعرف فضله ، ومجده وتعرف خدماته في سبيل اللـه والإنسانية .. وهي تحبه ، لأنه والدها ، وكان أحب الناس إلى اللـه جميعاً ، واللـه أحب إلى فاطمة من كل شيء .
فهي تحب أباها ، لأنه أقرب إليها ، ولأنه رسول اللـه الذي يجب أن تكنّ له الحب والإحترام .
وأما الآن فهي ترى والدها يجود بنفسه ، فلم تستطع أن تصبر على هذا المنظر الكئيب .. فخرجت .. وأُخرج كل من كان في الغرفة ، إلاّ عليّاً (عليه السّلام) ، الذي كان يراقب أحوال الرسول (صلى الله عليه وآله). ذهبت فاطمة إلى بيتها ، وقبل أن يستقر بها المجلس ، إذا بها تسمع الصياح قد ارتفع من حجرة الرسول . وكانت قريبة إلى بيت فاطمة عليها الصلاة والسلام ، فأسرعت إليها مدهوشة ، وإذا بها تنبأ بوفاة والدها .
كان لموت الرسول (صلى الله عليه وآله) أثر عميق وبليغ في فؤاد فاطمة (عليها السّلام) حتى أنها ما رؤيت مبتسمةً بعده قط ، إلاّ حين نَعَى إليها نفسَها ، حيث علمت باقتراب أجلها وحلول ميعاد الالتحاق بأبيها .
فمازالت فاطمة بعد أبيها معصبة الرأس ، ناحلــة الجسم ، منهَّدة الركن ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة .
وبلغ بها البكاء على أبيها أنَّ أهل المدينة شكوا إلى أمير المؤمنين أمرها واقترحوا عليها أن تبكي إما ليلاً أو نهاراً . بيد أنها لما سمعت بذلك اشتد بكاؤها وأبت إلاّ أن تبكي على والدها أبداً ، حتى تلتحق به ، وأضافت بأنه ما أقل مكثي بين أظهرهم .
وقد كان لبكاء فاطمة أثر ديني ، كما كان لمنع أهل المدينة مغزى سياسي .. كانت فاطمة تبكي فتلفت أنظــار العالم إلى أنها هي المخصوصة بالنبي (صلى الله عليه وآله) . وهــي بقيَّته في الأرض ، ومنها نسكه الطاهر المطهَّر ، وأولادها أولاده إلى أبد الآبدين . وكان لمنع أهل المدينة لها من البكاء تحدٍّ لهذا البيت - بيت أمير المؤمنين (عليه السّلام) - الذي يحمل أعباء حفظ الرسالة بعد النبيِّ ، وتحدٍّ للنبيِّ ولكل ما جاء به عن ربَّه ، بدأوا يظهرونه مرةً بعد مرة إلى أن انتهى بأخذ فدك ، ونهبها وغصبها .
النصوص تتحدث عن فضائل الزهراء عليها السلام
ألف - العابدة الزاهدة :
1- روى ابن شهر اشوب عن الحسن البصري أنه قال : ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة ، كانت تقوم حتى تورَّمت قدماها .
2- وروي عن الإمام الحسن(عليه السّلام)أنه قال : رأيت أمي فاطمة ليلة الجمعة وقد وقفت للعبادة .. ومازالت بين راكعة وساجدة وقائمة وقاعدة ، حتى أسفر الصبح . وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ، تسميهم بأسمائهــــم .. قـال الإمام (عليه السلام) فقلت يا أماه : لماذا لم تدعي لنفسك ، وإنما دعوتِ لسائر المؤمنين ؟ قالت : يا بُنَيَّ الجار ثم الدار .
3- وروي عن الصادق (عليه السّلام) انه حدّث : بانه دخل رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) على فاطمة يوماً ، فرآها قد لبست ثوباً من صوف الإبل . وهي تطحن بيديها ، وترضع ابنها ، فلما رأى الرسول ذلك بكى وقال : بنيّة ، ذوقي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة . فقالت فاطمة : أحمد اللـه على نعمائه وأشكره على آلائه .. فنزلت هذه الآية : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى/5)
4- وروى أحمــد بن حنبل في مسنده : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا سافر ، آخر عهده بإنسان، فاطمة.
وأوّل من يدخل عليه إذا قدم فاطمة . فقدم من غزاة ، فأتاها فإذا بمسع [1] على بابها ، ورأى على الحسن والحسين ، قلبين [2] من فضة فرجع ولم يدخل عليها . فظنت أنه من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيَّين ، فقطعتهما . فبكى الصبيان فقسمته بينهما فانطلقا إلى رسول اللـه وهما يبكيان فأخذه منهما ، وقال : ( يا ثوبان - هو مولى الرسول الراوي لهذا الحديث - اذهب بهذا إلى بني فلان واشتر لفاطمة قلادة من عصب - وهو سن دابة بحرية - وسوارين من غاح ، فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ) .
وفــي رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين وصلت إليه هذه الأمتعة وأمرته فاطمــــة بإنفاقها في سبيل اللـه قال : ( فعلت فداها أبوها ، فعلت فداها أبوها ، فعلت فداها أبوها ، ومثل هذا الحديث ما روي عن الرضا (عليه السّلام) عن آبائه ، عن علي بن الحسين (عليه السّلام) أنه قال : حدّثتني اسماء بنت عميس قالت : كنت عند فاطمة (عليه السّلام) إذ دخل عليها رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب (عليه السّلام) من فيء ، فقال لها رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) : يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة ، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة - أي أَمَةً - فأعتقتها ، فسرَّ رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ) .
5- وروى الصدوق ( ره ) عن عليّ (عليه السّلام) أنه قال :
( إنَّ فاطمة (عليها السّلام) أستقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها ، وطحنت بالرحى حتى نحلت [3] يداها، وكسحت [4] البيت حتى أغبرت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت [5] ثيابها ) الحديث .
6- وكانت فاطمة(عليها السّلام)تتحمل مع علي مشاكل الحياة في ظروف الجهاد الصعبة فقد جاء في الحديث عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال :
( إن فاطمة (عليها السّلام) ضمنت لعلي (عليه السّلام) عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت وضمن لها علي (عليه السّلام) ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام ، فقال لها يوماً : يا فاطمة هل عندك شيء ؟ قالت : والذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به . قال : أفلا أخبرتني ؟ قالت : كان رسول اللـه نهاني أن أسألك شيئاً . فقال : لا تسألين ابن عمّك شيئاً إن جاءك بشيء ، وإلاّ فلا تسأليه .
قال فخرج(عليه السّلام)فلقي رجلاً فاستقرض منه ديناراً ثمَّ أقبل به وقد أمسى فَلقي المقداد ابن الأسود فقال للمقداد : ما أخرجك في هذه الساعة ؟ قال : الجوع والذي عظّم حقك يا أمير المؤمنين ، قال : قلت لأبي جعفر(عليه السّلام): ورسول اللـه (صلى الله عليه وآله) حيٌّ ، قال : ورسول اللـه (صلى الله عليه وآله) حيٌّ ؟ قال : فهو أخرجني وقد استقرضت ديناراً وسأؤثرك به فدفعه إليه فأقبل فوجد رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) جالساً وفاطمة تصلي وبينهما شـيء مغطّى . فلمّا فرغت أجترّت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم قال : يا فاطمة أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللـه إن اللـه يرزق من يشاء بغير حساب ، فقال له رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) : ألا أحدِّثك بمثلك ومثلها ؟ قال : بلى ، قال : مثلك مثل زكريا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً قال : يا مريم أنّى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللـه إنّ اللـه يرزق من يشاء بغير حساب . فأكلوا منها شهراً وهي الجفنة التي يأكل منها القائم (عليه السّلام) وهي عندنا ) .
وفي حديث آخر مأثور في المراسيل أن الحسن والحسين كان عليهما ثياب خَلَقة وقد قرب العيد ، فقالا لأمهما فاطمة (عليها السّلام) :
( إنّ بني فلان خِيطت لهم الثياب الفاخرة ، أفلا تخيطين لنا ثياباً للعيد يا أماه ؟ فقالت : يخاط لكما إن شاء اللـه ، فلما أن جاء العيد جاء جبرائيل بقميصين من حلل الجنّة إلى رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، فقال له رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) : ما هذا يا أخي جبرائيل ؟ فأخبره بقول الحسن والحسين لفاطمة وبقول فاطمة يخاط لكما إن شاء ، ثمَّ قال جبرائيل : قال اللـه تعالى لما سمع قولها : لانستحسن أن نكذِّب فاطمة بقولها ، يخاط لكما إن شاء اللـه .
وعن سعيد الحفّاظ الديلمي بإسناده عن أنس قال : قال رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) :
( بينما أهل الجنّة في الجنّة يتنعمون ، وأهل النار في النار يعذبون إذا لأهل الجنّة نور ساطع ، فيقول بعضهم لبعض : ما هذا النور لعلَّ ربُّ العزَّة اطَّلع فنظر إلينا . فيقول لهم رضوان : لا ، ولكن عليّاً (عليه السّلام) مازح فاطمة فتبسمت فأضاء ذلك النور من ثناياها ) .[6]
ولم يكد الإمام علي (عليه السّلام) يفرغ من دفن رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) حتى هبت على الأمة رياح الجاهلية وأوشكت أن تقتلع شجرة الإسلام الطرية .. وكان على بيت الرسالة أن يقف كالجبل الأشم في وجه عواصف الرِّدة . ويحافظ على كيان الإسلام وفاءً بعهده مع رسول اللـه ، وتحقيقاً لدوره المرسوم الذي عبّر عنه صاحب الوحي (صلى الله عليه وآله) حيث قال :
( إني تارك فيكم الثقلَين : كتابَ اللـه ، وعترتي أهلَ بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً ) .
وحين قال : ( مَثًلُ أهل بيتي كسفينة نوح ، مَن ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها هلك ) .
وحين قال : ( فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني ، ومن أغضبها فقد أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب اللـه ) .
وكانت فاطمة قطب الرحى في بيت الرسالة .. فماذا فعلت وكيف نهضت بأعباء الحركة التصحيحية ؟
والجــواب : أنه بالرغم من سيطرة الإسلام السياسية على شبه الجزيرة العربية التي ضمنت دخول الناس
أفواجــاً في دين اللـه ، ابتداء من صلح الحديبية ، فإن دعائم الإيمان وشرائع الإسلام لَمَّا تَترسَّخ في النفوس ..
بل كانت النفوس الطامحة للمغانم . والتي مردت على النفاق ، تهدد سلامة المجتمع الإسلامي ، خصوصاً بعد غياب النبي (صلى الله عليه وآله) الذي كان يشكِّل : الرسول ، والقائد ، والأب ، والعمد ، والثقل الأعظم في الدين والدولة والمجتمع .
وبالرغم من أن الرسول لم يترك فرصة إلاّ انتهزها لتوجيه أنظار المسلمين إلى الخط الرسالي الذي يمثل الصراط المستقيم في الأمة ويؤدي دوره ، وينهض بذات المسؤوليات التي كان يقوم بها ، كل ذلك من أجل التعويض عن الفراغ الذي كان سيسببه غيابه (صلى الله عليه وآله) عن الأمة .
وكان أعظم مناسبة أكَّد فيها الرسول دور وصيّه ، الإمام علي (عليه السّلام) وأهل بيته الصدِّيقين ، هي مناسبة عودته من حجة الوداع وتوقُّفه في منطقة صحراوية سميت باسم “ غدير خُم “ فاشتهرت المناسبة بغدير خم حيث رفع النبي يد الإمام علي (عليه السّلام) أمام أكثر من مائة ألف من مرافقيه وقال : ( من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ) .
أقول بالرغم من ذلك كله ، فإنّ تكريس عهد الوصاية بعد عهد الرسالة لم يتم من دون صعوبات ، بل تضحيات . وكانت فاطمة الزهراء أول مضحية في سبيل اللـه . ومن أجل هذا الهدف .
كانت صرخة محمدية دوت في حياة الأمة قائلة : إن مات محمد فإن خطه لم يمت .. وإن سكت محمد (صلى الله عليه وآله) فإن بضعته الطاهرة تنطق عنه ، وتُخرس أصوات الجاهلية بكل قوة .
كانت فاطمة البدر الزاهر الذي تحدَّى ظلام الأفق بعد غياب شمس الرسالة وهي تقول : إن كان الوحي قد انقطع وغاب ، فإن شعاعه لايزال منيراً ، لأنه صب في ضمير فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) كل وكانت فاطمة الشمس الدافئة التي التمس الناس منها الدفء في عهد كاد زمهرير حب الراحة والركون إلى الدعة تقضي على حرارة الإيمان وعنفوان الجهاد والتضحية .
لم تقف فاطمة الزهراء ، ضد السلطة السياسية ، بقدر ما وقفت ضد عوامل الضعف والتواني التي كادت تتغلب على المجتمع ، وبالذات على الطليعة ، من المهاجرين والأنصار ..
وقد اتبعت فاطمة (عليها السّلام) خُططاً حكيمة ، لتحقيق الهدف ، ومن أبرزها :
أولاً : تحريض النساء على رجالهن .
ثانياً : إحياء ذكرَى الرسول في الأمة ، بالوله إليه والبكاء عليه .
فاطمة الزهراء تحرض نساء المدينة :
لـــم تعش فاطمة الزهراء (عليها السّلام) بعد أبيها إلاّ تسعين يوماً حسب بعض التواريخ . وأما حسب البعض الآخــر فانها عاشت أقل من ذلك بكثير وخلال الفترة كانت حزينة كئيبة منهَّدة الركن ، بل كانت مريضة طريحة الفراش ، فزارتها نسوة من المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها في علتها ، فقلن : السلام عليكِ يا بنت رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، كيف أصبحتِ ؟
فقالت : أصبحت واللـه عائفة لدنياكنَّ ، قالية لرجالكن لفظتهم بعد إذ عجمتهم [7] وسئمتهم بعد أن سبرتهم فَقُبحاً لأفون الرَّأي ، وخطل القول ، وخَوَر القناة [8] ، ولبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط اللـه عليهم وفي العذاب هم خالدون ، لاجرم واللـه لقد قلّدتُهم ربقتها ، وشننتُ عليهم غارها ، فجدعاً ورغماً للقوم الظالمين . [9]
ويحهم أَنَّى زحزحوها عن أبي الحسن ، ما نقموا واللـه منه إلاّ نكير سيفه [10] ونكال وقعه ، وتنمّره في ذات اللـه [11] ، وتاللـه لو تكافّوا عليه من زمام نبذه إليه رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) لاعتلقه ، ثمَّ لسار بهم سيرة سحجاً [12] ، بجحاً ، فإنه قواعد الرسالة ، ورواسي النبوَّة ، ومهبط الرُّوح الأمين ، والطَّبين [13] بأمر الدين والدُّنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .
واللـه لايكتلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولا وردهم منهلاً رويّاً فضفاضاً [14] تطفح ضفَّته ، ولا صدرهم بطاناً قد خثر بهم الرّيُّ غير متحل بطائل إلاّ تغمر الناهل وردع سورة سغب [15] ، ولفتحت عليهم . بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللـه بما كانوا يكسبون .
فهلمَّ فاسمع ، فما عشت أراك الدَّهر عجباً ، وإن تعجب بعد الحادث فما بالهم ؟ بأيِّ سند استندوا ، أم بأية عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا .
استبدلوا الذنابي بالقوادم ، والحرون بالقاحم ، والعجز بالكاهل [16]، فتعساً لقوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون ، أفمن يهدي إلى الحقِّ أحق أن يُتبع أمَّن لا يَهِدي إلا أن يُهدى ، فمالكم كيف تحكمون ؟..
لقحت فنظرت ريثما تنتج ، ثمَّ احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً ، وذعافاً ممضّاً [17] هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسكن الأولون ، ثمَّ طيبوا بعد ذلك عن أنفسكم لفتنها ، ثمَّ اطمئنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم ، وهرج دائما شامل ، واستبداد من الظالين ، فزرع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لهم ، وقد عميت عليهم الأنباء ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .
ـــــــــــــــ
([1]) وهو كساء .
([2]) أي سوارين .
([3]) كما يحدث عند كثرة ممارسة العمل .
([4]) أي كنست .
([5]) أي أسودت .
([6]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 75 .
([7]) " عائفة " كارهة . و " قالية " مبغضة و " لفظت " الشيء من فمي - رميته و " عجمت " العود - إذا عضضته .
([8]) " شنــــأه " أبغضه و " سبرتهم " اختبرتم و " الفلول " - التلمة والكسر و " الخور " - الضعــــف و " الخطل " الفاسد المضطرب .
([9]) " لقد قلدتهم ربقتها " جعلت أتم الخطيئة في رقابهم و " شننت عليهم غارها " فرقت الفارة عليهم من كل صوب و " جدعاً " قطع الأنف والأذن أو الشفة .
([10]) " نكير سيفه " انكار سوفه وخوف شجاعته .
([11]) " نكال وقعه " هيبة صدمته في الحرب و " تنمّره في ذات اللـه " - سكرته من أجل اللـه كما النمر لاتكفاه إلاّ غاضباً شديداً .
([12]) " لو تكافوا عليه من زمام " لو منعوا أنفسهم عن التصرف في مفوداً أعطاه الرسول و " لاعتلقه " أخذ المقود بحب شديد .
([13]) " سيراً سحجاً " سيراً ليناً سهلاً . " الطبين " الفطن الحاذق .
([14]) " لايكتلم " لا يجرح و " الخشاش " ما يجعل في أنف البعير وربما التعبير كناية عن قدرته الكبيرة على متابعة السير . و " يتعتع راكبه " يزعج راكبه " المنهل " المورد " و " الفضفاض " الواسع .
([15]) " ردع سورة سغب " مقاومة شدة الجوع .
([16]) " الذنابي بالقوادم " المتأخر بالمتقدم والذنابي آخر ريش الطائر والقوادم أول ريشه . و " الحرون " الفرس الذي لاينقاد استعير للجاهل و " القاحم " و " العجز بالكاهل " المتأخر بالمتقدم .
([17]) " لقحت " حملت " فريت لما تنتج " انتظروا ساعة الولادة و " ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً " دعوا القدح يمتلئ من الدم العبيط ، و " ذعافاً ممضّاً " سُماً مراً .