الشيخ عباس محمد
22-08-2015, 07:44 PM
التطهير في الآية على سبيل الدفع لا الرفع
كيف نستدل على عصمة الأئمة أو أهل البيت(عليهم السلام) منذ ولادتهم، فإنّ آية التطهير: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الاحزاب:33) جائت في حياتهم. فهل يعني هذا: أنّه لمّا نزلت الآية صاروا معصومين، وقبل نزول الآية كانوا غير معصومين، لأنّ الآية تقول: (( لِيُذهِبَ عَنكُم ))، ولم تقل: إنّ الله أذهب عنكم الرجس.
فكيف نستدل على عصمة أهل البيت(عليهم السلام) منذ الولادة؟
الجواب:
إنّ الإتيان بصيغة المضارع في مقام المدح أو الذم أو الشكر ونحوه، إنّما يفيد الإستمرار في الإتصاف، وليس التقيّد بهذا الإتصاف في الحال أو الإستقبال، ألا ترى أنّ قوله عزّ وجلّ: (( اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم وَيَمُدُّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ )) (البقرة:15)، ليس ناظراً إلى أنّه يستهزئ بهم في الحال أو الإستقبال، ولم يستهزئ بهم في الماضي، وإنّما يفيد أنّه سبحانه شأنه مع هؤلاء هو الإستهزاء بهم، أيّ أنّه سبحانه يجازيهم جزاء الإستهزاء، لأنّه سبحانه لا يستهزئ حقيقة, وذلك لأجل نفاقهم واستهزائهم برسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهكذا الحال في المقام, فإنّه تعالى شأنه، في مقام تنزيه أهل بيت النبوّة(عليهم السلام) عن الرجس, فقوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) ناظر إلى أنّه عزّ وجلّ إنّما يتصف بإرادة تنزيه أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الرجس, ويستمر في هذا الإتصاف, ولا نظر للكلام إلى أنّه يتصف بها في الحال, ولم يتصف بها من قبل, بل تبيين ضمير المخاطب بقوله تعالى: (( أَهلَ البَيتِ )) تنبيه على أنّه تعالى إنّما يريد إذهاب الرجس عنهم من جهة أنّهم (أهل البيت)، وهذه الخصوصية ثابتة لهم في الماضي والحال والإستقبال, فلا مجال حينئذ للتفكيك بين الأزمنة, وتعلق الإرادة بالتنزيه في الحال, دون الماضي...
وأيضاً قد أجمع المسلمون سُنّة وشيعة، وكما دلّت عليه بعض الروايات أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) داخل ومشمول في مدلول آية التطهير, وهو لا يتصور في حقّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجود الرجس قبل نزول الآية - نعوذ بالله - وأنّ الله أذهبه عنه بعد ذلك, وكذلك لا يتصور هذا المعنى في حقّ الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) اللذين كانا صغيرين حين نزول الآية, إذ كيف يتصور وجود الرجس في حقهما حتى يتم إذهابه!
فإذهاب الرجس والتطهير الوارد في الآية إنّما هو على سبيل الدفع لا الرفع, إذ تارة يستعمل الإذهاب ويراد به إزالة ما هو موجود, وأخرى يستعمل ويراد به المنع من طريان أمر على محل قابل له, كقوله تعالى: (( كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ )) (يوسف:24)، فإنّ يوسف(عليه السلام) لم يقع في الفحشاء قطعاً حتى يصرفها الله عنه بمعنى رفعها, وإنّما هو على سبيل الدفع لا الرفع.
وأيضاً حين تقول في الدعاء لغيرك: ((صرف الله عنك كلّ سوء، وأذهب الله عنك كلّ محذور))، فإنّك قد تخاطب بقولك هذا من لا يكون شيء من ذلك متحققاً فيه، ولا حاصلاً له أثناء خطابك له, وإنّما الخطاب يجري على سبيل الدفع لا الرفع.
ودمتم برعاية الله
تعليق على الجواب (1)
إنّ آية التطهير لم تخبر بعصمة آل البيت(عليهم السلام) الذاتية فهي تابثة لهم قبل نزول الآية, وإنّما جاءت لتطهّر تشريعياً المحيط الذي يعيش فيه أهل البيت(عليهم السلام) كرامة للعصمة الذاتية التي خصهم الله بها، ولذلك فهي جاءت في سياق الأوامر الموجهة لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
أي إنّ الغاية من الأوامر المشددة لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومضاعفة الثواب للمحسنة منهن وضعف العذاب لمن أساءت منهن, هو إبعاد الرجس عن بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، باعتبار أنّ من تعمل الرجس من نساءه فقد ارتكبت الإثم والإساءة لآل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وقت واحد, فتعاقب على الإثم وعلى الإساءة. ولذلك فالإرادة هنا تشريعية، أيّ أنّ هذه الآية لا تعصم من وجهّت إليهن الأوامر المشدّدة من المعصية.
أمّا إذا أردنا إثبات العصمة لآل البيت(عليهم السلام)، فيكفي أنّا نصلّي عليهم في صلاتنا (...كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد)، فلأنّه تعالى حميد مجيد، فقد صلّى وبارك على آل محمّد وعلى آل إبراهيم في العالمين، أيّ عالم الدنيا والآخرة، كما أخبر الله تعالى، فقال له الله: (( إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ )) (الحِجر :42)، فهم عباد الله المخلصون (بفتح اللام). ألم تقرأ قوله تعالى عن يوسف(عليه السلام): (( كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ )) (يوسف:24) (بالفتح)، ولم يقل سبحانه: كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء، أنّ يوسف(عليه السلام) صامد على عبوديته لله، والسوء والفحشاء هم الذين يقتربون منه, فتدخل الله ليصرف عنه ما اقترب منه بمعجزة فتح الباب الذي أغلقته إمرأة العزيز, كذلك: ليذهب عنكم أهل البيت ما قد يلحقكم من أذى في حال عصيان نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لله ولرسوله, وليس: ليذهبكم عن الرجس، فهم صامدون على عبوديتهم لله تعالى.
الجواب:
الأول: الظاهر من كلامك الأوّل حدوث خلط بين الإنشاء والإخبار! فإنّ الإنشاء هو جعل حكم لشيء، والإخبار هو الإخبار عن شيء واقع سابقاً على ما هو عليه. ولذا فالآية هنا إخبار عن وجود العصمة لأهل البيت(عليهم السلام) واستمرارها، وكلامك ((لم تخبر بعصمة آل البيت(عليهم السلام) الذاتية فهي ثابتة لهم قبل نزول الآية)) وهم!
وأمّا استدلالنا بالآية على عصمتهم(عليهم السلام) فهو في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت - أيّ الواقع - فإنّ العصمة ثابتة لهم في جميع الأزمنة، ولكن نحن نستدل لإثبات وجودها بهذه الآية.
الثاني: إنّ متعلق الإذهاب هم أهل البيت(عليهم السلام) في الآية لا نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتى يصح ما قلته ((إنّما جاءت لتظهر تشريعياً))! فإنّ الكلام حول الآية بالذات هل هي تشريعية أو تكوينية؟ فلا تخلط بها الآيات التي سبقتها!
نعم، المجيء بها في هذا الموضع؛ فيه إشارة للنساء بفضيلة هذا البيت وما يتوجب عليهن نحوه كما أشرت أنت.
نعم، حثّ النساء في الآيات الخاصّة بهن تشريع لهن، لكنه لا يتعارض مع الإرادة التكوينية الخاصّة بأهل البيت(عليهم السلام) في الآية حتى تنقلب الإرادة تشريعية.
الثالث: أمّا اعتبار الإرادة الواردة في الآية الكريمة تشريعية، فيرد عليه محذور أنّ الحصر في غير محله، فالتشريع بطلب التطهّر - لو حملنا الإرادة في الآية على التشريع دون جعل العصمة - لا وجه في إختصاصه بأهل البيت(عليهم السلام) دون غيرهم، إذ ما وجه التشريع بطلب التطهّر من الذنوب وعمل المعاصي من جماعة دون جماعة، وروح الشريعة من هذه الناحية واحدة، إذ المطلوب من الجميع أن يكونوا منزهين عن ارتكاب الذنوب واجتراح المعاصي..
فلا محيص من حمل الآية على الإرادة التكوينية، والتي يستفاد منها جعل العصمة لأهل البيت(عليهم السلام)، وهذا هو الذي فهمه المفسرون من الآية الكريمة.
قال الطبري في تفسيره: (( (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) (الاحزاب:33)، يقول: إنّما يريد الله يذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويطهّركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيراً..
ثم قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.. حدّثنا بشر، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سعيد بن قتادة، قوله: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء، وخصّهم برحمة منه.. وروى أيضاً عن ابن زيد قوله: الرجس ها هنا: الشيطان))(1).
وقال ابن عطية الأندلسي (المتوفى456هـ) في (المحرر الوجيز): ((والرجس: اسم يقع على الأثم والعذاب، وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت(عليهم السلام) ))(2).
الرابع: دعوى أنّ الآية نزلت بحقّ نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يخالفه ظهور الخطاب في ميم الجمع الذي يخاطب به الأعم من الذكور والإناث. ولو سلمنا دخول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الخطاب، لا يستقيم عندها قولكم: أنّ العصمة الذاتية ثابتة لأهل البيت(عليهم السلام) (محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين)، إذاً ما فائدة خطاب المعصوم بتشريع يطالبه بالإجتناب عن الذنوب، أليس هذا تحصيل للحاصل، وهو محال؟!
(1) انظر: جامع البيان 22: 9 قوله تعالى: (( وَأَقِمنَ الصَّلاةَ )).
(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 4: 384 الآية (33) من سورة الأحزاب.
تعليق على الجواب (2)
أن كلامكم قابل للمناقشة، ويمكن الإيراد عليكم بعدة إيرادات، وهي :
أولا: قلتم أن الإذهاب قد يراد به إزالة ماهو موجود أو قد يراد به دفع ماهو غير موجود أصلاً، وهذا الكلام غير صحيح، فالإذهاب لغة هو الإزالة، والإزالة لا تكون إلا لما هو موجود، ولو لم يكن موجود لعبر عنه بـ(ليبعد أو ليصرف) عنكم.
لأن هذه اللفظة لا تستخدم إلا للرفع دون الدفع، ومن يقول أنها تستخدم للرفع والدفع معاً فعليه بالدليل.
ثانيا: حاولتم الإستدلال بقضية يوسف عليه السلام من أجل تأييد قولكم، ولكن استدلالكم لم يكن موفقا، لان قوله تعالى (ليصرف) شيء و (ليذهب) شيء، فقوله ليصرف أي يبعد وهي يمكن استخدامها للدفع وأما ليذهب أي ليزيل وهي لا تستخدم إلا للرفع أو الإزالة.
الجواب:
يختلف الامر في حالة تعدى الذهاب بالباء عن حال تعدي الذهاب بعن ففي تاج العروس 1/ 505 قال الزبيدي وقال بعض ائمة اللغة والصرف ان عدى الذهاب بالباء فمعناه الاذهاب او بعلى فمعناه النسيان او بعن فالترك.....) لذا ليس من الصحيح القول ان الاذهاب لا يأتي بمعنى الدفع.
واما الاية القرانية (( لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ )) فقد اوردناها لايضاح معنى الدفع واختلافه على الرفع ولانريد ان نقول ان الانصراف والاذهاب شئ واحد.
كيف نستدل على عصمة الأئمة أو أهل البيت(عليهم السلام) منذ ولادتهم، فإنّ آية التطهير: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الاحزاب:33) جائت في حياتهم. فهل يعني هذا: أنّه لمّا نزلت الآية صاروا معصومين، وقبل نزول الآية كانوا غير معصومين، لأنّ الآية تقول: (( لِيُذهِبَ عَنكُم ))، ولم تقل: إنّ الله أذهب عنكم الرجس.
فكيف نستدل على عصمة أهل البيت(عليهم السلام) منذ الولادة؟
الجواب:
إنّ الإتيان بصيغة المضارع في مقام المدح أو الذم أو الشكر ونحوه، إنّما يفيد الإستمرار في الإتصاف، وليس التقيّد بهذا الإتصاف في الحال أو الإستقبال، ألا ترى أنّ قوله عزّ وجلّ: (( اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم وَيَمُدُّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ )) (البقرة:15)، ليس ناظراً إلى أنّه يستهزئ بهم في الحال أو الإستقبال، ولم يستهزئ بهم في الماضي، وإنّما يفيد أنّه سبحانه شأنه مع هؤلاء هو الإستهزاء بهم، أيّ أنّه سبحانه يجازيهم جزاء الإستهزاء، لأنّه سبحانه لا يستهزئ حقيقة, وذلك لأجل نفاقهم واستهزائهم برسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهكذا الحال في المقام, فإنّه تعالى شأنه، في مقام تنزيه أهل بيت النبوّة(عليهم السلام) عن الرجس, فقوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) ناظر إلى أنّه عزّ وجلّ إنّما يتصف بإرادة تنزيه أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الرجس, ويستمر في هذا الإتصاف, ولا نظر للكلام إلى أنّه يتصف بها في الحال, ولم يتصف بها من قبل, بل تبيين ضمير المخاطب بقوله تعالى: (( أَهلَ البَيتِ )) تنبيه على أنّه تعالى إنّما يريد إذهاب الرجس عنهم من جهة أنّهم (أهل البيت)، وهذه الخصوصية ثابتة لهم في الماضي والحال والإستقبال, فلا مجال حينئذ للتفكيك بين الأزمنة, وتعلق الإرادة بالتنزيه في الحال, دون الماضي...
وأيضاً قد أجمع المسلمون سُنّة وشيعة، وكما دلّت عليه بعض الروايات أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) داخل ومشمول في مدلول آية التطهير, وهو لا يتصور في حقّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجود الرجس قبل نزول الآية - نعوذ بالله - وأنّ الله أذهبه عنه بعد ذلك, وكذلك لا يتصور هذا المعنى في حقّ الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) اللذين كانا صغيرين حين نزول الآية, إذ كيف يتصور وجود الرجس في حقهما حتى يتم إذهابه!
فإذهاب الرجس والتطهير الوارد في الآية إنّما هو على سبيل الدفع لا الرفع, إذ تارة يستعمل الإذهاب ويراد به إزالة ما هو موجود, وأخرى يستعمل ويراد به المنع من طريان أمر على محل قابل له, كقوله تعالى: (( كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ )) (يوسف:24)، فإنّ يوسف(عليه السلام) لم يقع في الفحشاء قطعاً حتى يصرفها الله عنه بمعنى رفعها, وإنّما هو على سبيل الدفع لا الرفع.
وأيضاً حين تقول في الدعاء لغيرك: ((صرف الله عنك كلّ سوء، وأذهب الله عنك كلّ محذور))، فإنّك قد تخاطب بقولك هذا من لا يكون شيء من ذلك متحققاً فيه، ولا حاصلاً له أثناء خطابك له, وإنّما الخطاب يجري على سبيل الدفع لا الرفع.
ودمتم برعاية الله
تعليق على الجواب (1)
إنّ آية التطهير لم تخبر بعصمة آل البيت(عليهم السلام) الذاتية فهي تابثة لهم قبل نزول الآية, وإنّما جاءت لتطهّر تشريعياً المحيط الذي يعيش فيه أهل البيت(عليهم السلام) كرامة للعصمة الذاتية التي خصهم الله بها، ولذلك فهي جاءت في سياق الأوامر الموجهة لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
أي إنّ الغاية من الأوامر المشددة لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومضاعفة الثواب للمحسنة منهن وضعف العذاب لمن أساءت منهن, هو إبعاد الرجس عن بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، باعتبار أنّ من تعمل الرجس من نساءه فقد ارتكبت الإثم والإساءة لآل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وقت واحد, فتعاقب على الإثم وعلى الإساءة. ولذلك فالإرادة هنا تشريعية، أيّ أنّ هذه الآية لا تعصم من وجهّت إليهن الأوامر المشدّدة من المعصية.
أمّا إذا أردنا إثبات العصمة لآل البيت(عليهم السلام)، فيكفي أنّا نصلّي عليهم في صلاتنا (...كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد)، فلأنّه تعالى حميد مجيد، فقد صلّى وبارك على آل محمّد وعلى آل إبراهيم في العالمين، أيّ عالم الدنيا والآخرة، كما أخبر الله تعالى، فقال له الله: (( إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ )) (الحِجر :42)، فهم عباد الله المخلصون (بفتح اللام). ألم تقرأ قوله تعالى عن يوسف(عليه السلام): (( كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ )) (يوسف:24) (بالفتح)، ولم يقل سبحانه: كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء، أنّ يوسف(عليه السلام) صامد على عبوديته لله، والسوء والفحشاء هم الذين يقتربون منه, فتدخل الله ليصرف عنه ما اقترب منه بمعجزة فتح الباب الذي أغلقته إمرأة العزيز, كذلك: ليذهب عنكم أهل البيت ما قد يلحقكم من أذى في حال عصيان نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لله ولرسوله, وليس: ليذهبكم عن الرجس، فهم صامدون على عبوديتهم لله تعالى.
الجواب:
الأول: الظاهر من كلامك الأوّل حدوث خلط بين الإنشاء والإخبار! فإنّ الإنشاء هو جعل حكم لشيء، والإخبار هو الإخبار عن شيء واقع سابقاً على ما هو عليه. ولذا فالآية هنا إخبار عن وجود العصمة لأهل البيت(عليهم السلام) واستمرارها، وكلامك ((لم تخبر بعصمة آل البيت(عليهم السلام) الذاتية فهي ثابتة لهم قبل نزول الآية)) وهم!
وأمّا استدلالنا بالآية على عصمتهم(عليهم السلام) فهو في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت - أيّ الواقع - فإنّ العصمة ثابتة لهم في جميع الأزمنة، ولكن نحن نستدل لإثبات وجودها بهذه الآية.
الثاني: إنّ متعلق الإذهاب هم أهل البيت(عليهم السلام) في الآية لا نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتى يصح ما قلته ((إنّما جاءت لتظهر تشريعياً))! فإنّ الكلام حول الآية بالذات هل هي تشريعية أو تكوينية؟ فلا تخلط بها الآيات التي سبقتها!
نعم، المجيء بها في هذا الموضع؛ فيه إشارة للنساء بفضيلة هذا البيت وما يتوجب عليهن نحوه كما أشرت أنت.
نعم، حثّ النساء في الآيات الخاصّة بهن تشريع لهن، لكنه لا يتعارض مع الإرادة التكوينية الخاصّة بأهل البيت(عليهم السلام) في الآية حتى تنقلب الإرادة تشريعية.
الثالث: أمّا اعتبار الإرادة الواردة في الآية الكريمة تشريعية، فيرد عليه محذور أنّ الحصر في غير محله، فالتشريع بطلب التطهّر - لو حملنا الإرادة في الآية على التشريع دون جعل العصمة - لا وجه في إختصاصه بأهل البيت(عليهم السلام) دون غيرهم، إذ ما وجه التشريع بطلب التطهّر من الذنوب وعمل المعاصي من جماعة دون جماعة، وروح الشريعة من هذه الناحية واحدة، إذ المطلوب من الجميع أن يكونوا منزهين عن ارتكاب الذنوب واجتراح المعاصي..
فلا محيص من حمل الآية على الإرادة التكوينية، والتي يستفاد منها جعل العصمة لأهل البيت(عليهم السلام)، وهذا هو الذي فهمه المفسرون من الآية الكريمة.
قال الطبري في تفسيره: (( (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) (الاحزاب:33)، يقول: إنّما يريد الله يذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويطهّركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيراً..
ثم قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.. حدّثنا بشر، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سعيد بن قتادة، قوله: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء، وخصّهم برحمة منه.. وروى أيضاً عن ابن زيد قوله: الرجس ها هنا: الشيطان))(1).
وقال ابن عطية الأندلسي (المتوفى456هـ) في (المحرر الوجيز): ((والرجس: اسم يقع على الأثم والعذاب، وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت(عليهم السلام) ))(2).
الرابع: دعوى أنّ الآية نزلت بحقّ نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يخالفه ظهور الخطاب في ميم الجمع الذي يخاطب به الأعم من الذكور والإناث. ولو سلمنا دخول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الخطاب، لا يستقيم عندها قولكم: أنّ العصمة الذاتية ثابتة لأهل البيت(عليهم السلام) (محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين)، إذاً ما فائدة خطاب المعصوم بتشريع يطالبه بالإجتناب عن الذنوب، أليس هذا تحصيل للحاصل، وهو محال؟!
(1) انظر: جامع البيان 22: 9 قوله تعالى: (( وَأَقِمنَ الصَّلاةَ )).
(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 4: 384 الآية (33) من سورة الأحزاب.
تعليق على الجواب (2)
أن كلامكم قابل للمناقشة، ويمكن الإيراد عليكم بعدة إيرادات، وهي :
أولا: قلتم أن الإذهاب قد يراد به إزالة ماهو موجود أو قد يراد به دفع ماهو غير موجود أصلاً، وهذا الكلام غير صحيح، فالإذهاب لغة هو الإزالة، والإزالة لا تكون إلا لما هو موجود، ولو لم يكن موجود لعبر عنه بـ(ليبعد أو ليصرف) عنكم.
لأن هذه اللفظة لا تستخدم إلا للرفع دون الدفع، ومن يقول أنها تستخدم للرفع والدفع معاً فعليه بالدليل.
ثانيا: حاولتم الإستدلال بقضية يوسف عليه السلام من أجل تأييد قولكم، ولكن استدلالكم لم يكن موفقا، لان قوله تعالى (ليصرف) شيء و (ليذهب) شيء، فقوله ليصرف أي يبعد وهي يمكن استخدامها للدفع وأما ليذهب أي ليزيل وهي لا تستخدم إلا للرفع أو الإزالة.
الجواب:
يختلف الامر في حالة تعدى الذهاب بالباء عن حال تعدي الذهاب بعن ففي تاج العروس 1/ 505 قال الزبيدي وقال بعض ائمة اللغة والصرف ان عدى الذهاب بالباء فمعناه الاذهاب او بعلى فمعناه النسيان او بعن فالترك.....) لذا ليس من الصحيح القول ان الاذهاب لا يأتي بمعنى الدفع.
واما الاية القرانية (( لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ )) فقد اوردناها لايضاح معنى الدفع واختلافه على الرفع ولانريد ان نقول ان الانصراف والاذهاب شئ واحد.