الشيخ عباس محمد
24-08-2015, 12:04 AM
العوامل المؤثرة في عملية التربية
تعتبر الوراثة والمحيط والمجتمع والبيئة، من جملة العوامل الأساسية المؤثّرة في تشكّل شخصيّة الإنسان وبنيته الفكرية والروحية. ونظراً لما تتمتّع به هذه العوامل من أهمّيّة ومساهمتها المؤثّرة في تربية الأبناء دينياً، سنتناولها بالبحث، مع التذكير بأنّ هذه العوامل تشكّل الأرضية للتربية الدينيّة والأخلاقيّة وليست علّة تامّة لها. مع التسليم بتأثيرها على الكثير من الأبعاد التربوية في شخصية الصغير والكبير.
الوراثة
1. مفهوم الوراثة:
الوراثة بمفهومها ومعناها العامّ تعني انتقال بعض خصائص وخصال الوالدين والأجداد أيضاً وحتى الأرحام إلى الأبناء. وقد تنبّه البشر من قديم الزمان إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الكائن الحيّ ينقل الكثير من صفاته وخصائصه إلى نسله وإلى الأجيال اللاحقة ـ أيضاً، وأنّ قانون الوراثة يقوم في الحقيقة بحفظ الصورة النوعية للنباتات والحيوانات والإنسان أيضاً. وفي الواقع إنّ النّسل التالي يَرِث صفات النّسل السابق، فبذرة الوردة قد حفظت في نفسها الخصائص الكليّة للسّاق والورق والصباغ النهائيّ والتي منها قد تشكّلت الوردة، وأثناء عملية النموّ تظهر جميع الخصائص فيها واحدةً تلو الأخرى. وكذا الحال بالنسبة للحيوانات. كما وإنّ الأبناء، ومن دون أدنى نشاطٍ اختياري، يشتملون على صفات الآباء والأمّهات وخصائصهم، ويولدون بمميّزات مشتركة كثيرة، وهذا ما بيّنته الدراسات العلميّة الحديثة.
1. الوراثة في النصوص الدينيّة:
قانون الوراثة هو قانونٌ مقبولٌ من وجهة نظر الإسلام، إذ ينقل القرآن الكريم في قصّة النبي نوح عليه السلام طلبه عليه السلام من ربّه: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾1.
وفقاً لهذه الآية، فإنّ الأبناء يرثون صفات آبائهم؛ الحسنة منها والسيئة. فمن المعلوم أن الأبناء كما يرثون من أمّهاتهم وآبائهم الخصائص الجسميّة، فهم يرثون منهم ـ أيضاً ـ الخصائص المعنوية والحالات الروحية والنفسية. مع الإشارة إلى أنّ قانون الوراثة لا يعني المطابقة في كلّ شيء، ولا يعني الجبر وعدم القدرة على تغيير هذه الخصائص، بل يبقى للإنسان القدرة على التغيير في ما لو أعمل إرادته بشكل سليم وصحيح على تغيير الكثير من هذه الصفات الموروثة وتبديلها.
وقد أكَّدتْ الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام ـ أيضاً ـ على قانون الوراثة وتأثيره في عملية التربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وعبّرت عنه بلفظ "العِرقْ" و"الأعراق"، والتي يُعبَّر عنه اليوم في المحافل العلميّة بـ "الجينات أو الخليّة الوراثية".
عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "تزوجوا في الحجر الصالح، فإنّ العِرْقَ دسّاس"2.
وعنه صلى الله عليه واله وسلم في رواية أخرى أنّه قال: "اختاروا لنطفكم؛ فإنّ الخال أحد الضجيعين"3. وعنه صلى الله عليه واله وسلم ـ أيضاً ـ أنّه قال: "اختاروا لنطفكم؛ فإنّ الأبناء تشبه الأخوال"4.
كما بُيّن دورُ الوراثة في الأخلاق، وفي تشكُّل خصال الإنسان وسلوكيّاته في الحِكَم العَلَويّة، فعن أمير المؤمنين ومولى الموحِّدين الإمام علي عليه السلام أنه قال: "حُسْنُ الأخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأعراق"5.
وعنه عليه السلام: "من شرفِ الأعراق كَرَمُ الأخلاق"6. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "أطهرُ النّاس أعراقاً أحسنُهُم أخلاقاً"7.
1. العلاقة بين الوراثة والأحكام الدينيّة:
بالالتفات إلى أهمّيّة الوراثة وتأثيرها الجدّي في تشكُّل الخصائص البدنيّة والعقليّة والدّينيّة والأخلاقيّة والرُّوحيّة للأبناء، بنى الإسلام الكثير من الأحكام وفِقاً لهذا القانون المسلَّم به، على سبيل المثال:
أ-أوصى الإسلام في مسألة اختيار الزوج للزوجة: أن يختارها من العائلات الصالحة؛ لأنّ خصال الآباء والأمّهات تورث. روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال ذات يوم خطيباً: "أيّها الناس إيّاكم وخضراءَ الدِّمن، قيل يا رسول الله وما خضراء الدِّمن، قال: المرأة الحسناء في منبت السّوء"8.
وأيضاً عنه صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "أنكِحوا الأكفّاء وانكحوا فيهم واختاروا لِنطَفكم"9. وسأل أحدهم الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ الرّجل المُسلم تُعجِبه المرأةَ الحسناءَ أَيصلُح له أن يتزوَّجَها وهي مجنونة؟ قال: لا" 10. وجاء في الحديث عن الإمام علي عليه السلام: "إيّاكم وتَزْويج الحمقاء فإنّ صُحبَتها بلاء ووُلْدَها ضِياعٌ"11.
ب-أكَّد الإسلام ـ أيضاً ـ على المرأة أن تتفحّص أحوال زوجها المستقبليّ، وجعل مسؤولية هذا العمل على عاتق الوليّ الشرعيّ، روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "النكاحُ رقٌّ فإذا أنكح أحدُكُم وليدةً فقد أرَقَّها فلينظرْ أحدُكم لمن يرقّ كريمتَه"12.
وعن الحسين بن بشّار الواسطيّ قال: "كتبت إلى أَبي الحسن الرِّضا عليه السلام أنّ لي قرابةً قد خطب إليّ وفي خُلُقِهِ سُوءٌ، قال: لا تُزوِّجهُ إن كان سيّء الخلق"13.
ج - الإسلام، وبسبب رعايته لقانون الوراثة، أقرَّ بعض التسهيلات القانونيّة في موارد محدّدة؛ لأجل فسخ عقد الزواج، من قبيل: الجنون، أو الإصابة بمرض البرص، أو الجذام، أو العجز الجنسي، وغيرها. فإذا تزوج الرّجل أو المرأة وأدرك أحدهما لاحقاً أنّ الطرف الآخر مصاب بأحد الموارد التي ذكرناها، له الحقّ في أن يفسخ العقد 14، ولا يحتاج إلى الطلاق لأجل التحرُّر من هذا الزواج؛ إذ يُعدُّ هذا القانون وسيلةً للحدِّ من الوراثة غير المحمودة.
1. تغلّب التربية على الوراثة:
إنّ الصفات الوراثية ليست من الصفات الحتميّة، وليست من مصاديق القضاء والقدر الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل. بل إنّ هذه الصفات والموروثات مهما كانت قوية ومؤثّرة، يمكن التغلّب عليها بقوّة الإرادة والإصرار، والمثابرة. فأيّ صفة وراثية إذا ما خضعت لعملية التربية المباشرة مصحوبة بإرادة قويّة ونافذة فبالإمكان تغييرها وتبديلها من صفة سلبيّة إلى أخرى إيجابيّة؛ لأنّ الإرادة والاختيار الإنسانيين هما أقوى من أيّ موروث أو أيّ عامل خارجي آخر.
فالوراثة لوحدها بالرغم من أثرها على الخصائص الجسدية والنفسية للوارث، لا تقدر على طمس معالم الفطرة، وتعطيل القدرة والاختيار الإنساني المُعطى للإنسان بالأصل من أجل تقرير مصيره بيده: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ﴾15﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾16﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى﴾17، وإلا فلا معنى لأن يأمر الله الناس بالعمل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾18، فقد شهدنا الكثيرين ممَّن وُلِدُوا من أبوين كافرين أو فاسقين، ولكنّهم تحرّروا في نهاية المطاف من تأثيرهما السلبي الموروث بعد مجاهدة الطبع الموروث وترويضه؛ ليكون خاضعاً لقوّة العقل والإرادة.
فمهما كانت التأثيرات السلبيّة للوراثة أو التربيّة أو البيئة التي ينشأ فيها الإنسان قاسية وصعبة، يبقى الإنسان قادراً على التغيير، ويبقى مدد الهداية الإلهيّة محيطاً به على الدوام. إنّ عظمة الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه المنتجبين تكمن في سيرهم وتسنّمهم أعلى درجات الكمال رغم أنّهم نشأوا في أسوأ بيئة عرفتها البشرية، حيث استجابوا لنداء الفطرة والعقل المودعين في خلقة كلّ إنسان.
المحيط
إنّ مجموع العوامل الخارجية التي تحيط بالإنسان، والتي تؤثِّر بشكل مباشر أو غير مباشر في تربيته، تُسمّى المحيط. وهذه العوامل المتعدّدة تؤثِّر في الإنسان بأنحاء مختلفة منذ انعقاد النطفة وحتى موته. وأهمّ هذه العوامل المحيطة: البيت والأسرة، الصداقة والعشرة، المدرسة، المجتمع، البيئة الجغرافية والطبيعية. وسنتكلم عنها تباعاً:
1. البيت والأسرة:
يتفاعل الطِّفل في محيط البيت مع عناصر بشريّة عدّة أهمّها: الأب والأمّ، وتشكّل الأسرة أهمّ محيط لتربية الأطفال. فحينما يكتسب الولد لغة الأمّ والأب داخل البيت،
ينقل إليه أفراد العائلة الأفكار والآراء الأساسيّة من خلال المكالمة والحوار؛ فترتقي معارفه ومعلوماته إلى مستوى أفكار عائلته، وتحاكي أفعاله أفعال أفراد العائلة. من هنا، عندما نقوم بدراسةٍ لأفعال الإنسان اليوميّة وتحليلها وتجزئتها والبحث عن مناشئها، سنرى أنّ أكثرها يعود إلى التربية الأسريّة.
ويعتبر الباحثون من خلال دراستهم لبعض الحالات النفسية، أنّ جذور كثير من الأمراض العصبيّة والنفسيّة تعود إلى سلوكيّات الأهل المنحرفة والسّيئة مع أولادهم، وخاصّة في سنوات الطّفولة الأولى. إذ تترك أفعال الأهل أثرها على الأولاد دون أن يقصدوا ذلك. فالأم التي تخيف ولدها، تُربِّي ولداً جباناً من حيث لا تشعر. كما أنّ الولد يتلقّى دين عائلته، ويتأثّر بعقائد وأخلاق وأفعال أسرته من حيث لا يدري أو يشعر. ففي الحديث عن رسولِ الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "كُلُّ مولودٍ يُولد على الفِطرة حتى يكونَ أبواهُ يُهوِّدانه ويُنصِّرانه"19. فقد خُلِقَ الطفل قابلاً للخير والشر معاً، ووالداه هما اللذان يمنحانه القيم الأخلاقيّة السليمة والحسنة أو عكسها.
وفي ما يلي هذه بعض الجوانب التربوية التي تؤثِّر فيها العائلة:
أ- على مستوى شخصيّة الطِّفل: فالعائلة هي المحيط الأوّل والأهمّ الذي يؤسّس لبناء شخصيّة الأبناء وسلوكيّاتِهم.
ب- على مستوى عقيدة الطِّفل: إنّ النواة الأولى لمنظومة الطِّفل الفكرية والعقائدية تتشكَّل في مراحلها الأولى داخل محيط الأسرة، من خلال ما يعيشه داخل الأسرة، وما يتلقّاه من مبادئ فكريّة وعقائدية، ومن خلال تفاعله مع الأنظمة الحاكمة داخل الأسرة نفسها. وفي حال لم تكن تلك المعتقدات صحيحةً سيكون تغييرها وإصلاحها في المستقبل أمراً بالغ الصعوبة؛ خاصّة لجهة الانحرافات والشبهات العقائديّة.
ج- على مستوى القدوة والأسوة: فأوّل من يأخذ الطِّفل قدوة له وأسوة هو أحد أفراد عائلته، لأنّه على تماس واحتكاك دائم بهم، لذلك تراه يسعى إلى تقليدهم في البداية من دون وعي أو التفات منه، وهذا المعنى نجده بوضوح عند الإمام أبي جعفر عليه السلام حيث يقول: "يُحفَظ الأطفال بصلاح آبائهم"20.
2. العشرة واكتساب الأصدقاء:
الإنسان موجودٌ اجتماعي لديه الأهليّة لإقامة العلاقات والصّداقات ومعاشرة الآخرين، وهو بهذه الوسيلة يلبِّي احتياجاته الفطريّة، فيتأثَّر ويُؤثّر، ينفعل ويتفاعل. من هنا، نجد أنّ المعاشرة والمصادقة تسهمان مساهمة فعّالة وجدّيّة في تربية الأبناء سواء من النّاحية الإيجابيّة أم السلبية. لذا، يجب أن تكون العشرة مورد عناية واهتمام الوالدين، وكذلك القيّمين على الشأن التربوي. فالإنسان بمقدار صداقته ودرجة ارتباطه بالطرف الآخر يمكنه أن ينفُذْ في شؤونه المادّيّة والمعنويّة، ويؤثّّر على معتقداته وأخلاقه وحتى سلوكه وأقواله. روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "المرء على دين خليله"21.
وعن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "واعلموا إنّ مجالسةَ أهل الهَوَى منسأةٌ للإيمان، ومحضِرَةً للشيطان"22.
وروي عن النبي سليمان عليه السلام أنّه قال: "لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنّما يُعرف الرجل بأَشكاله وأَقرانه وينسب إلى أَصحابه وأَخدانه"23.
وهذه الشواهد الروائية إن دلّت على شيء، فإنّها تدلّ على مدى نفوذ وتأثير العشرة
في حياة الإنسان بمختلف مجالاتها وأبعادها.
2. المدرسة:
المدرسة كالعائلة أيضاً هي عاملٌ مهمٌّ على صعيد تربية الأطفال والأحداث، على الصعيد الجسدي والروحي. وتتكوَّن البيئة المدرسيّة من عناصر مختلفةٍ؛ من المعلّم، إلى المدير والناظر والمسؤول التربويّ والموظّفين والأصدقاء، والزملاء في الصفّ، وغيرهم بحيث يمكن أن يساهموا جميعهم أو بعضهم في تشكيل شخصية الطِّفل، وفي رسم معالم منظومته الفكرية والسلوكية. وربّما اتّخذ الطِّفل أيضاً أحد هذه العناصر قدوة وأسوة له في الحياة.
ويُعدّ دور المعلّم في بناء البعد الأخلاقيّ أو هدمه عند الأولاد مهمّاً جدّاً. فالمعلّم، وبسبب نفوذه المعنويّ، يُقدِّم القدوة والأنموذج للتلاميذ من خلال سلوكيّاته. فهم يتأثّرون بشدّة بكافّة الحركات والسكنات والإشارات، وحتى الألفاظ التي يستخدمها المعلّم أثناء قيامه بوظيفته التعليميّة.
وبالإضافةً إلى تأثير المعلّم، فإنّ الأجواء الدينيّة والمعنويّة الحاكمة على المدرسة لها تأثير كبير في غرس النواة الأولى للتوجّهات الإيمانيّة والدينيّة في نفوس الأطفال والأحداث؛ كالمراسم الدينية، وجلسات الدعاء، وصلاة الجماعة، وأمثالها، التي توفّر الأرضية اللازمة للتربية الدينيّة والأخلاقيّة والإقبال نحو المعارف الإسلاميّة. ومن البديهيّ أن يؤدّي تواجد المعلّمين والمدراء والمربّين مع الطلّاب في جلسات ومراسم كهذه إلى زيادة نسبة التأثّر والتأثير.
3. المجتمع:
إنّ المحيط الاجتماعي - أعمّ من أفراد المجتمع والأجواء الحاكمة عليه - له أيضاً تأثيره الكبير جدّاً على الأفراد. فكلّ إنسان كما يقول الشهيد مطهري يأتي إلى الدّنيا طاهراً ونقيّاً؛ أي مزوّداً بتقوى ذاتيّة، ولكن من الممكن تدريجيّاً، وعلى أثر تلوُّث
البيئة أن ينحرف عن مسار الفطرة إلى أن يُمسَخَ تماماً 24.
فممّا لا شكّ فيه أنّ البيئة الاجتماعيّة الفاسدة، تُفسد الجوّ الروحيّ للأفراد، وتضعف من مجال نموّ الأفكار السامية وتُقوِّي مجال نموّ الأفكار السافلة. ولهذا السبب اهتمّ الإسلام بشدّة بضرورة إصلاح المحيط الاجتماعيّ. وقد بيّن الإمام علي عليه السلام أهمّيّة ودور المحيط الاجتماعي في تشكّل البنية التّربوية للفرد، حيث يقول في رسالته لحارث الهمداني: "واسكنِ الأمصار العِظام؛ فإنّها جماعُ المسلمين، واحذر منازِل الغَفْلة والجَفاء وقِلَّة الأعوان على طاعة الله" 25.
المفاهيم الرئيسة
1. تعتبر الوراثة والمحيط والمجتمع والبيئة، من جملة العوامل الأساسية المؤثّرة في تشكّل شخصيّة الإنسان وبنيته الفكريّة والروحيّة.
2. من وجهة نظر القرآن، الأبناء كما أنّهم يرثون من أمّهاتهم وآبائهم الخصائص الجسميّة، فهم يرثون منهم ـ أيضاً ـ الخصائص المعنوية والحالات الروحيّة والنفسيّة.
3. مجموع العوامل الخارجية التي تحيط بالإنسان تُسمّى المحيط. وهذه العوامل المتعدّدة تؤثِّر في الإنسان بأنحاء مختلفة، وتشكّل الأسرة أهمّ محيط لتربية الأطفال.
4. تسهم العشرة والمصادقة مساهمة فعّالة في التربية، فالإنسان بمقدار صداقته ودرجة ارتباطه بالطرف الآخر يمكنه أن ينفذ في شؤونه المادّيّة والمعنويّة.
5. المدرسة كالعائلة عامل مهمّ جدّاً على صعيد التربية الجسميّة والروحيّة للأطفال والأحداث، وتساهم في تشكيل شخصية الطفل، ورسم معالمه الفكريّة والسلوكيّة.
6. البيئة والمحيط الاجتماعي لها دخالة وتأثير واضح على الفرد، فالبيئة الاجتماعية الفاسدة سوف تفسد بطبيعة الحال الجوّ الروحيّ والمعنويّ.
7. مهما كانت الخصائص الوراثية والبيئة المحيطة بالإنسان صعبة وقاسية إلّا أنّها لا تقهر الإرادة ولا تلغي الاختيار الإنساني؛ لأنّ الإنسان مخلوق مختار، والحكم النهائي له.
للمطالعة
مخاطر الوراثة
الإسلام عبارة عن نظام شامل: نظام سياسي يحيط بكل شيء، في حين أنّ بقية الأنظمة غافلة عن الكثير من الأمور. يهتم الإسلام بتربية الإنسان في مختلف أبعاد شخصيته، فهو يهتم بتوجهاته المادية، ويرعى اهتماماته المعنوية وينمّيها، بل لقد عبّر عن رأيه فيما هو أبعد من ذلك، إذ عبّر عن رأيه في الفترة التي تسبق اقتران الأبوين.
ويتضمن الإسلام أحكاماً وتعاليم لبناء الإنسان، فهو يحدّد للرجل المرأة التي يختار، ويعيّن للمرأة مواصفات الرجل المطلوب: ما وضعه الأخلاقي؟ وما مستوى تديّنه؟
إنّ المُزارع إذا ما أراد أن يبذر البذور، فإنه يبحث أولاً عن الأرض الصالحة، ثم يوفّر كل مستلزمات الأرض لكي تنمو البذرة بنحو سليم، فتراه يحرص على توفير ما يراه مفيداً لها، ويحاول تجنيبها الأشياء التي تضرّها، ويستمر على مواظبته لها حتى تنمو وتثمر. والإسلام لديه مثل هذا الاهتمام بالإنسان، أي: يتعامل معه مثلما يتعامل المزارع مع زرعه الذي يريده أن ينمو ويثمر. فمن قبل أن تعقد النطفة: أمر الإسلام بالصورة التي ينبغي أن يكون عليها الوالدان، أي: كيف ينبغي أن يكون الزواج؟
إنّ حرص الإسلام هذا جاء بدافع تفكيره بعاقبة هذا الأمر، فإذا كانت أخلاق أحد الأبوين على سبيل المثال فاسدة، أو كانت أفعالهما غير إنسانية، فإنّ أثر ذلك سيظهر في الطفل بالوراثة. ولهذا اهتم الإسلام كالمزارع الحريص والدقيق اهتماماً دقيقاً بمواصفات الإنسان الذي يجب أن يقترن به الإنسان الآخر. وإذا ما تزوّجا اهتم بآداب الزواج وآداب الفراش، وهنا توجد تعاليم وآداب كثيرة، ثم ينتقل إلى فترة الحمل التي يذكر بشأنها آداباً كثيرة، بعدها يعبّر عن رأيه في آداب حضانة الأم، وكذلك دور الأب، وبعد أن ينتقل الطفل إلى المدرسة ثم إلى المجتمع، كل هذه الأمور والمراحل وضع الإسلام لها أحكاماً وآداباً. في حين أن بقية النظم الموجودة في العالم لا تُعنى بهذا أساساً، وإنّ كل همّهم هو ـ مثلاً ـ أن يرفل المجتمع في هدوء يمكّنهم من نهب ثروات الشعب، أو أن يحرصوا على تنظيم العلاقات الاجتماعية لأبناء المجتمع بشكل سليم. أما كيف ينبغي للطفل أن ينمو ليصبح فرداً صالحاً في المجتمع، وما هي طبيعة التربية المطلوبة خلال فترة الحمل والرضاعة، فمثل هذه غير موجودة لدى هذه الأنظمة، بيد أنّ الإسلام يهتم بكل ذلك، يهتم كيف ستكون معاملة الإنسان مع أخيه الإنسان؟ وكيف ستكون معاشرته مع والديه؟ وكيف ستكون معاشرة الآباء مع الأبناء؟ وكيف ستكون معاشرتهم مع جيرانهم، ومع أبناء شعبهم، ومع إخوتهم في الدين، ومع الأجانب؟ 26.
هوامش
1-نوح، 26-27.
2-الوافي، ج3، ص 706.
3- الكافي، ج5، ص332.
4- الجواهر، 29، ص 37.
5- غرر الحكم، فضيلة حسن الخلق، 5358، ص254.
6- غرر الحكم، 5364، ص254.
7-م.ن، 5347، ص254.
8-الكافي، ج5، ص332.
9-وسائل الشيعة، ج20، ص 48.
10- م.ن، ص85.
11-م.ن، ص84.
12- م.ن، ص 79.
13-وسائل الشيعة، ج 20، ص 81.
14-يجوز للزوجة فسخ النكاح إذا تحقّق في الزوج عيب من أربعة، وهي: الجنون، والخصاء، والجبّ، والعنن. الأوّل: الجنون، ويجوز للزوجة فسخ النكاح بجنون زوجها مطلقاً، (سواء أكان جنونه قبل العقد مع جهل المرأة به، أم حدث الجنون بعد العقد، وسواء أكان الجنون قبل العلاقة الزوجيّة الخاصّة أم بعدها). ومع علمها بالجنون قبل العقد فلا خيار لها. تحرير الوسيلة ـ المعاملات، جمعية المعارف، ص331.
15-الرعد، 11.
16-النجم، 39.
17- النازعات، 35.
18- التوبة، 105.
19- بحار الأنوار، ج3، ص 281.
20-م.ن، ج15، ص178.
21-وسائل الشيعة، ج4، ص 207.
22-نهج البلاغة، الخطبة 86.
23-مستدرك الوسائل، ج8، ص227.
24-التعرّف على القرآن، ج2، ص 65 (باللغة الفارسية).
25-نهج البلاغة، الخطبة 69.
تعتبر الوراثة والمحيط والمجتمع والبيئة، من جملة العوامل الأساسية المؤثّرة في تشكّل شخصيّة الإنسان وبنيته الفكرية والروحية. ونظراً لما تتمتّع به هذه العوامل من أهمّيّة ومساهمتها المؤثّرة في تربية الأبناء دينياً، سنتناولها بالبحث، مع التذكير بأنّ هذه العوامل تشكّل الأرضية للتربية الدينيّة والأخلاقيّة وليست علّة تامّة لها. مع التسليم بتأثيرها على الكثير من الأبعاد التربوية في شخصية الصغير والكبير.
الوراثة
1. مفهوم الوراثة:
الوراثة بمفهومها ومعناها العامّ تعني انتقال بعض خصائص وخصال الوالدين والأجداد أيضاً وحتى الأرحام إلى الأبناء. وقد تنبّه البشر من قديم الزمان إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الكائن الحيّ ينقل الكثير من صفاته وخصائصه إلى نسله وإلى الأجيال اللاحقة ـ أيضاً، وأنّ قانون الوراثة يقوم في الحقيقة بحفظ الصورة النوعية للنباتات والحيوانات والإنسان أيضاً. وفي الواقع إنّ النّسل التالي يَرِث صفات النّسل السابق، فبذرة الوردة قد حفظت في نفسها الخصائص الكليّة للسّاق والورق والصباغ النهائيّ والتي منها قد تشكّلت الوردة، وأثناء عملية النموّ تظهر جميع الخصائص فيها واحدةً تلو الأخرى. وكذا الحال بالنسبة للحيوانات. كما وإنّ الأبناء، ومن دون أدنى نشاطٍ اختياري، يشتملون على صفات الآباء والأمّهات وخصائصهم، ويولدون بمميّزات مشتركة كثيرة، وهذا ما بيّنته الدراسات العلميّة الحديثة.
1. الوراثة في النصوص الدينيّة:
قانون الوراثة هو قانونٌ مقبولٌ من وجهة نظر الإسلام، إذ ينقل القرآن الكريم في قصّة النبي نوح عليه السلام طلبه عليه السلام من ربّه: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾1.
وفقاً لهذه الآية، فإنّ الأبناء يرثون صفات آبائهم؛ الحسنة منها والسيئة. فمن المعلوم أن الأبناء كما يرثون من أمّهاتهم وآبائهم الخصائص الجسميّة، فهم يرثون منهم ـ أيضاً ـ الخصائص المعنوية والحالات الروحية والنفسية. مع الإشارة إلى أنّ قانون الوراثة لا يعني المطابقة في كلّ شيء، ولا يعني الجبر وعدم القدرة على تغيير هذه الخصائص، بل يبقى للإنسان القدرة على التغيير في ما لو أعمل إرادته بشكل سليم وصحيح على تغيير الكثير من هذه الصفات الموروثة وتبديلها.
وقد أكَّدتْ الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام ـ أيضاً ـ على قانون الوراثة وتأثيره في عملية التربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وعبّرت عنه بلفظ "العِرقْ" و"الأعراق"، والتي يُعبَّر عنه اليوم في المحافل العلميّة بـ "الجينات أو الخليّة الوراثية".
عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "تزوجوا في الحجر الصالح، فإنّ العِرْقَ دسّاس"2.
وعنه صلى الله عليه واله وسلم في رواية أخرى أنّه قال: "اختاروا لنطفكم؛ فإنّ الخال أحد الضجيعين"3. وعنه صلى الله عليه واله وسلم ـ أيضاً ـ أنّه قال: "اختاروا لنطفكم؛ فإنّ الأبناء تشبه الأخوال"4.
كما بُيّن دورُ الوراثة في الأخلاق، وفي تشكُّل خصال الإنسان وسلوكيّاته في الحِكَم العَلَويّة، فعن أمير المؤمنين ومولى الموحِّدين الإمام علي عليه السلام أنه قال: "حُسْنُ الأخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأعراق"5.
وعنه عليه السلام: "من شرفِ الأعراق كَرَمُ الأخلاق"6. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "أطهرُ النّاس أعراقاً أحسنُهُم أخلاقاً"7.
1. العلاقة بين الوراثة والأحكام الدينيّة:
بالالتفات إلى أهمّيّة الوراثة وتأثيرها الجدّي في تشكُّل الخصائص البدنيّة والعقليّة والدّينيّة والأخلاقيّة والرُّوحيّة للأبناء، بنى الإسلام الكثير من الأحكام وفِقاً لهذا القانون المسلَّم به، على سبيل المثال:
أ-أوصى الإسلام في مسألة اختيار الزوج للزوجة: أن يختارها من العائلات الصالحة؛ لأنّ خصال الآباء والأمّهات تورث. روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال ذات يوم خطيباً: "أيّها الناس إيّاكم وخضراءَ الدِّمن، قيل يا رسول الله وما خضراء الدِّمن، قال: المرأة الحسناء في منبت السّوء"8.
وأيضاً عنه صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "أنكِحوا الأكفّاء وانكحوا فيهم واختاروا لِنطَفكم"9. وسأل أحدهم الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ الرّجل المُسلم تُعجِبه المرأةَ الحسناءَ أَيصلُح له أن يتزوَّجَها وهي مجنونة؟ قال: لا" 10. وجاء في الحديث عن الإمام علي عليه السلام: "إيّاكم وتَزْويج الحمقاء فإنّ صُحبَتها بلاء ووُلْدَها ضِياعٌ"11.
ب-أكَّد الإسلام ـ أيضاً ـ على المرأة أن تتفحّص أحوال زوجها المستقبليّ، وجعل مسؤولية هذا العمل على عاتق الوليّ الشرعيّ، روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "النكاحُ رقٌّ فإذا أنكح أحدُكُم وليدةً فقد أرَقَّها فلينظرْ أحدُكم لمن يرقّ كريمتَه"12.
وعن الحسين بن بشّار الواسطيّ قال: "كتبت إلى أَبي الحسن الرِّضا عليه السلام أنّ لي قرابةً قد خطب إليّ وفي خُلُقِهِ سُوءٌ، قال: لا تُزوِّجهُ إن كان سيّء الخلق"13.
ج - الإسلام، وبسبب رعايته لقانون الوراثة، أقرَّ بعض التسهيلات القانونيّة في موارد محدّدة؛ لأجل فسخ عقد الزواج، من قبيل: الجنون، أو الإصابة بمرض البرص، أو الجذام، أو العجز الجنسي، وغيرها. فإذا تزوج الرّجل أو المرأة وأدرك أحدهما لاحقاً أنّ الطرف الآخر مصاب بأحد الموارد التي ذكرناها، له الحقّ في أن يفسخ العقد 14، ولا يحتاج إلى الطلاق لأجل التحرُّر من هذا الزواج؛ إذ يُعدُّ هذا القانون وسيلةً للحدِّ من الوراثة غير المحمودة.
1. تغلّب التربية على الوراثة:
إنّ الصفات الوراثية ليست من الصفات الحتميّة، وليست من مصاديق القضاء والقدر الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل. بل إنّ هذه الصفات والموروثات مهما كانت قوية ومؤثّرة، يمكن التغلّب عليها بقوّة الإرادة والإصرار، والمثابرة. فأيّ صفة وراثية إذا ما خضعت لعملية التربية المباشرة مصحوبة بإرادة قويّة ونافذة فبالإمكان تغييرها وتبديلها من صفة سلبيّة إلى أخرى إيجابيّة؛ لأنّ الإرادة والاختيار الإنسانيين هما أقوى من أيّ موروث أو أيّ عامل خارجي آخر.
فالوراثة لوحدها بالرغم من أثرها على الخصائص الجسدية والنفسية للوارث، لا تقدر على طمس معالم الفطرة، وتعطيل القدرة والاختيار الإنساني المُعطى للإنسان بالأصل من أجل تقرير مصيره بيده: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ﴾15﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾16﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى﴾17، وإلا فلا معنى لأن يأمر الله الناس بالعمل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾18، فقد شهدنا الكثيرين ممَّن وُلِدُوا من أبوين كافرين أو فاسقين، ولكنّهم تحرّروا في نهاية المطاف من تأثيرهما السلبي الموروث بعد مجاهدة الطبع الموروث وترويضه؛ ليكون خاضعاً لقوّة العقل والإرادة.
فمهما كانت التأثيرات السلبيّة للوراثة أو التربيّة أو البيئة التي ينشأ فيها الإنسان قاسية وصعبة، يبقى الإنسان قادراً على التغيير، ويبقى مدد الهداية الإلهيّة محيطاً به على الدوام. إنّ عظمة الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه المنتجبين تكمن في سيرهم وتسنّمهم أعلى درجات الكمال رغم أنّهم نشأوا في أسوأ بيئة عرفتها البشرية، حيث استجابوا لنداء الفطرة والعقل المودعين في خلقة كلّ إنسان.
المحيط
إنّ مجموع العوامل الخارجية التي تحيط بالإنسان، والتي تؤثِّر بشكل مباشر أو غير مباشر في تربيته، تُسمّى المحيط. وهذه العوامل المتعدّدة تؤثِّر في الإنسان بأنحاء مختلفة منذ انعقاد النطفة وحتى موته. وأهمّ هذه العوامل المحيطة: البيت والأسرة، الصداقة والعشرة، المدرسة، المجتمع، البيئة الجغرافية والطبيعية. وسنتكلم عنها تباعاً:
1. البيت والأسرة:
يتفاعل الطِّفل في محيط البيت مع عناصر بشريّة عدّة أهمّها: الأب والأمّ، وتشكّل الأسرة أهمّ محيط لتربية الأطفال. فحينما يكتسب الولد لغة الأمّ والأب داخل البيت،
ينقل إليه أفراد العائلة الأفكار والآراء الأساسيّة من خلال المكالمة والحوار؛ فترتقي معارفه ومعلوماته إلى مستوى أفكار عائلته، وتحاكي أفعاله أفعال أفراد العائلة. من هنا، عندما نقوم بدراسةٍ لأفعال الإنسان اليوميّة وتحليلها وتجزئتها والبحث عن مناشئها، سنرى أنّ أكثرها يعود إلى التربية الأسريّة.
ويعتبر الباحثون من خلال دراستهم لبعض الحالات النفسية، أنّ جذور كثير من الأمراض العصبيّة والنفسيّة تعود إلى سلوكيّات الأهل المنحرفة والسّيئة مع أولادهم، وخاصّة في سنوات الطّفولة الأولى. إذ تترك أفعال الأهل أثرها على الأولاد دون أن يقصدوا ذلك. فالأم التي تخيف ولدها، تُربِّي ولداً جباناً من حيث لا تشعر. كما أنّ الولد يتلقّى دين عائلته، ويتأثّر بعقائد وأخلاق وأفعال أسرته من حيث لا يدري أو يشعر. ففي الحديث عن رسولِ الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "كُلُّ مولودٍ يُولد على الفِطرة حتى يكونَ أبواهُ يُهوِّدانه ويُنصِّرانه"19. فقد خُلِقَ الطفل قابلاً للخير والشر معاً، ووالداه هما اللذان يمنحانه القيم الأخلاقيّة السليمة والحسنة أو عكسها.
وفي ما يلي هذه بعض الجوانب التربوية التي تؤثِّر فيها العائلة:
أ- على مستوى شخصيّة الطِّفل: فالعائلة هي المحيط الأوّل والأهمّ الذي يؤسّس لبناء شخصيّة الأبناء وسلوكيّاتِهم.
ب- على مستوى عقيدة الطِّفل: إنّ النواة الأولى لمنظومة الطِّفل الفكرية والعقائدية تتشكَّل في مراحلها الأولى داخل محيط الأسرة، من خلال ما يعيشه داخل الأسرة، وما يتلقّاه من مبادئ فكريّة وعقائدية، ومن خلال تفاعله مع الأنظمة الحاكمة داخل الأسرة نفسها. وفي حال لم تكن تلك المعتقدات صحيحةً سيكون تغييرها وإصلاحها في المستقبل أمراً بالغ الصعوبة؛ خاصّة لجهة الانحرافات والشبهات العقائديّة.
ج- على مستوى القدوة والأسوة: فأوّل من يأخذ الطِّفل قدوة له وأسوة هو أحد أفراد عائلته، لأنّه على تماس واحتكاك دائم بهم، لذلك تراه يسعى إلى تقليدهم في البداية من دون وعي أو التفات منه، وهذا المعنى نجده بوضوح عند الإمام أبي جعفر عليه السلام حيث يقول: "يُحفَظ الأطفال بصلاح آبائهم"20.
2. العشرة واكتساب الأصدقاء:
الإنسان موجودٌ اجتماعي لديه الأهليّة لإقامة العلاقات والصّداقات ومعاشرة الآخرين، وهو بهذه الوسيلة يلبِّي احتياجاته الفطريّة، فيتأثَّر ويُؤثّر، ينفعل ويتفاعل. من هنا، نجد أنّ المعاشرة والمصادقة تسهمان مساهمة فعّالة وجدّيّة في تربية الأبناء سواء من النّاحية الإيجابيّة أم السلبية. لذا، يجب أن تكون العشرة مورد عناية واهتمام الوالدين، وكذلك القيّمين على الشأن التربوي. فالإنسان بمقدار صداقته ودرجة ارتباطه بالطرف الآخر يمكنه أن ينفُذْ في شؤونه المادّيّة والمعنويّة، ويؤثّّر على معتقداته وأخلاقه وحتى سلوكه وأقواله. روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "المرء على دين خليله"21.
وعن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "واعلموا إنّ مجالسةَ أهل الهَوَى منسأةٌ للإيمان، ومحضِرَةً للشيطان"22.
وروي عن النبي سليمان عليه السلام أنّه قال: "لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنّما يُعرف الرجل بأَشكاله وأَقرانه وينسب إلى أَصحابه وأَخدانه"23.
وهذه الشواهد الروائية إن دلّت على شيء، فإنّها تدلّ على مدى نفوذ وتأثير العشرة
في حياة الإنسان بمختلف مجالاتها وأبعادها.
2. المدرسة:
المدرسة كالعائلة أيضاً هي عاملٌ مهمٌّ على صعيد تربية الأطفال والأحداث، على الصعيد الجسدي والروحي. وتتكوَّن البيئة المدرسيّة من عناصر مختلفةٍ؛ من المعلّم، إلى المدير والناظر والمسؤول التربويّ والموظّفين والأصدقاء، والزملاء في الصفّ، وغيرهم بحيث يمكن أن يساهموا جميعهم أو بعضهم في تشكيل شخصية الطِّفل، وفي رسم معالم منظومته الفكرية والسلوكية. وربّما اتّخذ الطِّفل أيضاً أحد هذه العناصر قدوة وأسوة له في الحياة.
ويُعدّ دور المعلّم في بناء البعد الأخلاقيّ أو هدمه عند الأولاد مهمّاً جدّاً. فالمعلّم، وبسبب نفوذه المعنويّ، يُقدِّم القدوة والأنموذج للتلاميذ من خلال سلوكيّاته. فهم يتأثّرون بشدّة بكافّة الحركات والسكنات والإشارات، وحتى الألفاظ التي يستخدمها المعلّم أثناء قيامه بوظيفته التعليميّة.
وبالإضافةً إلى تأثير المعلّم، فإنّ الأجواء الدينيّة والمعنويّة الحاكمة على المدرسة لها تأثير كبير في غرس النواة الأولى للتوجّهات الإيمانيّة والدينيّة في نفوس الأطفال والأحداث؛ كالمراسم الدينية، وجلسات الدعاء، وصلاة الجماعة، وأمثالها، التي توفّر الأرضية اللازمة للتربية الدينيّة والأخلاقيّة والإقبال نحو المعارف الإسلاميّة. ومن البديهيّ أن يؤدّي تواجد المعلّمين والمدراء والمربّين مع الطلّاب في جلسات ومراسم كهذه إلى زيادة نسبة التأثّر والتأثير.
3. المجتمع:
إنّ المحيط الاجتماعي - أعمّ من أفراد المجتمع والأجواء الحاكمة عليه - له أيضاً تأثيره الكبير جدّاً على الأفراد. فكلّ إنسان كما يقول الشهيد مطهري يأتي إلى الدّنيا طاهراً ونقيّاً؛ أي مزوّداً بتقوى ذاتيّة، ولكن من الممكن تدريجيّاً، وعلى أثر تلوُّث
البيئة أن ينحرف عن مسار الفطرة إلى أن يُمسَخَ تماماً 24.
فممّا لا شكّ فيه أنّ البيئة الاجتماعيّة الفاسدة، تُفسد الجوّ الروحيّ للأفراد، وتضعف من مجال نموّ الأفكار السامية وتُقوِّي مجال نموّ الأفكار السافلة. ولهذا السبب اهتمّ الإسلام بشدّة بضرورة إصلاح المحيط الاجتماعيّ. وقد بيّن الإمام علي عليه السلام أهمّيّة ودور المحيط الاجتماعي في تشكّل البنية التّربوية للفرد، حيث يقول في رسالته لحارث الهمداني: "واسكنِ الأمصار العِظام؛ فإنّها جماعُ المسلمين، واحذر منازِل الغَفْلة والجَفاء وقِلَّة الأعوان على طاعة الله" 25.
المفاهيم الرئيسة
1. تعتبر الوراثة والمحيط والمجتمع والبيئة، من جملة العوامل الأساسية المؤثّرة في تشكّل شخصيّة الإنسان وبنيته الفكريّة والروحيّة.
2. من وجهة نظر القرآن، الأبناء كما أنّهم يرثون من أمّهاتهم وآبائهم الخصائص الجسميّة، فهم يرثون منهم ـ أيضاً ـ الخصائص المعنوية والحالات الروحيّة والنفسيّة.
3. مجموع العوامل الخارجية التي تحيط بالإنسان تُسمّى المحيط. وهذه العوامل المتعدّدة تؤثِّر في الإنسان بأنحاء مختلفة، وتشكّل الأسرة أهمّ محيط لتربية الأطفال.
4. تسهم العشرة والمصادقة مساهمة فعّالة في التربية، فالإنسان بمقدار صداقته ودرجة ارتباطه بالطرف الآخر يمكنه أن ينفذ في شؤونه المادّيّة والمعنويّة.
5. المدرسة كالعائلة عامل مهمّ جدّاً على صعيد التربية الجسميّة والروحيّة للأطفال والأحداث، وتساهم في تشكيل شخصية الطفل، ورسم معالمه الفكريّة والسلوكيّة.
6. البيئة والمحيط الاجتماعي لها دخالة وتأثير واضح على الفرد، فالبيئة الاجتماعية الفاسدة سوف تفسد بطبيعة الحال الجوّ الروحيّ والمعنويّ.
7. مهما كانت الخصائص الوراثية والبيئة المحيطة بالإنسان صعبة وقاسية إلّا أنّها لا تقهر الإرادة ولا تلغي الاختيار الإنساني؛ لأنّ الإنسان مخلوق مختار، والحكم النهائي له.
للمطالعة
مخاطر الوراثة
الإسلام عبارة عن نظام شامل: نظام سياسي يحيط بكل شيء، في حين أنّ بقية الأنظمة غافلة عن الكثير من الأمور. يهتم الإسلام بتربية الإنسان في مختلف أبعاد شخصيته، فهو يهتم بتوجهاته المادية، ويرعى اهتماماته المعنوية وينمّيها، بل لقد عبّر عن رأيه فيما هو أبعد من ذلك، إذ عبّر عن رأيه في الفترة التي تسبق اقتران الأبوين.
ويتضمن الإسلام أحكاماً وتعاليم لبناء الإنسان، فهو يحدّد للرجل المرأة التي يختار، ويعيّن للمرأة مواصفات الرجل المطلوب: ما وضعه الأخلاقي؟ وما مستوى تديّنه؟
إنّ المُزارع إذا ما أراد أن يبذر البذور، فإنه يبحث أولاً عن الأرض الصالحة، ثم يوفّر كل مستلزمات الأرض لكي تنمو البذرة بنحو سليم، فتراه يحرص على توفير ما يراه مفيداً لها، ويحاول تجنيبها الأشياء التي تضرّها، ويستمر على مواظبته لها حتى تنمو وتثمر. والإسلام لديه مثل هذا الاهتمام بالإنسان، أي: يتعامل معه مثلما يتعامل المزارع مع زرعه الذي يريده أن ينمو ويثمر. فمن قبل أن تعقد النطفة: أمر الإسلام بالصورة التي ينبغي أن يكون عليها الوالدان، أي: كيف ينبغي أن يكون الزواج؟
إنّ حرص الإسلام هذا جاء بدافع تفكيره بعاقبة هذا الأمر، فإذا كانت أخلاق أحد الأبوين على سبيل المثال فاسدة، أو كانت أفعالهما غير إنسانية، فإنّ أثر ذلك سيظهر في الطفل بالوراثة. ولهذا اهتم الإسلام كالمزارع الحريص والدقيق اهتماماً دقيقاً بمواصفات الإنسان الذي يجب أن يقترن به الإنسان الآخر. وإذا ما تزوّجا اهتم بآداب الزواج وآداب الفراش، وهنا توجد تعاليم وآداب كثيرة، ثم ينتقل إلى فترة الحمل التي يذكر بشأنها آداباً كثيرة، بعدها يعبّر عن رأيه في آداب حضانة الأم، وكذلك دور الأب، وبعد أن ينتقل الطفل إلى المدرسة ثم إلى المجتمع، كل هذه الأمور والمراحل وضع الإسلام لها أحكاماً وآداباً. في حين أن بقية النظم الموجودة في العالم لا تُعنى بهذا أساساً، وإنّ كل همّهم هو ـ مثلاً ـ أن يرفل المجتمع في هدوء يمكّنهم من نهب ثروات الشعب، أو أن يحرصوا على تنظيم العلاقات الاجتماعية لأبناء المجتمع بشكل سليم. أما كيف ينبغي للطفل أن ينمو ليصبح فرداً صالحاً في المجتمع، وما هي طبيعة التربية المطلوبة خلال فترة الحمل والرضاعة، فمثل هذه غير موجودة لدى هذه الأنظمة، بيد أنّ الإسلام يهتم بكل ذلك، يهتم كيف ستكون معاملة الإنسان مع أخيه الإنسان؟ وكيف ستكون معاشرته مع والديه؟ وكيف ستكون معاشرة الآباء مع الأبناء؟ وكيف ستكون معاشرتهم مع جيرانهم، ومع أبناء شعبهم، ومع إخوتهم في الدين، ومع الأجانب؟ 26.
هوامش
1-نوح، 26-27.
2-الوافي، ج3، ص 706.
3- الكافي، ج5، ص332.
4- الجواهر، 29، ص 37.
5- غرر الحكم، فضيلة حسن الخلق، 5358، ص254.
6- غرر الحكم، 5364، ص254.
7-م.ن، 5347، ص254.
8-الكافي، ج5، ص332.
9-وسائل الشيعة، ج20، ص 48.
10- م.ن، ص85.
11-م.ن، ص84.
12- م.ن، ص 79.
13-وسائل الشيعة، ج 20، ص 81.
14-يجوز للزوجة فسخ النكاح إذا تحقّق في الزوج عيب من أربعة، وهي: الجنون، والخصاء، والجبّ، والعنن. الأوّل: الجنون، ويجوز للزوجة فسخ النكاح بجنون زوجها مطلقاً، (سواء أكان جنونه قبل العقد مع جهل المرأة به، أم حدث الجنون بعد العقد، وسواء أكان الجنون قبل العلاقة الزوجيّة الخاصّة أم بعدها). ومع علمها بالجنون قبل العقد فلا خيار لها. تحرير الوسيلة ـ المعاملات، جمعية المعارف، ص331.
15-الرعد، 11.
16-النجم، 39.
17- النازعات، 35.
18- التوبة، 105.
19- بحار الأنوار، ج3، ص 281.
20-م.ن، ج15، ص178.
21-وسائل الشيعة، ج4، ص 207.
22-نهج البلاغة، الخطبة 86.
23-مستدرك الوسائل، ج8، ص227.
24-التعرّف على القرآن، ج2، ص 65 (باللغة الفارسية).
25-نهج البلاغة، الخطبة 69.