عطر الورد العراقية
12-12-2015, 11:49 PM
علي وصنع الانسان الرسالي
حينما يقف الزائر في موضع الذكوات البيض على الحافة الغربية لهضبة النجف الاشرف -وهو موضع خلوة أمير المؤمنين (ع)- فإنه سيطل على أفقين واسعين، أفق الى الغرب وهو بحر النجف وما بعده حيث لا يدرك الناظر منه الا ما يدركه بصره؛ غير انه يعلم ان المدى بعيد جداً رغم محدودية ما أدركه. والافق الآخر ضريح أمير المؤمنين عليه السلام وهو أوسع الأفقين ولا ندرك منه الا معالم حافاته القريبة لنا ولكننا نعلم أن المدى واسع جداً وغير متناهٍ جداً وما نملك الا النظر المبهور تجاهه والانجذاب الفطري نحوه.
وسنتكلم في مناسبة هذا اليوم عن خصيصة من خصائص علي بن ابي طالب (ع) طالما نحن عاجزون عن الاحاطة حتى بالحافات القريبة من ذلك الافق؛ وهي خصيصته عليه السلام في صنع الانسان الرسالي لعل الله سبحانه ينفع بها الاخوة العاملين في الساحة الاسلامية والعاشقين لأمير المؤمنين عليه السلام.
ولقد عاش الرساليون معه عليه السلام فترة حكمه مرحلة مهمة جديرة بالدراسة والتأمل كان فيها عليه السلام في قمة الهرم الاجتماعي مما أعطى لتلك التجربة الضيقة فرصة أن تطل أضواء الامير عليه السلام على جميع تفاصيل المجتمع وأن يتأثر كل المجتمع بأضواء الامامة فتتوفر لدينا تجربة اجتماعية كاملة لم تزل معيناً ثرّاً لكل خبرة اجتماعية وإدراية وسياسية الى يومنا هذا خصوصاً مع توسع الدولة في عهده عن عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتمتلك تلك الفترة أهميتها في سجل العمل الرسالي لأنها قامت بجهود الرساليين وتفاعل معها الرساليون قبل ولادتها وجميع الانجازات والإخفاقات كانت وليدة استعدادات الجيل الرسالي في الدرجة الأولى. وهي فترة حافلة بالخبرة العملية والتجربة النافعة من عدة جهات:
1.ان علي بن أبي طالب (ع) كان يمثل المثل الاعلى للرساليين والشخصية التي تمثل الاسلام في أذهانهم وولد ذلك عمق موقع الامام من الإسلام والمسلمين وتأريخه الفذ ورصيده الكبير من النصوص الدالة على فضله وخصوصيته الايمانية التي لم تزل تحرك قلوب المؤمنين الى يومنا هذا، وقد كان مجرد وجوده عليه السلام في ساحة المجتمع يمثل فضحاً للتطبيقات الخاطئة ومقياساً لكل عمل وتحديداً لكل انحراف.
2. انه (ع) يمثل التطبيق الامثل للاسلام والامل بإقامة دولة العدل وهذا الامل هو من المحركات المهمة في تأريخ البشرية والذي يزداد فاعليةً مع زيادة الظلم والجور مع الزمان الى ان يبلغ اقصى محركيته حين تمتلئ الارض ظلما وجوراً.
3. ان المثالية التي أداها أمير المؤمنين (ع) رغم عظمتها الا انها كانت متدرجة او محدودة بحسب استعدادات المتلقين، وقد تدرج الامام معهم فكان كل ابتلاء معه يتضح فيه قصور بعض الرساليين حتى ربما وقف في آخر عمره وليس معه الا فئات يسيرة بين اتباع متمردين، وتلك المواقف تمثل صراعاً بين المثالية الساذجة المنطلقة من الفهم القاصر للدين والعناد والتمرد على الحق وعبادة الهوى والتي مثلها الخوارج يوم التحكيم والمثالية المنفتحة التي تعيد ترتيب منظومتها مع كل ما يطرحه الامام والتي كان يمثلها مالك الاشتر مع من ثبت معه.
4. وقد شكلت فترة معايشة امير المؤمنين لعدد من الرساليين فرصة لتنمية مواهبهم بعد ان كانت مجرد استعدادات لطاعة الامام في بداية مبايعته لتصل في آخر المطاف للاستعداد لأقصى انواع التضحية كما مثل ذلك عبد الله بن بديل الذي استمر مع جماعته (وبيده سيفان يضرب قدماً في جيش العدو ليصل الى معاوية وحوله امثال الجبال من اهل الشام) حتى استشهد رضوان الله عليه. وتشير بعض الروايات الى ان من جنوده من كان يعترض عليه ويقترح وينتقد في بداية خلافته عليه السلام ولكنه وصل الى مستوى أعمق من التسليم مع استمرار التربية والمعايشة فالجزء الاهم من شخصية الرساليين كان من صنع الامام عليه السلام.
5. وقد أوضح عليه السلام معالم المعركة بين سياسة علي بن أبي طالب وسياسة معاوية، والاولى مرتبطة بالمبادئ الاسلامية والتي تجعل الانسان غاية عليا وتنشد بناء الحضارة الإنسانية التي يتقدم بناؤها بإنسانيتها، بينما تمثل الاخرى السياسة التي تستحل كل شيء والسياسي الذي يستعد للتنازل عن كل شيء حتى لو أدى إلى كشف عورته في ساحة القتال لينجو من حياته، ولا شك أن النصر قد حالف السياسة الاولى حتى وان ظن أصحاب القياسات المادية أن النصر كان من حصة سياسة معاوية؛ وفي ذلك جهل بمعنى النصر الحقيقي وغفلة عن طبيعة سير الأشياء حيث تكون الحالات المنحرفة شاذة؛ ربما يطول بها الزمان شيئاً؛ ولكنها تبقى قلقة تنطوي على عوامل فنائها فلا يستقيم لها بناء ولا يدوم، بخلاف البناء المبدئي فإنه يستمر لأنه يستمد قوته من مبدأ ثابت وبناء منسجم مع فطرة الانسانية وقيمها.
6. وتمثل تلك الفترة: فترة تطبيق الاسلام الاصيل تطبيقاً عملياً ليكون شاهداً على قدرة الاسلام على ادارة المجتمع بكفاءة على الذين يريدون شاهداً حسياً لإثبات الكلام، فلم تكن سياسة الامام سياسة فظة في تطبيق المثاليات بل كان يدير الامور بأحسن ما تدار وهو الذي يقول [من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق] فإن مداهنات غيره كانت تضيق عليه دائرة الخناق تدريجياً حتى هلك غيره على يد من جاملهم وفرّقهم في العطاء والهبات عن سائر المسلمين. وهي عبرة ينبغي لسياسيي عالم اليوم الانتفاع بها قبل ان يقعوا في مصير من قبلهم [وما أكثر العبر وأقل الاعتبار].
7. ولم تكن نقاط العجز التي وقف فيها الرساليون عن العطاء مع امير المؤمنين نقاط فشل له عليه السلام، كما لم تكن غير محسوبة او غير متوقعة، بل يرى البعض أنها مبرمجة بعناية لأنها أوقفتهم على حافة طاقتهم وحدود استعداداتهم وهذا الوقوف وتلك الحافة تتيح لهم رؤية المديات الواسعة امامهم والتي كانوا يظنون انهم بلغوا غاية المطلوب منها وانهم مستعدون لتحمل البيعة والجهاد مع امير المؤمنين (ع) فسار بهم في تلك الفترة الضيقة حتى وقف بهم أمام المديات الواسعة لآفاق الانسان مع كل خطوة ومنعطف يقفون عنده ثم يشير لهم الى غاية المرام فيها لكي تبقى تجاربهم ثروة للأجيال الانسانية بعدهم.
8. فلم تكن تلك الفترة ملكاً للجيل الذي عايشها بل هي ملك لجميع الرساليين في تأريخ الامة الاسلامية فانظر الى عهده عليه السلام لمالك الاشتر حين ولاه مصر، وهو يعلم ان الدولة ستتحول الى بني امية وانه سيستشهد قبل وصوله الى مصر، ولكنه حمّله ذلك العهد الجليل بجميع تفصيلاته القيمة والذي يمثل معرفة ادارية واجتماعية وسياسية عظيمة، يمكن ان تكون بمثابة المكافئة المعرفية التي كافأ به مالك الاشتر وهو التابع الذي بذل كل شيء من اجل الامام (ع)، ويمكن ان تكون اشارة الينا الى ان ذلك العهد لا يحمله الا من كان مثل مالك الاشتر في الاستعداد للتضحية والبصيرة بالامام واعداء الامام.
9. وقد ربّى عليه السلام في تلك الفترة العشرات من الرساليين تربية إيمانية معمقة ربما تكون نشأت من طرحه العظيم للمعارف الإلهية على منبر جمعته أو بتربيات خاصة مع ثلة منهم أو بما عمله من انجازات وأعمال في فترة حكمه فإن كل حدث اجتماعي قام به يمثل تربية نفسية وخطوة يخطوها أتباعه في الجهاد الأكبر خصوصاً مع حضور أمير المؤمنين عليه السلام بينهم.
10. ان البعض يرى ان امير المؤمنين قد حقق أغراضه في تلك الفترة وان كانت قد خفيت علينا، وربما كانت تلك الاغراض ايقاف الانهيار الذي مني به المجتمع نتيجة الانحرافات السابقة فأعاد الى الأذهان صورة الحق والعدل الاجتماعي بحيث بقيت الاجيال تحنّ الى تلك الصورة وترتسم في أذهانها ويطالب بها جميع الثوار والمصلحين، وحوّل الثورات من ثورات غضب جازعة الى ثورات بناء هادفة ولذلك كان كثير من الثائرين بعده (ع) حينما يبايعه أنصاره انما يبايعونه على أن يسير بسيرة علي بن ابي طالب (ع).
11. ومما تقدم يتضح أن امير المؤمنين (ع) كان يؤسس ليس لدولته القصيرة تلك بل كان يؤسس لدولة أخرى وبمواصفات أخرى تأتي في آخر الزمان بقيادة المهدي (عجل الله فرجه) وكان عليه السلام يعد لها إعداداً علمياً ونفسياً بل وسياسياً بالمعنى الذي نفهمه للسياسة؛ وكثيراً ما كان يذكر القائم عليه السلام في خطبه [بأبي وأمي من لا يأخذ منهم إلا السيف ولا يعطيهم إلا السيف] [فيريكم كيف عدل السيرة ويحيي ميت الكتاب والسنة] الى غيرها من كلماته عليه التي تشد القلوب والآمال الى تلك الدولة وذلك القائد العظيم.
12. وانه عليه السلام قد فتح الباب على مصراعيه للرواح الى الله كما عبر (ع) في أواخر حياته [الجهاد الجهاد عباد الله؛ ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح الى الله فليخرج] ذلك الجهاد المنطلق من العبودية والذي لا يقف عند حد بل هو رواح الى الله سبحانه، وهو مع الظروف التي تلت استشهاده (ع) جهاد اعمق مما سبقه جمع عليه السلام فيه -حين قال خطبته تلك- قرابة الاربعين ألفاً وعقد لهم الرايات وهو يريد الرجعة الى صفين كما يقول الراوي، وما هو الا تحشيد لجهاد اكبر مما سبقه والا فهو عليه السلام يعلم انه لن تدور به الجمعة حتى يضربه الملعون ابن ملجم، فلماذا جمع ذلك الجيش وزوده بكل ذلك الدعم الحراري، انه اختبار جديد لهم بعد ان عرفوا أخطاءهم السابقة وندموا على خذلانهم للإمام، ولكن كم من تلك الآلاف انطلق في ذلك الجهاد ولحق بمن عرف الغاية من الجهاد مع الامام كالذين تأوّه عليه السلام لأجلهم في الخطبة الأخيرة [أين عمار وأين ابن التيّهان وأين ذو الشهادتين وأين نظراؤهم وإخوانهم ممن تعاقدوا على المنية واُبردَ برؤوسهم الى الفجرة، وثقوا بالقائد فاتبعوه وتأملوا الفرض فأقاموه ودعوا للجهاد فأجابوا] وممن حقق بهم عليه السلام نصره الحقيقي، وهو الجهاد الذي لم يزل مفتوحاً للرواح الى الله سبحانه لا يغلق في وجه الرساليين أبداً. وقد فتح عليه السلام الباب لجميع المؤمنين أن يحضروا مشاهده ويعملوا تحت رايته، إذ يروي الشريف الرضي في نهج البلاغة ان أحد جنود الامام قال له بعدما رأى نصره على أصحاب الجمل: وددت أن أخي فلان كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك فقال (ع):[أهوى أخيك معنا؟ قال: نعم، فقال (ع): فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعُف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان] وهذه دعوة الى كل الرساليين الذين يريدون صحبة أمير المؤمنين والقتال تحت رايته (ع) فإن الباب مفتوح وان المؤمن الذي يعمل لأجل زيادة الإيمان ونصرة الحق إنما يقاتل في عسكره عليه السلام وفي صحبته ويكفي ذلك ثواباً إذ يقول عمار بن ياسر رضوان الله عليه (والله لو لم تكن هناك جنة ولا نار لكان القتال مع علي خير من القتال مع معاوية).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
منقول عماد الهلالي
حينما يقف الزائر في موضع الذكوات البيض على الحافة الغربية لهضبة النجف الاشرف -وهو موضع خلوة أمير المؤمنين (ع)- فإنه سيطل على أفقين واسعين، أفق الى الغرب وهو بحر النجف وما بعده حيث لا يدرك الناظر منه الا ما يدركه بصره؛ غير انه يعلم ان المدى بعيد جداً رغم محدودية ما أدركه. والافق الآخر ضريح أمير المؤمنين عليه السلام وهو أوسع الأفقين ولا ندرك منه الا معالم حافاته القريبة لنا ولكننا نعلم أن المدى واسع جداً وغير متناهٍ جداً وما نملك الا النظر المبهور تجاهه والانجذاب الفطري نحوه.
وسنتكلم في مناسبة هذا اليوم عن خصيصة من خصائص علي بن ابي طالب (ع) طالما نحن عاجزون عن الاحاطة حتى بالحافات القريبة من ذلك الافق؛ وهي خصيصته عليه السلام في صنع الانسان الرسالي لعل الله سبحانه ينفع بها الاخوة العاملين في الساحة الاسلامية والعاشقين لأمير المؤمنين عليه السلام.
ولقد عاش الرساليون معه عليه السلام فترة حكمه مرحلة مهمة جديرة بالدراسة والتأمل كان فيها عليه السلام في قمة الهرم الاجتماعي مما أعطى لتلك التجربة الضيقة فرصة أن تطل أضواء الامير عليه السلام على جميع تفاصيل المجتمع وأن يتأثر كل المجتمع بأضواء الامامة فتتوفر لدينا تجربة اجتماعية كاملة لم تزل معيناً ثرّاً لكل خبرة اجتماعية وإدراية وسياسية الى يومنا هذا خصوصاً مع توسع الدولة في عهده عن عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتمتلك تلك الفترة أهميتها في سجل العمل الرسالي لأنها قامت بجهود الرساليين وتفاعل معها الرساليون قبل ولادتها وجميع الانجازات والإخفاقات كانت وليدة استعدادات الجيل الرسالي في الدرجة الأولى. وهي فترة حافلة بالخبرة العملية والتجربة النافعة من عدة جهات:
1.ان علي بن أبي طالب (ع) كان يمثل المثل الاعلى للرساليين والشخصية التي تمثل الاسلام في أذهانهم وولد ذلك عمق موقع الامام من الإسلام والمسلمين وتأريخه الفذ ورصيده الكبير من النصوص الدالة على فضله وخصوصيته الايمانية التي لم تزل تحرك قلوب المؤمنين الى يومنا هذا، وقد كان مجرد وجوده عليه السلام في ساحة المجتمع يمثل فضحاً للتطبيقات الخاطئة ومقياساً لكل عمل وتحديداً لكل انحراف.
2. انه (ع) يمثل التطبيق الامثل للاسلام والامل بإقامة دولة العدل وهذا الامل هو من المحركات المهمة في تأريخ البشرية والذي يزداد فاعليةً مع زيادة الظلم والجور مع الزمان الى ان يبلغ اقصى محركيته حين تمتلئ الارض ظلما وجوراً.
3. ان المثالية التي أداها أمير المؤمنين (ع) رغم عظمتها الا انها كانت متدرجة او محدودة بحسب استعدادات المتلقين، وقد تدرج الامام معهم فكان كل ابتلاء معه يتضح فيه قصور بعض الرساليين حتى ربما وقف في آخر عمره وليس معه الا فئات يسيرة بين اتباع متمردين، وتلك المواقف تمثل صراعاً بين المثالية الساذجة المنطلقة من الفهم القاصر للدين والعناد والتمرد على الحق وعبادة الهوى والتي مثلها الخوارج يوم التحكيم والمثالية المنفتحة التي تعيد ترتيب منظومتها مع كل ما يطرحه الامام والتي كان يمثلها مالك الاشتر مع من ثبت معه.
4. وقد شكلت فترة معايشة امير المؤمنين لعدد من الرساليين فرصة لتنمية مواهبهم بعد ان كانت مجرد استعدادات لطاعة الامام في بداية مبايعته لتصل في آخر المطاف للاستعداد لأقصى انواع التضحية كما مثل ذلك عبد الله بن بديل الذي استمر مع جماعته (وبيده سيفان يضرب قدماً في جيش العدو ليصل الى معاوية وحوله امثال الجبال من اهل الشام) حتى استشهد رضوان الله عليه. وتشير بعض الروايات الى ان من جنوده من كان يعترض عليه ويقترح وينتقد في بداية خلافته عليه السلام ولكنه وصل الى مستوى أعمق من التسليم مع استمرار التربية والمعايشة فالجزء الاهم من شخصية الرساليين كان من صنع الامام عليه السلام.
5. وقد أوضح عليه السلام معالم المعركة بين سياسة علي بن أبي طالب وسياسة معاوية، والاولى مرتبطة بالمبادئ الاسلامية والتي تجعل الانسان غاية عليا وتنشد بناء الحضارة الإنسانية التي يتقدم بناؤها بإنسانيتها، بينما تمثل الاخرى السياسة التي تستحل كل شيء والسياسي الذي يستعد للتنازل عن كل شيء حتى لو أدى إلى كشف عورته في ساحة القتال لينجو من حياته، ولا شك أن النصر قد حالف السياسة الاولى حتى وان ظن أصحاب القياسات المادية أن النصر كان من حصة سياسة معاوية؛ وفي ذلك جهل بمعنى النصر الحقيقي وغفلة عن طبيعة سير الأشياء حيث تكون الحالات المنحرفة شاذة؛ ربما يطول بها الزمان شيئاً؛ ولكنها تبقى قلقة تنطوي على عوامل فنائها فلا يستقيم لها بناء ولا يدوم، بخلاف البناء المبدئي فإنه يستمر لأنه يستمد قوته من مبدأ ثابت وبناء منسجم مع فطرة الانسانية وقيمها.
6. وتمثل تلك الفترة: فترة تطبيق الاسلام الاصيل تطبيقاً عملياً ليكون شاهداً على قدرة الاسلام على ادارة المجتمع بكفاءة على الذين يريدون شاهداً حسياً لإثبات الكلام، فلم تكن سياسة الامام سياسة فظة في تطبيق المثاليات بل كان يدير الامور بأحسن ما تدار وهو الذي يقول [من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق] فإن مداهنات غيره كانت تضيق عليه دائرة الخناق تدريجياً حتى هلك غيره على يد من جاملهم وفرّقهم في العطاء والهبات عن سائر المسلمين. وهي عبرة ينبغي لسياسيي عالم اليوم الانتفاع بها قبل ان يقعوا في مصير من قبلهم [وما أكثر العبر وأقل الاعتبار].
7. ولم تكن نقاط العجز التي وقف فيها الرساليون عن العطاء مع امير المؤمنين نقاط فشل له عليه السلام، كما لم تكن غير محسوبة او غير متوقعة، بل يرى البعض أنها مبرمجة بعناية لأنها أوقفتهم على حافة طاقتهم وحدود استعداداتهم وهذا الوقوف وتلك الحافة تتيح لهم رؤية المديات الواسعة امامهم والتي كانوا يظنون انهم بلغوا غاية المطلوب منها وانهم مستعدون لتحمل البيعة والجهاد مع امير المؤمنين (ع) فسار بهم في تلك الفترة الضيقة حتى وقف بهم أمام المديات الواسعة لآفاق الانسان مع كل خطوة ومنعطف يقفون عنده ثم يشير لهم الى غاية المرام فيها لكي تبقى تجاربهم ثروة للأجيال الانسانية بعدهم.
8. فلم تكن تلك الفترة ملكاً للجيل الذي عايشها بل هي ملك لجميع الرساليين في تأريخ الامة الاسلامية فانظر الى عهده عليه السلام لمالك الاشتر حين ولاه مصر، وهو يعلم ان الدولة ستتحول الى بني امية وانه سيستشهد قبل وصوله الى مصر، ولكنه حمّله ذلك العهد الجليل بجميع تفصيلاته القيمة والذي يمثل معرفة ادارية واجتماعية وسياسية عظيمة، يمكن ان تكون بمثابة المكافئة المعرفية التي كافأ به مالك الاشتر وهو التابع الذي بذل كل شيء من اجل الامام (ع)، ويمكن ان تكون اشارة الينا الى ان ذلك العهد لا يحمله الا من كان مثل مالك الاشتر في الاستعداد للتضحية والبصيرة بالامام واعداء الامام.
9. وقد ربّى عليه السلام في تلك الفترة العشرات من الرساليين تربية إيمانية معمقة ربما تكون نشأت من طرحه العظيم للمعارف الإلهية على منبر جمعته أو بتربيات خاصة مع ثلة منهم أو بما عمله من انجازات وأعمال في فترة حكمه فإن كل حدث اجتماعي قام به يمثل تربية نفسية وخطوة يخطوها أتباعه في الجهاد الأكبر خصوصاً مع حضور أمير المؤمنين عليه السلام بينهم.
10. ان البعض يرى ان امير المؤمنين قد حقق أغراضه في تلك الفترة وان كانت قد خفيت علينا، وربما كانت تلك الاغراض ايقاف الانهيار الذي مني به المجتمع نتيجة الانحرافات السابقة فأعاد الى الأذهان صورة الحق والعدل الاجتماعي بحيث بقيت الاجيال تحنّ الى تلك الصورة وترتسم في أذهانها ويطالب بها جميع الثوار والمصلحين، وحوّل الثورات من ثورات غضب جازعة الى ثورات بناء هادفة ولذلك كان كثير من الثائرين بعده (ع) حينما يبايعه أنصاره انما يبايعونه على أن يسير بسيرة علي بن ابي طالب (ع).
11. ومما تقدم يتضح أن امير المؤمنين (ع) كان يؤسس ليس لدولته القصيرة تلك بل كان يؤسس لدولة أخرى وبمواصفات أخرى تأتي في آخر الزمان بقيادة المهدي (عجل الله فرجه) وكان عليه السلام يعد لها إعداداً علمياً ونفسياً بل وسياسياً بالمعنى الذي نفهمه للسياسة؛ وكثيراً ما كان يذكر القائم عليه السلام في خطبه [بأبي وأمي من لا يأخذ منهم إلا السيف ولا يعطيهم إلا السيف] [فيريكم كيف عدل السيرة ويحيي ميت الكتاب والسنة] الى غيرها من كلماته عليه التي تشد القلوب والآمال الى تلك الدولة وذلك القائد العظيم.
12. وانه عليه السلام قد فتح الباب على مصراعيه للرواح الى الله كما عبر (ع) في أواخر حياته [الجهاد الجهاد عباد الله؛ ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح الى الله فليخرج] ذلك الجهاد المنطلق من العبودية والذي لا يقف عند حد بل هو رواح الى الله سبحانه، وهو مع الظروف التي تلت استشهاده (ع) جهاد اعمق مما سبقه جمع عليه السلام فيه -حين قال خطبته تلك- قرابة الاربعين ألفاً وعقد لهم الرايات وهو يريد الرجعة الى صفين كما يقول الراوي، وما هو الا تحشيد لجهاد اكبر مما سبقه والا فهو عليه السلام يعلم انه لن تدور به الجمعة حتى يضربه الملعون ابن ملجم، فلماذا جمع ذلك الجيش وزوده بكل ذلك الدعم الحراري، انه اختبار جديد لهم بعد ان عرفوا أخطاءهم السابقة وندموا على خذلانهم للإمام، ولكن كم من تلك الآلاف انطلق في ذلك الجهاد ولحق بمن عرف الغاية من الجهاد مع الامام كالذين تأوّه عليه السلام لأجلهم في الخطبة الأخيرة [أين عمار وأين ابن التيّهان وأين ذو الشهادتين وأين نظراؤهم وإخوانهم ممن تعاقدوا على المنية واُبردَ برؤوسهم الى الفجرة، وثقوا بالقائد فاتبعوه وتأملوا الفرض فأقاموه ودعوا للجهاد فأجابوا] وممن حقق بهم عليه السلام نصره الحقيقي، وهو الجهاد الذي لم يزل مفتوحاً للرواح الى الله سبحانه لا يغلق في وجه الرساليين أبداً. وقد فتح عليه السلام الباب لجميع المؤمنين أن يحضروا مشاهده ويعملوا تحت رايته، إذ يروي الشريف الرضي في نهج البلاغة ان أحد جنود الامام قال له بعدما رأى نصره على أصحاب الجمل: وددت أن أخي فلان كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك فقال (ع):[أهوى أخيك معنا؟ قال: نعم، فقال (ع): فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعُف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان] وهذه دعوة الى كل الرساليين الذين يريدون صحبة أمير المؤمنين والقتال تحت رايته (ع) فإن الباب مفتوح وان المؤمن الذي يعمل لأجل زيادة الإيمان ونصرة الحق إنما يقاتل في عسكره عليه السلام وفي صحبته ويكفي ذلك ثواباً إذ يقول عمار بن ياسر رضوان الله عليه (والله لو لم تكن هناك جنة ولا نار لكان القتال مع علي خير من القتال مع معاوية).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
منقول عماد الهلالي