المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقياس التَّمَدُّن


sayed hadi
27-03-2016, 09:02 PM
http://www.wlidk.net/upfiles/ihr40169.jpg



مقياس التَّمَدُّن

المفكر الإسلامي آية الله الشهيد السيد حسن الحسيني الشيرازي(أعلى الله درجاته)

التمدن كلمة مقدسة, استطاعت أن تجلب المشاعر, وتنحت لنفسها معبداً في القلوب, ولكنها لم تستطع أن تستقل بنفسها, فلا تتجاذبها الأهواء وفي أثر تلك القداسة المتمايلة, احتدم صراع عنيف هنا وهناك منذ زمن بعيد.
ونحن حيث نسأل المتخاصمين حول هذه الفكرة: ماهو التمدّن؟ لا يتجاوز قولهم: التمدن خلاصة الثقافات الصادقة والحضارات البالغة.
ولا شك أن في كل تمدن ضروب من البراعة الرائقة, والمفاتن الخلابة, وهي جميعها مظاهر رائعة للعقول الناضجة, والأفكار النيرة بيد أن كل من هؤلاء يزعم مدنيته تفوق المدنيات الأخرى في كونها نتيجة للفكر المستقيم, والمنطق الصحيح, إلى جنب اختيارات آلاف من المفكرين, قرون متطاولة, وهؤلاء العظماء المتسلسلة, وتلك الاختيارات المتراكمة, هي التي تجدد ثقتهم بأنفسهم, وبمبادئهم وأهدافهم, ولا يحائدون وإن قامت أمامهم القمم المريعة, أو فغرت لهم الفواغر وتراءت الوهدات السحيقة وكفنهم الأسى, وألحدهم الظلام, فينفضون غبار العجز, ويجاهدون دون مبادئهم أكثر من جهادهم في تصوير الحياة وحقائقها, والتطلع على غاباتها, وكهوفها, والتسرب إلى أسرارها وغموضها, ومع ذلك فهم راضون عن أنفسهم, مدافعون عن جهالاتهم وأوهامهم, ولو استطاعوا أن يتصوروا جميع جوانب الحياة, وألوانها المتباينة, لجاء حكمهم صادقاً قويماً لا يختلف فيه اثنان, وأراحوا أنفسهم من شرور أهوائهم, ونزوات أنفسهم, ولجمعهم الأفق الأمين, ولساد التعاون, ومات التطاحن, في ملحمة ولم يقل "غيبون": (إن التاريخ لا يعدوا أن يكون سجلا للجرائم, وضروب الحمق, والمصائب التي نزلت بالبشر...) !!!, بل كان سجلا حافلاً بالمآثر والكرامات.
وحيث نلاحظ التمدن في نظر "اللغة" نجده مختصر جميع ما تحتاج إليه "المدينة" من الروابط الاجتماعية, والعلاقات الفردية, والقوانين الحكومية والإجراءات النظامية والأصول الصغيرة النفسة... وما إلى ذلك, على وجه صحيح تعنى بشؤون المجتمع, وتوسع جزئياتها الصغيرة, وموادها الخفية و... بحيث تربى الفطرة الشعرية الدينية, على قوانين الرسل, وكتب السماء, وتنمى الروح المادي الصناعي في عالم الكمال. وحيث نطلب هذا "التمدن" الصادق لا نجده على صفحات الوجود إلا في "دين الإسلام".
ذلك لأن الإسلام لا يدعو الناس إلى الجمود عليه, والاذعان اللاشعوري بأصوله وقواعده, بل إن أول أثر من آثار الإسلام, تحرير الأفكار من ربقة الجهل والتقليد, فهو يأمر المجتمع أن يُحكم عقله في شق معترك الحياة وإلى جانب ذلك يذكى الروح الإنساني في النفوس, ويوقظ المشاعر, ويلهب الخيال, والنشاط والعوامل الفعالة في المجتمع, وبعد ذلك يؤسس قوانين رصينة, جمة النشاط, فخمة الاسلوب, تستوعب جميع شؤون الحياة, حتى نجوى الصدور, وهواجس الخيال.
وحيث نأتي إلى باقي "المدنيات" –أو بالأحرى ما يدعى مدنيات- نجدها غير حافلة بكثير من شؤون الاجتماع, وإنما تستهدف جانباً وتهمل جانباً ما سواه, ولا أنكر أنها تسعى لإيقاظ الضمير, والبصيرة فيا لمجتمع, وإذكاء مشاعره, وإرهاف أحاسيسه ولكنها لا تستطيع أن تثير فيا لنفوس, عاطفة الحماسة والطموح, والثبات واليقين إلى حيث تهزء بالمقادير, وتقضي على هينمات الميول والأهواء, ويخلق من كل فرد منهم رائد المجتمع إلى السعادة والكمال, بنظرة ثاقبة تستشف الحقائق, وتكتنه الضمائر والأسرار.
ولكن الإسلام يستخدم جميع المواد الثقافية, والعناصر الفعالة في تكوين الضمير الناطق الحي للمجتمع, ليحس بمسؤوليته البشرية, ويلمس من نفسه الحافز عن هذه المسؤوليات, ليعيش حياة آمنة وديعة, حتى ترى المثقف المسلم أزكى الثمرات للبشرية الصحيحة, أجل, وهو الذي يفكر بعقله, ويحس بقلبه, ويسلك كأنه المسؤول الوحيد, عن ارتقاء العالم كله.
وفي الوقت نفسه, لا يتغاضى الإسلام عن سمو الفكر في نظر التطور المادي, والنمو الطبيعي, فهذه النهضة الحاضرة, هي من نتائج الحركات الإسلامية, ومثلها العليا, وليست جديدة على أفواهنا, بل هي جهد أبطال التاريخ, وعباقرة الإسلام, جاشت بها أفئدتهم, وضحوا في سبيلها بأرواحهم وأموالهم, ثم تركوها تراثاً خالداً نجتني منها الأثمار, ونسايرها إلى الأمام.
فقد اندفع الإسلام نحو التطور الفكري والمادي دفعه واحدة, وهو أول من شق الطريق إلى هذه العلوم. فكما وضع علوم العربية, والفقه والأصول, والجبر والمقابلة, وترجم حكمة "أرسطو" وطب (جالينوس) ورياضيات "اقلديس".. كذلك ابتكر علوم "الكيمياء" و"الفيزياء" و(جر الاثقال) واخترع (البندول) و(البوصلة), (بيت الإبرة) وهذا التاريخ يحدثنا عن (الساعة الدقاقة) التي أهداها الرشيد إلى (شار لكان) ملك فرنسا, ففزع منها سامعوها فزعاً شديداً, وزعموا صوتها من الشيطان, أو الجن, أو السحر .... وهذه كتب (جابر بن حيان) تلميذ الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في مختلف العلوم المادية الحديثة والتي أصبحت اليوم منهلاً روياً لروائع الطبيعة الفتانة, التي يعتز بها الغرب رغم اختلاسها من الإسلام.
وقد أبدع الإسلام نظرية التطور فكرة جديدة لم يعرفها العالم قبله, وهي احترام الحياة كائنة ما كانت, للنبات أو للحيوان, وقد حاول بجهوده الجبارة أن يجعل العالم عائلة واحدة كثيرة الروابط والامتزاج, وبالغ في تنفيذ هذا القانون المقدس وتركيزه في النفوس, حتى جعل العالم يجري نحو المزاج العالمي, والوحدة الكبرى, فجعل الرجل يحس أن قوميته الصغيرة, أصبحت عالمية, وأن أُفقه الضيق انفتق أفاقاً رحيبة, وأن القارات الخمس التحمت فكونت قارة واحدة, فالمثقفون منا إلى المشاكل العالمية, كما ينظرون إلى مشكلاتهم البيتية, ويحدقون من مرايا الصحف إلى الملاحم البعيدة, فتفجر زفراتهم, وتنهمل عبراتهم, كما يحدقون إلى مصارع أبائهم وإخوانهم, لا لأنهم يحسبون أن لهذه الحوادث الأجنبية صدى في أوطانهم, بل لأنهم يشعرون بأننا جميعاً عائلة واحدة, نملك هذا العالم بأجمعه وفي اثر هذا الشعور النابض انعقد الارتباط الاقتصادي, وازدادت المواصلات, وجميع هذه التطورات الاقتصادية والصناعية, ثمرات تلك الدوحة الغّناء, والوحدة الكبرى والمزاج النفسي, الذي غرسه الإسلام, في مشاعر الناس وحواسهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وهذا الفن الرائع, والسياسة الرشيدة, مما لم يعرفه العلم لغير (الإسلام) حتى الأديان والشرائع.
ذلك لأن الإسلام لم يكن ليعرف الارتقاء خطاً سماوياً يسير سيراً مطرداً إلى فوق, إلى مالا نهاية له – كما تعّرفه السياسات الساذجة, فينفق في سبيله الجهود السخية, حتى إذا فغرت لها فجاج الموت, رجعت القهقرى, لأنها لم تكن تعرفها من قبل- بل الإسلام يؤمن بأن التقدم والاتقاء خط معرج, فيه انحدارات رهيبة, وربى وديعة, وأعلى ذروتان تكادان تتساويان شموخاً, النجاح الروحي الأخروي والتقدم المادي الصناعي, فهو لا يمل النظر إليهما, نظرة منقسمة لا محاباة فيها, ثم ينهج الخطة الموصلة بين هاتين الذروتين وهو مؤمن بكل ما تلفه من العواصف والأرزاء, فهو يندفع بعزم زاخر لا يتوانى عن الدفاع عما يعتقد, ولن يتخلف عن ركب التقدم مهما اعترضته من عقبات, ولن يتأخر عن تلبية نداء الحق, والتجاوب مع دعاة الإصلاح مهما تخيل أن ظروفه الخاصة تفرض عليه الصمت.
ولا شك عندي في أن الإسلام أدرك بثاقب فكره معنى من أعمق المعاني, ونفذت بصيرته إلى كبد الحقائق, فالتمدن له خطره وقدسيته, ورسالة التمدن رسالة خالدة لا يتلقاها إلا من خشع قلبه, واستنار ذهنه بنور اليقين, والتمدن إن لم يكن رأس الفضائل جميعاً, فهو منبع من أصفى منابعها.
وبذلك أقول: الإسلام عّرف مقياس التمدن الصحيح, ولم يعرفه غيره من الأديان والسياسات.
والسر في ذلك: أن السياسات لم توضع إلا حرصاً على نواميس المادة فحسب ولم يرسل الله تعالى الأديان إلا لاستكمال السعادة البشرية, وإرهاف القوى الروحية الخالدة ولم تستطع من تطبقها على المادة, حيث أعيتها القوة القاهرة, ولم تخضع لها الملوك والأمراء... ولكن الإسلام وسع الجانبين, وبلغ القمتين, فهو التمدن الكامل الذي لابد منه في أي مجتمع بشري...!!!