حفيد الكرار
31-07-2016, 12:52 PM
دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 1)
بسم لله الرحمن الرحیم
(منھج التثبت في شأن الدین)
(الحلقة الأولى)
١. أھمیة البحث وضرورته.
٢. أدوات البحث: إدراكات العقل
٣. لزوم تثبت المرء في أمر الدین.
٤. الاھتمام بالمقارنة مع منطق
النظریة والعملیة. القرآن في الإقناع.
١. تكمن أھمیة ھذا البحث في مساسھ بحیاة الإنسان؛ لأن الدین في
الحقیقة لیس إلا رؤیة كونیة یشرح أبعاد ھذه الحیاة، ویثبت حقائق
كبرى ثلاثة فیھا ھي: وجود لله سبحانھ وتعالى. ورسالتھ إلى
الإنسان. وبقاء الإنسان بعد ھذه الحیاة سعیداً أو شقیاً حسب أعمالھ
وسلوكیاتھ فیھا.
وھذه الحقائق مما ینبغي بتّ كل إنسان في شأنھا، فإنھا لیست
ضرباً من الترف الفكري إشباعا لحب الاطلاع، أو طلب اً لمزید من
السعادة كالبحث عن المجرات وأحوالھا وأسالیب توفیر الراحة
ونحوھا، وإنما تقع في صلب حیاة الإنسان؛ لأنھا تعیّن القواعد
الأساسیة لحیاتھ العملیة بما تملیھ لھ من منھج عملي في حال
توصلھ إلى إثبات ھذه الحقائق أو احتمالھا.. وھذا بخلاف ما إذا
توصل المرء إلى نفیھا القاطع؛ فإنھ سوف یتحرّر عن محاسبة
خطورتھا.
٢. ویعتمد ھذا البحث في أدواتھ على إدراكات العقل الواضحة التي
ھي من بدیھیات الحیاة الإنسانیة العامة، ومرتكزاتھا في كل خطوة
من خطواتھا، وكل جزئیة من جزئیاتھا؛ وذلك أن من المعلوم أن
الحیاة الإنسانیة تعتمد على ركنین:
أحدھما -ركن نظري-: وھو إدراك الأشیاء من خلال العقل، فنحن
كلنا نذعن بوجود أنفسنا، وحواسنا، وأعضائنا، والأشیاء التي بین
أیدینا من أشخاص وأدوات وأطعمة وغیرھا، ونتفاعل معھا،
وننطلق في كل ذلك من بدیھة قیمة الإدراك الإنساني، مع التث بُّت
في مواقع احتمال الخطأ.
وإذا ادّعى امرؤ عدم قیمة الإدراك الإنساني فھو یغالط نفسھ؛ لأن
كل فعل ورد فعل من ھذا المدّعي نفسھ یبتني على الاعتماد على
ھذا الإدراك من حیث یحتسب أولا یحتسب..
الآخر -ركن عملي-: وھو إدراك قواعد العمل في الحیاة، وھذا
الجزء ھو أساس القوانین التي تنظم حیاة الإنسان الفردیة
2
والاجتماعیة، وھو في أصلھ المصدر الأمّ لجمیع القوانین التي
تجري علیھا الدول والحكومات. وإنْ كانت قد تختلف في تفاصیل
ھذا القانون من جھة الاختلاف في دقة الإدراك، أو في آلیات
مراعاة القانون، أو تغلیبا لنوازع شخصیة أو غیر ذلك.
ولیس من الممكن لأحد إنكار وجود قواعد لحیاة الإنسان یدركھا
بعقلھ، ویتع یّن الإلزام والالتزام بھا لتأمین حیاتھ، كیف؟ وإنما
وجدت القوانین والآداب الاجتماعیة بأنواعھا من العرفیة
والوضعیة والشرعیة، ومن قوانین الأسرة والعشیرة والدولة لھذه
الغایة.
ولمّا كان ھذا البحث ینطلق من ھذه البدیھیات العامة، ویستمد قیمة
نتائجھ من قیمتھا، فھو یمثل إلزام اً عقلی اً لكلّ إنسان عاقل یعترف
بھذه البدیھیات..
ولربما شكّ ك بعض مَن بحث في الفلسفة في قیمة الإدراك الإنساني
والثقة بھ وأنكره آخرون، إلا أن إبطال مثل ھذا التشكیك لیس
بحاجة بحاجة إلى أزید من تنبیھ المنكر وإلفات نظره إلى أنھ بنفسھ
یجري على الاعتماد على الإدراك في كل تصرف من تصرفاتھم،
حتى في إنكاره لقیمة مطلق الإدراك؛ لأنّ ھذا الإنكار بنفسھ إدراك
وحكم عقلي، كما أنھ مبني على مجموعة مدركات، فإنھ یرید أن
یب لّغ قیمة ھذا الإدراك للآخرین، ففیھ بتّ بوجود الآخرین وإدراكھم
لما یقولھ وسعي إلى إقناعھم وفق الأدوات التي تلائم تفكیرھم
وفھمھم، وكل ذلك إنما ھو تعامل مع واقعیات مدركة.
كما شكك بعض مَن بحث في الأخلاق في قیمتھ ورأى أنھ لا قواعد
أخلاقیة للحیاة، وإنما ینطلق الإنسان في تصرفاتھ ومشاعره من
منطلق القوة والضعف.
إلا أن ذلك تشكیك نظیري یتناقض مع ما ھو بنیة حیاة كل إنسان
في تعاملھ مع الآخرین، ولا یتطلّب الرد علیھ – كما ھو الحال في
سباقھ أكثر من تنبیھ على أن المنكر بنفسھ ینطلق في تعاملھ مع
أسرتھ وأولاده وأصدقائھ وأبویھ وجیرانھ وأساتذتھ وأرباب عملھ
من لیاقات وآداب یراعیھا، ویتوقع مراعاتھا من الآخرین؛ فلو أساء
إلیھ ابنھ عاتبھ بأنھ كیف یفعل ذلك وھو أبوه؟! ولو نقض ربُّ عملھ
الاتفاق معھ أحتج علیھ بأنھ خلاف الاتفاق.. وكل ذلك احتجاج
بمفایھم أخلاقیة.
فاتضح مما تقدم: أن أصل قیمة الإدراك العقلي بقسمیھ النظري
والعملي ھي القاعدة الأساس لحیاة الإنسان التي ینطلق منھا
بارتكازه وفطرتھ منھا، ولا حاجة فیھ إلى بحث إضافي أو أي
استدلال.
3
٣. ونظراً إلى أنّ أحد بنود ھذا الإدراك العقلي الواضح لزوم تثبت
الإنسان في شأن الأمور الخطیرة المحتملة فإنھ یصح القول على
الإجمال أن لزوم تثبت الإنسان في أمر الدین أو بتعبیر آخر حول
ھذه الحقائق الكبرى یعتمد على إدراكات عقلیة بدیھیة ھي بنیة
الحیاة الإنسانیة في كل تصرفاتھا وأن التساھل في ذلك لیس
خروجا عن قواعد العلم فحسب، بل ھو خروج عن قواعد العقل
الواضحة كما سیأتي زیادة توضیح لذلك.
وعلیھ: فإنّ على كل إنسان غیر مخادع لنفسھ وطالب للحقیقة بجدٍ
أن یكوّن لنفسھ الرؤیة الكونیة من خلال البتّ في ھذه الحقائق
والاعتبار بھا.. لا سیما بالنظر إلى ما سیأتي من أن الحقائق
الخطیرة یكفي في ضرورة الاعتناء بھا احتمال ثبوتھا فقط -
وخصوصاً إذا كان ذلك الاحتمال قبل التثبت والفحص-؛ إذ على
ھذا لا یسع لأحد أن یعرض عن أمر التث بُّت الكافي في شأن ھذه
الحقائق اللائق بأھمیتھا إلا إذا زعم وضوح عدم صحتھا من أساس
من دون حاجة إلى بحث وتث بُّت، وھذه مجازفة واضحة لا أظن أن
یرتكبھا مَن یحترم عقلھ ویعي ما یقولھ.
ومن ثَمَّ یرجى ممن یطلع على ھذا البحث أن لا یتعامل معھ كترف
أو یتسرع فیھ إلى موقف حتى یتأمل فیھ تأملاً كافی اً، ویكوّن لنفسھ
بمعونة ھذا البحث انطباع اً ناضج اً في شأن ھذه الحقائق.
٤. ھذا ورغم أننا في ھذا البحث لا ننطلق من بناء مسبق على
حقانیة الدین فیما جاء بھ من الحقائق الكبرى إلا أنھ حیث أن
الدین نفسھ ینطلق من منطق لإقناع الناس بھ، فسوف نلاحظ
النصوص الدینیة لملاحظة مدى تطابق المنطق الذي تتبناه لإقناع
الناس مع المنطق العقلي الفطري، وذلك من خلال ملاحظة القرآن
الكریم الذي ھو -من الناحیة التاریخیة- أوثق رسالة دینیة من خالق
ھذا الكون والحیاة إلى الأنسان مطروحة في أوساط الناس، كما أنھ
من الناحیة المضمونیة أنسب وأروع في تعالیمھ بمجموعھا من
سائر الكتب الأخرى، حتى أذعن بروعتھ بعض أھل العلم من
الأدیان الأخرى.
ومن ھذا المنطلق ینبغي إلفات النظر إلى أن القرآن الكریم ینطلق
في قاعدتھ الأساسیة لإقناع الناس أیضا من الإذعان بالعقل بنوعیھ
النظري والعملي موفقاً بذلك مع البدیھة المتقدمة من لزوم الانطلاق
من ذلك..
أما ارتكازه على العقل النظري: فلأننا نشھد كثیر اً في آیات القرآن
الكریم التركیز على العقل ومحاولة إثارة التفكُّ ر والتعق ل والتد بُّر
بأشكال مختلفة من خلال استنطاق الكون واكتناھھ، ودلالات
الكائنات على ما ورائھا، ومقایسة مضمون الرسالة الآلھیة
4
المطروحة بمقاییس العقل النظري كما جاء في ذیل كثیر من الآیات
بعد ذكر روائع من مشاھد الحیاة: [ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ ] 1، [لقَوْمٍ
یَتَفَكَّرُونَ ] 2. ومن المعلوم أن ھذا الأسلوب في الإقناع ینطلق من
التحفیز والتحریك للعقل وإثارتھ، ولذلك جاء في كلام أمیر
المؤمنین(ع) ما یدل على أن الغایة الأصلیة لبعث الأنبیاء ھو إثارة
العقل، وتحفیزه للإدراك. ففي الخطبة الأولى من نھج البلاغة
(ووَاتَرَ إِلَیْھِمْ أَنْبِیَاءَه لِیَسْتَأْدُوھُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِھ، ویُذَكِّرُوھُمْ مَنْسِيَّ
نِعْمَتِھ، ویَحْتَجُّوا عَلَیْھِمْ بِالتَّبْلِیغِ ، ویُثِیرُوا لَھُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ویُرُوھُمْ
آیَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَھُمْ مَرْفُوعٍ ومِھَادٍ تَحْتَھُمْ مَوْضُوعٍ،
ومَعَایِشَ تُحْیِیھِمْ وآجَالٍ تُفْنِیھِمْ وأَوْصَابٍ تُھْرِمُھُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ
. عَلَیْھِمْ ) 3
وأما ارتكازه على العقل العملي: فلأننا نجد أن القرآن یلزم الإنسان
تعالى على أساس شكره ومن المعلوم أن الشكر مفھوم § بالإیمان با
أخلاقي، كما أنھ تضمن جعل المعروف والمنكر أساسا لتشریعات
الدین، بل احتج على صدق النبي (ص) فیما أتى بھ من الرسالة بأن
مضمون رسالتھ ھو الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر، ومن
المعلوم أن المعروف ھو ما عرفھ الناس بعقولھم واطمئنوا إلیھ،
والمنكر ما أنكروه ورغبوا عنھ بفطرتھم، فھما مفھومان أخلاقیان
جامعان للأفعال النبیلة وأضدادھا. قال سبحانھ وتعالى: [الَّذِینَ
یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّ يَّ الَّذِي یَجِدُونَھُ مَكْتُوبًا عِنْدَھُمْ فِي التَّوْرَاةِ
. وَالْإِنْجِیلِ یَأْمُرُھُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْھَاھُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ] 4
نعم.. لا شك في استعانة الدین بالمعاجز في إقناع الناس، إلا أن
التعویل لم یكن على مجرد المعجزة، بل وقع الاحتجاج بھا في
القرآن في المرتبة الثانیة؛ ولذلك نجد في مواطن عدیدة منھ عدم
استجابة لله تعالى لما كان یقترحھ الكفار على النبي (ص) من
المعاجز حتى یؤمنوا برسالتھ (ص) وربما یظر من بعض تلك
الآیات رغبة النبي (ص) في الاستزادة منھا، في سیاق مسعاه
لتوجیھ الناس وحسرتھ على إصرارھم على الضلالة، قال تعالى:
[وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَیْكَ إِعْرَاضُھُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي
الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِیَھُمْ بِآَیَةٍ وَلَوْ شَاءَ للهَُّ لَجَمَعَھُمْ عَلَى
. الْھُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاھِلِینَ ] 5
ھذا على أن دلالة المعجز أیضاً مما تعتمد على العقل؛ باعتبار
كونھا عملاً خارقاً لا یتأتى من إنسان، فیدل على ارتباط الإنسان
بقوة خارقة.
. 28 ، الجاثیة/ 5 ، 67 ، العنكبوت/ 35 ، الروم/ 24 ، 1 البقرة/ 164 ، الرعد/ 4، النحل/ 12
. 69 ، الروم/ 21 ، الزمر/ 42 ، الجاثیة/ 13 ، 2 یونس/ 24 ، الرعد/ 3، النحل/ 11
. 3 نھج البلاغة، الخطبة الأولى، ص: 43
. 4 سورة الأعراف، آیة: 157
. 5 الأنعام / 35
5
وبذلك یظھر: أن ما یتداول في بعض الأوساط من أن منطق الدین
ھو الاعتماد على دلالة المعاجز والخوارق لیس صحیحاً، بل جلّ
اعتماد الدین خصوصا الإسلام على تحفیز العقل والتفكّر في
مضمون الدین وإثارة روح التأمل والتفكیر لدى الإنسان.
وبھذا یتجلّى أن الدین الإلھي المتمثل في دین الإسلام الذي ھو
محصّل الأدیان وأوثقھا ینطلق من نفس المنطلق الفكري الذي
بینّاه من الإذعان بالعقل النظري في استنباطاتھ الواضحة، وبالعقل
العملي من خلال ما یشھده الإنسان بفطرتھ الصافیة.
وإذا كان في تعالیم الدینیة ثمة ما یعتقد بعض الناس أنھ یخالف
العقل فلا بد من التثبّت عمّا إذا كان للدین مخرجاً وتفسیراً لذلك،
بعد إصراره على أن العقل والعقلانیة ھما أساسھ ومبنى الإقناع
لدیھ.
بسم لله الرحمن الرحیم
(منھج التثبت في شأن الدین)
(الحلقة الأولى)
١. أھمیة البحث وضرورته.
٢. أدوات البحث: إدراكات العقل
٣. لزوم تثبت المرء في أمر الدین.
٤. الاھتمام بالمقارنة مع منطق
النظریة والعملیة. القرآن في الإقناع.
١. تكمن أھمیة ھذا البحث في مساسھ بحیاة الإنسان؛ لأن الدین في
الحقیقة لیس إلا رؤیة كونیة یشرح أبعاد ھذه الحیاة، ویثبت حقائق
كبرى ثلاثة فیھا ھي: وجود لله سبحانھ وتعالى. ورسالتھ إلى
الإنسان. وبقاء الإنسان بعد ھذه الحیاة سعیداً أو شقیاً حسب أعمالھ
وسلوكیاتھ فیھا.
وھذه الحقائق مما ینبغي بتّ كل إنسان في شأنھا، فإنھا لیست
ضرباً من الترف الفكري إشباعا لحب الاطلاع، أو طلب اً لمزید من
السعادة كالبحث عن المجرات وأحوالھا وأسالیب توفیر الراحة
ونحوھا، وإنما تقع في صلب حیاة الإنسان؛ لأنھا تعیّن القواعد
الأساسیة لحیاتھ العملیة بما تملیھ لھ من منھج عملي في حال
توصلھ إلى إثبات ھذه الحقائق أو احتمالھا.. وھذا بخلاف ما إذا
توصل المرء إلى نفیھا القاطع؛ فإنھ سوف یتحرّر عن محاسبة
خطورتھا.
٢. ویعتمد ھذا البحث في أدواتھ على إدراكات العقل الواضحة التي
ھي من بدیھیات الحیاة الإنسانیة العامة، ومرتكزاتھا في كل خطوة
من خطواتھا، وكل جزئیة من جزئیاتھا؛ وذلك أن من المعلوم أن
الحیاة الإنسانیة تعتمد على ركنین:
أحدھما -ركن نظري-: وھو إدراك الأشیاء من خلال العقل، فنحن
كلنا نذعن بوجود أنفسنا، وحواسنا، وأعضائنا، والأشیاء التي بین
أیدینا من أشخاص وأدوات وأطعمة وغیرھا، ونتفاعل معھا،
وننطلق في كل ذلك من بدیھة قیمة الإدراك الإنساني، مع التث بُّت
في مواقع احتمال الخطأ.
وإذا ادّعى امرؤ عدم قیمة الإدراك الإنساني فھو یغالط نفسھ؛ لأن
كل فعل ورد فعل من ھذا المدّعي نفسھ یبتني على الاعتماد على
ھذا الإدراك من حیث یحتسب أولا یحتسب..
الآخر -ركن عملي-: وھو إدراك قواعد العمل في الحیاة، وھذا
الجزء ھو أساس القوانین التي تنظم حیاة الإنسان الفردیة
2
والاجتماعیة، وھو في أصلھ المصدر الأمّ لجمیع القوانین التي
تجري علیھا الدول والحكومات. وإنْ كانت قد تختلف في تفاصیل
ھذا القانون من جھة الاختلاف في دقة الإدراك، أو في آلیات
مراعاة القانون، أو تغلیبا لنوازع شخصیة أو غیر ذلك.
ولیس من الممكن لأحد إنكار وجود قواعد لحیاة الإنسان یدركھا
بعقلھ، ویتع یّن الإلزام والالتزام بھا لتأمین حیاتھ، كیف؟ وإنما
وجدت القوانین والآداب الاجتماعیة بأنواعھا من العرفیة
والوضعیة والشرعیة، ومن قوانین الأسرة والعشیرة والدولة لھذه
الغایة.
ولمّا كان ھذا البحث ینطلق من ھذه البدیھیات العامة، ویستمد قیمة
نتائجھ من قیمتھا، فھو یمثل إلزام اً عقلی اً لكلّ إنسان عاقل یعترف
بھذه البدیھیات..
ولربما شكّ ك بعض مَن بحث في الفلسفة في قیمة الإدراك الإنساني
والثقة بھ وأنكره آخرون، إلا أن إبطال مثل ھذا التشكیك لیس
بحاجة بحاجة إلى أزید من تنبیھ المنكر وإلفات نظره إلى أنھ بنفسھ
یجري على الاعتماد على الإدراك في كل تصرف من تصرفاتھم،
حتى في إنكاره لقیمة مطلق الإدراك؛ لأنّ ھذا الإنكار بنفسھ إدراك
وحكم عقلي، كما أنھ مبني على مجموعة مدركات، فإنھ یرید أن
یب لّغ قیمة ھذا الإدراك للآخرین، ففیھ بتّ بوجود الآخرین وإدراكھم
لما یقولھ وسعي إلى إقناعھم وفق الأدوات التي تلائم تفكیرھم
وفھمھم، وكل ذلك إنما ھو تعامل مع واقعیات مدركة.
كما شكك بعض مَن بحث في الأخلاق في قیمتھ ورأى أنھ لا قواعد
أخلاقیة للحیاة، وإنما ینطلق الإنسان في تصرفاتھ ومشاعره من
منطلق القوة والضعف.
إلا أن ذلك تشكیك نظیري یتناقض مع ما ھو بنیة حیاة كل إنسان
في تعاملھ مع الآخرین، ولا یتطلّب الرد علیھ – كما ھو الحال في
سباقھ أكثر من تنبیھ على أن المنكر بنفسھ ینطلق في تعاملھ مع
أسرتھ وأولاده وأصدقائھ وأبویھ وجیرانھ وأساتذتھ وأرباب عملھ
من لیاقات وآداب یراعیھا، ویتوقع مراعاتھا من الآخرین؛ فلو أساء
إلیھ ابنھ عاتبھ بأنھ كیف یفعل ذلك وھو أبوه؟! ولو نقض ربُّ عملھ
الاتفاق معھ أحتج علیھ بأنھ خلاف الاتفاق.. وكل ذلك احتجاج
بمفایھم أخلاقیة.
فاتضح مما تقدم: أن أصل قیمة الإدراك العقلي بقسمیھ النظري
والعملي ھي القاعدة الأساس لحیاة الإنسان التي ینطلق منھا
بارتكازه وفطرتھ منھا، ولا حاجة فیھ إلى بحث إضافي أو أي
استدلال.
3
٣. ونظراً إلى أنّ أحد بنود ھذا الإدراك العقلي الواضح لزوم تثبت
الإنسان في شأن الأمور الخطیرة المحتملة فإنھ یصح القول على
الإجمال أن لزوم تثبت الإنسان في أمر الدین أو بتعبیر آخر حول
ھذه الحقائق الكبرى یعتمد على إدراكات عقلیة بدیھیة ھي بنیة
الحیاة الإنسانیة في كل تصرفاتھا وأن التساھل في ذلك لیس
خروجا عن قواعد العلم فحسب، بل ھو خروج عن قواعد العقل
الواضحة كما سیأتي زیادة توضیح لذلك.
وعلیھ: فإنّ على كل إنسان غیر مخادع لنفسھ وطالب للحقیقة بجدٍ
أن یكوّن لنفسھ الرؤیة الكونیة من خلال البتّ في ھذه الحقائق
والاعتبار بھا.. لا سیما بالنظر إلى ما سیأتي من أن الحقائق
الخطیرة یكفي في ضرورة الاعتناء بھا احتمال ثبوتھا فقط -
وخصوصاً إذا كان ذلك الاحتمال قبل التثبت والفحص-؛ إذ على
ھذا لا یسع لأحد أن یعرض عن أمر التث بُّت الكافي في شأن ھذه
الحقائق اللائق بأھمیتھا إلا إذا زعم وضوح عدم صحتھا من أساس
من دون حاجة إلى بحث وتث بُّت، وھذه مجازفة واضحة لا أظن أن
یرتكبھا مَن یحترم عقلھ ویعي ما یقولھ.
ومن ثَمَّ یرجى ممن یطلع على ھذا البحث أن لا یتعامل معھ كترف
أو یتسرع فیھ إلى موقف حتى یتأمل فیھ تأملاً كافی اً، ویكوّن لنفسھ
بمعونة ھذا البحث انطباع اً ناضج اً في شأن ھذه الحقائق.
٤. ھذا ورغم أننا في ھذا البحث لا ننطلق من بناء مسبق على
حقانیة الدین فیما جاء بھ من الحقائق الكبرى إلا أنھ حیث أن
الدین نفسھ ینطلق من منطق لإقناع الناس بھ، فسوف نلاحظ
النصوص الدینیة لملاحظة مدى تطابق المنطق الذي تتبناه لإقناع
الناس مع المنطق العقلي الفطري، وذلك من خلال ملاحظة القرآن
الكریم الذي ھو -من الناحیة التاریخیة- أوثق رسالة دینیة من خالق
ھذا الكون والحیاة إلى الأنسان مطروحة في أوساط الناس، كما أنھ
من الناحیة المضمونیة أنسب وأروع في تعالیمھ بمجموعھا من
سائر الكتب الأخرى، حتى أذعن بروعتھ بعض أھل العلم من
الأدیان الأخرى.
ومن ھذا المنطلق ینبغي إلفات النظر إلى أن القرآن الكریم ینطلق
في قاعدتھ الأساسیة لإقناع الناس أیضا من الإذعان بالعقل بنوعیھ
النظري والعملي موفقاً بذلك مع البدیھة المتقدمة من لزوم الانطلاق
من ذلك..
أما ارتكازه على العقل النظري: فلأننا نشھد كثیر اً في آیات القرآن
الكریم التركیز على العقل ومحاولة إثارة التفكُّ ر والتعق ل والتد بُّر
بأشكال مختلفة من خلال استنطاق الكون واكتناھھ، ودلالات
الكائنات على ما ورائھا، ومقایسة مضمون الرسالة الآلھیة
4
المطروحة بمقاییس العقل النظري كما جاء في ذیل كثیر من الآیات
بعد ذكر روائع من مشاھد الحیاة: [ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ ] 1، [لقَوْمٍ
یَتَفَكَّرُونَ ] 2. ومن المعلوم أن ھذا الأسلوب في الإقناع ینطلق من
التحفیز والتحریك للعقل وإثارتھ، ولذلك جاء في كلام أمیر
المؤمنین(ع) ما یدل على أن الغایة الأصلیة لبعث الأنبیاء ھو إثارة
العقل، وتحفیزه للإدراك. ففي الخطبة الأولى من نھج البلاغة
(ووَاتَرَ إِلَیْھِمْ أَنْبِیَاءَه لِیَسْتَأْدُوھُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِھ، ویُذَكِّرُوھُمْ مَنْسِيَّ
نِعْمَتِھ، ویَحْتَجُّوا عَلَیْھِمْ بِالتَّبْلِیغِ ، ویُثِیرُوا لَھُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ویُرُوھُمْ
آیَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَھُمْ مَرْفُوعٍ ومِھَادٍ تَحْتَھُمْ مَوْضُوعٍ،
ومَعَایِشَ تُحْیِیھِمْ وآجَالٍ تُفْنِیھِمْ وأَوْصَابٍ تُھْرِمُھُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ
. عَلَیْھِمْ ) 3
وأما ارتكازه على العقل العملي: فلأننا نجد أن القرآن یلزم الإنسان
تعالى على أساس شكره ومن المعلوم أن الشكر مفھوم § بالإیمان با
أخلاقي، كما أنھ تضمن جعل المعروف والمنكر أساسا لتشریعات
الدین، بل احتج على صدق النبي (ص) فیما أتى بھ من الرسالة بأن
مضمون رسالتھ ھو الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر، ومن
المعلوم أن المعروف ھو ما عرفھ الناس بعقولھم واطمئنوا إلیھ،
والمنكر ما أنكروه ورغبوا عنھ بفطرتھم، فھما مفھومان أخلاقیان
جامعان للأفعال النبیلة وأضدادھا. قال سبحانھ وتعالى: [الَّذِینَ
یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّ يَّ الَّذِي یَجِدُونَھُ مَكْتُوبًا عِنْدَھُمْ فِي التَّوْرَاةِ
. وَالْإِنْجِیلِ یَأْمُرُھُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْھَاھُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ] 4
نعم.. لا شك في استعانة الدین بالمعاجز في إقناع الناس، إلا أن
التعویل لم یكن على مجرد المعجزة، بل وقع الاحتجاج بھا في
القرآن في المرتبة الثانیة؛ ولذلك نجد في مواطن عدیدة منھ عدم
استجابة لله تعالى لما كان یقترحھ الكفار على النبي (ص) من
المعاجز حتى یؤمنوا برسالتھ (ص) وربما یظر من بعض تلك
الآیات رغبة النبي (ص) في الاستزادة منھا، في سیاق مسعاه
لتوجیھ الناس وحسرتھ على إصرارھم على الضلالة، قال تعالى:
[وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَیْكَ إِعْرَاضُھُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي
الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِیَھُمْ بِآَیَةٍ وَلَوْ شَاءَ للهَُّ لَجَمَعَھُمْ عَلَى
. الْھُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاھِلِینَ ] 5
ھذا على أن دلالة المعجز أیضاً مما تعتمد على العقل؛ باعتبار
كونھا عملاً خارقاً لا یتأتى من إنسان، فیدل على ارتباط الإنسان
بقوة خارقة.
. 28 ، الجاثیة/ 5 ، 67 ، العنكبوت/ 35 ، الروم/ 24 ، 1 البقرة/ 164 ، الرعد/ 4، النحل/ 12
. 69 ، الروم/ 21 ، الزمر/ 42 ، الجاثیة/ 13 ، 2 یونس/ 24 ، الرعد/ 3، النحل/ 11
. 3 نھج البلاغة، الخطبة الأولى، ص: 43
. 4 سورة الأعراف، آیة: 157
. 5 الأنعام / 35
5
وبذلك یظھر: أن ما یتداول في بعض الأوساط من أن منطق الدین
ھو الاعتماد على دلالة المعاجز والخوارق لیس صحیحاً، بل جلّ
اعتماد الدین خصوصا الإسلام على تحفیز العقل والتفكّر في
مضمون الدین وإثارة روح التأمل والتفكیر لدى الإنسان.
وبھذا یتجلّى أن الدین الإلھي المتمثل في دین الإسلام الذي ھو
محصّل الأدیان وأوثقھا ینطلق من نفس المنطلق الفكري الذي
بینّاه من الإذعان بالعقل النظري في استنباطاتھ الواضحة، وبالعقل
العملي من خلال ما یشھده الإنسان بفطرتھ الصافیة.
وإذا كان في تعالیم الدینیة ثمة ما یعتقد بعض الناس أنھ یخالف
العقل فلا بد من التثبّت عمّا إذا كان للدین مخرجاً وتفسیراً لذلك،
بعد إصراره على أن العقل والعقلانیة ھما أساسھ ومبنى الإقناع
لدیھ.