حفيد الكرار
09-08-2016, 04:48 PM
دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 5)
(
منھج التثبت في شأن الدین)
(
الحلقة الخامسة: توضیح الرؤیة الدینیة)
١
. حقیقة الإنسان وأبعادة
٢. جریان الرؤیة المعرفیة للدین
الوجودیة
. في شأن الإنسان.
1.
الأمر الثاني: حقیقة الإنسان بحسب الرؤیة الدینیة،
وتنطوي على أمور
:
(
الأمر الأول): إنّ الإنسان فطر على الشعور بكائن غیبي،
وعلى الإحساس بالحاجة إلیھ
- ولا سیّما في مواطن الضعف
وعوارض الحاجة
-، وإنّ الحیاة الروحیة للإنسان نوعاً لن تستقیم
إلا بإدراك ھذا الكائن، والاتصال بھ، وعرض الحاجة علیھ،
والتوجّس من جزاءه؛ ولن ینال سلامتھ النفسیة إلا بالإیمان بھ؛ وإلا
عاش فراغاً في نفسھ، وخلأً في حیاتھ
. وھذا الشعور نظیر شعور
الطفل بالحاجة إلى أبویھ، والتي لا تمتلئ إلا بالاتصال بھما
.
ولعلّ في استقراء المشاعر الوجدانیة لغیر المؤمنین بالدین
في حالات الضعف والإضطرار ما یؤكد ذلك
.
إلا أنھ قد یخفى ھذا الشعور في حالات الترف والراحة،
ویتحفّز في حالات الاضطرار والخوف وحالات رؤیة بدائع
الصنعة
.. ولا ضیر في احتیاجھ لانبثاقھ وانتقالھ إلى مرحلة الإدراك
الواعي إلى التحفیز؛ فإنّ كثیراً من المشاعر والاستعدادات التي
جُھّز بھا الإنسان تحتاج إلى التحفیز لانبثاقھا، ولیس في ذلك ما
یقتضي كونھا مشاعر مكتسبة عن عوامل ثانویة، كما یعرفھ
الباحثون في علم النفس المعاصر
.
وربما یستفاد ھذا الأمر من بعض الآیات القرآنیة والأحادیث
المأثورة، قال تعالى
: [فِطْرَةَ للهَِّ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْھَا لَا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ
للهَِّ ذَلِكَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا یَعْلَمُونَ
] 1، وقال: [وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُھُورِھِمْ ذُرِّیَّتَھُمْ وَأَشْھَدَھُمْ عَلَى أَنفُسِھِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَھِدْنَا
] 2، وقال رسول لله (ص): (كل مولود یولد
على الفطرة
)، وفي كتاب نھج البلاغة عن الإمام علي (ع): (ووَاتَرَ
إِلَیْھِمْ أَنْبِیَاءَه لِیَسْتَأْدُوھُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِھ، ویُذَكِّرُوھُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِھ،
ویَحْتَجُّوا عَلَیْھِمْ بِالتَّبْلِیغِ ، ویُثِیرُوا لَھُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ویُرُوھ مْ آیَاتِ
.
1 الروم/ 30
.
2 الأعراف/ 172
2
الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَھُمْ مَرْفُوعٍ ومِھَادٍ تَحْتَھُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَایِشَ
.
تُحْیِیھِمْ وآجَالٍ تُفْنِیھِمْ وأَوْصَابٍ تُھْرِمُھُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَیْھِمْ ) 1
ومن ثمّ فإن مثل ھذا الشعور الفطري قد زُوّد بھ الإنسان
لیكون داعما لما یدركھ بعقلھ من وجود خالق لھذا الكون واھب للحیاة
إذا تأمّل بدیع صنع ھذا المشھد وظرافتھ
.. ولعلّ ھذا ھو السر في
.
. تمام التآم الإنسان وانسجامھ مع الإذعان بالغیب والإیمان با
(
الأمر الثاني): إنّ كیان الإنسان لیس جسداً یفنى بالممات
كما ھو الحال في النباتات والجمادات ، بل ھو كائن مؤلف من
:
جسد وروح، وإنّ روحھ تبقى بعد الممات، وجسده ینشأ مرة أخرى
حین تحین القیامة، فیجازى بما عملھ من خیر أو شرّ
.
ولعلّ في المشاعر الإنسانیة ما یشیر إلى ھذا الأمر أیض اً؛
فإنّ الإنسان مسكون بھاجس مصیره بعد الممات حتى كأنّ شأنھ أن
یبقى، ولا یزال الناس حتى غیر المؤمنین ینظرون إلى الأموات
ولا سیما العظماء والمفكرین منھم بعین الباقین في نشأة ما،
ویتمنون لھم الخیر والسرور والسعادة
.
ومن الجائز ارتباط تجھیز الإنسان بھذا الشعور بتلك الحقیقة
-
أي: حقیقة بقائھ بعد الممات - بأن یكون مؤشر اً علیھا؛ كوجھ من
وجوه الانسجام بین مشاعر الإنسان وبین حقیقة الإنسان وموقعھ في
ھذه الحیاة
.
(
الأمر الثالث): إنّ الإنسان زوّد بالھ دْ ي الذي ینبغي أن یسیر
علیھ لإدراك مصلحتھ في ھذه الحیاة؛ من خلال تجھیزه بإمكانات
وطاقات عدیدة، وھي على ما ذكر في كتاب لله
-:
1. (
العقل) الذي یدرك بھ الأشیاء، وھو أمّ قوى الإنسان.
2. (
الضمیر) الذي یدرك بھ ما ینبغي أن یفعلھ, وھو الذي
یمثّل روح الفضیلة في الإنسان
.
3. (
روح الحكمة) الذي یقیس بھ الإنسان الضرر والنفع
بملاحظة العاجل والآجل؛ لاختیار الأنفع لھ
.
4. (
رغبات اعتیاد یّة) تمثل ضمانات لبقاء الفرد والنوع
كالرغبة في الجاه والمال والطعام والأمومة والزواج
.
وھذه الرغبات غیر محدودة في حد نفسھا بحدّ الحكمة
والفضیلة، بل ھي نزعات نفسیة تسوق الإنسان إلى إرضائھا،
ووظیفة الإنسان إلا یستجیب لھا فیما ھو خارج عن حدودھما
.. وإلا
.
1 نھج البلاغة، الخطبة الأولى، ص: 43
3
كانت ابتلاء ومرض اً یبتلى بھ الإنسان في حیاتھ، على حدّ سائر
الأمراض
.
5. (
حریة الاختیار) وھي مِ قوَ د الإنسان في ھذه الحیاة الذي
یستطیع أن یوجھھ إلى منحى التعقل والحكمة والضمیر، أو إلى
الاسترسال في تصرفاتھ بحثاً عن الاستزادة فیما یشبع الرغبات، كما
.
ذكر في الآیة الكریمة: [إِنَّا ھَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] 1
والھَدي الذي ینبغي أن یسیر علیھ الإنسان في الحیاة لیدرك
مصالحھ ویدرئ مفاسده ھو إدراك الأشیاء بالعقل، ثم الانبعاث من
.
روحي الحكمة الفضیلة 2
(
الأمر الرابع): إنّ حیاة الإنسان مخلوقة وفق سنن تفضي
إلى نتائج مختلفة من خیر أو شر، منھا سنن أخلاقة ومنھا سنن آلیة
..
أما
السنن الأخلاقیة، فھي الفضائل والرذائل، فالفضائل ھي
سنن الخیر والصلاح في ھذه الحیاة وما بعدھا، فما من صفة فاضلة
إلا وھي دلیل سعادة وما من فعل فاضل إلا وھو بشیر سلامة، كما
أن الرذائل ھي سنن الشر في الحیاة فما من صفة رذیلة إلا وھي دلیل
شقاء وما من فعل وضیع إلا وھو نذیر شؤم وعناء؛ ولذلك یجب على
المرء أن یستحضر ھذه السنن ونتائجھا في اختیاراتھ في حیاتھ
.
وأما
: السنن الآلیة 3، فھي سنن تفضي إلى نتائج مختلفة
بحسب استخدامھا
.. فإن استخدمت في سبیل الخیر أنتجت خیر اً،
وإن استخدمت في سبیل الشرّ أنتجت شر اّ، وتاثیر ھذه السنن
والقوانین وما یمكن ان ینتج منھا مشھود للناس ومحل اذعانھم وما
زالوا یستثمرون ھذه السنن في الوصول الى مقاصدھم
..
ومثال ذلك
: القوانین والسنن الطبیعیة التي یمكن أن تسثمر
في خدمة الإنسان وتوفیر مصالحھ، كما یمكن أن تستغل في وجوه
الظلم والتعدي كما ھو الحال في قوانین الفیزیاء النوویة التي یمكن
.
1 الإنسان/ 3
2
ھذا ھو تحلیل الدین لحقیقة الإنسان وقواه النفسیة. ولا تعتقد بعض الاتجاھات الإلحادیة أو الربوبیة
بھذا الترتیب للصفات الإنسانیة وبالھدي التي رتب علیھا واقع الإنسان، وترى أنّ الإنسان غیر مختار،
بل ھو منساق إلى تصرفاتھ قھراً تأثراً بالعوامل الوراثیة والبیئیة، كما ترى عدم وجود قیم أخلاقیة
مجعولة في داخل الإنسان، وأنّ سلوك الإنسان یسیر وفق منطق الضعف والقوة، فكلّ شعور یدعى أنھ
قیمي فھو شعور بالضعف، وكلّ شعور یدعى أنھ مخالف للقیم فھو شعور بالقوة
.
ویجد ھذا الرأي في نظریة التطوّر دعماً لھ حیث أنّھا تقضي بتطوّر الإنسان من الحیوانات التي لا
یزید حالھا على التأثر بالغرائز وتكون ھذه الغرائز ھي المتحكمة فیھا، فالإنسان لا یزید على حال
الحیوانات في ذلك إلا أنّھ باعتبار كونھ قادراً على التفكیر یجد طرقاً معقدة للوصول إلى غرائزه
ومیولھ
.
والتشریع وفق ھذا الرأي لا یمثل قیماً راقیة حتى في النظم الانتخابیة ، وإنما ھو أداة لتنظیم الحیاة
الاجتماعیة وفق المصالح النوعیة عندما یتمكن النوع على فرض إرادتھ من خلال الأغلبیة
.
3
عبّرنا عن ھذه السنن بالآلیة لوقوعھا أداة لمقاصد حسنة أو سیئة حسب مواردھا وغایاتھا.
4
استعمالھا في علاج جملة من الامراض المستعصیة وإنتاج الطاقة
الكھربائیة كما یمكن استغلالھا في صناعة القنابل النوویة ذات الآثار
المدمرة على الإنسان والبیئة
.
ومن ھذه السنن الآلیة
: أن التغیرات الجمعیة الاجتماعیة
تستتبع لا محالة آثاراً مناسبة معھا، فإذا لم یحصل تغیر جمعي في
المجتمع لا یتغیر حالھ وأوضاعھ
.. وھذا قانون كليّ یمكن استثامره
لینتج عنھ إصلاح المجتمع وتقدمھ؛ وذلك بأن یكون التغیر فیھ نحو
الأعلى، وأما إذا كان التغیر نحو الأسف فإنھ ینتج عنھ قھراً فساد
حال المجتع واضطرابھ، كما نُبّھ علیھ في الآیة الكریمة: [إِنَّ للهَّ لَا
. یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفُسِھِمْ ]
1
(
الأمر الخامس) 2: إن لله تعالى لم یھمل العباد في ھذه
الحیاة، بل حدد لھم منھاجا وقانونا محدداً من خلال وسائط بینھ وبینھم
- وھم الأنبیاء -، وجعل الاتزام بھذا المنھاج ضماناً لسعادة الإنسان
في ھذه الحیاة وما بعدھا من النشأة الأخرى، كما جعل التخلف عنھ
سبباً لشقاء الإنسان؛ فمن جرى علیھ وتمسك بھ والتزم طریقھ تولاّه
سبحانھ وجازاه فبارك في حیاتھ وأسعده سعادة خالدة ومن تخلى عنھ
تركھ وشأنھ، لیبوء بسیآتھ..
وبذلك تتفاوت درجات سعادة الخلق وشقائھم بحسب درجات
إلتزامھم بھذا المنھاج الدیني؛ فمن كانت تصرفاتھ فاضلة مستقیمة
جنى خیراً كثیراً في الآخرة، ومن كانت تصرفاتھ وأعمالھ قبیحة في
ھذه الحیاة شقي بھا في الدار الآخر - إلا إذا تاب عنھا وندم على
ارتكابھا وأقلع عنھا وكرھھا- ؛ فإنھ [لَّیْسَ لِلإنسَٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ
سَعْیَھُ سَوْفَ یُرَىٰ ثُمَّ یُجْزَاهُ ٱلْجَزَاء ٱلاوْفَىٰ ]
3 و: [َلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا
عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَ مَّا یَعْمَلُونَ ]
4، وقد روي عن أبي عبد لله
الصادق (ع): (جاء جبرئیل (ع) إلى النبي (ص)، فقال : یا محمد،
عش ما شئت فإ نّك میت، وأحبب من شئت فإ نّك مفارقھ، وأعمل ما
. شئت فإ نّك لاقیھ)
5
.
1 الرعد/ 11
2
وھو یتفرع على ما تقدم.
.39-
3 النجم/ 4
.
4 الأنعام/ 132
.
5 الوسائل ج 1، ص 63 ب: 20 من أبواب مقدمة العبادات، ح: 2
5
2.
جریان الرؤیة المعرفیة للدین في شأن الإنسان:
یتبیّن من ھذا العرض الذي ذكرناه أنّ الرؤیة المعرفیة الدینیة
التي تقدم توضیحھا تجري في شأن الإنسان وشؤونھ المھمة
المؤثرة في منھج حیاتھ كما تجري في باقي تفصیلات الرؤیة
الكونیة ، فقد جاء الدین فیھا بإسعاف الإنسان على وجوه..
(
الأول): التأكید على إدراكات العقل الواضحة، مثل: كون
الإنسان مختاراً وحرّ اً في تصرفاتھ في الحیاة، وباقي الصفات
الخمسة المتقدمة، فإنّھا في أصولھا مما لا یخطئھا الإدراك الإنساني
الفطري.
(
الثاني): التنبیھ على أمور یجدھا من نفسھ ولكنھ یغفل عنھا،
مثل: تأثر إدراكاتھ بالأھواء والمیول المسبقة ممّا یحتاج إلى دقة
الإنسان في مبادئھا وحذره تجاھھا.
(
الثالث): إعلام الإنسان بأمور یجھلھا وإن وجد بعض
ارھاصاتھا بین مشاعره المختلفة ، مثل: ما یتعلق بالنشأة الآخرة
والغایة من خلقھ وبقاء الإنسان بعد الممات.
(
الرابع): إعلام الإنسان بعدم استطاعتھ إدراك بعض
الأمور؛ لأنّھ لا یعرف جمیع أبعاد النفس وكنھھا، فلا جدوى من
التحري عنھا لوجوه من الاستبعادات والترجیحات الأولیّة، بل قد
یؤدي مثل ذلك إلى مناھج منحرفة في الفكر والتربیة والسلوك، ومن
ھذا القبیل: التنبیھ على القدرات الغامضة للإنسان من قبیل ما یكون
مبدأً للسحر، والا تّصال بالأرواح، والاعتماد على المنامات ونحوھا
مما یترائى في حال خفة الوعي الإنساني.
(
منھج التثبت في شأن الدین)
(
الحلقة الخامسة: توضیح الرؤیة الدینیة)
١
. حقیقة الإنسان وأبعادة
٢. جریان الرؤیة المعرفیة للدین
الوجودیة
. في شأن الإنسان.
1.
الأمر الثاني: حقیقة الإنسان بحسب الرؤیة الدینیة،
وتنطوي على أمور
:
(
الأمر الأول): إنّ الإنسان فطر على الشعور بكائن غیبي،
وعلى الإحساس بالحاجة إلیھ
- ولا سیّما في مواطن الضعف
وعوارض الحاجة
-، وإنّ الحیاة الروحیة للإنسان نوعاً لن تستقیم
إلا بإدراك ھذا الكائن، والاتصال بھ، وعرض الحاجة علیھ،
والتوجّس من جزاءه؛ ولن ینال سلامتھ النفسیة إلا بالإیمان بھ؛ وإلا
عاش فراغاً في نفسھ، وخلأً في حیاتھ
. وھذا الشعور نظیر شعور
الطفل بالحاجة إلى أبویھ، والتي لا تمتلئ إلا بالاتصال بھما
.
ولعلّ في استقراء المشاعر الوجدانیة لغیر المؤمنین بالدین
في حالات الضعف والإضطرار ما یؤكد ذلك
.
إلا أنھ قد یخفى ھذا الشعور في حالات الترف والراحة،
ویتحفّز في حالات الاضطرار والخوف وحالات رؤیة بدائع
الصنعة
.. ولا ضیر في احتیاجھ لانبثاقھ وانتقالھ إلى مرحلة الإدراك
الواعي إلى التحفیز؛ فإنّ كثیراً من المشاعر والاستعدادات التي
جُھّز بھا الإنسان تحتاج إلى التحفیز لانبثاقھا، ولیس في ذلك ما
یقتضي كونھا مشاعر مكتسبة عن عوامل ثانویة، كما یعرفھ
الباحثون في علم النفس المعاصر
.
وربما یستفاد ھذا الأمر من بعض الآیات القرآنیة والأحادیث
المأثورة، قال تعالى
: [فِطْرَةَ للهَِّ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْھَا لَا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ
للهَِّ ذَلِكَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا یَعْلَمُونَ
] 1، وقال: [وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُھُورِھِمْ ذُرِّیَّتَھُمْ وَأَشْھَدَھُمْ عَلَى أَنفُسِھِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَھِدْنَا
] 2، وقال رسول لله (ص): (كل مولود یولد
على الفطرة
)، وفي كتاب نھج البلاغة عن الإمام علي (ع): (ووَاتَرَ
إِلَیْھِمْ أَنْبِیَاءَه لِیَسْتَأْدُوھُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِھ، ویُذَكِّرُوھُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِھ،
ویَحْتَجُّوا عَلَیْھِمْ بِالتَّبْلِیغِ ، ویُثِیرُوا لَھُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ویُرُوھ مْ آیَاتِ
.
1 الروم/ 30
.
2 الأعراف/ 172
2
الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَھُمْ مَرْفُوعٍ ومِھَادٍ تَحْتَھُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَایِشَ
.
تُحْیِیھِمْ وآجَالٍ تُفْنِیھِمْ وأَوْصَابٍ تُھْرِمُھُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَیْھِمْ ) 1
ومن ثمّ فإن مثل ھذا الشعور الفطري قد زُوّد بھ الإنسان
لیكون داعما لما یدركھ بعقلھ من وجود خالق لھذا الكون واھب للحیاة
إذا تأمّل بدیع صنع ھذا المشھد وظرافتھ
.. ولعلّ ھذا ھو السر في
.
. تمام التآم الإنسان وانسجامھ مع الإذعان بالغیب والإیمان با
(
الأمر الثاني): إنّ كیان الإنسان لیس جسداً یفنى بالممات
كما ھو الحال في النباتات والجمادات ، بل ھو كائن مؤلف من
:
جسد وروح، وإنّ روحھ تبقى بعد الممات، وجسده ینشأ مرة أخرى
حین تحین القیامة، فیجازى بما عملھ من خیر أو شرّ
.
ولعلّ في المشاعر الإنسانیة ما یشیر إلى ھذا الأمر أیض اً؛
فإنّ الإنسان مسكون بھاجس مصیره بعد الممات حتى كأنّ شأنھ أن
یبقى، ولا یزال الناس حتى غیر المؤمنین ینظرون إلى الأموات
ولا سیما العظماء والمفكرین منھم بعین الباقین في نشأة ما،
ویتمنون لھم الخیر والسرور والسعادة
.
ومن الجائز ارتباط تجھیز الإنسان بھذا الشعور بتلك الحقیقة
-
أي: حقیقة بقائھ بعد الممات - بأن یكون مؤشر اً علیھا؛ كوجھ من
وجوه الانسجام بین مشاعر الإنسان وبین حقیقة الإنسان وموقعھ في
ھذه الحیاة
.
(
الأمر الثالث): إنّ الإنسان زوّد بالھ دْ ي الذي ینبغي أن یسیر
علیھ لإدراك مصلحتھ في ھذه الحیاة؛ من خلال تجھیزه بإمكانات
وطاقات عدیدة، وھي على ما ذكر في كتاب لله
-:
1. (
العقل) الذي یدرك بھ الأشیاء، وھو أمّ قوى الإنسان.
2. (
الضمیر) الذي یدرك بھ ما ینبغي أن یفعلھ, وھو الذي
یمثّل روح الفضیلة في الإنسان
.
3. (
روح الحكمة) الذي یقیس بھ الإنسان الضرر والنفع
بملاحظة العاجل والآجل؛ لاختیار الأنفع لھ
.
4. (
رغبات اعتیاد یّة) تمثل ضمانات لبقاء الفرد والنوع
كالرغبة في الجاه والمال والطعام والأمومة والزواج
.
وھذه الرغبات غیر محدودة في حد نفسھا بحدّ الحكمة
والفضیلة، بل ھي نزعات نفسیة تسوق الإنسان إلى إرضائھا،
ووظیفة الإنسان إلا یستجیب لھا فیما ھو خارج عن حدودھما
.. وإلا
.
1 نھج البلاغة، الخطبة الأولى، ص: 43
3
كانت ابتلاء ومرض اً یبتلى بھ الإنسان في حیاتھ، على حدّ سائر
الأمراض
.
5. (
حریة الاختیار) وھي مِ قوَ د الإنسان في ھذه الحیاة الذي
یستطیع أن یوجھھ إلى منحى التعقل والحكمة والضمیر، أو إلى
الاسترسال في تصرفاتھ بحثاً عن الاستزادة فیما یشبع الرغبات، كما
.
ذكر في الآیة الكریمة: [إِنَّا ھَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] 1
والھَدي الذي ینبغي أن یسیر علیھ الإنسان في الحیاة لیدرك
مصالحھ ویدرئ مفاسده ھو إدراك الأشیاء بالعقل، ثم الانبعاث من
.
روحي الحكمة الفضیلة 2
(
الأمر الرابع): إنّ حیاة الإنسان مخلوقة وفق سنن تفضي
إلى نتائج مختلفة من خیر أو شر، منھا سنن أخلاقة ومنھا سنن آلیة
..
أما
السنن الأخلاقیة، فھي الفضائل والرذائل، فالفضائل ھي
سنن الخیر والصلاح في ھذه الحیاة وما بعدھا، فما من صفة فاضلة
إلا وھي دلیل سعادة وما من فعل فاضل إلا وھو بشیر سلامة، كما
أن الرذائل ھي سنن الشر في الحیاة فما من صفة رذیلة إلا وھي دلیل
شقاء وما من فعل وضیع إلا وھو نذیر شؤم وعناء؛ ولذلك یجب على
المرء أن یستحضر ھذه السنن ونتائجھا في اختیاراتھ في حیاتھ
.
وأما
: السنن الآلیة 3، فھي سنن تفضي إلى نتائج مختلفة
بحسب استخدامھا
.. فإن استخدمت في سبیل الخیر أنتجت خیر اً،
وإن استخدمت في سبیل الشرّ أنتجت شر اّ، وتاثیر ھذه السنن
والقوانین وما یمكن ان ینتج منھا مشھود للناس ومحل اذعانھم وما
زالوا یستثمرون ھذه السنن في الوصول الى مقاصدھم
..
ومثال ذلك
: القوانین والسنن الطبیعیة التي یمكن أن تسثمر
في خدمة الإنسان وتوفیر مصالحھ، كما یمكن أن تستغل في وجوه
الظلم والتعدي كما ھو الحال في قوانین الفیزیاء النوویة التي یمكن
.
1 الإنسان/ 3
2
ھذا ھو تحلیل الدین لحقیقة الإنسان وقواه النفسیة. ولا تعتقد بعض الاتجاھات الإلحادیة أو الربوبیة
بھذا الترتیب للصفات الإنسانیة وبالھدي التي رتب علیھا واقع الإنسان، وترى أنّ الإنسان غیر مختار،
بل ھو منساق إلى تصرفاتھ قھراً تأثراً بالعوامل الوراثیة والبیئیة، كما ترى عدم وجود قیم أخلاقیة
مجعولة في داخل الإنسان، وأنّ سلوك الإنسان یسیر وفق منطق الضعف والقوة، فكلّ شعور یدعى أنھ
قیمي فھو شعور بالضعف، وكلّ شعور یدعى أنھ مخالف للقیم فھو شعور بالقوة
.
ویجد ھذا الرأي في نظریة التطوّر دعماً لھ حیث أنّھا تقضي بتطوّر الإنسان من الحیوانات التي لا
یزید حالھا على التأثر بالغرائز وتكون ھذه الغرائز ھي المتحكمة فیھا، فالإنسان لا یزید على حال
الحیوانات في ذلك إلا أنّھ باعتبار كونھ قادراً على التفكیر یجد طرقاً معقدة للوصول إلى غرائزه
ومیولھ
.
والتشریع وفق ھذا الرأي لا یمثل قیماً راقیة حتى في النظم الانتخابیة ، وإنما ھو أداة لتنظیم الحیاة
الاجتماعیة وفق المصالح النوعیة عندما یتمكن النوع على فرض إرادتھ من خلال الأغلبیة
.
3
عبّرنا عن ھذه السنن بالآلیة لوقوعھا أداة لمقاصد حسنة أو سیئة حسب مواردھا وغایاتھا.
4
استعمالھا في علاج جملة من الامراض المستعصیة وإنتاج الطاقة
الكھربائیة كما یمكن استغلالھا في صناعة القنابل النوویة ذات الآثار
المدمرة على الإنسان والبیئة
.
ومن ھذه السنن الآلیة
: أن التغیرات الجمعیة الاجتماعیة
تستتبع لا محالة آثاراً مناسبة معھا، فإذا لم یحصل تغیر جمعي في
المجتمع لا یتغیر حالھ وأوضاعھ
.. وھذا قانون كليّ یمكن استثامره
لینتج عنھ إصلاح المجتمع وتقدمھ؛ وذلك بأن یكون التغیر فیھ نحو
الأعلى، وأما إذا كان التغیر نحو الأسف فإنھ ینتج عنھ قھراً فساد
حال المجتع واضطرابھ، كما نُبّھ علیھ في الآیة الكریمة: [إِنَّ للهَّ لَا
. یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفُسِھِمْ ]
1
(
الأمر الخامس) 2: إن لله تعالى لم یھمل العباد في ھذه
الحیاة، بل حدد لھم منھاجا وقانونا محدداً من خلال وسائط بینھ وبینھم
- وھم الأنبیاء -، وجعل الاتزام بھذا المنھاج ضماناً لسعادة الإنسان
في ھذه الحیاة وما بعدھا من النشأة الأخرى، كما جعل التخلف عنھ
سبباً لشقاء الإنسان؛ فمن جرى علیھ وتمسك بھ والتزم طریقھ تولاّه
سبحانھ وجازاه فبارك في حیاتھ وأسعده سعادة خالدة ومن تخلى عنھ
تركھ وشأنھ، لیبوء بسیآتھ..
وبذلك تتفاوت درجات سعادة الخلق وشقائھم بحسب درجات
إلتزامھم بھذا المنھاج الدیني؛ فمن كانت تصرفاتھ فاضلة مستقیمة
جنى خیراً كثیراً في الآخرة، ومن كانت تصرفاتھ وأعمالھ قبیحة في
ھذه الحیاة شقي بھا في الدار الآخر - إلا إذا تاب عنھا وندم على
ارتكابھا وأقلع عنھا وكرھھا- ؛ فإنھ [لَّیْسَ لِلإنسَٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ
سَعْیَھُ سَوْفَ یُرَىٰ ثُمَّ یُجْزَاهُ ٱلْجَزَاء ٱلاوْفَىٰ ]
3 و: [َلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا
عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَ مَّا یَعْمَلُونَ ]
4، وقد روي عن أبي عبد لله
الصادق (ع): (جاء جبرئیل (ع) إلى النبي (ص)، فقال : یا محمد،
عش ما شئت فإ نّك میت، وأحبب من شئت فإ نّك مفارقھ، وأعمل ما
. شئت فإ نّك لاقیھ)
5
.
1 الرعد/ 11
2
وھو یتفرع على ما تقدم.
.39-
3 النجم/ 4
.
4 الأنعام/ 132
.
5 الوسائل ج 1، ص 63 ب: 20 من أبواب مقدمة العبادات، ح: 2
5
2.
جریان الرؤیة المعرفیة للدین في شأن الإنسان:
یتبیّن من ھذا العرض الذي ذكرناه أنّ الرؤیة المعرفیة الدینیة
التي تقدم توضیحھا تجري في شأن الإنسان وشؤونھ المھمة
المؤثرة في منھج حیاتھ كما تجري في باقي تفصیلات الرؤیة
الكونیة ، فقد جاء الدین فیھا بإسعاف الإنسان على وجوه..
(
الأول): التأكید على إدراكات العقل الواضحة، مثل: كون
الإنسان مختاراً وحرّ اً في تصرفاتھ في الحیاة، وباقي الصفات
الخمسة المتقدمة، فإنّھا في أصولھا مما لا یخطئھا الإدراك الإنساني
الفطري.
(
الثاني): التنبیھ على أمور یجدھا من نفسھ ولكنھ یغفل عنھا،
مثل: تأثر إدراكاتھ بالأھواء والمیول المسبقة ممّا یحتاج إلى دقة
الإنسان في مبادئھا وحذره تجاھھا.
(
الثالث): إعلام الإنسان بأمور یجھلھا وإن وجد بعض
ارھاصاتھا بین مشاعره المختلفة ، مثل: ما یتعلق بالنشأة الآخرة
والغایة من خلقھ وبقاء الإنسان بعد الممات.
(
الرابع): إعلام الإنسان بعدم استطاعتھ إدراك بعض
الأمور؛ لأنّھ لا یعرف جمیع أبعاد النفس وكنھھا، فلا جدوى من
التحري عنھا لوجوه من الاستبعادات والترجیحات الأولیّة، بل قد
یؤدي مثل ذلك إلى مناھج منحرفة في الفكر والتربیة والسلوك، ومن
ھذا القبیل: التنبیھ على القدرات الغامضة للإنسان من قبیل ما یكون
مبدأً للسحر، والا تّصال بالأرواح، والاعتماد على المنامات ونحوھا
مما یترائى في حال خفة الوعي الإنساني.