حفيد الكرار
18-08-2016, 09:46 PM
دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 9 )
1
منھج التثبت في شأن الدین
(الحلقة التاسعة: ضرورة التفریق بین الدین والشریعة والفقھ
وأقسام الفقھ)
تقدّم الكلام في الحلقة السابقة عن مدى انسجام جملة من
التشریعات الدینیة مع المبادئ الفطریة؛ إذ قد یدّعى أن بعض
الأحكام الشرعیة مخالفة للمبادئ العامّة للتشریع، ومتصادمة مع
المساحة المحكمة للعناوین الفطریة، ولیست من المساحة المتشابھة
فیھا..
وكان لا بدّ في سیاق تبیین وجھة نظر الدین (بصورة
إجمالیّة) بالنسبة لتلك التشریعات والمآخذ المذكورة علیھا.. كان لا
بدّ من ذكر أمور أربعة ھي:
١. عدم دقة ما ذُكر في بعض تلك الأمثلة عن الموقف
التشریعي الدیني منھا.
٢. عدم إنتاج تلك الأمثلة لطابع عام في الدین وفق ما
استوحي منھا.
٣. مخارج التشریعات المذكورة وفق القانون الفطري من
المنظور الدیني.
٤. ضرورة التفریق بین الدین والشریعة والفقھ وأقسام
الفقھ.
وقد تقدّ م تفصیل الأمور الثلاثة الأولى في الحلقة السابقة.
الأمر الرابع: إن من المھم -عند النظر في الأحكام
الشرعیة- التفریق بین الدین والشریعة والفقھ الاجتھادي.. وھذا
التصنیف الثلاثي وخصوصیّاتھ من أھم شؤون المعرفة بمعالم
الدین..
١. إن حقیقة الدین: -كما تقدم- رؤیة كونیة مبنیة على
ثلاثیة: الخالق، ورسالتھ إلى الإنسان، وبقاء الإنسان بعد الممات..
وھي من ثوابت الدین التي بدأت وفق المنظور الدیني مع بدایة خلق
الإنسان، وقد قامت علیھا الأدلة القاطعة والحجج البالغة، فلا ینبغي
أن تكون مظنّة للتجدید والتغییر والاجتھاد والاختلاف، قال تعالى:
[شَرَعَ لَكُ مْ مِنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِھِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ وَمَا
وَصَّیْنَا بِھِ إِبْرَاھِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیھِ
. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِینَ مَا تَدْعُوھُمْ إِلَیْھِ ] 1
. 1 الشورى/ 13
2
٢. وأما الشریعة: فنقصد بھا التعالیم التشریعیة الصادرة
من المشرّع الإسلاميّ حقیقة، بغض النظر عن وصولھا على
وجھھا إلى الناس أو لا..
وھي إنما تثبت لنا في ما جاء بنحو واضح لا التباس فیھ،
من دون حاجة إلى إعمال جھد تخصّ صي (اجتھاد) یمكن أن یخطأ
أو یصیب.. كما في الاحكام الشرعیة الواردة بدلالة واضحة وبی نّة
في القرآن الكریم والسنة المتواترة، ومن ذلك: أصل جوب الصلاة
والحج والزكاة..
ویمكن التعبیر عن ھذا القسم من التشریعات الثابت لنا
بشكل حاسم ب(الحقائق التشریعیة)؛ بسبب قطعیتھا وانتفاء الشك
فیھا.
٣. وأما الفقھ الاجتھادي: فھو التشریعات التي یستنبطھا
الفقھاء بموجب الأدوات الاجتھادیة المتوفرة عندھم، والتي لا تؤدي
إلى ثبوتھا بدرجة قاطعة، بل توجد في مقابلھا نظریات أخرى لھا
شواھدھا، كما ھو الحال في المسائل الخلافیة. أو فرضیات محتملة
لا یمكن نفیھا نفیاً قاطعاً.
ویمكن التعبیر عن ھذا القسم ب(النظریات التشریعیة)؛ لأنھا
-وإن قامت الحجة علیھا بحیث لزم الأخذ بھا- لا تزید على
النظریة.
وھذا القسم -بعد أن كان عرضة للخطأ والصواب- لا یصح
أن یُنسب إلى الشرع بنحو جازم؛ ف یُؤخذ الدین والشریعة بمقتضاه،
وإنّما ھو مما قامت علیھ الحجة حسب الأدوات المتوفرة لدى
الفقھاء، وربما كان بعضھم أفقھ من بعض آخر في فھم الشریعة
ومقاصدھا وتشریعاتھا، ورب حجة فقھیة لا تفید الظنّ دائماً -بل
غالب اً-، ولكن یتعین الأخذ بھا على وجھ مطلق ما لم یُطمأن
بخطئھا، بل من الحجج ما یُعتمد علیھ على سبیل القاعدة التي تبیّن
الوظیفة العملیة، من دون أن تدلّ على ثبوت حكم شرعي واقعي
. بحال 2
2 وتوضیح ذلك: ان الفقھ الاجتھادي أنواع:
(الأول): ما یحصل الیقین بھ لبعض المجتھدین أو طائفة منھم أو الكثیر منھم إلا
أن ھذا لا یجعلھ یقینیاً في مستوى العلم وإنما توجد علیھ مؤشرات قد یقطع بھا فقیھ، ویعمل
علیھا فقیھ آخر كحجة مع تجویزه لفرضیات محتملة أخرى.
(الثاني): ما تقوم علیھ أمارات وشواھد توجب الاطمئنان بھ، من غیر أن ینفي
الخطأ فیھا نفیا حاسماً.
(الثالث): ما تقوم علیھ حجج ظنیة یؤخذ بھا، مثل: ظواھر الكلام التي ھي حجة
قانونیة ملزمة في جمیع القوانین الوضعیة وإن كانت محتملة للخلاف. ومثل ھذه الحجج إنما
یحصل الظن بھا غالباً، وقد لا یحصل الظن بھا في كل مورد بالضرورة، وإن كانت حجة
حتى في مورد عدم حصول الظن بھا للناظر فیھا.
(الرابع): ما یحدد فیھ الموقف الشرعي كوظیفة عملیة في حالات الشك، مثل:
عدم الأخذ بالتكلیف لمجرد الاحتمال. وإبقاء الحكم السابق حتى تثبت الحجة على خلافھ،
ویعبر عنھ في علم الأصول المعاصر ب(الوظائف العملیة).
3
وعلیھ: فإذا لوحظ في ھذا القسم ما یُحرز منافاتھ مع مبادئ
العدالة بنحو قاطع، كان ذلك بنفسھ دلیلاً على عدم تمامیة الحجة
لاجتھادیة المعتمدة وضرورة سلوك منحى اجتھادي آخر في
موردھا..
[أقسام الأمور التشریعیّة وتحدید مورد التساؤل منھا]:
ولكن لیست جمیع الأمور التشریعیة عُرضة للتساؤل عن
مدى مطابقتھا مع مبادئ العدالة، وإنما یتّفق ذلك في قسم من مسائل
الفقھ..
وتوضیح ذلك: إن ما وقع موضعاً للتساؤل منھا -على
العموم- لیست أصول مسائلھا ولا قسم العبادات منھا، بل قسم من
الفروع والتطبیقات التي تحتمل نظریات اجتھادیة أخرى؛ فبعضھا
حقّ وقد لا یكون بعضھا الآخر حقّ اً، وما لم یكن حقّاً منھا لا یؤول
إلى نفي حقّانیة والشریعة وإلغاء الاعتماد علیھا من رأس..
وذلك: أن التشریع الإسلامي ینقسم إلى أصول ومقاصد،
وإلى تفریعات وتطبیقات..
١. الأصول العامة للتشریع:
أما الأصول العامة للتشریع فلا غبار علیھا؛ لأنھا لیست إلا
لتحرّي الفضائل الفطریة على النحو الذي یفرضھ مستواھا الفطري
القیمي، وھذه الأصول لیست مبادئ للتشریع فقط؛ بل ھي -كما
سبق توضیحھ في حلقة سابقة- دستور للشریعة، یُشترط في
التشریعات الفرعیّة موافقتھا لھا. 3
كما أن ھذه الأصول أمور متفق علیھا في الأدیان الإلھیة
كما قد تشملھا الآیة المتقدّمة التي تفید وحدة ما شرع في عھد نوح
ومن بعده من الأنبیاء.
وینتمي إلیھا جلّ الحرمات العامة في أصولھا، مثل: حق
الوالدین والجار وصلة الرحم ووجوب الوفاء بالعھد وأداء الأمانة
ووجوب إعانة المضطر وحرمة الزنا والفعل الشاذ وحرمة
الاعتداء على الآخرین في نفس أو بدن أو عرض أو مال أو جاه،
كما في السخریة والانتقاص من الآخرین والتجسس علیھم ونشر
أسرارھم، وحرمة الظھور بمظھر الإغراء أمام الآخرین أو
الانكشاف لدیھم وحرمة الإسراف والتبذیر ونحو ذلك.
3 كما ورد عن أبي عبد لله الصادق(ع) أنھ قال: (َقالَ رَسُولُ للهَّ ص: إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِیقَةً وعَلَى
. كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ للهَّ فَخُذُوه ومَا خَالَفَ كِتَابَ للهَّ فَدَعُوه) 3
والمفھوم من سیاق ھذا الحدیث أن موافقة الكتاب تقتضي وجود نور الحق والحقیقة على مضمون
الأحادیث المرویة، وفي الفقھاء المعاصرین من اشترط في حجیة الحدیث موافقة القرآن الكریم
موافقة روحیة بالنظر إلى أنھ بمثابة الدستور الأساس للإسلام فھو یتضمن الخطوط العریضة فیھ.
4
٢. التطبیقات والفروع:
وأما التطبیقات والفروع فھي على قسمین:
(الأول): طقوس عبادیة بعضھا بسیطة، مثل: الذِ كر
والدعاء وقراءة الكتاب المجید والتحمید والثناء والاستغفار
والمناجاة وبث الھموم معھ سبحانھ، وبعضھا مركبة من أمور
متعددة، مثل: الصلاة والصیام والحج والعمرة وزیارة المساجد
والاعتكاف فیھا والكفارات الثابتة على الأخطاء والخطایا.
ویتمیز ھذا القسم عن باقي الأحكام التشریعیة في الدین
بمیزتین تجعلھا في غایة الأھمیة في الدین:
١. إنھا مظھر الإیمان بالحقائق الكبرى المثبتة في الرؤیة
الدینیة والرباط الواصل بین الإنسان وخالقھ والحیاة الأخرى؛
سبحانھ وصفاتھ وعظمتھ وترسیخ الإیمان برسائلھ £ باستحضار
إلى الخلق واستذكار الموت والدار الآخرة والالتفات إلى ضرورة
ادّ خار الأعمال الصالحة لھا والاستمداد من كل ھذه المعاني.. وقد
رُوي في الحدیث: (أن الصلاة معراج المؤمن)، و(الصلاة عمود
الدین).
٢. إنھا تمثّل أھم الفضائل الإنسانیة وأعمقھا، فھي لیست
على حد سائر الطاعات ولا المعصیة فیھا على حد سائر المعاصي
. لوجھ فطري واضح تنبھ علیھ النصوص الدینیة 4
4 وذلك أن لله سبحانھ ھو المنعم على الإنسان بوجوده وبوجود كل النعم التي ینتفع بھا من
الأبوین والأولاد والأزواج والأصدقاء والأعوان والمساكن والأطعمة والمیاه والأشجار
والحیوانات والشمس والقمر وغیرھا...؛ فنسبة الإنسان إلیھ تشبھ نسبة الولد إلى الوالدین أو
نسبة الضیف على مضیفھ مع فرق فاحش.
وعلیھ: یمكن أن نفھم الأمر بمقارنة السلوك غیر اللائق تجاه لله سبحانھ
بملاحظة سلوك الولد غیر اللائق مع الوالدین، فإن ھذا ، طوراً یكون بعد طاعة والدیھ في
بعض ما یریان لزوم الإتیان بھ علیھ، ویشفقان علیھ منھ، فھذا أمر قبیح وغیر لائق، وطوراً
آخر یكون بالإساءة إلى الوالدین بما یكون تنكراً لأصل الأدب معھما من قبیل أن ینكر الولد
كونھما والدین لھ تعسفاً، أو یسيء إلیھما بالسب والشتم والإھانة، أو یراھما ویحضر
عندھما من غیر أن یحییھما ویسلم علیھما ویقوم بأدنى مظاھر الأدب تجاھھما أو یقاطعھما
فلا یزورھما في أي حال، أو یتصرف في محضرھما في ممارساتھ الاعتیادیة بنحو یعد
إھانة لھما واستھتاراً بھما؛ فھذا الولد عاق لوالدیھ فاقد من معاني الإنسانیة أجلھا وأعمقھا
في نفس الإنسان حیث تنكّر لأصلھ الذي ولد منھ. وبھذا الاعتبار لا یمكن تسویة ھذا
التصرف الوضیع والسخیف مع عدم التساھل في طاعة سائر أوامر الوالدین فیما یوجھان
الإنسان بھ لأجل صلاحھ وإن كان اللائق إطاعتھما من جھة تأذیھما شفقة علیھ، ولا مع أي
تصرف مشین مع الآخرین مثل الاعتداء علیھم وإن كان بدرجة أعلى مما صدر منھ بحق
أبیھ مثل القتل، لأن أدب الإنسان مع أصلھ المنعم علیھ بھذا الإنعام الكبیر أعمق المعاني في
النفس وألزمھا بالرعایة، والتنكر لھ ظلم عظیم للغایة. نعم ما یسھل الأمر على الإنسان في
ھذا الظلم -بالقیاس إلى بعض وجوه ظلمھ للآخرین كقتلھم- أنھ قابل للتدارك بعض الشيء
بطلب العفو من الوالدین وتغییر التعامل معھما بینما بعض القبائح العقلیة لا مجال لتداركھ
تدارك اً ناجع اً مثل قتل النفس المحترمة مثلاً.
وتأمّ ل مثل ذلك في شأن المض یّف للإنسان فإذا نزل الإنسان ضیف اً على شخص
وتمتع بضیافتھ ورعایتھ إیاه بأنواع النعم والإمكانات في مدة طویلة كان من المناسب أن
5
٣. إنھا عماد السلوك الفاضل الصحیح في الحیاة، سواء في
المساحة التي یدركھا العقل بوضوح من القیم النبیلة، كتجنب
الاعتداء على الآخرین والإحسان إلیھم والوفاء بالعھد والأمانة
ورعایة الفقراء والأیتام ومراعاة العفاف في القول والمظھر
والسلوك ونحوھا.. أو في المساحة التي ورد الشرع بتعیین الوظیفة
فیھا.
والوجھ في ذلك: أن المیل إلى الفضیلة -وإن كان قد أودع
سبحانھ £ في الضمیر الإنساني-، إلا أن من شأن الإیمان با
والالتفات إلى كونھ مع الإنسان دوم اً واطلاعھ على أحوالھ
وأفعالھ، وأنھ سیرجع إلى خالقھ بعد ھذه الحیاة لیلقى نتاج أعمالھ..
من شأن ھذا الإیمان أن یثیر دوافع النبل والفضیلة في النفس
الإنسانیة ویحفّزھا أضعافاً مضاعفة .
ھذا، ومن الملاحظ في شأن ھذه الطقوس:
أ. أنھا أمور ثابتة في ھذا الدین بشكل واضح لا لبس فیھ،
بل ھي في أصولھا من الدین الإلھي الجامع؛ والآداب المشتركة بین
، الأدیان، قال تعالى:[ وَأَوْحَیْنَا إِلَیْھِمْ فِعْلَ الْخَیْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ] 5
وقال: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَیًّا] 6، وقال: [كُتِبَ
. عَلَیْكُمُ الصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِكُمْ ] 7
نعم، ھناك تفاصیل اجتھادیة یُؤخذ فیھا بالسعة في حال عدم
نھوض الحجة علیھا أو یتبع المرء فیھا أیة وجھة نظر اجتھادیة
واضحة.
ب. ولیس فیھا -على العموم- ما یرد فیھ السؤال عن منافاتھ
مع القانون الفطري، ولا محل لاجتھاد یقتضي تغییراً فیھا بتغییر
یراعي تجاھھ ما یلیق بھذا الموقف وإذا قدرنا أن الضیف تصرف مع المضیف بما لا یلیق
فط ور اً یكون ھذا التصرف في مستوى عدم الاستجابة لبعض نصائحھ التي كان مصراً
علیھا فیما یعود إلى الضیف رعایة لمصلحتھ، فھذا أمر غیر لائق -لا سیما إذا كان ھذا
التصرف سھلاً وفي مصلحة الضیف-، وطوراً آخر قد یكون ھذا التصرف بالتنكر لعود
المضیف إلى المضیّف أصلا ونفي كونھ صاحب النعمة علیھ، وإساءتھ للمضیّف بإھانتھ أو
عدم إلقاء التحیة عند لقائھ وغیر ذلك، فإن في ھذا التصرف من الضعة والقبح ما لا یوجد
مماثلھ في تصرف آخر.
وھذا المعنى یجري في شأن لله سبحانھ مع ملاحظة الفارق فإن الإنسان إذ
كان أصلھ من لله سبحانھ الذي خلقھ وھو یعیش بین ظھراني نعمھ فإن إعراضھ عن
الإذعان بھ وبنعمھ ومراعاة أدنى درجات الأدب معھ مما یعد تركھ إھانة لأمر قبیح
ِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ £ جداً، كما جاء في القرآن الكریم عن لقمان الحكیم: [یَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِا َّ
عَظِیمٌ ]لقمان/ 13 ،وقد قال سبحانھ[ھَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ] الرحمن/ 60 ،وقال:[
. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ للهَِّ لَا تُحْصُوھَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ] إبراھیم/ 34
والعبادات مصادیق توقیفیة للأدب مع لله سبحانھ؛ فالصلاة إلقاء للتحیة علیھ،
والصوم إمساك تأدبي في محضره، والحج زیارة لھ في بیتھ؛ فما أقبح ترك الإنسان لھ
بالقیاس إلى عدم طاعة سائر أوامره -وإن كان ذلك أیضاً قبیح اً-.
. 5 الأنبیاء/ 73
. 6 مریم/ 31
. 7 البقرة/ 183
6
الأزمنة والأمكنة لتكون من جملة المتغیّر من أحكام الشریعة، فإنھا
بطابعھا أمور توقیفیة یتبع فیھا التعلیمات الواردة.
2. أمور غیر عبادیة، مثل: أحكام الأطعمة من محرماتھا
ومحظوراتھا، والضرائب الاقتصادیة كالزكاة والخمس، وأحكام
المعاملات المالیة بین الناس من التجارة والإجارة وغیرھا، وأحكام
الأحوال الشخصیة من النكاح والطلاق والعدة والمیراث والوصیة،
وقوانین القضاء والشھادات، وأحكام الدیات، والأحكام الجزائیة من
القصاص والحدود والتعزیرات.
وھذه الأحكام..
(منھا): ما لم یتجدد في مورده ما یثیر السؤال عن مدى
موافقتھ مع الحكمة أو الفطرة في نفسھ أو في ھذا العصر خاصّة
، ویمثل ھذا القسم الجزء الأكبر من ھذه الأحكام.
و(منھا): ما وقع فیھ التساؤل عن مدى مطابقتھ مع
واضحات الفطرة والضمیر الإنساني، وھذا القسم منھ ما ھو
اجتھادي ومنھ ما ھو قطعي، ولكنھ في أغلب الحالات یحتمل في
العلم اتجاھاً متفاوت اً 8 لا سیما وفق بعض المناھج المتوسعة في
الفقھ المقاصدي .
وعلیھ: فإن أحرز أحد مخالفة حكم مشھور للفطرة أو
الحكمة على وجھ واضح كان ذلك بنفسھ حجة في حقّھ تُعیّن الاتجاه
الآخر النافي لھذا الحكم 9، ولیس من الصحیح أن یُصَ رّ في ھذه
الحالة على كون الدین والشریعة مرھونین بھ؛ وذلك لما
یستخلص من النصوص الدینیة نفسھا من بناء القانون الدیني على
مراعاة الحكمة والفضیلة وھي قاعدة متفق علیھا بین الفقھاء ،
فإذا قضى العقل بمخالفة حكم معیّن لأحكامھ المُ حكمة كان قضاءه
ھذا نافیاً بنفسھ لكون ھذا الحكم من الشریعة؛ لعدم جواز مخالفة
8 وذلك لأحد الوجوه التالیة:
1. إن بعض تلك الأحكام قد تكون علیھ أدلّة ومؤشرات تستتبع عادة القطع أو
الاطمئنان بھا، إلا أنھا لا تستتبع ذلك في حال تبین مخالفتھا للفطرة؛ إذ قد لا یوجب الدلیل الذي من
شأنھ أن یورث القطع قطعاً فعً لی اً؛ بسبب معارضتھ بما ھو أقوى منھ -مما لا سبیل إلى التردید فیھ
بحال-.
2. إن بعض تلك الأحكام لا تزید عن كونھا حجة اجتھادیة، ولا یصحُّ العمل بالحجج
الاجتھادیة عند ثبوت خطأ مفادھا لمخالفتھا لدلیل قطعي بشھادة العقل أو النقل الواضحة التي لا
منفذ للشك فیھا .
3. إن بعض تلك الأحكام وإن كان جزءً ا ثابت اً من التشریع في أصلھ؛ لقیام الدلیل البیّن
والواضح علیھ، إلا أن استمراره یكون مرھوناً بالاجتھاد؛ لابتناء استمرار الحكم.. إما على الإطلاق
الزماني واستصحاب عدم النسخ، أو كونھ حكماً أولیاً لا ولائیاً اعتماداً على ظھور نوعي للأدلّة
الشرعیة في ذلك، أو على إطلاق الحكم وعدم تقیده بما یوجب اختلافھ باختلاف الظروف والأحوال.
9 إن من اعتقد مخالفة ھذا الحكم للعقل في أصل ثبوتھ فعلیھ التشكیك في انتسابھ للشرع،
وإن اعتقد أن بقاءه في ھذا العصر مخالف للعقل فعلیھ اعتبار ذلك قرینة على ضرورة تغیر الحكم
الشرعي بلحاظ العوامل المتجددة.
7
الحكم الشرعي للحكم العقلي، وتعیّن البناء على اتجاه تشریعيّ آخر
في التعامل مع الموضوع.
ومھما استبعدنا ھذا الاتجاه التشریعي من الناحیة الفقھیة،
إلا أنھ لا موازنة بین استبعاده وبین ثقل الدین وتواتر أدلّتھ، فلا
یصح جعلھ سؤالاً متوجھاً على أصل صدق الدین أو ابتنائھ على
تحري العدالة ومراعاة الحكمة ما دام الأمر متحملاً لاتجاه آخر؛ إذ
متى ما كان ھناك استبعاد متوجھ إلى حقیقةٍ تواترت أدلّتھا لم یصحّ
منطقیاً رفع الید عن تلك الحقیقة -ولو أدى ذلك إلى التوقف في
النقطة التي یستبعدھا-؛ إذ لھ أن یذھب إلى مذھب آخر في العلاج،
أو یحتمل أن یكون ھناك وجھ لم یخطر لبالھ، وھو ما نعبر عنھ
بالاحتمال الضارب في المجھول -وسیأتي توضیحھ في القواعد
الفطریة للتثبت في حلقات قادمة إن شاء لله تعالى- .
وینبغي التنبیھ في ھذا الصدد على أن مراعاة الدین للعقل لا
یقتضي أن یدرك العقل كلّ ما یقولھ الدین، بل قد تبقى ھناك
مساحات یتوقف فیھا العقل، أو توجد لدیھ ھواجس استبعاد
واستغراب فیھا.. وھذا الأمر متحقق في سائر القوانین التي تسعى
لتحري مقتضى الفطرة والحكمة، إذ لا یتأتى لكثیر من الناس
إدراك الوجھ الحِكمي والفطري لجمیع الأحكام، فالمنطق الفطري
السلیم یقضي على الإنسان المستوثق من شيء بأن یعتمد على ما
استوثق منھ، ولا یأخذ بھواجسھ وترجیحاتھ في المناطق
المتشابھة.. وھذا أمر معروف جرت علیھ سیرة العقلاء في جمیع
مجالات الحیاة، فمثلاً: إذا اعتقد الإنسان بوثاقة طبیب معیّن
وبراعتھ، فإن العقل یحكم باتباع توصیاتھ، وعدم الأخذ بھواجس
نفسھ وتردیدتھا فیما لو استبعد كلامھ في مورد ما ، وإذا عرف
الابن من أبیھ الحكمة من خلال الممارسة فإن المفترض أن یسلم لھ
في الموارد التي یتراءى لھ فیھا خلاف رأي أبیھ.
ھذه نبذة تتعلق بالجانب التشریعي من الرؤیة الدینیة وفق
أمھات النصوص الدینیة وثوابتھا، وبھا یتمّ توصیف الدین الذي
. كان موضوع ھذا الفصل 10
وقد ظھر مما تقدم: أن الدین وفق منظوره- ھو واعیة
الحقیقة ونداؤھا، وقد جاء لیكشف الغطاء للإنسان عن الحقائق
الكبرى للحیاة وغایاتھا وموقع الإنسان فیھا.
10 كان الباعث على ذكر ھذا الفصل تنبیھ الباحث عن الحقیقة على الخطوط العریضة للرؤیة الدینیة،
حتى لا یجازف في النفي والإثبات ویكون على بینة فیما ینفیھ أو یثبتھ، وھو مجرد توصیف لم نسعَ
فیھ إلى الاستیعاب.
1
منھج التثبت في شأن الدین
(الحلقة التاسعة: ضرورة التفریق بین الدین والشریعة والفقھ
وأقسام الفقھ)
تقدّم الكلام في الحلقة السابقة عن مدى انسجام جملة من
التشریعات الدینیة مع المبادئ الفطریة؛ إذ قد یدّعى أن بعض
الأحكام الشرعیة مخالفة للمبادئ العامّة للتشریع، ومتصادمة مع
المساحة المحكمة للعناوین الفطریة، ولیست من المساحة المتشابھة
فیھا..
وكان لا بدّ في سیاق تبیین وجھة نظر الدین (بصورة
إجمالیّة) بالنسبة لتلك التشریعات والمآخذ المذكورة علیھا.. كان لا
بدّ من ذكر أمور أربعة ھي:
١. عدم دقة ما ذُكر في بعض تلك الأمثلة عن الموقف
التشریعي الدیني منھا.
٢. عدم إنتاج تلك الأمثلة لطابع عام في الدین وفق ما
استوحي منھا.
٣. مخارج التشریعات المذكورة وفق القانون الفطري من
المنظور الدیني.
٤. ضرورة التفریق بین الدین والشریعة والفقھ وأقسام
الفقھ.
وقد تقدّ م تفصیل الأمور الثلاثة الأولى في الحلقة السابقة.
الأمر الرابع: إن من المھم -عند النظر في الأحكام
الشرعیة- التفریق بین الدین والشریعة والفقھ الاجتھادي.. وھذا
التصنیف الثلاثي وخصوصیّاتھ من أھم شؤون المعرفة بمعالم
الدین..
١. إن حقیقة الدین: -كما تقدم- رؤیة كونیة مبنیة على
ثلاثیة: الخالق، ورسالتھ إلى الإنسان، وبقاء الإنسان بعد الممات..
وھي من ثوابت الدین التي بدأت وفق المنظور الدیني مع بدایة خلق
الإنسان، وقد قامت علیھا الأدلة القاطعة والحجج البالغة، فلا ینبغي
أن تكون مظنّة للتجدید والتغییر والاجتھاد والاختلاف، قال تعالى:
[شَرَعَ لَكُ مْ مِنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِھِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ وَمَا
وَصَّیْنَا بِھِ إِبْرَاھِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیھِ
. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِینَ مَا تَدْعُوھُمْ إِلَیْھِ ] 1
. 1 الشورى/ 13
2
٢. وأما الشریعة: فنقصد بھا التعالیم التشریعیة الصادرة
من المشرّع الإسلاميّ حقیقة، بغض النظر عن وصولھا على
وجھھا إلى الناس أو لا..
وھي إنما تثبت لنا في ما جاء بنحو واضح لا التباس فیھ،
من دون حاجة إلى إعمال جھد تخصّ صي (اجتھاد) یمكن أن یخطأ
أو یصیب.. كما في الاحكام الشرعیة الواردة بدلالة واضحة وبی نّة
في القرآن الكریم والسنة المتواترة، ومن ذلك: أصل جوب الصلاة
والحج والزكاة..
ویمكن التعبیر عن ھذا القسم من التشریعات الثابت لنا
بشكل حاسم ب(الحقائق التشریعیة)؛ بسبب قطعیتھا وانتفاء الشك
فیھا.
٣. وأما الفقھ الاجتھادي: فھو التشریعات التي یستنبطھا
الفقھاء بموجب الأدوات الاجتھادیة المتوفرة عندھم، والتي لا تؤدي
إلى ثبوتھا بدرجة قاطعة، بل توجد في مقابلھا نظریات أخرى لھا
شواھدھا، كما ھو الحال في المسائل الخلافیة. أو فرضیات محتملة
لا یمكن نفیھا نفیاً قاطعاً.
ویمكن التعبیر عن ھذا القسم ب(النظریات التشریعیة)؛ لأنھا
-وإن قامت الحجة علیھا بحیث لزم الأخذ بھا- لا تزید على
النظریة.
وھذا القسم -بعد أن كان عرضة للخطأ والصواب- لا یصح
أن یُنسب إلى الشرع بنحو جازم؛ ف یُؤخذ الدین والشریعة بمقتضاه،
وإنّما ھو مما قامت علیھ الحجة حسب الأدوات المتوفرة لدى
الفقھاء، وربما كان بعضھم أفقھ من بعض آخر في فھم الشریعة
ومقاصدھا وتشریعاتھا، ورب حجة فقھیة لا تفید الظنّ دائماً -بل
غالب اً-، ولكن یتعین الأخذ بھا على وجھ مطلق ما لم یُطمأن
بخطئھا، بل من الحجج ما یُعتمد علیھ على سبیل القاعدة التي تبیّن
الوظیفة العملیة، من دون أن تدلّ على ثبوت حكم شرعي واقعي
. بحال 2
2 وتوضیح ذلك: ان الفقھ الاجتھادي أنواع:
(الأول): ما یحصل الیقین بھ لبعض المجتھدین أو طائفة منھم أو الكثیر منھم إلا
أن ھذا لا یجعلھ یقینیاً في مستوى العلم وإنما توجد علیھ مؤشرات قد یقطع بھا فقیھ، ویعمل
علیھا فقیھ آخر كحجة مع تجویزه لفرضیات محتملة أخرى.
(الثاني): ما تقوم علیھ أمارات وشواھد توجب الاطمئنان بھ، من غیر أن ینفي
الخطأ فیھا نفیا حاسماً.
(الثالث): ما تقوم علیھ حجج ظنیة یؤخذ بھا، مثل: ظواھر الكلام التي ھي حجة
قانونیة ملزمة في جمیع القوانین الوضعیة وإن كانت محتملة للخلاف. ومثل ھذه الحجج إنما
یحصل الظن بھا غالباً، وقد لا یحصل الظن بھا في كل مورد بالضرورة، وإن كانت حجة
حتى في مورد عدم حصول الظن بھا للناظر فیھا.
(الرابع): ما یحدد فیھ الموقف الشرعي كوظیفة عملیة في حالات الشك، مثل:
عدم الأخذ بالتكلیف لمجرد الاحتمال. وإبقاء الحكم السابق حتى تثبت الحجة على خلافھ،
ویعبر عنھ في علم الأصول المعاصر ب(الوظائف العملیة).
3
وعلیھ: فإذا لوحظ في ھذا القسم ما یُحرز منافاتھ مع مبادئ
العدالة بنحو قاطع، كان ذلك بنفسھ دلیلاً على عدم تمامیة الحجة
لاجتھادیة المعتمدة وضرورة سلوك منحى اجتھادي آخر في
موردھا..
[أقسام الأمور التشریعیّة وتحدید مورد التساؤل منھا]:
ولكن لیست جمیع الأمور التشریعیة عُرضة للتساؤل عن
مدى مطابقتھا مع مبادئ العدالة، وإنما یتّفق ذلك في قسم من مسائل
الفقھ..
وتوضیح ذلك: إن ما وقع موضعاً للتساؤل منھا -على
العموم- لیست أصول مسائلھا ولا قسم العبادات منھا، بل قسم من
الفروع والتطبیقات التي تحتمل نظریات اجتھادیة أخرى؛ فبعضھا
حقّ وقد لا یكون بعضھا الآخر حقّ اً، وما لم یكن حقّاً منھا لا یؤول
إلى نفي حقّانیة والشریعة وإلغاء الاعتماد علیھا من رأس..
وذلك: أن التشریع الإسلامي ینقسم إلى أصول ومقاصد،
وإلى تفریعات وتطبیقات..
١. الأصول العامة للتشریع:
أما الأصول العامة للتشریع فلا غبار علیھا؛ لأنھا لیست إلا
لتحرّي الفضائل الفطریة على النحو الذي یفرضھ مستواھا الفطري
القیمي، وھذه الأصول لیست مبادئ للتشریع فقط؛ بل ھي -كما
سبق توضیحھ في حلقة سابقة- دستور للشریعة، یُشترط في
التشریعات الفرعیّة موافقتھا لھا. 3
كما أن ھذه الأصول أمور متفق علیھا في الأدیان الإلھیة
كما قد تشملھا الآیة المتقدّمة التي تفید وحدة ما شرع في عھد نوح
ومن بعده من الأنبیاء.
وینتمي إلیھا جلّ الحرمات العامة في أصولھا، مثل: حق
الوالدین والجار وصلة الرحم ووجوب الوفاء بالعھد وأداء الأمانة
ووجوب إعانة المضطر وحرمة الزنا والفعل الشاذ وحرمة
الاعتداء على الآخرین في نفس أو بدن أو عرض أو مال أو جاه،
كما في السخریة والانتقاص من الآخرین والتجسس علیھم ونشر
أسرارھم، وحرمة الظھور بمظھر الإغراء أمام الآخرین أو
الانكشاف لدیھم وحرمة الإسراف والتبذیر ونحو ذلك.
3 كما ورد عن أبي عبد لله الصادق(ع) أنھ قال: (َقالَ رَسُولُ للهَّ ص: إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِیقَةً وعَلَى
. كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ للهَّ فَخُذُوه ومَا خَالَفَ كِتَابَ للهَّ فَدَعُوه) 3
والمفھوم من سیاق ھذا الحدیث أن موافقة الكتاب تقتضي وجود نور الحق والحقیقة على مضمون
الأحادیث المرویة، وفي الفقھاء المعاصرین من اشترط في حجیة الحدیث موافقة القرآن الكریم
موافقة روحیة بالنظر إلى أنھ بمثابة الدستور الأساس للإسلام فھو یتضمن الخطوط العریضة فیھ.
4
٢. التطبیقات والفروع:
وأما التطبیقات والفروع فھي على قسمین:
(الأول): طقوس عبادیة بعضھا بسیطة، مثل: الذِ كر
والدعاء وقراءة الكتاب المجید والتحمید والثناء والاستغفار
والمناجاة وبث الھموم معھ سبحانھ، وبعضھا مركبة من أمور
متعددة، مثل: الصلاة والصیام والحج والعمرة وزیارة المساجد
والاعتكاف فیھا والكفارات الثابتة على الأخطاء والخطایا.
ویتمیز ھذا القسم عن باقي الأحكام التشریعیة في الدین
بمیزتین تجعلھا في غایة الأھمیة في الدین:
١. إنھا مظھر الإیمان بالحقائق الكبرى المثبتة في الرؤیة
الدینیة والرباط الواصل بین الإنسان وخالقھ والحیاة الأخرى؛
سبحانھ وصفاتھ وعظمتھ وترسیخ الإیمان برسائلھ £ باستحضار
إلى الخلق واستذكار الموت والدار الآخرة والالتفات إلى ضرورة
ادّ خار الأعمال الصالحة لھا والاستمداد من كل ھذه المعاني.. وقد
رُوي في الحدیث: (أن الصلاة معراج المؤمن)، و(الصلاة عمود
الدین).
٢. إنھا تمثّل أھم الفضائل الإنسانیة وأعمقھا، فھي لیست
على حد سائر الطاعات ولا المعصیة فیھا على حد سائر المعاصي
. لوجھ فطري واضح تنبھ علیھ النصوص الدینیة 4
4 وذلك أن لله سبحانھ ھو المنعم على الإنسان بوجوده وبوجود كل النعم التي ینتفع بھا من
الأبوین والأولاد والأزواج والأصدقاء والأعوان والمساكن والأطعمة والمیاه والأشجار
والحیوانات والشمس والقمر وغیرھا...؛ فنسبة الإنسان إلیھ تشبھ نسبة الولد إلى الوالدین أو
نسبة الضیف على مضیفھ مع فرق فاحش.
وعلیھ: یمكن أن نفھم الأمر بمقارنة السلوك غیر اللائق تجاه لله سبحانھ
بملاحظة سلوك الولد غیر اللائق مع الوالدین، فإن ھذا ، طوراً یكون بعد طاعة والدیھ في
بعض ما یریان لزوم الإتیان بھ علیھ، ویشفقان علیھ منھ، فھذا أمر قبیح وغیر لائق، وطوراً
آخر یكون بالإساءة إلى الوالدین بما یكون تنكراً لأصل الأدب معھما من قبیل أن ینكر الولد
كونھما والدین لھ تعسفاً، أو یسيء إلیھما بالسب والشتم والإھانة، أو یراھما ویحضر
عندھما من غیر أن یحییھما ویسلم علیھما ویقوم بأدنى مظاھر الأدب تجاھھما أو یقاطعھما
فلا یزورھما في أي حال، أو یتصرف في محضرھما في ممارساتھ الاعتیادیة بنحو یعد
إھانة لھما واستھتاراً بھما؛ فھذا الولد عاق لوالدیھ فاقد من معاني الإنسانیة أجلھا وأعمقھا
في نفس الإنسان حیث تنكّر لأصلھ الذي ولد منھ. وبھذا الاعتبار لا یمكن تسویة ھذا
التصرف الوضیع والسخیف مع عدم التساھل في طاعة سائر أوامر الوالدین فیما یوجھان
الإنسان بھ لأجل صلاحھ وإن كان اللائق إطاعتھما من جھة تأذیھما شفقة علیھ، ولا مع أي
تصرف مشین مع الآخرین مثل الاعتداء علیھم وإن كان بدرجة أعلى مما صدر منھ بحق
أبیھ مثل القتل، لأن أدب الإنسان مع أصلھ المنعم علیھ بھذا الإنعام الكبیر أعمق المعاني في
النفس وألزمھا بالرعایة، والتنكر لھ ظلم عظیم للغایة. نعم ما یسھل الأمر على الإنسان في
ھذا الظلم -بالقیاس إلى بعض وجوه ظلمھ للآخرین كقتلھم- أنھ قابل للتدارك بعض الشيء
بطلب العفو من الوالدین وتغییر التعامل معھما بینما بعض القبائح العقلیة لا مجال لتداركھ
تدارك اً ناجع اً مثل قتل النفس المحترمة مثلاً.
وتأمّ ل مثل ذلك في شأن المض یّف للإنسان فإذا نزل الإنسان ضیف اً على شخص
وتمتع بضیافتھ ورعایتھ إیاه بأنواع النعم والإمكانات في مدة طویلة كان من المناسب أن
5
٣. إنھا عماد السلوك الفاضل الصحیح في الحیاة، سواء في
المساحة التي یدركھا العقل بوضوح من القیم النبیلة، كتجنب
الاعتداء على الآخرین والإحسان إلیھم والوفاء بالعھد والأمانة
ورعایة الفقراء والأیتام ومراعاة العفاف في القول والمظھر
والسلوك ونحوھا.. أو في المساحة التي ورد الشرع بتعیین الوظیفة
فیھا.
والوجھ في ذلك: أن المیل إلى الفضیلة -وإن كان قد أودع
سبحانھ £ في الضمیر الإنساني-، إلا أن من شأن الإیمان با
والالتفات إلى كونھ مع الإنسان دوم اً واطلاعھ على أحوالھ
وأفعالھ، وأنھ سیرجع إلى خالقھ بعد ھذه الحیاة لیلقى نتاج أعمالھ..
من شأن ھذا الإیمان أن یثیر دوافع النبل والفضیلة في النفس
الإنسانیة ویحفّزھا أضعافاً مضاعفة .
ھذا، ومن الملاحظ في شأن ھذه الطقوس:
أ. أنھا أمور ثابتة في ھذا الدین بشكل واضح لا لبس فیھ،
بل ھي في أصولھا من الدین الإلھي الجامع؛ والآداب المشتركة بین
، الأدیان، قال تعالى:[ وَأَوْحَیْنَا إِلَیْھِمْ فِعْلَ الْخَیْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ] 5
وقال: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَیًّا] 6، وقال: [كُتِبَ
. عَلَیْكُمُ الصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِكُمْ ] 7
نعم، ھناك تفاصیل اجتھادیة یُؤخذ فیھا بالسعة في حال عدم
نھوض الحجة علیھا أو یتبع المرء فیھا أیة وجھة نظر اجتھادیة
واضحة.
ب. ولیس فیھا -على العموم- ما یرد فیھ السؤال عن منافاتھ
مع القانون الفطري، ولا محل لاجتھاد یقتضي تغییراً فیھا بتغییر
یراعي تجاھھ ما یلیق بھذا الموقف وإذا قدرنا أن الضیف تصرف مع المضیف بما لا یلیق
فط ور اً یكون ھذا التصرف في مستوى عدم الاستجابة لبعض نصائحھ التي كان مصراً
علیھا فیما یعود إلى الضیف رعایة لمصلحتھ، فھذا أمر غیر لائق -لا سیما إذا كان ھذا
التصرف سھلاً وفي مصلحة الضیف-، وطوراً آخر قد یكون ھذا التصرف بالتنكر لعود
المضیف إلى المضیّف أصلا ونفي كونھ صاحب النعمة علیھ، وإساءتھ للمضیّف بإھانتھ أو
عدم إلقاء التحیة عند لقائھ وغیر ذلك، فإن في ھذا التصرف من الضعة والقبح ما لا یوجد
مماثلھ في تصرف آخر.
وھذا المعنى یجري في شأن لله سبحانھ مع ملاحظة الفارق فإن الإنسان إذ
كان أصلھ من لله سبحانھ الذي خلقھ وھو یعیش بین ظھراني نعمھ فإن إعراضھ عن
الإذعان بھ وبنعمھ ومراعاة أدنى درجات الأدب معھ مما یعد تركھ إھانة لأمر قبیح
ِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ £ جداً، كما جاء في القرآن الكریم عن لقمان الحكیم: [یَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِا َّ
عَظِیمٌ ]لقمان/ 13 ،وقد قال سبحانھ[ھَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ] الرحمن/ 60 ،وقال:[
. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ للهَِّ لَا تُحْصُوھَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ] إبراھیم/ 34
والعبادات مصادیق توقیفیة للأدب مع لله سبحانھ؛ فالصلاة إلقاء للتحیة علیھ،
والصوم إمساك تأدبي في محضره، والحج زیارة لھ في بیتھ؛ فما أقبح ترك الإنسان لھ
بالقیاس إلى عدم طاعة سائر أوامره -وإن كان ذلك أیضاً قبیح اً-.
. 5 الأنبیاء/ 73
. 6 مریم/ 31
. 7 البقرة/ 183
6
الأزمنة والأمكنة لتكون من جملة المتغیّر من أحكام الشریعة، فإنھا
بطابعھا أمور توقیفیة یتبع فیھا التعلیمات الواردة.
2. أمور غیر عبادیة، مثل: أحكام الأطعمة من محرماتھا
ومحظوراتھا، والضرائب الاقتصادیة كالزكاة والخمس، وأحكام
المعاملات المالیة بین الناس من التجارة والإجارة وغیرھا، وأحكام
الأحوال الشخصیة من النكاح والطلاق والعدة والمیراث والوصیة،
وقوانین القضاء والشھادات، وأحكام الدیات، والأحكام الجزائیة من
القصاص والحدود والتعزیرات.
وھذه الأحكام..
(منھا): ما لم یتجدد في مورده ما یثیر السؤال عن مدى
موافقتھ مع الحكمة أو الفطرة في نفسھ أو في ھذا العصر خاصّة
، ویمثل ھذا القسم الجزء الأكبر من ھذه الأحكام.
و(منھا): ما وقع فیھ التساؤل عن مدى مطابقتھ مع
واضحات الفطرة والضمیر الإنساني، وھذا القسم منھ ما ھو
اجتھادي ومنھ ما ھو قطعي، ولكنھ في أغلب الحالات یحتمل في
العلم اتجاھاً متفاوت اً 8 لا سیما وفق بعض المناھج المتوسعة في
الفقھ المقاصدي .
وعلیھ: فإن أحرز أحد مخالفة حكم مشھور للفطرة أو
الحكمة على وجھ واضح كان ذلك بنفسھ حجة في حقّھ تُعیّن الاتجاه
الآخر النافي لھذا الحكم 9، ولیس من الصحیح أن یُصَ رّ في ھذه
الحالة على كون الدین والشریعة مرھونین بھ؛ وذلك لما
یستخلص من النصوص الدینیة نفسھا من بناء القانون الدیني على
مراعاة الحكمة والفضیلة وھي قاعدة متفق علیھا بین الفقھاء ،
فإذا قضى العقل بمخالفة حكم معیّن لأحكامھ المُ حكمة كان قضاءه
ھذا نافیاً بنفسھ لكون ھذا الحكم من الشریعة؛ لعدم جواز مخالفة
8 وذلك لأحد الوجوه التالیة:
1. إن بعض تلك الأحكام قد تكون علیھ أدلّة ومؤشرات تستتبع عادة القطع أو
الاطمئنان بھا، إلا أنھا لا تستتبع ذلك في حال تبین مخالفتھا للفطرة؛ إذ قد لا یوجب الدلیل الذي من
شأنھ أن یورث القطع قطعاً فعً لی اً؛ بسبب معارضتھ بما ھو أقوى منھ -مما لا سبیل إلى التردید فیھ
بحال-.
2. إن بعض تلك الأحكام لا تزید عن كونھا حجة اجتھادیة، ولا یصحُّ العمل بالحجج
الاجتھادیة عند ثبوت خطأ مفادھا لمخالفتھا لدلیل قطعي بشھادة العقل أو النقل الواضحة التي لا
منفذ للشك فیھا .
3. إن بعض تلك الأحكام وإن كان جزءً ا ثابت اً من التشریع في أصلھ؛ لقیام الدلیل البیّن
والواضح علیھ، إلا أن استمراره یكون مرھوناً بالاجتھاد؛ لابتناء استمرار الحكم.. إما على الإطلاق
الزماني واستصحاب عدم النسخ، أو كونھ حكماً أولیاً لا ولائیاً اعتماداً على ظھور نوعي للأدلّة
الشرعیة في ذلك، أو على إطلاق الحكم وعدم تقیده بما یوجب اختلافھ باختلاف الظروف والأحوال.
9 إن من اعتقد مخالفة ھذا الحكم للعقل في أصل ثبوتھ فعلیھ التشكیك في انتسابھ للشرع،
وإن اعتقد أن بقاءه في ھذا العصر مخالف للعقل فعلیھ اعتبار ذلك قرینة على ضرورة تغیر الحكم
الشرعي بلحاظ العوامل المتجددة.
7
الحكم الشرعي للحكم العقلي، وتعیّن البناء على اتجاه تشریعيّ آخر
في التعامل مع الموضوع.
ومھما استبعدنا ھذا الاتجاه التشریعي من الناحیة الفقھیة،
إلا أنھ لا موازنة بین استبعاده وبین ثقل الدین وتواتر أدلّتھ، فلا
یصح جعلھ سؤالاً متوجھاً على أصل صدق الدین أو ابتنائھ على
تحري العدالة ومراعاة الحكمة ما دام الأمر متحملاً لاتجاه آخر؛ إذ
متى ما كان ھناك استبعاد متوجھ إلى حقیقةٍ تواترت أدلّتھا لم یصحّ
منطقیاً رفع الید عن تلك الحقیقة -ولو أدى ذلك إلى التوقف في
النقطة التي یستبعدھا-؛ إذ لھ أن یذھب إلى مذھب آخر في العلاج،
أو یحتمل أن یكون ھناك وجھ لم یخطر لبالھ، وھو ما نعبر عنھ
بالاحتمال الضارب في المجھول -وسیأتي توضیحھ في القواعد
الفطریة للتثبت في حلقات قادمة إن شاء لله تعالى- .
وینبغي التنبیھ في ھذا الصدد على أن مراعاة الدین للعقل لا
یقتضي أن یدرك العقل كلّ ما یقولھ الدین، بل قد تبقى ھناك
مساحات یتوقف فیھا العقل، أو توجد لدیھ ھواجس استبعاد
واستغراب فیھا.. وھذا الأمر متحقق في سائر القوانین التي تسعى
لتحري مقتضى الفطرة والحكمة، إذ لا یتأتى لكثیر من الناس
إدراك الوجھ الحِكمي والفطري لجمیع الأحكام، فالمنطق الفطري
السلیم یقضي على الإنسان المستوثق من شيء بأن یعتمد على ما
استوثق منھ، ولا یأخذ بھواجسھ وترجیحاتھ في المناطق
المتشابھة.. وھذا أمر معروف جرت علیھ سیرة العقلاء في جمیع
مجالات الحیاة، فمثلاً: إذا اعتقد الإنسان بوثاقة طبیب معیّن
وبراعتھ، فإن العقل یحكم باتباع توصیاتھ، وعدم الأخذ بھواجس
نفسھ وتردیدتھا فیما لو استبعد كلامھ في مورد ما ، وإذا عرف
الابن من أبیھ الحكمة من خلال الممارسة فإن المفترض أن یسلم لھ
في الموارد التي یتراءى لھ فیھا خلاف رأي أبیھ.
ھذه نبذة تتعلق بالجانب التشریعي من الرؤیة الدینیة وفق
أمھات النصوص الدینیة وثوابتھا، وبھا یتمّ توصیف الدین الذي
. كان موضوع ھذا الفصل 10
وقد ظھر مما تقدم: أن الدین وفق منظوره- ھو واعیة
الحقیقة ونداؤھا، وقد جاء لیكشف الغطاء للإنسان عن الحقائق
الكبرى للحیاة وغایاتھا وموقع الإنسان فیھا.
10 كان الباعث على ذكر ھذا الفصل تنبیھ الباحث عن الحقیقة على الخطوط العریضة للرؤیة الدینیة،
حتى لا یجازف في النفي والإثبات ویكون على بینة فیما ینفیھ أو یثبتھ، وھو مجرد توصیف لم نسعَ
فیھ إلى الاستیعاب.