المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفقه المقارن /تقصير المسافر وإفطاره


الشيخ عباس محمد
05-09-2017, 05:59 PM
تقصير المسافر وإفطاره
تشريع التقصير

تقصد الفرائض الرباعية في السفر إلى ركعتين، سوا، أكان ذلك في حال الخوف أم كان في حال الأمن، إجماعا من الأمة المسلمة وقولاً واحداً.

قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ...﴾1.

وعن يعلي بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته. أخرجه مسلم في صحيحه.

وعن ابن عمر - فيما أخرجه مسلم في الصحيح أيضا - قال: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله. ثم صحبت عثمان فلم يزد
*
139

على ركعتين حتى قبضه الله. وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...﴾2.

وعن أنس بن مالك - فيما أخرجه الشيخان في صحيحيهما - قال:خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.

وعن ابن عباس. فيما أخرجه البخاري في صحيحه - قال: أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة تسعة عشر يقصر، الحديث. قلت: وإنما قمر مع إقامته تسعة عشر يومأ لعدم نية الإقامة.

وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلي بأهل مكة إماما بعد الهجرة فيسلم في الرباعيات على رأس الركعتين الأوليين، وكان قد تقدم إلى القوم بأن يتموا صلاتهم أربع ركعات معتذرا عن نفسه وعمن جاء معه بأنهم قوم سفر.

وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن خيار أمتي من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ،والذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا وإذا سافروا قصروا".

وعن أنس - فيما أخرجه ملم في صحيحه من طريقين - قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر في المدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحلية - مسافرا - ركعتين، إلى كثير من الصحاح الصراح بأن الله عز وجل قد شرع التقصير في السفر.

140

تشريع الإفطار

لا كلام في أن الله عز وجل شرع الإفطار في شهر رمضان لكل من سافر فيه سفرا تقصر فيه الصلاة ،وهذا القدر مما أجمعت الأمة المسلمة عليه ،والكتاب والسنة يثبتانه بصراحة.

قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ...﴾ 3 الآية.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر في شهر رمضان يفطر ويعلن للناس إفطاره، وقد عد الصوم في السفر معصية وأكدها وقال: "ليس من البر أن تصوموا في السفر"، وستسمع ذلك كله بنصه صلى الله عليه وآله وسلم .

وجاء في حديث آبي قلابة - وهو في الصحاح - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من بني عامر: "إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطره الصلاة".

ومن تتبع السنن وأقوال الأئمة حول صلاة المسافر وصومه وجد النص والفتوى وإجماع الأمة على أن القصر والإفطار سفرا مما شرعه الله عز وجل في دين الإسلام، وان المقتضي من السفر لأحدهما هو بعينه المقتضي للآخر بلا كلام.

حكم التقصير

اختلف أئمة المسلمين في حكم القصر في السفر على أقوال:

فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه وهذا قول

141

الإمامية تبعا لأثمتهم، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم4.

ومنهم من رأى القصر والإتمام كلاهما فرض على التخيير كالخيار في واجب الكفارة، وهذا قول بعض أمحاب الشافعي.

ومهم من رأى أن القصر سنة مؤكدة، وهذا قول مالك في أشهر الروايات عنه.

ومنهم من رأى أن القصر رخصة وأن الإتمام أفضل، وبه قال الشافعي في أشهر الروايات عه، وهو المتصور عند أصحابه.

والحنابلة قالوا بجواز القصر وهو أفضل من الإتمام ولا يكره الإتمام.

حجتنا

احتج الامامية لوجوب التقصير بصحاح من طريق الجمهور، ونصوص ثابتة عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام.

فمن صحاح الجمهور: ما أخرجه مسلم - في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من صحيحه - عن ابن عباس من طريقين قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين.

وهذا صريح بأن المسافر إنما أمر بأداء الظهر والعصر والعشاء

142

ركعتين، كما أن الحاضر إنما أمر بأدائها أربع ركعات، وإذاً لا تصح من المسافر إلا أن تكون ركعتين حسبما فرضت عليه، كما لا تصح من الحاضر إلا أن تكون أربعا كما فرضت عليه لأن صحة العبادة إنما هي مطابقتها للأمر.

وفي صحيح مسلم أيضا، بالإسناد إلى موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس كيفه أصلي بمكة - مسافرا -؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم .

فأرسل الجواب بكونها ركعتين، وكونها سنَّة أبي القاسم ارسال المسلمات ،وهذا من الظهور بتعيين القصر بمثابة لا تخفى على أهل العرف.

وأخرج مسلم أيضا في صحيحه من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن الصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: انها تأوَّلت كتأول عثمان.

وفي صحيح مسلم عن عائشة من طريق آخر قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.

قلت: من البديهي إذا كان هذا صحيحا أن لا تصح من المسافر رباعية إذا لم يتوجه إليه من الشارع أمر بها، وإنما أمر من أول الأمر بأدائها ركعتين وأقرها الله على ذلك فلو.أداها المسافر أربعا كان مبتدعا، كما لو أدى فريضة الصبح أربعا، وكما لو أدى الحاضر فرائضه الرباعيات مثنى مثنى مثنى.

143

ومن نصوص أئمة الهدى عليهم السلام، ما صح عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم إذ سألا الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام: فقالا له: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي، وكم هي؟ قال: إن الله سبحانه يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَة﴾5.

فالتقصير واجب في السفر كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا انه قال: "لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة"، ولم يقل: قصروا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام ؟ قال: أوليس قال تعالى في الصفا والمروة: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾6 ألا ترى أن الطواف واجب مفترض لأن الله تعالى ذكره في كتابه، وصنعه نبيه، وكذا التقصير في السفر شي، صنعه رسول الله وذكره الله في الكتاب، قالا: قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال: "إن كانت قرأت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه" قال عليه السلام: "والصلاة في السفر كل فريضة ركعتان إلاَّ المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر ثلاث ركعات".

قال الإمام الطبرسي بعد إيراد هذا الخبر: وفي هذا دلالة على أن فرض المسافر مخالف لفرض المقيم. قال: وقد أجمعت الطائفة على ذلك، وأجمعت على أنه ليس بقصر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "فرض المسافر ركعتان غير قصر"، انتهى ما قلناه عن مجمع البيان.

وفي الكشاف حول آية التقصير، قال: وعند أبي حنفية القصر في

144

السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره. قال: وعن عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم7.

حجه الشافعي ومن لا يوجب القصر

احتجوا بأمور:

أحدها: الظاهر من قوله تعالى: ﴿... فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ...﴾8. لان الجناح وهو الإثم إنما يوجب بمجرده الإباحة لا الوجوب.

وقد عرفت الجواب بنص الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وكأن الناس يومئذٍ ألفوا الإتمام فكانوا - كما أفاده الإمام الزمخشري في كشافه - مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.

ثانيها: أن عثمان وعائشة كانا يتمان في السفر.

والجواب: أنهما تأولا أدلة التقصير فأخطآ، وقد فسر بعض علماء الجمهور تأولهما هذا بأن عثمان كان أمير المؤمنين وعائشة كانت أمهم فهما من سفرهما في حضر مستمر، على اعتبار أنهما حيث ما كانا مسافرين فهما في أهل ودار ووطن، وهذا اجتهاد طريف نرى وجه الطرافة فيه بانكشافه عن غربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في دنيا المؤمنين إذ لم يرو عنه في السفر التقصير وكذلك أبو بكر وعمر وعلي غربا، لهم الله على هذا الأساس.

145

ثالثها: أحاديث مشهورة أخرجها مسلم في صحيحه صريحة بأن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون منهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم في شهر رمضان، ومنهم المفطر فيه لا يعيب بعضهم على بعض.

والجواب: ان هذه الأحاديث لم يثبت شي، منها عن طريقنا على أنها تعارض صحاحنا المروية عن أئمتنا أعدال الكتاب، بل تعارض نفسها بنفسها كما يعلمه الملم بها وكما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى.

وما من شك في أن حديث الأوصياء من آل محمد عليهم السلام هو المقدم في مقام التعارض، ولا سيما بعد تأييده بثلة من صحاح الجمهور.

حكم الإفطار

اختلف فقهاء الإسلام في حكم الإفطار في السفر، فذهب الجمهور إلى أنه رخصة، وأن المسافر إذا صام صح صومه وأجزأه مستدلين على ذلك بأحاديث أخرجها مسلم في صحيحه.

فمنها: ما عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

وعنه: من طريق آخر قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره.

والجواب: أن هذه الأحاديث - لو فرض صحتها - فهي منسوخة لا محالة بصحاح من طريق الجمهور، وصحاح آخر من طريقنا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

146

وإليك ما صح في هذا الباب من طريق غيرنا عن جابر بن عبد الله قال - كما في صحيح مسلم -: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: ان بعض الناس قد صام فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك العصاة أولئك العصاة.

وأخرج عن جابر أيضا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه فقال: ما له ؟ قالوا: صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس من البر أن تصوموا في السفر".

وإنما قلنا ان هذه السنن ناسخة لتلك لتأخر صدورها عنها باعتراف الجمهور، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم وغيره، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.

وعن الزهري - كما في صحيح مسلم وغيره - بهذا الإسناد مثله. قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ أمر رسول الله بالآخر فالآخر.

وعن ابن شهاب - كما في صحيح مسلم وغيره بهذا الإسناد أيضاً مثله. قال ابن شهاب: كانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم.

ومجمل الأمر أنه لو فرض صحة صوم البعض من أصحابه في السفر معه فإنما كان ذلك قبل التزامهم بالإفطار وقبل قوله صلى الله عليه وآله وسلم ليس من البر أن

147

تصوموا في السفر، وقبل قوله صلى الله عليه وآله عن الصائمين: أولئك العصاة أولئك العصاة.

أما الإمامية فقد أجمعوا على أن الإفطار في السفر عزيمة، وهذا مذهب داود بن علي الامفهاني وأمحابه وعليه جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وهو المتواتر عن أئمة الهدى من العترة الطاهرة.

وروي أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه. - كما هو مذهبنا ومذهب داود-.

وروى يوسف بن الحكم. قال: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل صدق فردها عليك ألا تغضب ؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم فلا تردوها.

وروى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر".

وعن ابن عباس: الافطار في السفر عزيمة.

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: "الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر في الحضر".

وعنه عليه السلام: "لو أن رجلاً مات صائماً في السفر لما صليت عليه".

وعنه عليه السلام: قال "من سافر أفطر وقصر، إلا أن يكون سفره في معصية الله عز وجل".

وروى العياشي بسنده إلى محمد بم مسلم، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: نزلت هذه الآية ﴿... فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى

148

سَفَرٍ ...﴾9 بكراع الغميم عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باناء فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد مضى النهار ولو تممنا يومنا هنا، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العصاة فلم يزالوا يسمون العصاة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وحسبنا حجة لوجوب الافطار في السفر قوله عز وجل: ﴿... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...﴾10 فإن في الآية دلالة على وجوب الافطار من وجوه.

أحدها: أن الأمر بالصوم في الآية إنما هو متوجه للحاضر دون المسافر، ولفظه كما تراه: فمن شهد منكم الشهر - أي حضر في الشهر – فليصمه، وإذا فالمسافر غير مأمور، فصومه إدخال في الدين ما ليس من الدين تكلفا وابتداعاً.

ثانيها: ان المفهوم من قوله تعالى: ﴿... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه...﴾11 أن من لم يحضر في الشهر لا يجب عليه الصوم، ومفهوم الشرط حجة كما هو مقرر في أصول الفقه، وإذا فالآية تدل على عدم وجوب الصوم في السفر بكل منطوقها ومفهومها.

ثالثها: ان قوله عز وجل: ﴿... فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...﴾12 تقديره فعليه عدة من أيام أخر، هذا إذا قرأت الآية برفع

149

عدة، وإن قرأتها بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر، وعلى كل فالآية توجب صوم أيام أخر، وهذا يقتضي وجوب افطار أيام السفر إذ لا قائل بالجمع بين الصوم والقضاء، على أن الجمع ينافي اليسر المدلول عليه بالآية.

رابعها: قوله تعالى: ﴿... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...﴾13، واليسر هنا إنما هو الافطار كما أن العسر هنا ليس إلاَّ الصوم، وإذاً فمعنى الآية يريد الله منكم الافطار ولا يريد منكم الصوم.

قدر السفر المقتضي للتقصير والإفطار

اختلف أئمة المسلمين في تقديره، فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم سفر ثلاثة أيام وان القصر والإفطار إنما هما لمن سافر من أفق إلى أفق14.

وقال الشافعي ومالك وأحمد وجماعة كثيرون: تقصر الصلاة ويفطر في شهر رمضان بقطع مسافة تبلغ ستة عشر فرسخا ذهابا فقط15.

وقال أهل الظاهر: القصر والإفطار في كل سفر حتى القريب.

قال ابن رشد:" في صلاة السفر من البداية والنهاية ": والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من التقصير والإفطار في السفر للفظ المنقول في هذا الباب، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر والإفطار أنه لكان المشقة فيه، وإذا كان الأمر على ذلك فإنما يكونان حيث

150

تكون المشقة، وعند أبي حنيفة لا تكون المشقة إلاَّ بقطع ثلاث مراحل، وعند الشافعي ومالك وأحمد تكون بقطع ستة عشر فرسخاً قال: وأما من لا يراعي في ذلك إلأ اللفظ فقط كأهل الظاهر فقد قالوا: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على أن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة فكل من أطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر قال: وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلاً.

وعلى هذا فإن أئمة المذاهب الأربعة لم يستندوا فيما حدوده من المسافة إلى دليل من أقوال النبي أو أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما استندوا إلى فلسفة أطلقوا عليها (المعنى المعقول ) وذلك ما لا يرتضيه أئمة أهل البيت ولا تطمئن إليه الامامية في استنباط الأحكام الشرعية.

وكان أهل مكة - على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر - إذ خرجوا من مكة إلى عرفات يقصرون في عرفات والمزدلفة ومنى وهذا ثابت لا ريب فيه.

وأخرج الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج من مكة إلى عرفات قصر، وأن أبا بكر وعمر قصرا بعده. وان عثمان قصر أيضاً ثم أتم صلاته بعد ست سنين مضت من خلافته فأنكر الناس عليه16، وهذا هو

151

مستند الامام مالك من قوله بأن تقصير الحجاج في هذه الأماكن سنة مؤكدة سواء في ذلك أهل مكة وأهل الاقطار النائية، فراجع فقه المالكية17، وهذا مستندنا في التقصير بسفر مسافته ثمانية فراسخ سواء أكانت امتدادية أو كانت ملفقة من أربعة في الذهاب أو أربعة في الإياب، كالمسافة بين مكة وعرفات، وهي أقل مسافة قصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها الصلاة، وانها لحجة بالغة والحمد لله.
152

هوامش
1- سورة النساء:101
2- سورة الأحزاب:21
3- سورة البقرة:185
4- أجمع الحنفية على أن قصر الصلاة واجب على المسافر ولا يجوز له الإتمام، فإذا أتم صلاته اعتبروه آثما لتأخير السلام عن نهاية القعود المفروض وهو القعود الأول في هذه الحال، ومع ذلك فهو متنفل عندهم بالركعتين الأخيرتين، لأن الفرض إنما هو الركعتان الأوليان، ولذا يحكمون ببطلان الصلاة إن ترك القعود الأول في هذه الصورة لأنه ترك فرضا من فرائض الصلاة.
5- سورة النساء:101
6- سورة البقرة:158
7- إذا كانت صلاة السفر ركعتين وكانت بالركعتين تماما غير قصر وكان ذلك كله على لسان نبينا بشهادة عمر فكيف يصح آن تكون رباعية ؟ وهل تصح العبادة إذا وقعت على خلاف ما شرعها الله عز وجل.
8- سورة النساء:101.
9- سورة البقرة:185.
10- سورة البقرة:185.
11- سورة البقرة:185.
12- سورة البقرة:185.
13- سورة البقرة:185.
14- نقل ابن رشد عنهم هذا في كتابه البداية والنهاية.
15- هذه المسافة تساوي ثمانين كيلو ونصف كيلو ومائة وأربعين متراً مسيرة يوم وليلة بسير الابل المحملة بالأثقال سيراً معتدلاً، ولا يضر عندهم نقصان المسافة عن المقدار المبين بشيء قليل كميل أو ميلين.
16- تجد ذلك كله في باب الصلاة بمنى وهو أحد أبواب التقصير وأحد أبواب الحج من الجزء الأول من صحيح البخاريوتجده في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من صحيح مسلم. وتجد في ص 178 من كتاب الاستاذ الدكتور طه حسين - الفتنة الكبرى -ما هذا لفظه: ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته وذلك حين أتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشيخان وقصرها عثمان أيضاً أعواماً، وقد ذعر المسلمون حقاً حين أتم عثمان الصلاة في منى، فسعى بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض، ثم= أقبل عبد الرحمن بن عوف على عشان فقال له: ألم تصل هما مع النبي ركعتين ؟ قال عثمان: بلى. فقال عبد الرحمن: ألم تصل مع أبي بكر وعمر ركعتين ؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: ألم تصل أنت بالناس هنا ركعتين ؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: فما هذا الحدث الذي أحدثته ؟ قال عثمان: فإني قد بلغني أن الأعراب والجفاة من أهل اليمن يقولون ان صلاة المقيم اثنتان، فأجابه عبد الرحمن بأن خوفك على الأعراف والجفاة في غير محله إذ صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ولم يكن الإسلام قد فشا بعدو، الآن قد ضرب الاسلام بجرانه فما ينبغي لك أن تخاف.
17- وقد نقله النووي عن مالك في شرحه لصحيح مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها