الشيخ عباس محمد
11-09-2017, 05:50 PM
شبهات وردود واسئلة واجوبة في اية التطهير
السؤال: في من نزلت آية التطهير
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على رسول الله، اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد وآل محمّد.
أُريد أن أستعلم من سيادتكم عن شيء مهم جداً وهو خاص بآية التطهير، فآية التطهير: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) في سورة الأحزاب، قد وضع الله عزّ وجلّ قبلها وبعدها آيات تخاطب نساء النبيّ وأزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكمثل ما عوّدتمونا أن نتدبّر آيات القرآن، فهل هذا يدلّ على أنّ زوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أهل البيت؟
على الرغم من ذلك وجدت في كتب أهل السُنّة، وفي البخاري حديث نبوي معناه: أنّ أهل البيت هم: النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفاطمة والحسن والحسين ومولانا أمير المؤمنين(عليهم السلام).
الجواب:
نقول: ممّا أجمع عليه أهل النقل من المسلمين كافّة أنّ آية التطهير قد نزلت لوحدها منفردة دون ما قبلها وما بعدها، وهذا شيء متّفق عليه(1), فمن هنا يبطل القول بأنّها نازلة في خصوص النساء؛ لورود سبب نزول صحيح عند الجميع، وهو: أنّها نزلت في أصحاب الكساء(عليهم السلام).
وكذلك يبطل القول بأنّها نازلة في الاثنين معاً: النساء وأصحاب الكساء(عليهم السلام)؛ لعدم ذكرهنّ في سبب النزول, وعدم إدخال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمّ سلمة مع طلبها لذلك، على الرغم من فضيلتها وعظمتها التي لا تنكر.
وأمّا من يحتجّ على دخول النساء بمسألة السياق, فالسياق لا يُستدلّ به مع ورود سبب نزول بخلافه.
وكذلك فإنّ السياق قد هُدم بمجيء ضمير التذكير خلافاً لما قبلها ولما بعدها, فيكون الخطاب حينئذ غير متوجّه لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قطعاً، مهما كانت تأويلاتهم لضمير التذكير في (( عَنكُمُ )), (( وَيُطَهِّرَكُم )), فلو أراد الله تعالى إبقاء السياق في الكلام مع النساء لَما أعرض عن ضمير التأنيث إلى التذكير؛ فإنّ ذلك يهدم السياق ويوهم السامع.
وعلى كلّ حال فإنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي يبيّن سبب النزول حتى تعرف الأُمّة المراد؛ فقد قال تعالى: (( وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم )) (النحل:44), فالنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضّح نزول آية التطهير لوحدها دون ما قبلها وما بعدها, وكذلك بيّن حصر أهل البيت المقصودين في آية التطهير، قولاً وفعلاً، بحصرهم في الكساء وقوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي...)، كما خصّهم الله تعالى بذلك بقوله: (( إِنَّمَا )).
ونكتفي لتأكيد قولنا هذا، بقول أبي المحاسن الحنفي في كتابه (معتصر المختصر)، وهو من علماء السُنّة؛ إذ قال فيه: ((والكلام لخطاب أزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تم إلى قوله:(( وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ )) (الأحزاب:33), وقوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) استئناف تشريفاً لأهل البيت وترفيعاًَ لمقدارهم؛ ألا ترى أنّه جاء على خطاب المذكر فقال: (( عَنكُمُ )) ولم يقل: (عنكن)؟! فلا حجّة لأحد في إدخال الأزواج في هذه الآية..
يدلّ عليه: ما روي أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا أصبح أتى باب فاطمة فقال: (السلام عليكم أهل البيت، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً )))(2). انتهى كلامه؛ فإنّه كلام حقّ قلَّ من نطق به.
وأخيراً، فلعلّ وضع النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهذه الآية وسط آيات خطاب الله تعالى ورسوله لنساءه (قبلها وبعدها)، إنّما كان للتمييز فيما بين نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام)، المتماثلين بالقرب منه، والصلة به، والملاصقة له(صلّى الله عليه وآله وسلّم)..
فنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد طُلب منهنّ الالتزام بأوامر الله تعالى، والحذر من مخالفتها؛ فإنّهن لسن كغيرهنّ من النساء، فيجب عليهنّ الالتزام أكثر من غيرهنّ, لأنّهنّ لا يمثّلن أنفسهنّ فحسب، وإنّما ينتمين إلى النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويُحسبن عليه, فيجب عليهنّ عدم الإساءة إليه بتصرفاتهنّ غير المسؤولة..
فقد قال الله تعالى: (( وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ )) (الأحزاب:34)، أي: تذكّرن وانتبهن للتعاليم التي خرجت إلى الناس من بيوتكنّ، فأنتنّ أولى بتذكّرها وذكرها, وذلك بعد تخييرهنّ واختيارهنّ الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فكأنّ تلك الآيات الشريفة شروط وخطوط يبيّنها الله تعالى لهنّ، وأوجبها عليهن.
أمّا الخطاب الذي ذكر أهل البيت(عليهم السلام) فكان خطاباًً يختلف عن ذلك الخطاب المتوجّه إلى نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ فأهل البيت(عليهم السلام) ذكروا في هذه الآية مدحاً، ورفعاً لشأنهم، كما قال أبو المحاسن، ودون قيد أو شرط, فيكون ذكر شطري قرابة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبيان حالهم والتمييز بينهم.
وبيان حالهم نكتة لطيفة من الله تعالى في جمعهم بمكان واحد؛ فقد يساء لأهل البيت(عليهم السلام) بالفهم الخاطئ بسبب التنديد الوارد في النساء ومطالبتهنّ بالإلتزام وتذكّر أحكام الله، وعدم إيذاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتضييق عليه، فيدخلهم في ذلك التخيير من الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنّه يشملهم وأنّهم مطالبون بتذكر آيات الله وعدم مخالفتها, فلذا جيئ بهذه الجملة المعترضة والآية الكريمة في وسط ذلك الجو لينزه أهل البيت(عليهم السلام) عن ذلك العتاب وذلك الإلزام وتلك الشروط, ويدفع ذلك التوهم بمدحهم مدحاً عظيماً مؤكداً ومخصصاًً لهم بذلك الفضل دون من سواهم, والله العالم.
وأمّا ما ذكرته عن البخاري، فغير دقيق؛ لأنّ البخاري لم يروِ حديث الكساء، وإنّما رواه مسلم.
(1) انظر: مسند أحمد 6: 292 حديث أُمّ سلمة زوج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، صحيح مسلم 7: 130 باب (فضائل أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم))، سنن الترمذي 5: 30 سورة الأحزاب، المستدرك على الصحيحين 2: 416 تفسير سورة الأحزاب، السنن الكبرى للبيهقي 2: 149 باب (أهل بيته الذين هم آله).
ولفط رواية أحمد: ((حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبد الملك، يعنى: ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: حدّثني من سمع أُمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعى زوجك وابنيك. قالت: فجاء عليّ والحسين والحسن فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أُصلّي في الحجرة، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: (إنّك إلى خير، إنّك إلى خير))).
(2) معتصر المختصر 2: 267، في باب أهل البيت.
السؤال: تغاير آيتي التطهير والتخيير في سبب ووقت النزول
ارجو بيان ما يلي :
1- تاريخ نزول الايات المتحدّثة عن ازواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سورة الأحزاب: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا )) (الأحزاب:28)، الى قوله تعالى: (( وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا )) (الأحزاب:34).
2- تاريخ نزول مقطع التطهير في هذه الآيات: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا )) (لأحزاب: 33).
3- سبب النزول لكلي الآيتين: آيات نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومقطع التطهير.
الجواب:
لا شكّ أنّ هناك مغايرة في سبب نزول آية التخيير وآية التطهير، فالسبب الذي يذكروه لآية التخيير هو: أنّ نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سألنه شيئاً من الدنيا، ولم يكن عنده، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهنّ من بعض فانزل الله تعالى آية التخيير(1).
وقال الشامي في (سبيل الهدى والرشاد): ((إنّ نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سألنه في عرض الدنيا ومتاعها أشياء، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهنّ من بعض، فهجرهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآلى على نفسه، أي: حلف، لا يقربهنّ شهراً، ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا: ما شأنه؟ وكانوا يقولون: طلّق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر: لأعلمنّ لكم شأنه...)(2).
وقيل في زمن نزول آية التخيير: أنّه حصل بعد الفتح، كما أشار إلى ذلك المقريزي في (إمتاع الاسماع)(3).
أمّا آية التطهير فكان نزولها في بيت أُمّ سلمة أو فاطمة(عليها السلام) عندما جمع الحسن والحسين وعليّ وفاطمة معه صلوات الله عليهم أجمعين تحت الكساء، لذا لا شك في اختلاف الواقعتين وإن صعب تحديد أيّهما الأسبق.
(1) انظر: تفسير السمعاني 4/275 قوله تعالى: (أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ...).
(2) سبل الهدى والرشاد للشامي 9/62 جامع أبواب سيرته الباب(4).
(3) إمتاع الأسماع 13/72 فصل في ذكر خصائص رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الواجب المتعلّق بالنكاح
رد على إشكالات بعض الوهابية على الآية
بطلان استدلال الشيعة بحديث الكساء على إمامة عليّ وعصمة آل البيت
ومن الأدلّة التي يستدلون بها على الإمامة: آية التطهير، وآية التطهير هي قوله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33).
يقولون: إنّ أهل البيت هم: عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ بدلالة حديث الكساء.
حديث الكساء: ترويه أُمّ المؤمنين عائشة التي يزعمون أنّها تبغض آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا الحديث يخرجه الإمام مسلم، الذي يزعمون أنّه يكتم أحاديث في فضائل آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
عائشة تروي: أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاءه عليّ فأدخله في عباءته - أي: في كسائه - ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاءه الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جلّلهم - أي: غطّاهم - صلوات الله وسلامه عليه بالكساء، ثم قال: (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)، فقالوا: هذا الحديث يفسر الآية، وهي قول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )).
ثم الاستدلال الآخر: وهو أنّ إذهاب الرجس والتطهير أي (يعني) العصمة، فيكونون بذلك معصومين، ويكون عليّ رضي الله عنه معصوماً، وكذا الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فإذا كان الأمر كذلك فهم إذاً أوّلى بالإمامة من غيرهم، ثم أخرجوا فاطمة رضي الله عنها، وقالوا: إنّ الإمامة في عليّ والحسن والحسين، ثم في أولاد الحسين، كما هو معلوم عند الكثيرين.
هذه الآية، هل هي فعلاً في عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أو في غيرهم؟
اقرؤوا ما قبل هذه الآية، تدبّروا القرآن، فنحن لا نريد أكثر من ذلك، أفليس الله تبارك وتعالى يقول: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا )) (محمد:24)؟ ويقول: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلافاً كَثِيراً )) (النساء:82)؟ إنّ هذا الخطاب من الله جلّ وعلا ليس متوجّهاً فقط إلى أُناس معنيين هم الذين يحقّ لهم أن يتدبّروا القرآن، بل إنّ الله تعالى يطلب من جميع المسلمين - بل ومن غير المسلمين - أن يتدبّروا القرآن، ويتعرّفوا على الله جلّ وعلا من خلال هذا القرآن؛ فإنّهم إذا قرؤوا القرآن وتدبّروه وعرفوه حقّ المعرفة وعرفوا قدره ومكانته لن يجدوا بُدّاً من الانصياع إليه واتّباعه والإقرار بكماله وحسن رصّه، وغير ذلك من الأمور.
كذلك الأمر هنا، نحن لا نريد منكم أكثر من أن تتدبّروا القرآن - أنا أعنيكم يا عوام الشيعة - دعوا علماءكم جانباً، ارجعوا إلى كتاب ربّكم جلّ وعلا واقرؤوه، وافتحوا هذا القرآن الكريم، على سورة الأحزاب، فعندما نفتح الآن على سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين، سنجد أنّ الله تبارك وتعالى يقول: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلمُحسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجراً عَظِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَف لَهَا العَذَابُ ضِعفَينِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقنُت مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعمَل صَالِحاً نُؤتِهَا أَجرَهَا مَرَّتَينِ وَأَعتَدنَا لَهَا رِزقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي فِي قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلنَ قَولاً مَعرُوفاً * وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً * وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً )) (الأحزاب:28-34).
نجد أنّ كلّ الآيات متناسقة، آيات في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يقول الله: (( يَا نسَاءَ النبيّ )), (( وَقَرنَ في بيوتكنَّ وَلا تَبَرَّجنَ ))، ثم قال: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً * وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ))، فنجد الآيات في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فكيف لأحد أن يدّعي بعد ذلك أنّ هذه الآية، بل هذا المقطع من الآية - لأنّ قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) ليست آية إنّما هي جزء من آية (( وَقَرنَ في بيوتكنَّ ))، تلكم الآية - فكيف تقبلون في كلام الله جلّ وعلا أن يكون الخطاب لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا ))، ثم يقول: (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ))... (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي فِي قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلنَ قَولاً مَعرُوفاً * وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))، يا عليّ.. يا فاطمة.. يا حسين! ثم يعود مرّة ثانية: (( وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ))؟
ما الذي أدخل عليّاً والحسن الحسين وفاطمة في خطاب موجّه لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
ما مناسبة هذه الفقرة بين هذه الآيات؟ لا توجد مناسبة.
ماذا علينا أن نفعل؟ هل نطعن في كلام الله، أو نطعن في الذين فهموا هذا الفهم وادّعوا دعوى غير صحيحة؛ لأنّ قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))؟
نقول: هذه دعوى باطلة، فهذه في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لذلك كان مجاهد رحمه الله تعالى - مجاهد بن جبر - يقول: ((هي في نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن شاء باهلته)) - أي في هذه الآية- .
- من هم آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
القصد، هذه الآية هي في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحديث الكساء لعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وبهذا نجمع بين الأمرين: أنّ عليّاً وفاطمة، والحسن والحسين من آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بدليل حديث الكساء، وأزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والدليل الآيات المذكورة سابقاً.
وغيرهم يدخل أيضاً في آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كـالفضل بن العبّاس، والمطّلب بن ربيعة بن الحارث ابن عم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ وذلك لأنّه لمّا منعهما من الزكاة أن يكونا عاملين عليها وقال: (إنّها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد)..
ويدخل كذلك في آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): آل جعفر، وآل عقيل، وآل العبّاس، بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه.
فَقَصر هذه الآية على عليّ والحسن والحسين وفاطمة، لا يستقيم معه نص الآية، ولذلك نقول: إنّ هذا القول مردود.
- حلّ إشكال ورد شبهة:
هنا إشكال وهو: إذا كان الأمر كذلك؛ وهي في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فما مفهوم: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ )) ولم يقل: عنكنّ؟ وهذا هو الذي يدندنون عليه!
لماذا قال: (عنكم)، ولم يقل: عنكن؟ وهذه قد ذكر أهل العلم لها معان كثيرة، منها:
أوّلاً - وهو أصح هذه الأقوال -: إنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) داخل معهنّ، وذلك أنّ الخطاب كان للنساء، ثم لمّا تكلّم على البيت دخل سيّد البيت، وهو: محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإذا دخل صلوات الله وسلامه عليه مع النساء في الخطاب، فطبيعي جداً أن تُلغى نون النسوة وتأتي بدلها ميم الجمع: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ ))، أي: يا نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعكنّ سيدكنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وتصحّ أيضاً لِما قال الله تبارك وتعالى عن إمرأة إبراهيم: (( رَحمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ )) (هود:73) وهي إمرأة إبراهيم، لم جاء بميم الجمع هنا: (عليكم) ولم يقل: (عليكنّ)، ولا (عليك) أيضاً؟ وإنّما (عليكم) يريد أهل البيت، يريد مراعاة اللفظ، واللفظ: (أهل).
وعلى كلّ حال؛ إنّ نون النسوة هنا لم يؤت بها؛ لأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل معهنّ.
- عدم دلالة آية التطهير على عصمة آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم):
كذلك بالنسبة للتطهير، الله سبحانه يريد أن يذهب الرجس، ويريد أن يطهّر سبحانه وتعالى، فهل هم مطهّرون خلقة، أو يريد الله الآن أن يطهّرهم؟
القوم يدّعون أنّهم مطهّرون خلقة - أي: خلقوا مطهّرون - فإذا كانوا خلقوا مطهّرين فما معنى قوله سبحانه وتعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ )) بعد أوامر ونواه؟ قال: يريد أن يذهب عنكم الرجس - أي: طهّركم وأذهب عنكم الرجس -؟
إذاً: ما معنى حديث الكساء، وهو: (أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جلّلهم بالكساء، ثم قال: اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)، لماذا يدعو؟ وبماذا يدعو.. بإذهاب الرجس الذي هو أصلاً ذاهب عنهم؛ لأنّهم مطهّرون خلقة؟! فكيف النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلب من الله أن يذهب عنهم الرجس؟ تحصيل حاصل لا ينبغي أن يكون من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إذاً هذه الآية لا تدلّ على العصمة، كيف تدلّ على العصمة وعليّ رضي الله عنه يقول: (وإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ، ولا آمن من أن يقع منّي ذلك)، يقول ذلك في الكافي الجزء الثامن صفحة (293)؟
ويقول للحسن ابنه: (ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم)، وهذا في نهج البلاغة صفحة (576).. وقال له أيضاً: (فاعلم أنّك إنّما تخبط خبط العشواء، وتتورّط الظناء)، وهذا في نهج البلاغة صفحة (577).. وقال له كذلك: (فإن أشكل عليك من ذلك - يعني أمر - فاحمله على جهالتك به، فإنّك أوّل ما خلقت جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضلّ فيه بصرك)، وهذا في نهج البلاغة صفحة (578).
وهذا من يسمّونه بـ((الشهيد الثاني)): زين الدين بن علي العاملي، يقول: ((فإنّ كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون بعصمتهم لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنّهم علماء أبرار))، وهذا في حقائق الإيمان صفحة: (151).
- معنى الرجس:
يقول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ ))، ما هو الرجس؟
الرجس: قال أهل اللغة: هو القذر.. الذنب.. الإثم.. الفسق.. الشك..الشرك.. الشيطان، كلّ هذا يدخل في مسمّى الرجس.
وردت كلمة الرجس في القرآن في مواضع عدّة، فقد وردت في قول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ )) (المائدة:90).
وقال تعالى: (( كَذَلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ )) (الأنعام:125).
وقال سبحانه وتعالى: (( قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيتَةً أَو دَماً مَسفُوحاً أَو لَحمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ أَو فِسقاً أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ )) (الأنعام:145).
وكذلك يقول سبحانه وتعالى على الكفار من اليهود: (( قَالَ قَد وَقَعَ عَلَيكُم مِن رَبِّكُم رِجسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسمَاءٍ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ )) (الأعراف:71).
ويقول تعالى: (( سَيَحلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُم إِذَا انقَلَبتُم إِلَيهِم لِتُعرِضُوا عَنهُم فَأَعرِضُوا عَنهُم إِنَّهُم رِجسٌ )) (التوبة:95).
وجاءت آيات أُخرى تبيّن معنى الرجس، وهو: الإثم.. الذنب.. القذر..الشك.. الشيطان.. الشرك، وما شابهها من المعاني؛ ولذلك جاء عن جعفر الصادق رضي الله عنه ورحمه، أنّه قال: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ ))، قال: هو الشك, وقال الباقر: (الرجس: هو الشك، والله).
الجواب:
هذه الشبهات المطروحة ليست جديدة، وقد تقوّلها عثمان الخميس في كتاب (حقبة من التاريخ) منذ سنين، ونحن نجيب عليها بالإضافة إلى ما أُجيب عنها سابقاً:
ما ذنب الشيعة والأحاديث الصحيحة صريحة في هذا المعنى المتنازع عليه، بأنّ أهل البيت هم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، بالإضافة إلى سيد البيت النبيّ المصطفى(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!
فهذه رواية عائشة في مسلم(1) التي حكت فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأصحاب الكساء(عليهم السلام) ثم تلاوته لآية التطهير من سورة الأحزاب، تعاضدها النصوص الصحيحة التي رواها أئمّة السنن والآثار، حين نقلوا قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبطرق مختلفة: (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي) حين جلّلهم بالكساء، وحين قرأ آية التطهير عليهم خاصّة..
وهذا اللفظ منه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفيد الحصر وتعيين المذكورين فقط بأنّّهم أهل البيت دون غيرهم. وقد نصَّ العلماء بأنّ تعريف الجزءين (هؤلاء، أهل بيتي)يفيد الحصر(2).
وقد صرّح جمع من علماء أهل السُنّة بهذا المعنى أيضاً، أيّ: بأنّ المراد بأهل البيت هم: أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم، وفي هذا يقول الحاكم النيسابوري في كتابه، بعد أن ذكر جملة من الأخبار والروايات الصحيحة على شرط الشيخين، الصريحة في أنّ أهل البيت هم خصوص أصحاب الكساء(عليهم السلام) فقط، وأنّهم أيضاً المرادون بمصطلح: (آل محمّد)، دون غيرهم، قال بعد إيراده لحديث كيفية الصلاة على أهل البيت: ((وإنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم))(3).
وفي هذا المعنى أيضاً يقول الآلوسي صاحب التفسير: ((وأخبار إدخاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً وفاطمة وابنيهما(رضي الله تعالى عنهم)، تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي) ودعائه لهم، وعدم إدخال أُمّ سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصّصة لعموم أهل البيت بأيّ معنى كان البيت، فالمراد بهم: من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) )) (4).
وأمّا الجواب على الاحتجاج بوحدة السياق، وأنّ هذه الآية الكريمة وردت ضمن آيات جاءت تتحدّث عن نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيكون المراد بأنّهنّ المقصودات بهذه الآية الكريمة، بالإضافة إلى النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لمحلّ التذكير في الضمائر (عنكم)، الذي يستفاد منه الشمول للذكر والأنثى..
فنقول: إنَّ من الضروري للاستدلال بوحدة السياق لهذه الآيات، بل وللاستدلال بها في كلّ آيات القرآن الكريم إثبات نزول الآيات المستدلّ بها دفعة واحدة، وفي مناسبة واحدة، ليكون بعضها قرينة على بعضها الآخر، وأمّا احتمال تعدّد الكلام في مناسبات مختلفة، فهو ينسف الاستدلال بوحدة السياق، ولا يمكن إثبات المدّعى في هذا المقام وفي كلّ مقام..
ومن المعلوم أنّ ترتيب الآيات القرآنية في المصحف الشريف لم يكن بحسب التسلسل الزمني لنزولها، فرُبّ آية مدنية وضعت بين آيات مكّية وبالعكس..، وهذا الأمر يمكن ملاحظته بأدنى مراجعة لأسباب نزول الآيات التي ذكرها العلماء في الكتب الخاصّة بهذا الشأن.
وفي مقامنا: من العسير جداً إثبات نزول آية التطهير (وهي الآية 33 من سورة الأحزاب) مع الآيات الواردة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل هناك من الأدلة ما يشير إلى نزول آية التطهير قبل آيات نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قال السيوطي: ((أخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: لمّا دخل عليّ(رضي الله عنه) بفاطمة رضي الله عنها جاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أربعين صباحاً إلى بابها يقول: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، الصلاة رحمكم الله، (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )), أنا حرب لما حاربتم، وأنا سلم لمن سالمتم) ))(5).
فإذا علمنا أنّ زواج فاطمة(عليها السلام) من عليّ(عليه السلام)كان بعد رجوع النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة، كما يروي ذلك أبو الفرج الأصفهاني(6)، أو على رأس اثنين وعشرين شهراً من الهجرة، بحسب رواية الطبري عن الواقدي(7)..
وعلمنا أيضاً أنّ نزول الآيات المرتبطة بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان بعد زواج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمجموعة منهنّ، بل ذهب بعض المفسّرين إلى كونهنّ تسعة عند نزول هذه الآيات(8)، ولم يختلف أحد في وجود (حفصة) آنذاك، وأنّها من جملة النساء اللآتي خيّرهنَّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين الدنيا والآخرة.. وقد صرّح الطبري وغيره أنّ زواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حفصة كان في السنة الثالثة من الهجرة قبل الخروج إلى أُحد(9)، أي أنّه متأخّر عن زواج فاطمة(عليها السلام) بما يقارب السنة الواحدة..
فيتبيّن لنا من ملاحظة هذين الأمرين - أي: من تاريخ زواج عليّ من فاطمة(عليهما السلام)، وتاريخ زواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حفصة - أنّه لا يمكن المصير إلى القول بأنّ آية التطهير قد نزلت دفعت واحدة مع آيات نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهذا الإشكال الوارد على وحدة السياق لهذه الآية مع تلك الآيات إن ثبت على نحو الجزم، فهو مانع من الاستدلال به في المقام، وإن لم يثبت على نحو الجزم، فلا أقل من كونه احتمالاً مانعاً من تمامية الاستدلال بوحدة السياق في المقام.
وأيضاً يوجد هناك أمران آخران يمنعان من الاستدلال بوحدة السياق لهذه الآيات الكريمات:
الأوّل: عدم وحدة الخطاب بينها، أي بين آيات النساء وآية التطهير، فالملاحظ أنّ المولى سبحانه أرجع الإرادة في آيات النساء إليهن لا إليه عزّ وجلّ، إذ قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا... وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ )) (الأحزاب:28-30)، بينما في آية التطهير كان الخطاب يحكي عن تعلّق الإرادة الإلهية ذاتها بالتطهير وإذهاب الرجس عن أهل البيت(عليهم السلام)، فقد قال تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33).
الثاني: إنّ آيات النساء وردت في سياق الزجر والتحذير، بينما آية التطهير - بالاتّفاق - قد وردت في سياق المدح والتفضيل، وشتّان بين السياقين إذا اعتبرنا أنّ المخاطب في كلا الموردين واحد وليس متعدّداً.
وبشكل عام لكي يتم الاحتجاج بوحدة السياق بين آيات ما، في القرآن الكريم، يحتاج إلى شيئين: الأوّل: الوحدة في النزول، الثاني: الوحدة في الخطاب.. وهما مفقودان في المقام.
وأمّا دعوى أنّ مجاهد بن جبر كان يقول: ((هي في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن شاء باهلته)).. فالصحيح أنّ هذا الرأي هو لعكرمة مولى ابن عبّاس، كان يجاهر به، وينادي به في الأسواق.
وعكرمة معروف بإنحرافه عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل بيته؛ لأنّه كان يرى رأي الخوارج، والنصب ظاهر من كلماته وألفاظه في هذه المسألة، وإلاّ.. فأيّ شيء يستدعي إجراء المباهلة لغرض بيان تفسير آية من آيات القرآن، أنّها نزلت في فلان دون فلان سوى النصب والعداء الذي كانت تجاهر به الخوارج تجاه أمير المؤمنين(عليه السلام) خاصّة، وأهل البيت(عليهم السلام) عامّة، وبالذات رأي نجدة الحروري - الذي كان عكرمة يرى رأيه - الذي يُعدّ أشدّ الآراء بغضاً لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، بالإضافة إلى تكفير جميع المسلمين من غير الخوارج.
وقد اشتهر عن عكرمة أيضاً كذبه ووضعه للحديث، لذا وصفه يحيى بن سعيد الأنصاري بأنّه: كذّاب(10)، فمن المعيب، بل من الإجحاف الركون إلى هذا الرأي الصادر عن هذا الكذّاب الناصبي، وترك تلك النصوص الصريحة المستفيضة الصادرة عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تفسير آية التطهير بالخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم..
مع أنّ في قوله - أي عكرمة - دلالة على أنّ المسلمين كافّة كانوا على خلاف في ذلك، ولذلك كان يقول: ((ليس ما تذهبون إليه...)) ثم يطلب المباهلة(11).
وفي دعوى عود ضمير الجمع (( عَنكُمُ.. يُطَهِّرَكُم )) إلى ما يشمل الذكور - النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - بالإضافة للزوجات، وأنّه جاء على لسان الخطاب مع زوجة إبراهيم(عليه السلام) في قوله تعالى: (( أَتَعجَبِينَ مِن أَمرِ اللَّهِ رَحمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ )) (هود:73).
نقول: إنّ استفهام الملائكة من تعجّب سارة زوجة إبراهيم(عليه السلام) إنّما كان لقرابتها منه(عليه السلام) ولاصطفائها، وهذا المعنى يتطابق مع الواقع الخارجي لسارة - لكونها ابنة عم إبراهيم(عليه السلام) - وأيضاً مع المدلول اللغوي لكلمة (أهل بيت الرجل)، التي نصّ اللغويون على أنّ المراد منها: ذو قرباه ومن يجمعه وإياهم نسب(12) - أي قربى الرجل الذي نسبوا على أنّهم من أهل بيته - ولا شك أنّ الإرتباط مع الرجل بوشيجة النسب أخصّ منه في وشيجة السبب - كالزواج وغيره - ..
على هذا يكون الخطاب في (الآية 73 من سورة هود) شاهداً على أنّ المراد بأهل البيت في (آية التطهير 33 من سورة الأحزاب) هم: المرتبطون بالنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حيث النسب لا من حيث السبب، كما هو الشأن في سارة زوجة إبراهيم(عليه السلام) المرتبطة بإبراهيم(عليه السلام)، من حيث النسب والسبب معاً لا بالسبب وحده.
ولو سلّم شمول آية التطهير لزوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإستناد إلى عموم اللفظ..
نقول: قد خُصّص هذا العموم بالأحاديث الصحيحة المتضافرة من السُنّة الشريفة بأنّ المراد بـ (أهل البيت) في الآية الكريمة هم: الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم.. فلا يتم مطلوب المناهض لهذا الرأي على أيّة حال.
وأيضاً الاستدلال بأنّ أهل البيت يشمل آل جعفر وآل عقيل وآل العبّاس - كما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم(13) - لا يعدو أن يكون رأياً لزيد رآه لا يقوى على مناهضة الأحاديث الصحيحة الصريحة الواردة عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، التي فسّرت أهل البيت بالخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم.
وهذا الرأي لزيد يمكن الاستدلال به على نفي أنّ المراد بأهل البيت: نساؤه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)! فإنّ لزيد بن أرقم في هذه المسألة روايتان، في واحدة منها ينفي أن يكون المراد بأهل بيته: نساؤه، وفي الثانية يثبت فيها أنّ أهل بيته هم: من حرم الصدقة بعده، بالإضافة إلى إثباته بأنّ نساءه من أهل بيته، وقد يبدو التعارض والتناقض بين الروايتين!
ومن هنا قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: ((وأمّا قوله في الرواية الأُخرى: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة. قال: وفي الرواية الأُخرى: فقلنا مَن أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنّه قال: نساؤه لسن من أهل بيته، فتتأوّل الرواية الأُولى على أنّ المراد أنهنّ من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم... ولايدخلن فيمن حرم الصدقة))(14).
فالملاحظ من هذا الشرح أنّ الرواية المعروفة والمشهورة عن زيد أنّ نساءه لسن من أهل بيته, ولكن لورودها في صحيح مسلم على خلاف المعروف والمشهور - كما أشار النووي في شرحه - احتاجت إلى التأويل!
وقد فصل زيد بين أهل البيت بمعنيين: بين من يسكن معه في بيت واحد ويعولهم, وبين من حرم الصدقة بعده, فالمراد بأهل البيت في الحديث - الذي يرويه زيد - هم: مَن حرم الصدقة بعده، وهو المعنى الذي أراد بيانه ونصّ عليه شارح مسلم النووي..
ومن المعلوم أنّ نساءه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تحرم عليهن الصدقة بالإجماع، إذاً هنَّ لسن المرادات من مفهوم (أهل البيت) الوارد في حديث الثـقلين، وكذلك في آية التطهير، بل في كلّ الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
وأمّا التساؤل عن معنى قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) بعد أوامر ونواه: فهو أمر قد تبيّن حاله من الأجوبة السابقة، بأنّ آية التطهير لم يكن نزولها مع آيات النساء والمشتملة على تلك الأوامر والنواهي، وهو الأمر الذي اعتبرناه مؤشراً واضحاً على اختلاف السياقين، وأنّ سياق (آية التطهير) هو سياق المدح والثناء، وهو الذي فهمه كلّ العلماء والمحدّثين، فأوردوا الأحاديث التي وردت فيها هذه الآية بحقّ أهل البيت(عليهم السلام) في باب مناقبهم وفضائلهم.. فتدبّر!
وكذلك الإتيان بلفظة (( يُرِيدُ )) في الآية لا تدلّ على وقوع المراد في المستقبل فقط، إذ يمكن أن يؤتى بصيغة الاستقبال ويراد بها الماضي والحال، كما في قوله تعالى: (( إنَّمَا يريد الشَّيطَان أَن يوقعَ بَينَكم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمر وَالمَيسر )) (المائدة:91)، مع أنّ الشيطان قد أوقع العداوة في الماضي بسبب الخمر، فلا تدلّ الآية على إرادة الوقوع في المستقبل فقط، مع أنّ اللفظ جاء بصيغة الاستقبال..، وأيضاً قوله تعالى: (( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم )) (النساء:28), فالإرادة فيه للحال لا للاستقبال مع أنّ الصيغة صيغة استقبال.. وهكذا غيرها من الموارد المذكورة في القرآن الكريم، فراجع!
وكذلك كونه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا لهم بإذهاب الرجس والتطهير - كما في بعض نصوص هذه الروايات - لا يدلّ على أنّ الرجس كان ثابتاً عندهم والنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلب إذهابه، بل نقول: أنّ لسانه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هنا يجري مجرى قول القائل ((أذهب الله عنكم كلّ مرض)) مع أنّه لم يكن حاصلاً له أيّ مرض.
وما نُقل عن الشهيد الثاني في كتابه (حقائق الإيمان) بخفاء معنى العصمة عن كثير من أصحاب الأئمة(عليهم السلام)(15)، ليس دليلاً على عدم الدليل؛ فقد يخفى فهم الدليل على بعض ويدركه بعض آخر، وإلاّ لما دعا المولى سبحانه إلى التدبّر والتفكّر في آيات الله، وسؤال أهل الذكر، ووصف قوماً بالراسخين في العلم دون غيرهم!
وأمّا قولهم: إنّ عليّاً(عليه السلام) نفى عن نفسه العصمة، كما هو الوارد في (نهج البلاغة) أنّه قال: (وإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن من أن يقع منّي ذلك...).
نقول: هذا النصّ الوارد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة فيه استثناء يدلّ على العصمة، ولكن غالب المستشهدين به يقتطعونه لغرض التلبيس على العوام! فقد قال(عليه السلام) بالنص - كما في النسخة المحقّقة والتي علّق عليها الشيخ محمد عبده المصري -: (فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي).
قال الشيخ محمد عبده في تعليقته: ((يقول: لا آمن من الخطأ في أفعالي، إلاّ إذا كان يسّرَ الله لنفسي فعلاً هو أشد ملكاً منّي، فقد كفاني الله ذلك الفعل فأكون على أمن من الخطأ فيه))(16).
نقول: فهل كفى الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين(عليه السلام) من نفسه ما هو أملك به منه، ويسّر له فعلاً هو أشدّ ملكاً منه ينتصر به على نفسه ويأمن الخطأ في فعله، كما هو مراد الاستثناء في كلامه(عليه السلام) الذي يغض عنه الطرف المغرضون عمداً وتعمية؟!
وفي الجواب، نقول: فليرجع هؤلاء إلى (نهج البلاغة) نفسه الذي استشهدوا بهذه العبارة منه، وليستمعوا إلى أقوال أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذا الجانب وليلاحظوا العبارات التي يعبّر بها (عليه السلام) عن نفسه بما يفيد نفس معنى العصمة الذي يقول به الإمامية له(عليه السلام).
قال(عليه السلام): (وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، ومنهاج من نبّيي، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً)(17).
ويقول(عليه السلام) في كلام له وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد فسكتوا مليّاً: (لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا يهلك عليها إلاّ هالك، من استقام فإلى الجنّة، ومن زلَّ فإلى النار)(18).
ويقول(عليه السلام) في كلام له لبعض أصحابه: (فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحقّ على محضه)(19).
ويقول(عليه السلام): (ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط)(20).
ويقول(عليه السلام) في كلام له ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله وأمره ونهيه: (فوالذّي لا إله إلاّ هو أنّي لعلى جادّة الحقّ وإنّهم لعلى مزلّة الباطل)(21).
ويقول(عليه السلام) في خطبته المسمّاة بـ (القاصعة)، التي ذكر فيها قربه من النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وملازمته إياه منذ الصغر: (وكان - أيّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل)(22).
ويقول(عليه السلام) في حقّ أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولا يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، لا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا)(23).
وهكذا نجد غير هذه الكلمات والنصوص الصادرة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في (نهج البلاغة)، وهي تدلّ بشكل واضح على عصمته وعصمة أهل بيته الكرام(عليهم السلام).
وأيضاً نقول عن الشبهة الأخرى: بأنّه تحمل أقواله(عليه السلام) في وصيّته لابن الحسن(عليه السلام) على اللسان المعروف في الخطاب: (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)؛ وقد ورد هذا الخطاب من الله لنبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في موارد كثيرة في القرآن مع الجزم بعصمة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدم تصوّر اشتماله بالمضمون المخاطب به، كمثل قوله تعالى: (( لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطنَّ عَمَلُكَ )) (الزمر:65), فإنّنا نجزم بأنَّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يشرك، ولا يمكن أن نتصوّر منه الشرك، وإلاّ لما جعل نبيّاً!
وقد سبق من الله سبحانه أنّ عهد النبوّة أو الإمامة لا يناله ظالم، كما في قوله تعالى: (( لا يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة:124), والشرك يُعد ظلماً عظيماً؛ لقوله تعالى: (( إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ )) (لقمان:13), فإن كان الأمر كذلك فلا يمكن أن تصل النوبة إلى تقليد عهد النبوّة أو الإمامة لرجل سبق في علم الله أنّه سيكون من الظالمين، وإنّما الخطاب المتصور في الآية: (( لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطنَّ عَمَلُكَ )) إنّما هو للمغيرة وليس له(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد ورد على الطريقة المعروفة التي أشرنا إليها في الخطاب.
وكذلك يفهم كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) مع ابنه الحسن(عليه السلام)، بل هكذا ينبغي أن تفهم كلماتهم وأدعيتهم(عليهم السلام) التي يوجد فيها الطلب بالمغفرة للذنوب وما أشبه ذلك، وذلك بعد ثبوت الأدلّة على عصمتهم كآية التطهير، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وأحاديث أخرى صحيحة.
وأمّا ما جاء في بيان كلمة (( الرِّجسَ )) والمراد منها، فإنّنا لم نفهم محلّ التعليق عليه؛ فإنّهم قد ذكروا معاني متعدّدة للرجس بحسب ما جاء في اللغة، فيكون الحال - بهذا اللحاظ - أنّه سبحانه قد أذهب كلّ هذه الأمور التي يشتمل عليها معنى الرجس عن أهل البيت(عليهم السلام)، فما ذكروه هو عليهم لا لهم!
وإنَّ لفظ (( الرِّجسَ )) - الذي هو متعلّق التطهير - قد ورد في الآية مطلقاً محلّى بألف ولام الجنس، فالآية الشريفة إذاً تعلن نفي ماهية الرجس بنحو العام الاستيعابي لكلّ ما هو داخل تحت هذا الاسم عن أهل البيت المذكورين في الآية..
وأوضح منه في إفادة العموم: قوله عزّ وجلّ: (( وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))، وهذا لا يحصل برفع بعض الأقذار دون بعض، وإنّما يتحقق - أي التطهير - برفع جميع الأقذار ودفعها عن المحلّ.. فالآية تدلّ على نفي عموم الخبائث والنقائص والقبائح عن أهل البيت(عليهم السلام) ظاهراً وباطناً وبجميع المراتب..
وهذا المعنى أيضاً يمكن تحصيله بملاحظة آيات أخرى وردت في القرآن الكريم؛ فعندما نلاحظ قوله تعالى: (( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتهُم رِجساً إِلَى رِجسِهِم )) (التوبة:125), يتبيّن لنا أنَّ للرجس مراتب، وأنّه من الأمور المتفاوتة - أي: أنّه ليس بمرتبة واحدة - وإلاّ لا تصح الزيادة في الآية الكريمة آنفاً (( فَزَادَتهُم ))!
وكذلك نستفيد أنّ للرجس ظاهر وباطن؛ إذ بحسب تفسير الرجس بالإثم نستفيد دلالة ذلك، كما في قوله تعالى: (( وَذَرُوا ظَاهِرَ الأِثمِ وَبَاطِنَهُ )) (الأنعام:120), وهذا كلّه قد أذهبه الله عزّ وجلّ - بدلالة آية التطهير - عن أهل البيت(عليهم السلام).
وما ذكروه من تفسير الإمام الباقر(عليه السلام) للرجس بالشرك، فإنّنا نفهم هذا التفسير بعد ملاحظة شمول معنى الرجس للذنوب والمعاصي والشكوك، وهو بحسب ما جاء في كلمات أهل اللغة من باب تفسير اللفظ بأبرز مصاديقه، لا أنّه يحصر مفهوم الرجس بهذا المصداق، كيف والقرآن الكريم يعطي هذا المفهوم تلك المصاديق الكثيرة كما هو واضح من الآيات الكريمة التي أوردوا هم بعضها.
ولمزيد الاطلاع على ردود اخرى حول الشبهات الواردة راجع كتاب (رد اباطيل عثمان الخميس) على آية التطهير وحديث الكساء لكاتبه حسن بن عبد الله بن علي .
(1) صحيح مسلم 7: 130 كتاب (فضائل الصحابة) باب (فضائل أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(2) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 560 النوع الثاني والأربعون: قاعدة في التعريف والتنكير.
(3) المستدرك على الصحيحين 3: 148 من مناقب أهل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
(4) تفسير روح المعاني للآلوسي 22: 13 في تفسير قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ...)).
(5) الدرّ المنثور 5: 199 سورة الأحزاب.
(6) مقاتل الطالبيين: 30 (الحسن بن علي).
(7) تاريخ الطبري 2: 177 غزوة السويق.
(8) انظر: السيوطي في الدرّ المنثور 5: 195 في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ )).
(9) تاريخ الطبري 2: 186 مقتل أبي رافع اليهودي.
(10) انظر: ترجمة عكرمة في: ميزان الاعتدال للذهبي 3: 93 عكرمة مولى ابن عبّاس، المعارف لابن قتيبة: 455 عكرمة مولى ابن عبّاس.
(11) الدر المنثور 5: 198 قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ...)).
(12) مفردات الراغب
(13) صحيح مسلم 7: 122 باب (فضائل عليّ(رض)).
(14) صحيح مسلم بشرح النووي 15: 180 فضائل عليّ بن أبي طالب(رض).
(15) حقائق الإيمان: 151 الأصل الرابع: التصديق بإمامة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين.
(16) نهج البلاغة شرح محمد عبده 2: 201 من خطبة له (عليه السلام) بصفّين (216).
(17) نهج البلاغة 1: 189 خطبة (97).
(18) نهج البلاغة 1: 232 خطبة (119).
(19) نهج البلاغة 2: 64 خطبة (162).
(20) نهج البلاغة 2: 171 (197).
(21) نهج البلاغة 2: 172 (197).
(22) نهج البلاغة 2: 157 (192).
(23) نهج البلاغة 1: 189 (96 ).
آية التطهير خاصة لا تشمل أزواج النبي (صلى الله عليه واله) على كل الوجوه
جاء في كتاب (الكافي)، باب ((ما نص الله عزّ وجلّ ورسوله على الأئمة(عليهم السلام) واحداً فواحد ح1))، وهو صحيح الإسناد: (عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: إنّ الإمام الصادق(عليه السلام) - بعدما نَقَلَ حديث الثقلين عن الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - قال: فلو سكت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يبيّن من أهل بيته، لادّعاها آل فلان وآل فلان، لكن الله عزّ وجلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33)، فكانّ عليّ والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام) فأدخلهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الكساء في بيت أُمّ سلمة، ثم قال: (اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي)، فقالت أُمّ سلمة: ألست من أهلك? فقال: (إنّك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي) ))(1).
أولاً: ماذا يقصد الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله: (لكن الله عزّ وجلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيّه)? هل يقصد بأنَّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا الله عزّ وجلّ بأن يذهب عن أهل البيت(عليهم السلام) الرجس، ثم أنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية تأييداً لرسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ أم نزلت الآية أوّلاً، ثم دعا الرسول هذا الدعاء?
ثانياً: ما هو معنى كلام الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أُمّ سلمة: (أنت إلى خير) أو (على خير)? لأنّ هذا الحديث يوجد في سنن الترمذي وباقي كتب السنة، ولكن لم توجد فيه عبارة: (ولكن هؤلاء أهلي وثقلي)? بل جاء فيه فقط: (أنت على مكانك وأنت على خير)(2)، وأنا لم أفهم معنى هذه العبارة؟
هل يكون المعنى: يا أُمّ سلمة أنت من أهل البيت ولا حاجة بمجيئك تحت الكساء، (كما ورد في بعض كتب السنة) ولا تحتاجي أن أدعو لك? أو يكون المعنى: أنت لا تكوني من أهل البيت، بل أنّك على المنهج الصحيح والى خير، (كما ورد هذا المعنى في كتب الشيعة وبعض السنة)؟
وأنّ حديث الكساء مع روايته بألفاظ أخرى مثل: (أنت من أزواج النبيّ ولكن هؤلاء أهل بيتي) أو قول أُمّ سلمة: ((فوالله؛ ما أنعم رسول الله))، أو عبارة: ((فجذبه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من يدي، وقال: أنّك على خير))، أو عبارة: ((فَوددت أنه قال نَعَم، فكان أحبّ اليّ ممّا تطلع عليه الشمس وتغرب))، ومثل هذه العبارات لا تمتلك السند الصحيح عند أهل السنة، ولا تعتبر عندهم، وليست من الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها عليهم.
ثالثاً: إنّ المفسرين من أهل السنة، لا ينكرون حديث الكساء، بل يقولون: بأنّ هذا الحديث لا يحصر أهل البيت في (عليّ وفاطمة والحسن والحسين)، مثلاً طاهر ابن عاشور (وهو من العلماء السُنّة الذين عرفوا بعدم التعصب، حتى أنّه حلّل زواج المتعة طبق الفقه الشيعي وطبقاً للآية من سورة النساء)، يقول في كتابه التفسيري (التحرير والتنويل) في تفسير الآية: ((وقد تلفق الشيعة حديث الكساء، فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أنّ أزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لسن من أهل البيت، وهذه مصادمة للقرآن، بجعل هذه الآية حشوا بين ما خوطب به أزواج النبيّ، وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف (يعني كلمة أهل البيت) على أهل الكساء، إذ ليس في قوله: (هؤلاء أهل بيتي) صيغة القصر، فهو كقوله تعالى: (( إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي )) (الحِجر:68)، ليس معناه ليس لي ضيفاً غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عمّا قبلها وما بعدها.
ويظهر أنّ هذا التوهم من زمن عصر التابعين، وأنّ منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون إتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها، ويدلّ على ذلك ما رواه المفسرين عن عكرمة، أنّه قال: ((من شاء باهلتة أنّها نزلت في أزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ))، وأنّه قال أيضاً: ((ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ))، وأنّه كان يصرخ بذلك في السوق. وحديث عمر بن أبي سلمة (الذي رواه الترمذي) صريح في أنّ الآية نزلت قبل أن يدعو النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الدعوة لأهل الكساء، وأنّها نزلت في بيت أُمّ سلمة.
وأمّا ما وقع من قول عمر بن أبي سلمة، أنّ أُمّ سلمة قالت: وأنا معهم يا رسول الله?... فقال: (أنت على مكانك، وأنت على خير)، فقد وهم فيه الشيعة، فظنوا أنّه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة! لأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما أراد إنّ ما سألته من تحصيل الحاصل، لأنّ الآية نزلت فيها وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأنّ يذهب الله عنها الرجس ويطهّرها دعاء بتحصيل الحاصل، وهو مناف لآداب الدعاء، كما حررّه شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعليما لها.
وقد وقع في بعض الروايات أنّه قال لأم سلمة: (إنّك من أزواج النبيّ)، وهذا أوضح في المراد بقوله: (أنّك على خير). ولمّا إستجاب الله دعاءه كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلق أهل البيت على فاطمة وعليّ وابنيهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: (الصلاة يا أهل البيت، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا)، قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه))(3).
والسؤال: من أين نستطيع أن نعرف (على أساس مصادر أهل السنة)، بأنّ أهل البيت(عليهم السلام) منحصرون في خمسة أصحاب الكساء?
رابعاً: بالنسبة إلى تفسير عكرمة للآية، على أنّ الآية نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
نحن نردّ على ذلك: بأنّه كذّاب وأنّه من الخوارج، ولكن علينا أن نعرف بأنّ عكرمة لم يخص نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكونهم أهل البيت فقط، بل يقول بأنّ الآية نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويقول بدخول عليّ وعائلته تحت عنوان أهل البيت بدليل حديث الكساء، وهذا لا ينافي كون الآية نازلة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ومن جهة أخرى: أنّ عكرمة نقل أحاديث كثيرة في فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، (وأنا شاهدت الكثير منها في كتب السنة).
وكذلك؛ أنّه كان من الأفراد الموثقين عند الإمام الباقر(عليه السلام)، - كما ورد هذا الأمر في كتاب (التفسير والمفسرون) لآية الله معرفة - حيث يقول: ((ويبدو من روايات أصحابنا الإمامية، كونه - يعني عكرمة - من المنقطعين إلى أبواب آل البيت العصمة، وفقا لتعاليم تلقاها من مولاه ابن عبّاس - رضي الله عنه - فقد روى محمد بن يعقوب الكليني باسناده إلى أبي بصير، قال: كنا عند الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) وعنده حمران، إذ دخل عليه مولى له، فقال: جعلت فداك، هذا عكرمة في الموت، وكان يرى رأي الخوارج، وكان منقطعاً إلى أبي جعفر(عليه السلام)، فقال لنا أبوجعفر: (أنظروني حتى أرجع اليكم)، فقلنا: نعم، فما لبث أن رجع، فقال: (أما أنّي لو أدركت عكرمة، قبل أن تقع النفس موقعها لعلمته كلمات ينتفع بها، ولكنّي أدركته وقد وقعت النفس موقعها)، قلت: جعلت فداك، وماذاك الكلام? قال: (هو ـ والله ـ ما أنتم عليه، فلقّنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلاّ الله والولاية)(4). في هذه الرواية مواضع للنظر والإمعان: أوّلا دخول مولى أبي جعفر بذلك الخبر المفاجئ، وقوله: كان منقطعاً إلى أبي جعفر، يؤيّد كون الرجل من خاصّة أصحابه، ولم يكن يدخل على غيره، دخوله على الإمام(عليه السلام)، وأمّا قوله: وكان يرى رأي الخوارج، فهو من كلام الراوي، حدساً بشأنه، حسبما أملت عليه الحكايات الشائعة عنه...))، إلى آخر كلامه الذي يدافع فيه عن عكرمة بشدّة، ويأتي أيضاً بكلمات العلاّمة الشوشتري حول الدفاع عن عكرمة، والشوشتري هو الذي كان يخالف المجلسي حول عكرمة.
وإذا كان عكرمة ممتازاً بهذا الشخصية وهذه المنزلة عند الأئمة، فلا نستطيع أن نصفه بالكذاب ونسمّيه بالخارجي، بل علينا أن نقبله بعنوان راوي، قال بنزول الآية في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وروى عن ابن عبّاس ما يؤيّد رأيه.
وقول عكرمة بكونه حاضراً للمباهلة مع مَن لا يعتقد بنزول الآية في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، موجود في كتب أهل السُنّة بإسناد صحيح.
(1) الكافي 1: 287 حديث (1).
(2) سنن الترمذي 5: 31 سورة الأحزاب.
(3) سنن الترمذي 5: 31.
(4) الكافي 3: 123 باب ((تلقين الميت)).
الجواب:
أولاً: بمراجعة الرواية من أوّلها والتنبه إلى أسلوب الاستدلال الذي جرى عليه الإمام(عليه السلام)، يتوضح لديك أنّ المراد من قوله: (تصديقاً لنبيّه) أي تأييداً وموافقةً لنبيّه, كما لو قلت: أنّ القرآن والسُنّة يصّدق أحدهما الآخر، أي يوافقه ويعاضده ويؤيده.
وإن أبيتَ إلاّ التمسك بظاهر العبارة، فإنّ التصديق قد جاء بعد حديث الثقلين، والصحيح أنّ حديث الثقلين صدر عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مواضع عديدة تصل إلى الثمانية أو العشرة، فيكون المعنى: إنّه بعد أن صرح رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحديث الثقلين، وأنّ الثقل الأصغر هم أهل البيت(عليهم السلام) بعد أن سئل عنهما بـ (وما الثقلان يا رسول الله؟)؛ ومن الطبيعي أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيشير إلى أشخاصهم, جاءت آية التطهير تصديقاً له في تعين أهل البيت(عليهم السلام) وتشخيصهم، حتى لا يدّعي مدّع أنّ المحابات (نعوذ بالله) من الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد تدخلت في التشخيص، وإنّما الأمر من الله عزّ وجلّ.
نعم، توجد هناك رواية رواها الحاكم في (المستدرك) وحكم بصحتها, فيها أنّ الدعاء كان قبل نزول الآية, (( فعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: لمّا نظر رسول الله إلى الرحمة هابطة، قال: أدعوا لي أدعوا لي, فقالت صفية: من يارسول الله؟ فقال: أهل بيتي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين, فجيء بهم, فألقى عليهم النبيّ كساءه ثم رفع يديه، ثم قال: اللّهمّ هؤلاء آلي فصل على محمّد وآل محمّد, وأنزل الله عزّ وجلّ: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) ))(1).
ورواية أخرى عن أُمّ سلمة رواها ابن كثير في تفسيره، عن الأعمش، عن حكيم، وفي آخرها: ((فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط...))(2).
ثانياً: إنّ بعض علماء أهل السُنّة احتمل لجملة (أنتِ على خير) معنيين:
الأوّل: أنّ معناه؛ أنتِ لست من أهل بيتي، بل من أزواجي، وأنّ مآلك إلى خير وحسن العاقبة، وهذا المعنى هو ما يتمسك به الشيعة.
الثاني: أنّ معناه؛ أنت لست بحاجة للدخول تحت الكساء، لأنّك من أهل بيتي، فأزواجي من أهل بيتي.
والسبب في إيرادهم المعنى الثاني، هو أنّهم بعد أن قرروا في آية التطهير، أنّها نازلة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستدلين بالسياق، وجدوا أنّ إلتزامهم هذا يعارض بوضوح مفاد حديث الكساء، الذي شخص فيه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أهل البيت(عليهم السلام) وطبق آية التطهير على مصداقها الخارجي، فأضطروا - حفاظاً على عقيدتهم - لحمل بعض جمل الحديث على التأويل البعيد وغير المتعارف، حلاً منهم للتعارض الظاهر، والذي يودي بعقيدتهم، بعد أن كان سند الحديث صحيحاً لا يمكن ردّه, ولم يجدوا جملة تحتمل التأويل - ولو البعيد غير المألوف - سوى (أنتِ على خير)، فحملّوها المعنى الثاني الذي عرفت.
فكان فعلهم هذا؛ ليس تمسكاً بما هو ظاهر الحديث بمفرده، بل تمسكاً بالتأويل الذي لجأوا إليه، بعد جمعه مع المعنى الذي أرادوه من الآية. فإنّهم بعد أن إلتزموا بأنّ (أهل البيت) في آية التطهير في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأخذوه كأصل موضوعي لا يقبل التبديل، اضطروا لحمل كلّ نص آخر يخالفه ظاهراً على المعنى المعني ولو بالتأويل, فلاحظ!
وإلاّ، فإنّ ظاهر الحديث بإنفراده، ودون النظر إلى الآية - أي حتى لو فرضنا عدم وجود آية في المقام - هو حصر معنى أهل البيت على مصداق هؤلاء الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، وهو ظاهر من القرآئن الحالية واللفظية في قول وفعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا الحديث.
وظاهر جملة (أنتِ على خير) هو ما ذكرناه من المعنى الذي يتمسك به الشيعة، وهو المستعمل في لغة العرب لإخراج من يراد إخراجه، ولم يعهد منهم أن يستخدموا هذه الصيغة بمعنى دخول المخاطب بها في من خصّوه وميّزوه بالقيود والخصائص المذكورة في الكلام، فإنّ ظاهرها النفي بتقدير (لا) قبلها، وإذا أراد العربي أن يعطي مفاد الإيجاب، يجب أن يأتي بصيغة أخرى تفيده، بأن يقول مثلاً (وأنت كذلك), فلم يعهد من العرب بأنّهم إذا عزلوا أو خصوا جماعة من ضمن آخرين موجودين في نفس المكان بصفة أو إضافة معينة كوصفهم بالأضياف أو الشجعان مثلاً، ثم اعترض شخص حاضر فأجيب (بأنتَ على خير) أو (أنتَ مكانك) أنّه سيشمله هذا الوصف أو الإضافة، بل بالعكس فإنّه تأكيد بالخروج فوق ما لو لم يُقَل له مثل ذلك.
ولاحظ أنت؛ إذا دخلت إلى مطعم، وكان فيه أشخاص من ضمنهم بعض أصدقائك الحميمين، فناديت صاحب المطعم وقلت له: هؤلاء أضيافي، بعد أن أجلست أصدقاءك على طاولة خاصّة وعزلتهم عن بقية الناس, فهل يفهم صاحب المطعم أنّ البعض الآخر، يجوز أن يُقدم لهم الطعام على حسابك بكونهم أضيافك؟ ولو جاء شخص من الحاضرين وأراد الجلوس على نفس الطاولة وأنت قلت له: (أنتَ على خير)، أو (أنتَ مكانك) ولم تسمح له بالجلوس على الطاولة بمحضر صاحب المطعم, فهل يجوز لصاحب المطعم أن يجعله من أضيافك، أو أنّك لا تعذره وتعاتبه وكلّ الناس الحاضرين؟ ولا حجّة له بالقول؛ بأنّه أوّل معنى (على خير) بأنّك تعدّه من أضيافه الأساسيين الأصليين، بعد أن سبق كلامك القرائن الحالية بعزل أصدقائك على طاولة خاصّة, فلاحظ.
والذي يقطع الشك في هذا الحديث، الأحاديث الأخرى الكثيرة التي توضح هذه الجملة بما لا لبس فيها، والتي ذكرت أنت جملة منها, وبعض هذه الأحاديث صحيحة على موازين أهل السُنّة كما في مسند أحمد، عن شهر بن حوشب، عن أُمّ سلمة، الذي في آخره: (( فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال: (انّك على خير) ))(3)، ورواه أبو يعلى في مسنده(4).
ثم أين أنت من القاعدة التي تقول: أنّ الأحاديث يقوي بعضها البعض؟
ونحن هنا نريد أن ننبه على شيء: وهو أنّ الحكم بصحة طريق معين، لا يعني أنّ رجال هذا الطريق لم يتكلم فيهم أحد بمغمز، وإلاّ فلا يسلم رجل من رجال أهل السنّة، فإنّه لا بد أن تجد أنّ هناك أحداً من أصحاب الجرح والتعديل طعن في هذا الرجل أو ذاك، وهكذا كلّ رواتهم، وإنّما الحكم عليه يكون من مجموع أقوال أصحاب الجرح والتعديل, فلاحظ. فإنّ كثيراً من المشاغبين المجادلين المتشدقين، تراهم من أجل تضعيف رجل في طريق الحديث ينقلون طعنه من أحد أصحاب الجرح والتعديل، ويغمضون أعينهم عن مجمل ما ورد فيه محاولين إيهام مجادليهم، وتراهم في مكان آخر يأتون بالمدح لنفس الرجل من رجالي آخر!!
والآن نعود لنفس الموضوع: وهو إنّا فوق ما ذكرنا من ظاهر الحديث, نجد أنّ تكرار الفعل من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الظاهر من متن الروايات، يقطع كلّ شك في الإختصاص, بل تكرار قراءة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للآية عند المرور على بيت فاطمة(عليها السلام) يرسخ هذا الإختصاص في أذهان المسلمين.
بل روى مسلم عن عائشة أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرأ بعد أن أدخلهم تحت الكساء: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))(5)، وقراءة الآية على من تحت الكساء وفيها أدات الحصر (إنّما) بحضور عائشة وغيرها قاطع للتوهم والمناقشة في الإختصاص، فلاحظ.
ثالثاً: قبل الإجابة على ما ذكره (طاهر بن عاشور)، نود الإشارة إلى أنّ إتفاق بعضهم مع الشيعة في بعض الأحكام الفرعية لا يخرجه عن التعصب, فهذا ابن تيمية يتفق مع الشيعة في أنّ الطلاق بالثلاث يعتبر طلقة واحدة(6)، فهل يمكن أن يقال عنه أنّه غير متعصب، مع ما مشهور عنه من نصبه لأهل البيت(عليهم السلام)! وبعد ذلك نقول:
أ - ما ذنب الشيعة إذا كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي قصَر وحصَر معنى أهل البيت في الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، حتى يقول (طاهر بن عاشور) عنهم، أنّهم غصبوا هذا الوصف وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيها(عليهم السلام)؟!
ب - قد ذكرنا في جواب السؤال السابق، أنّ منشأ قولهم يرجع بالحقيقة إلى إعتبارهم أنّ الآية نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كأصل موضوعي لا يناقش (إستناداً إلى السياق المدعى), وهذا واضح من كلام (طاهر بن عاشور)، من قوله: ((وهذه مصادمة للقرآن، بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبيّ))، وعلى هذا الأصل المفترض بنوا كلّ كلامهم.
ولكن سنبين أنّ ما ادعوه وما استدلوا به لم يكن إلاّ دعوى، من دون دليل: فإنّ ما سماه حشواً يدلّ على عدم معرفته بأساليب البلاغة لدى العرب!
يقول الشيخ السبحاني: ((لا غرو في أن يكون الصدر والذيل راجعين إلى موضوع، وما ورد في الأثناء راجعاً إلى غيره، فإنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها, نرى نظيره في الذكر الحكيم وكلام البلغاء وعليه ديدن العرب في محاوراتهم، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي يبحث عنه ثم يرجع إليه. وثانياً: يقول الطبرسي: ((من عادة الفصحاء في كلامهم، أنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم))(7). قال الشيخ محمد عبده: ((إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرّة بعد المرّة))(8). روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (أنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء)(9).
ثم أورد الشيخ السبحاني مثالاً لذلك من القرآن, قوله تعالى: (( إِنَّهُ مِن كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعرِض عَن هَذَا وَاستَغفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ )) (يوسف:28-29)، فنرى إيراد قوله تعالى: (( يُوسُفُ أَعرِض عَن هَذَا )) قبل أن يفرغ من الكلام معها ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل))(10).
فظهر ما في قوله: (حشواً) من حشو، وتجرّ على القرآن وعدم فهم!!
ثم إنّ الروايات عن أُمّ سلمة وعائشة وغيرهن، تنص على أنّ آية التطهير نزلت وحدها، ولم ترد ولا رواية واحدة على أنّها نزلت مع آيات النساء، فأيّ معنى بعد ذلك للاستدلال بالسياق، وإنّما وضعت (بينها) بأمر النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو في مرحلة تأليف القرآن، ولهذا نظير في القرآن، فآية (الإكمال) نزلت في نهاية البعثة يوم غدير خم، مع أنّها الآن في سورة المائدة جزءاً من آية تبين أحكام اللحوم. ثم إنّ وقوعها بين آيات النساء، فيها عبرة لهنّ، بأن ينظرن ويحاولن أن يتبعن أهل هذا البيت النبوي(عليهم السلام) المعصومين عن الذنب.
ح - لقد بيّنا في جواب السؤال الثاني؛ دلالة الحديث بما فيه من القرآئن الحالية واللفظية على القصر فلا نعيد، وأوضحنا بالمثال الذي ذكرناه، بما يدلّ على عكس مراده بإستشهاده بالآية (( إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي )) (الحجر:68), فإنّ في هذه الآية أيضاً تخصيص وقصر على أنّ هؤلاء ضيوفي من بين كلّ الموجودين في المكان، ولا أحد غيرهم منكم من أضيافي, وذلك أنّ أسم الإشارة (هؤلاء) يعرف ويخص ويحصر في المكان والزمان الخاصين الصادر فيهما.
فقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ هؤلاء أهل بيتي)، يعني أنّ هؤلاء في هذا الوقت هم أهل بيتي دونكم أنتم الحاضرون, وكان من الحاضرين زوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعليه لا يصح الإتيان بأداة الإشارة وتعينهم بها إذا كان أحد غيرهم من الموجودين من أهل بيته, إذ لا تصدق الإشارة حين ذاك, وكذا في الآية (( إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي ))، فمن المعلوم أنّ الملائكة كانوا في ذلك الوقت والمكان هم أضياف نبيّ الله لوط(عليه السلام) دون أهل المدينة كلّهم، ولا يعني أنّه نفى أن يكون له أضياف في الزمان اللاحق, ولذا نحن لا نحصر أهل البيت بالخمسة أهل الكساء(عليهم السلام)، بل نعمها إلى الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) في الزمان اللاحق, ومن هذا كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ الآية ويخص بها عليّاً وفاطمة(عليهما السلام), والحسن والحسين(عليهما السلام) بعد لم يولدا(11)، فراجع.
ولكن مع ذلك كرّر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وزاد في التكرار بالإشارة إليهم، وتعريفهم بأهل البيت، دفعاً لمثل هذا التوهم المذكور.
د - وإن تعجب! فعجب من نسبة التوهم إلى التابعين، في حصر هذه الآية بالخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، مع أنّهم أقرب للنص! وقد سموا تابعين لأنّهم تبعوا الصحابة, ولا يَحتَمِل الوهم من شخص واحد جاء بعدهم بمئات السنين, فهو يعترف بأنّ هذا القول كان في عصر التابعين المطمأن، بل الأكيد أنّهم أخذوه من الصحابة, ومع ذلك ينسبهم للوهم دونه، مع أنّه بعيد عن النص والصحابة عدّة قرون، فيا لله والهوى.
بل نحن نقول: إنّ هذا القول كان معروفاً عند الصحابة أيضاً, ولذا لا توجد ولا رواية واحدة عنهم، بل عن نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنفسهن، فيها أنّ الآية خاصّة بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو هنّ والخمسة أصحاب الكساء, ولم يخصها بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى في عصر التابعين إلاّ عكرمة, وفي نفس روايته ما يتضح أنّ رأي الناس مطبق على أنّها نزلت في الخمسة، حين يقول: ((ليس بالذي تذهبون إليه، وإنّما هو نساء...))(12)، فلاحظ، وتأمل وتعجب!!
وقد عرفت من الروايات وخاصّة روايات أُمّ سلمة (رض) أنّ الآية نزلت وحدها، ولذا فلا عجب، بل الصحيح الطبيعي من المسلمين في ذلك الوقت أن يقرؤوها وحدها.
و- وقد عرفت أيضاً، أنّ هناك روايات عديدة تصرّح بأنّ دعاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان قبل نزول الآية, وطريق الجمع ربما يتوضح من تكرار فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما يظهر من الروايات المختلفة, فراجع.
والظاهر من قوله: ((وأنّها نزلت في بيت أُمّ سلمة))، أنّه يريد الاستدلال بمكان النزول، ويجعله سبب النزول في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا من عجيب الاستدلال!! فمكان النزول غير سبب النزول.
ط - ولقد عرفت أيضاً ممّا مضى، جوابنا على ما يدّعونه من معنى (أنتِ على مكانك) و(أنتِ على خير) فلا نعيد, وإنّما نعجب من بهتانه وتناقضه! فإنّه يستدل على ما يريد من كلام رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنتِ على مكانك) و(أنتِ على خير) بأنّ الآية نازلة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مع أنّ نفس الرواية التي يريد شرحها، تنص على أنّها نزلت وحدها، وأنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) طبقها في أهل البيت(عليهم السلام)! ومع أنّ أكثر أصحابه الذين يدخلون النساء في ضمن أهل البيت، يستدلون لدخولهن بالسياق لا بالنزول، ويقولون أنّ النساء دخلن بالسياق والخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دخلوا بفعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي بالحقيقة بالنزول, وذلك رداً منهم لإفتراء عكرمة أنّها في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّة.
فهل رأيت تناقضاً أكثر من هذا؟!! فلا نعلم إنّه مع رأي عكرمة، أو مع رأي أكثر أهل السنة!!
ثم لو كانت الآية نازلة فيها وفي ضراتها كما يقول، فما معنى قول أُمّ سلمه: ((وأنا يارسول الله))؟ فهل كانت أُمّ سلمة لا تعرف أنّها نزلت فيها وفي ضراتها, ثم علم عكرمة أو طاهر بن عاشور بذلك!!
ي - إنّ الروايات الواردة في حديث الكساء على ثلاثة أصناف:
1- ما فيها أنّ الدعاء كان قبل النزول.
2- ما فيها أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرأ الآية فقط على من في الكساء، وأضاف في بعضها (إنّ هؤلاء أهل بيتي).
3- ما فيها أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا لهم بعد نزول الآية، وبعد أن جمعهم تحت الكساء.
فلو سلّمنا بما قال: ((فالدعاء لها... دعاء بتحصيل الحاصل))، فهو يصدق على الصنف الثالث فقط, هذا أوّلاً، ثم إنّ ما ذكره لو صح، يتم فقط في عدم الدعاء لها بما هو حاصل, ولكن ما الداعي لإخراجها من التخصيص في أهل بيت في المقام, فالمفروض على مبنى كلامه أن يقول لها: أنتِ من أهل البيت، وقد تحقق لك ما أطلبه في الدعاء من الآية، لا أن يخرجها من أهل البيت أصلاً.
وبعبارة أخرى: نحن نستدل بتخصيص أهل البيت(عليهم السلام) في حديث الكساء، بعدّة أمور: منها فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتلفظه بأداة الإشارة (هؤلاء)، ودعائه لهم, فكلامه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على تسليمه يرد في الدعاء، وأمّا الباقي فعلى حاله.
وبعبارة أوضح: إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو كان يريد من فعله فقط الدعاء لأصحاب الكساء، فما الداعي لفعل وقول ما فعله وقاله؟ وكان يكفي أن يرفع يده ويطلب من الله إدخالهم في الآية، مع العلم أنّ أُمّ سلمة لم تسأله الدعاء، بل سألته الدخول معهم, فلاحظ. هذا ثانياً.
وثالثاً:
1- إنّ كلامه لا يتم إلاّ إذا ادعى بأنّ لفظة (( أَهلَ البَيتِ )) في الآية لا تشمل أصحاب الكساء(عليهم السلام) وإنّما تشمل النساء فقط, وهذا لا يتم لغة وضمير التذكير في (عنكم) يدحضه، وعليه فإذا دخل أصحاب الكساء(عليهم السلام) في الآية، بشمول لفظة (أهل البيت) لهم، يكون دعاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم أيضاً تحصيل للحاصل, وإذا قال عناداً وأصرّ على أنّ (( أَهلَ البَيتِ )) في الآية لا تشمل الذرية، يكون قد خالف الجمهور من علماء أهل السنة.
وإذا قال: أنّ الضمير في (عنكم) يعود للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقط، فيصبح الإشكال إشكالين: الأوّل: فما معنى إذهاب الرجس عنه في الآية؟ إذ من المعلوم أن الرجس منفي عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من السابق، إلاّ أن ينفي ذلك وهو من الشناعة بمكان. والثاني: يكون بحقه أيضاً من تحصيل الحاصل، لأنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان داخلاً تحت الكساء أيضاً، وهو من أهل البيت قطعاً.
2- في الحقيقة أنّ إشكالهم في الأساس، هو أنّ الإرادة في الآية تشريعية، إذ لو كانت تكوينية، فلا معنى لدعاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ هو تحصيل حاصل حسب مدعاه!! وهذا يرد بوجوه:
أ - حتى لو كانت الإرادة تشريعية، فإنّه سيكون أيضاً من تحصيل الحاصل، إذ معناه يا إلهي أدعوك أن تشرع عليهم التطهير كما شرعته عليهم، وأي معنى لهذا؟!
ب - إنّ الإرادة على الصحيح تكوينية، ويكون الدعاء لإدامة الشيء الحاصل ولا مانع منه، فمع أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مهتدي، وهو الذي يهدي للحق، يقرأ في صلاته كلّ يوم خمس مرات (( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )) (الفاتحة:6).
ج - وحصول الشيء عند شخص، لا يعني أنّه سوف يستغني عن الله ببقائه ودوامه.
د - إنّ المقامات السامية ليست كلّها بدرجة واحدة، وإنّما هي في تكامل مستمر عندهم.
ط - قد بيّنا ما في تكرار النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من دلالة على الإختصاص, ولكن العجب من هذا المدعي يقول: ((ولمّا استجاب الله دعاءه، كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلق أهل البيت على فاطمة وعليّ وابينهما))، فيتهم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنوع من المحاباة! إذ يكرر ويزيد في التكرار على من أصبحوا أهل البيت بدعائه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويترك الإشارة إلى من أشار اليهم الله جلّ جلاله بأهل البيت ولو لمرّة واحدة وهن النساء حسب مدعاهم. ويا لله ولجرأتهم على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!!
أفلا كان لمدّع مغرض؛ أن يقول لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): مالك تخص هؤلاء الذين طلبت أنت من الله أن يدخلوا في أهل البيت، وتترك من فرض الله كونهم من أهل البيت؟! بالله أيصح هذا الفعل من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟! إلاّ أن يكون فعله فيه نوع من الميل عن مراد الله - نعوذ بالله - على الأقل بتركه الأصل وإصراره على التبع, ولماذا لا ننزه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن هذا، ونقول كما هو واضح وعرفه الجميع أنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبيّن بفعله المكرر هذا مقاصد القرآن، وأنّه لا يفعل شيء إلاّ وهو مطابق للقرآن ومن وحي الله تعالى.
نعوذ بالله كيف يقلبون الحقّ باطلاً والباطل حقاً!!
3-
أ- لقد أجمع كلّ من نقل قول عكرمة على أنّه كان يدّعي إختصاصها بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا مجال لما ذكرت، فإنّ في متن بعض الروايات قوله: ((إنّها نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّة))(13).
ثم أنّه قد نُقل عنه عدّة روايات، أحدها قوله: ((ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبيّ))(14) يقصد به قول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ... )) الآية، فهذا منه تفسير للآية لا ذكر شأن النزول, ومن المعلوم أنّ الآية لو كانت دلالتها مختصة بالنساء لاستقر التعارض بينها وبين حديث الكساء. نعم، لو كنّ مورد النزول فقط، كما يدّعي في روايات أُخر، لأمكن إحتمال عدم التعارض، ولكنه لا يتم أيضاً لما عرفنا من فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من التخصيص والحصر، إضافة لوجود روايات كثيرة تنص على أنّ مورد النزول هم الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام).
ب - لا يمكن مدح، فضلاً عن توثيق عكرمة بمثل هذه الروايات بعد أن نص رجاليونا على تضعيفه، فعن الكشي بعد أن نقل هذه الرواية، قال: ((فلم يدركه أبو جعفر(عليه السلام) ولم ينفعه))(15)، وهذا هو الفهم الصحيح للرواية, وقال في حقه العلاّمة في الخلاصة: ((ليس على طريقنا ولا من أصحابنا))(16), وكونه لا يعتقد بالمذهب الحقّ واضح لا يحتاج إلى روايات، بل هو مثل الشمس في رابعة النهار، خصوصاً بعد أن نص رجاليو السُنّة على أنّه كان على رأي الخوارج، وأنّه كان يكذب على ابن عبّاس.
أمّا ما فهمته أنت وغيرك من الرواية، من أنّه كان مورداً لتوجه الإمام الباقر(عليه السلام)، لأنّ الإمام(عليه السلام) أراد الحضور عند احتضاره، فهذا غير صحيح، بعد أن نعرف من سيرة أئمتنا(عليهم السلام) كلّهم معاودة ومواصلة مخالفيهم في المرض، وحالة الموت، أو الضيق والشدّة، وهذا مشهور عنهم بل حتى مع غير المسلمين، وزيارة الإمام الرضا(عليه السلام) للنصراني المحتضر معروفة، فإنّ من مقام أئمتنا(عليهم السلام) إيصال الهداية والرحمة والرأفة إلى كلّ الناس، من دون فرق، ولا يتأخرون عند أي بارقة أو إحتمال لنفع أيّ إنسان، حتى ولو كان مثل عكرمة, فتأمل.
أما إستفادة (الشيخ معرفة) من دخول مولى الإمام(عليه السلام)، وإخباره بإحتضار عكرمة، على كونه ذا منزلة لدى الإمام(عليه السلام)، فعجيب!! بعد أن نعرف أنّ عكرمة كان مولى لابن عبّاس أي محسوب على بني هاشم, ولم يكن شخصاً مجهولاً نكرة حتى ننفي وجود علاقات إجتماعية وتزاور وتراحم بينهم، مع ما كان للإمام(عليه السلام) من منزلة ومكانة في المدينة, ومن يمعن النظر في الواقع الإجتماعي لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في ذلك الوقت، يجد بوضوح أنّهم لم يقطعوا صلاتهم حتى بألدّ أعدائهم المستحلّين لقتلهم بل قتلتهم أنفسهم، وما لجوء مروان بن الحكم إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام) بخافية على أحد، ولا الإجتماعات والتزاور الذي كان يحصل بين الباقر والصادق(عليهما السلام) والأمويين والعباسيين بقليلة.
وأما ما علّق عليه من جملة: ((وكان منقطعاً إلى أبي جعفر(عليه السلام))) بكونه من خاصّة أصحاب الإمام(عليه السلام)، ولم يكن يدخل على غيره دخوله على الإمام(عليه السلام), فقد توضح بعض سببه، ممّا ذكرنا، من أنّه كان يحسب على بني هاشم، ولكن إنقطاعه إلى ابن عبّاس كان أوضح، ومع ذلك لم يمنعه من الكذب عليه وانتحال رأي الخوارج.
ثم إنّ الإمام الباقر(عليه السلام) سنحت له فرصة في أواخر الدولة الأموية لنشر علم أهل البيت(عليهم السلام) علانية، فكثر أصحابه وتلامذته والآخذون عنه حتى من المخالفين، والأمثلة كثيرة على ذلك، فلا عجب من أن يأخذ عكرمة العلم من الإمام(عليه السلام)، فقد كان(عليه السلام) في ذلك الوقت مدرسة لكلّ المسلمين ولا يغلق بابه على أحد خاصّة من كان له معه علاقات أسرية.
ولكن العجب من (الشيخ معرفة) أن يرد القول ((بأنّه كان يرى رأي الخوارج)) على أنّه من كلام الراوي حدساً بشأنه...الخ, ولا يرد القول ((بأنّه كان منقطعاً إلى أبي جعفر(عليه السلام)))، مع أنّه من قول نفس الراوي!! فلاحظ.
وعلى كلّ حال فإنّ (للشيخ معرفة) رأيه الخاص، ولا يلزم به غيره، خاصّة بعد أن نص أصحاب الرجال على تركه وتضعيفه.
وأخيراً حتى لو سلّمنا وقبلنا بعكرمة كراوي له درجة من المقبولية، لا يمكن أن نقبل روايته الخاصّة بآية التطهير، بعد معارضة الروايات الكثيرة عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لها، فإنّ رأي عكرمة المنقول عنه ليس له وزن أمام قول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
(1) مستدرك الحاكم 3: 147 مناقب أهل البيت.
(2) تفسير ابن كثير 3: 493 قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً)).
(3) مسند أحمد 6: 323.
(4) مسند أبي يعلى 12: 344 حديث6912، 456 حديث7026.
(5) صحيح مسلم 7: 130باب ((فضائل أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(6) منهاج السُنّة 5: 500.
(7) مجمع البيان 8: 158 قوله تعالى: (( يَا نِسَاء النَّبِيِّ...)).
(8) تفسير المنار 2: 541.
(9) المحاسن 2: 300 حديث 5 كتاب العلل.
(10) مفاهيم القرآن 10: 165 أهل البيت في القرآن الكريم الفصل الأوّل.
(11) انظر: الدر المنثور 5: 199 سورة الأحزاب، ما رواه عن أبي سعيد الخدري عن قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا دخل عليّ بفاطمة(عليهما السلام).
(12) الدر المنثور 5: 198 سورة الأحزاب.
(13) انظر: الدر المنثور 5: 198 سورة الأحزاب، تفسير الثعلبي 8: 36 قوله تعالى: (( وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ...)) ما نقله من قول مقاتل.
(14) المصدر السابق.
(15) انظر: اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 478 في عكرمة مولى ابن عبّاس.
(16) خلاصة الأقوال: 383 عكرمة مولى ابن عبّاس.
يتبع
السؤال: في من نزلت آية التطهير
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على رسول الله، اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد وآل محمّد.
أُريد أن أستعلم من سيادتكم عن شيء مهم جداً وهو خاص بآية التطهير، فآية التطهير: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) في سورة الأحزاب، قد وضع الله عزّ وجلّ قبلها وبعدها آيات تخاطب نساء النبيّ وأزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكمثل ما عوّدتمونا أن نتدبّر آيات القرآن، فهل هذا يدلّ على أنّ زوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أهل البيت؟
على الرغم من ذلك وجدت في كتب أهل السُنّة، وفي البخاري حديث نبوي معناه: أنّ أهل البيت هم: النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفاطمة والحسن والحسين ومولانا أمير المؤمنين(عليهم السلام).
الجواب:
نقول: ممّا أجمع عليه أهل النقل من المسلمين كافّة أنّ آية التطهير قد نزلت لوحدها منفردة دون ما قبلها وما بعدها، وهذا شيء متّفق عليه(1), فمن هنا يبطل القول بأنّها نازلة في خصوص النساء؛ لورود سبب نزول صحيح عند الجميع، وهو: أنّها نزلت في أصحاب الكساء(عليهم السلام).
وكذلك يبطل القول بأنّها نازلة في الاثنين معاً: النساء وأصحاب الكساء(عليهم السلام)؛ لعدم ذكرهنّ في سبب النزول, وعدم إدخال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمّ سلمة مع طلبها لذلك، على الرغم من فضيلتها وعظمتها التي لا تنكر.
وأمّا من يحتجّ على دخول النساء بمسألة السياق, فالسياق لا يُستدلّ به مع ورود سبب نزول بخلافه.
وكذلك فإنّ السياق قد هُدم بمجيء ضمير التذكير خلافاً لما قبلها ولما بعدها, فيكون الخطاب حينئذ غير متوجّه لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قطعاً، مهما كانت تأويلاتهم لضمير التذكير في (( عَنكُمُ )), (( وَيُطَهِّرَكُم )), فلو أراد الله تعالى إبقاء السياق في الكلام مع النساء لَما أعرض عن ضمير التأنيث إلى التذكير؛ فإنّ ذلك يهدم السياق ويوهم السامع.
وعلى كلّ حال فإنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي يبيّن سبب النزول حتى تعرف الأُمّة المراد؛ فقد قال تعالى: (( وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم )) (النحل:44), فالنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضّح نزول آية التطهير لوحدها دون ما قبلها وما بعدها, وكذلك بيّن حصر أهل البيت المقصودين في آية التطهير، قولاً وفعلاً، بحصرهم في الكساء وقوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي...)، كما خصّهم الله تعالى بذلك بقوله: (( إِنَّمَا )).
ونكتفي لتأكيد قولنا هذا، بقول أبي المحاسن الحنفي في كتابه (معتصر المختصر)، وهو من علماء السُنّة؛ إذ قال فيه: ((والكلام لخطاب أزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تم إلى قوله:(( وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ )) (الأحزاب:33), وقوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ )) استئناف تشريفاً لأهل البيت وترفيعاًَ لمقدارهم؛ ألا ترى أنّه جاء على خطاب المذكر فقال: (( عَنكُمُ )) ولم يقل: (عنكن)؟! فلا حجّة لأحد في إدخال الأزواج في هذه الآية..
يدلّ عليه: ما روي أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا أصبح أتى باب فاطمة فقال: (السلام عليكم أهل البيت، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً )))(2). انتهى كلامه؛ فإنّه كلام حقّ قلَّ من نطق به.
وأخيراً، فلعلّ وضع النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهذه الآية وسط آيات خطاب الله تعالى ورسوله لنساءه (قبلها وبعدها)، إنّما كان للتمييز فيما بين نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام)، المتماثلين بالقرب منه، والصلة به، والملاصقة له(صلّى الله عليه وآله وسلّم)..
فنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد طُلب منهنّ الالتزام بأوامر الله تعالى، والحذر من مخالفتها؛ فإنّهن لسن كغيرهنّ من النساء، فيجب عليهنّ الالتزام أكثر من غيرهنّ, لأنّهنّ لا يمثّلن أنفسهنّ فحسب، وإنّما ينتمين إلى النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويُحسبن عليه, فيجب عليهنّ عدم الإساءة إليه بتصرفاتهنّ غير المسؤولة..
فقد قال الله تعالى: (( وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ )) (الأحزاب:34)، أي: تذكّرن وانتبهن للتعاليم التي خرجت إلى الناس من بيوتكنّ، فأنتنّ أولى بتذكّرها وذكرها, وذلك بعد تخييرهنّ واختيارهنّ الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فكأنّ تلك الآيات الشريفة شروط وخطوط يبيّنها الله تعالى لهنّ، وأوجبها عليهن.
أمّا الخطاب الذي ذكر أهل البيت(عليهم السلام) فكان خطاباًً يختلف عن ذلك الخطاب المتوجّه إلى نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ فأهل البيت(عليهم السلام) ذكروا في هذه الآية مدحاً، ورفعاً لشأنهم، كما قال أبو المحاسن، ودون قيد أو شرط, فيكون ذكر شطري قرابة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبيان حالهم والتمييز بينهم.
وبيان حالهم نكتة لطيفة من الله تعالى في جمعهم بمكان واحد؛ فقد يساء لأهل البيت(عليهم السلام) بالفهم الخاطئ بسبب التنديد الوارد في النساء ومطالبتهنّ بالإلتزام وتذكّر أحكام الله، وعدم إيذاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتضييق عليه، فيدخلهم في ذلك التخيير من الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنّه يشملهم وأنّهم مطالبون بتذكر آيات الله وعدم مخالفتها, فلذا جيئ بهذه الجملة المعترضة والآية الكريمة في وسط ذلك الجو لينزه أهل البيت(عليهم السلام) عن ذلك العتاب وذلك الإلزام وتلك الشروط, ويدفع ذلك التوهم بمدحهم مدحاً عظيماً مؤكداً ومخصصاًً لهم بذلك الفضل دون من سواهم, والله العالم.
وأمّا ما ذكرته عن البخاري، فغير دقيق؛ لأنّ البخاري لم يروِ حديث الكساء، وإنّما رواه مسلم.
(1) انظر: مسند أحمد 6: 292 حديث أُمّ سلمة زوج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، صحيح مسلم 7: 130 باب (فضائل أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم))، سنن الترمذي 5: 30 سورة الأحزاب، المستدرك على الصحيحين 2: 416 تفسير سورة الأحزاب، السنن الكبرى للبيهقي 2: 149 باب (أهل بيته الذين هم آله).
ولفط رواية أحمد: ((حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبد الملك، يعنى: ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: حدّثني من سمع أُمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعى زوجك وابنيك. قالت: فجاء عليّ والحسين والحسن فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أُصلّي في الحجرة، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: (إنّك إلى خير، إنّك إلى خير))).
(2) معتصر المختصر 2: 267، في باب أهل البيت.
السؤال: تغاير آيتي التطهير والتخيير في سبب ووقت النزول
ارجو بيان ما يلي :
1- تاريخ نزول الايات المتحدّثة عن ازواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سورة الأحزاب: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا )) (الأحزاب:28)، الى قوله تعالى: (( وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا )) (الأحزاب:34).
2- تاريخ نزول مقطع التطهير في هذه الآيات: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا )) (لأحزاب: 33).
3- سبب النزول لكلي الآيتين: آيات نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومقطع التطهير.
الجواب:
لا شكّ أنّ هناك مغايرة في سبب نزول آية التخيير وآية التطهير، فالسبب الذي يذكروه لآية التخيير هو: أنّ نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سألنه شيئاً من الدنيا، ولم يكن عنده، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهنّ من بعض فانزل الله تعالى آية التخيير(1).
وقال الشامي في (سبيل الهدى والرشاد): ((إنّ نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سألنه في عرض الدنيا ومتاعها أشياء، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهنّ من بعض، فهجرهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآلى على نفسه، أي: حلف، لا يقربهنّ شهراً، ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا: ما شأنه؟ وكانوا يقولون: طلّق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر: لأعلمنّ لكم شأنه...)(2).
وقيل في زمن نزول آية التخيير: أنّه حصل بعد الفتح، كما أشار إلى ذلك المقريزي في (إمتاع الاسماع)(3).
أمّا آية التطهير فكان نزولها في بيت أُمّ سلمة أو فاطمة(عليها السلام) عندما جمع الحسن والحسين وعليّ وفاطمة معه صلوات الله عليهم أجمعين تحت الكساء، لذا لا شك في اختلاف الواقعتين وإن صعب تحديد أيّهما الأسبق.
(1) انظر: تفسير السمعاني 4/275 قوله تعالى: (أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ...).
(2) سبل الهدى والرشاد للشامي 9/62 جامع أبواب سيرته الباب(4).
(3) إمتاع الأسماع 13/72 فصل في ذكر خصائص رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الواجب المتعلّق بالنكاح
رد على إشكالات بعض الوهابية على الآية
بطلان استدلال الشيعة بحديث الكساء على إمامة عليّ وعصمة آل البيت
ومن الأدلّة التي يستدلون بها على الإمامة: آية التطهير، وآية التطهير هي قوله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33).
يقولون: إنّ أهل البيت هم: عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ بدلالة حديث الكساء.
حديث الكساء: ترويه أُمّ المؤمنين عائشة التي يزعمون أنّها تبغض آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا الحديث يخرجه الإمام مسلم، الذي يزعمون أنّه يكتم أحاديث في فضائل آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
عائشة تروي: أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاءه عليّ فأدخله في عباءته - أي: في كسائه - ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاءه الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جلّلهم - أي: غطّاهم - صلوات الله وسلامه عليه بالكساء، ثم قال: (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)، فقالوا: هذا الحديث يفسر الآية، وهي قول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )).
ثم الاستدلال الآخر: وهو أنّ إذهاب الرجس والتطهير أي (يعني) العصمة، فيكونون بذلك معصومين، ويكون عليّ رضي الله عنه معصوماً، وكذا الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فإذا كان الأمر كذلك فهم إذاً أوّلى بالإمامة من غيرهم، ثم أخرجوا فاطمة رضي الله عنها، وقالوا: إنّ الإمامة في عليّ والحسن والحسين، ثم في أولاد الحسين، كما هو معلوم عند الكثيرين.
هذه الآية، هل هي فعلاً في عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أو في غيرهم؟
اقرؤوا ما قبل هذه الآية، تدبّروا القرآن، فنحن لا نريد أكثر من ذلك، أفليس الله تبارك وتعالى يقول: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا )) (محمد:24)؟ ويقول: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلافاً كَثِيراً )) (النساء:82)؟ إنّ هذا الخطاب من الله جلّ وعلا ليس متوجّهاً فقط إلى أُناس معنيين هم الذين يحقّ لهم أن يتدبّروا القرآن، بل إنّ الله تعالى يطلب من جميع المسلمين - بل ومن غير المسلمين - أن يتدبّروا القرآن، ويتعرّفوا على الله جلّ وعلا من خلال هذا القرآن؛ فإنّهم إذا قرؤوا القرآن وتدبّروه وعرفوه حقّ المعرفة وعرفوا قدره ومكانته لن يجدوا بُدّاً من الانصياع إليه واتّباعه والإقرار بكماله وحسن رصّه، وغير ذلك من الأمور.
كذلك الأمر هنا، نحن لا نريد منكم أكثر من أن تتدبّروا القرآن - أنا أعنيكم يا عوام الشيعة - دعوا علماءكم جانباً، ارجعوا إلى كتاب ربّكم جلّ وعلا واقرؤوه، وافتحوا هذا القرآن الكريم، على سورة الأحزاب، فعندما نفتح الآن على سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين، سنجد أنّ الله تبارك وتعالى يقول: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلمُحسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجراً عَظِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَف لَهَا العَذَابُ ضِعفَينِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقنُت مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعمَل صَالِحاً نُؤتِهَا أَجرَهَا مَرَّتَينِ وَأَعتَدنَا لَهَا رِزقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي فِي قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلنَ قَولاً مَعرُوفاً * وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً * وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً )) (الأحزاب:28-34).
نجد أنّ كلّ الآيات متناسقة، آيات في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يقول الله: (( يَا نسَاءَ النبيّ )), (( وَقَرنَ في بيوتكنَّ وَلا تَبَرَّجنَ ))، ثم قال: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً * وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ))، فنجد الآيات في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فكيف لأحد أن يدّعي بعد ذلك أنّ هذه الآية، بل هذا المقطع من الآية - لأنّ قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) ليست آية إنّما هي جزء من آية (( وَقَرنَ في بيوتكنَّ ))، تلكم الآية - فكيف تقبلون في كلام الله جلّ وعلا أن يكون الخطاب لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا ))، ثم يقول: (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ))... (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي فِي قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلنَ قَولاً مَعرُوفاً * وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))، يا عليّ.. يا فاطمة.. يا حسين! ثم يعود مرّة ثانية: (( وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ))؟
ما الذي أدخل عليّاً والحسن الحسين وفاطمة في خطاب موجّه لنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
ما مناسبة هذه الفقرة بين هذه الآيات؟ لا توجد مناسبة.
ماذا علينا أن نفعل؟ هل نطعن في كلام الله، أو نطعن في الذين فهموا هذا الفهم وادّعوا دعوى غير صحيحة؛ لأنّ قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))؟
نقول: هذه دعوى باطلة، فهذه في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لذلك كان مجاهد رحمه الله تعالى - مجاهد بن جبر - يقول: ((هي في نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن شاء باهلته)) - أي في هذه الآية- .
- من هم آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
القصد، هذه الآية هي في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحديث الكساء لعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وبهذا نجمع بين الأمرين: أنّ عليّاً وفاطمة، والحسن والحسين من آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بدليل حديث الكساء، وأزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من آل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والدليل الآيات المذكورة سابقاً.
وغيرهم يدخل أيضاً في آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كـالفضل بن العبّاس، والمطّلب بن ربيعة بن الحارث ابن عم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ وذلك لأنّه لمّا منعهما من الزكاة أن يكونا عاملين عليها وقال: (إنّها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد)..
ويدخل كذلك في آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): آل جعفر، وآل عقيل، وآل العبّاس، بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه.
فَقَصر هذه الآية على عليّ والحسن والحسين وفاطمة، لا يستقيم معه نص الآية، ولذلك نقول: إنّ هذا القول مردود.
- حلّ إشكال ورد شبهة:
هنا إشكال وهو: إذا كان الأمر كذلك؛ وهي في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فما مفهوم: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ )) ولم يقل: عنكنّ؟ وهذا هو الذي يدندنون عليه!
لماذا قال: (عنكم)، ولم يقل: عنكن؟ وهذه قد ذكر أهل العلم لها معان كثيرة، منها:
أوّلاً - وهو أصح هذه الأقوال -: إنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) داخل معهنّ، وذلك أنّ الخطاب كان للنساء، ثم لمّا تكلّم على البيت دخل سيّد البيت، وهو: محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإذا دخل صلوات الله وسلامه عليه مع النساء في الخطاب، فطبيعي جداً أن تُلغى نون النسوة وتأتي بدلها ميم الجمع: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ ))، أي: يا نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعكنّ سيدكنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وتصحّ أيضاً لِما قال الله تبارك وتعالى عن إمرأة إبراهيم: (( رَحمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ )) (هود:73) وهي إمرأة إبراهيم، لم جاء بميم الجمع هنا: (عليكم) ولم يقل: (عليكنّ)، ولا (عليك) أيضاً؟ وإنّما (عليكم) يريد أهل البيت، يريد مراعاة اللفظ، واللفظ: (أهل).
وعلى كلّ حال؛ إنّ نون النسوة هنا لم يؤت بها؛ لأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل معهنّ.
- عدم دلالة آية التطهير على عصمة آل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم):
كذلك بالنسبة للتطهير، الله سبحانه يريد أن يذهب الرجس، ويريد أن يطهّر سبحانه وتعالى، فهل هم مطهّرون خلقة، أو يريد الله الآن أن يطهّرهم؟
القوم يدّعون أنّهم مطهّرون خلقة - أي: خلقوا مطهّرون - فإذا كانوا خلقوا مطهّرين فما معنى قوله سبحانه وتعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ )) بعد أوامر ونواه؟ قال: يريد أن يذهب عنكم الرجس - أي: طهّركم وأذهب عنكم الرجس -؟
إذاً: ما معنى حديث الكساء، وهو: (أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جلّلهم بالكساء، ثم قال: اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)، لماذا يدعو؟ وبماذا يدعو.. بإذهاب الرجس الذي هو أصلاً ذاهب عنهم؛ لأنّهم مطهّرون خلقة؟! فكيف النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلب من الله أن يذهب عنهم الرجس؟ تحصيل حاصل لا ينبغي أن يكون من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إذاً هذه الآية لا تدلّ على العصمة، كيف تدلّ على العصمة وعليّ رضي الله عنه يقول: (وإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ، ولا آمن من أن يقع منّي ذلك)، يقول ذلك في الكافي الجزء الثامن صفحة (293)؟
ويقول للحسن ابنه: (ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم)، وهذا في نهج البلاغة صفحة (576).. وقال له أيضاً: (فاعلم أنّك إنّما تخبط خبط العشواء، وتتورّط الظناء)، وهذا في نهج البلاغة صفحة (577).. وقال له كذلك: (فإن أشكل عليك من ذلك - يعني أمر - فاحمله على جهالتك به، فإنّك أوّل ما خلقت جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضلّ فيه بصرك)، وهذا في نهج البلاغة صفحة (578).
وهذا من يسمّونه بـ((الشهيد الثاني)): زين الدين بن علي العاملي، يقول: ((فإنّ كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون بعصمتهم لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنّهم علماء أبرار))، وهذا في حقائق الإيمان صفحة: (151).
- معنى الرجس:
يقول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ ))، ما هو الرجس؟
الرجس: قال أهل اللغة: هو القذر.. الذنب.. الإثم.. الفسق.. الشك..الشرك.. الشيطان، كلّ هذا يدخل في مسمّى الرجس.
وردت كلمة الرجس في القرآن في مواضع عدّة، فقد وردت في قول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ )) (المائدة:90).
وقال تعالى: (( كَذَلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ )) (الأنعام:125).
وقال سبحانه وتعالى: (( قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيتَةً أَو دَماً مَسفُوحاً أَو لَحمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ أَو فِسقاً أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ )) (الأنعام:145).
وكذلك يقول سبحانه وتعالى على الكفار من اليهود: (( قَالَ قَد وَقَعَ عَلَيكُم مِن رَبِّكُم رِجسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسمَاءٍ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ )) (الأعراف:71).
ويقول تعالى: (( سَيَحلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُم إِذَا انقَلَبتُم إِلَيهِم لِتُعرِضُوا عَنهُم فَأَعرِضُوا عَنهُم إِنَّهُم رِجسٌ )) (التوبة:95).
وجاءت آيات أُخرى تبيّن معنى الرجس، وهو: الإثم.. الذنب.. القذر..الشك.. الشيطان.. الشرك، وما شابهها من المعاني؛ ولذلك جاء عن جعفر الصادق رضي الله عنه ورحمه، أنّه قال: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ ))، قال: هو الشك, وقال الباقر: (الرجس: هو الشك، والله).
الجواب:
هذه الشبهات المطروحة ليست جديدة، وقد تقوّلها عثمان الخميس في كتاب (حقبة من التاريخ) منذ سنين، ونحن نجيب عليها بالإضافة إلى ما أُجيب عنها سابقاً:
ما ذنب الشيعة والأحاديث الصحيحة صريحة في هذا المعنى المتنازع عليه، بأنّ أهل البيت هم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، بالإضافة إلى سيد البيت النبيّ المصطفى(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!
فهذه رواية عائشة في مسلم(1) التي حكت فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأصحاب الكساء(عليهم السلام) ثم تلاوته لآية التطهير من سورة الأحزاب، تعاضدها النصوص الصحيحة التي رواها أئمّة السنن والآثار، حين نقلوا قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبطرق مختلفة: (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي) حين جلّلهم بالكساء، وحين قرأ آية التطهير عليهم خاصّة..
وهذا اللفظ منه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفيد الحصر وتعيين المذكورين فقط بأنّّهم أهل البيت دون غيرهم. وقد نصَّ العلماء بأنّ تعريف الجزءين (هؤلاء، أهل بيتي)يفيد الحصر(2).
وقد صرّح جمع من علماء أهل السُنّة بهذا المعنى أيضاً، أيّ: بأنّ المراد بأهل البيت هم: أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم، وفي هذا يقول الحاكم النيسابوري في كتابه، بعد أن ذكر جملة من الأخبار والروايات الصحيحة على شرط الشيخين، الصريحة في أنّ أهل البيت هم خصوص أصحاب الكساء(عليهم السلام) فقط، وأنّهم أيضاً المرادون بمصطلح: (آل محمّد)، دون غيرهم، قال بعد إيراده لحديث كيفية الصلاة على أهل البيت: ((وإنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم))(3).
وفي هذا المعنى أيضاً يقول الآلوسي صاحب التفسير: ((وأخبار إدخاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً وفاطمة وابنيهما(رضي الله تعالى عنهم)، تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي) ودعائه لهم، وعدم إدخال أُمّ سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصّصة لعموم أهل البيت بأيّ معنى كان البيت، فالمراد بهم: من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) )) (4).
وأمّا الجواب على الاحتجاج بوحدة السياق، وأنّ هذه الآية الكريمة وردت ضمن آيات جاءت تتحدّث عن نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيكون المراد بأنّهنّ المقصودات بهذه الآية الكريمة، بالإضافة إلى النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لمحلّ التذكير في الضمائر (عنكم)، الذي يستفاد منه الشمول للذكر والأنثى..
فنقول: إنَّ من الضروري للاستدلال بوحدة السياق لهذه الآيات، بل وللاستدلال بها في كلّ آيات القرآن الكريم إثبات نزول الآيات المستدلّ بها دفعة واحدة، وفي مناسبة واحدة، ليكون بعضها قرينة على بعضها الآخر، وأمّا احتمال تعدّد الكلام في مناسبات مختلفة، فهو ينسف الاستدلال بوحدة السياق، ولا يمكن إثبات المدّعى في هذا المقام وفي كلّ مقام..
ومن المعلوم أنّ ترتيب الآيات القرآنية في المصحف الشريف لم يكن بحسب التسلسل الزمني لنزولها، فرُبّ آية مدنية وضعت بين آيات مكّية وبالعكس..، وهذا الأمر يمكن ملاحظته بأدنى مراجعة لأسباب نزول الآيات التي ذكرها العلماء في الكتب الخاصّة بهذا الشأن.
وفي مقامنا: من العسير جداً إثبات نزول آية التطهير (وهي الآية 33 من سورة الأحزاب) مع الآيات الواردة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل هناك من الأدلة ما يشير إلى نزول آية التطهير قبل آيات نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قال السيوطي: ((أخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: لمّا دخل عليّ(رضي الله عنه) بفاطمة رضي الله عنها جاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أربعين صباحاً إلى بابها يقول: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، الصلاة رحمكم الله، (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )), أنا حرب لما حاربتم، وأنا سلم لمن سالمتم) ))(5).
فإذا علمنا أنّ زواج فاطمة(عليها السلام) من عليّ(عليه السلام)كان بعد رجوع النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة، كما يروي ذلك أبو الفرج الأصفهاني(6)، أو على رأس اثنين وعشرين شهراً من الهجرة، بحسب رواية الطبري عن الواقدي(7)..
وعلمنا أيضاً أنّ نزول الآيات المرتبطة بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان بعد زواج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمجموعة منهنّ، بل ذهب بعض المفسّرين إلى كونهنّ تسعة عند نزول هذه الآيات(8)، ولم يختلف أحد في وجود (حفصة) آنذاك، وأنّها من جملة النساء اللآتي خيّرهنَّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين الدنيا والآخرة.. وقد صرّح الطبري وغيره أنّ زواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حفصة كان في السنة الثالثة من الهجرة قبل الخروج إلى أُحد(9)، أي أنّه متأخّر عن زواج فاطمة(عليها السلام) بما يقارب السنة الواحدة..
فيتبيّن لنا من ملاحظة هذين الأمرين - أي: من تاريخ زواج عليّ من فاطمة(عليهما السلام)، وتاريخ زواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حفصة - أنّه لا يمكن المصير إلى القول بأنّ آية التطهير قد نزلت دفعت واحدة مع آيات نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهذا الإشكال الوارد على وحدة السياق لهذه الآية مع تلك الآيات إن ثبت على نحو الجزم، فهو مانع من الاستدلال به في المقام، وإن لم يثبت على نحو الجزم، فلا أقل من كونه احتمالاً مانعاً من تمامية الاستدلال بوحدة السياق في المقام.
وأيضاً يوجد هناك أمران آخران يمنعان من الاستدلال بوحدة السياق لهذه الآيات الكريمات:
الأوّل: عدم وحدة الخطاب بينها، أي بين آيات النساء وآية التطهير، فالملاحظ أنّ المولى سبحانه أرجع الإرادة في آيات النساء إليهن لا إليه عزّ وجلّ، إذ قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا... وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ )) (الأحزاب:28-30)، بينما في آية التطهير كان الخطاب يحكي عن تعلّق الإرادة الإلهية ذاتها بالتطهير وإذهاب الرجس عن أهل البيت(عليهم السلام)، فقد قال تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33).
الثاني: إنّ آيات النساء وردت في سياق الزجر والتحذير، بينما آية التطهير - بالاتّفاق - قد وردت في سياق المدح والتفضيل، وشتّان بين السياقين إذا اعتبرنا أنّ المخاطب في كلا الموردين واحد وليس متعدّداً.
وبشكل عام لكي يتم الاحتجاج بوحدة السياق بين آيات ما، في القرآن الكريم، يحتاج إلى شيئين: الأوّل: الوحدة في النزول، الثاني: الوحدة في الخطاب.. وهما مفقودان في المقام.
وأمّا دعوى أنّ مجاهد بن جبر كان يقول: ((هي في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن شاء باهلته)).. فالصحيح أنّ هذا الرأي هو لعكرمة مولى ابن عبّاس، كان يجاهر به، وينادي به في الأسواق.
وعكرمة معروف بإنحرافه عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل بيته؛ لأنّه كان يرى رأي الخوارج، والنصب ظاهر من كلماته وألفاظه في هذه المسألة، وإلاّ.. فأيّ شيء يستدعي إجراء المباهلة لغرض بيان تفسير آية من آيات القرآن، أنّها نزلت في فلان دون فلان سوى النصب والعداء الذي كانت تجاهر به الخوارج تجاه أمير المؤمنين(عليه السلام) خاصّة، وأهل البيت(عليهم السلام) عامّة، وبالذات رأي نجدة الحروري - الذي كان عكرمة يرى رأيه - الذي يُعدّ أشدّ الآراء بغضاً لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، بالإضافة إلى تكفير جميع المسلمين من غير الخوارج.
وقد اشتهر عن عكرمة أيضاً كذبه ووضعه للحديث، لذا وصفه يحيى بن سعيد الأنصاري بأنّه: كذّاب(10)، فمن المعيب، بل من الإجحاف الركون إلى هذا الرأي الصادر عن هذا الكذّاب الناصبي، وترك تلك النصوص الصريحة المستفيضة الصادرة عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تفسير آية التطهير بالخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم..
مع أنّ في قوله - أي عكرمة - دلالة على أنّ المسلمين كافّة كانوا على خلاف في ذلك، ولذلك كان يقول: ((ليس ما تذهبون إليه...)) ثم يطلب المباهلة(11).
وفي دعوى عود ضمير الجمع (( عَنكُمُ.. يُطَهِّرَكُم )) إلى ما يشمل الذكور - النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - بالإضافة للزوجات، وأنّه جاء على لسان الخطاب مع زوجة إبراهيم(عليه السلام) في قوله تعالى: (( أَتَعجَبِينَ مِن أَمرِ اللَّهِ رَحمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ )) (هود:73).
نقول: إنّ استفهام الملائكة من تعجّب سارة زوجة إبراهيم(عليه السلام) إنّما كان لقرابتها منه(عليه السلام) ولاصطفائها، وهذا المعنى يتطابق مع الواقع الخارجي لسارة - لكونها ابنة عم إبراهيم(عليه السلام) - وأيضاً مع المدلول اللغوي لكلمة (أهل بيت الرجل)، التي نصّ اللغويون على أنّ المراد منها: ذو قرباه ومن يجمعه وإياهم نسب(12) - أي قربى الرجل الذي نسبوا على أنّهم من أهل بيته - ولا شك أنّ الإرتباط مع الرجل بوشيجة النسب أخصّ منه في وشيجة السبب - كالزواج وغيره - ..
على هذا يكون الخطاب في (الآية 73 من سورة هود) شاهداً على أنّ المراد بأهل البيت في (آية التطهير 33 من سورة الأحزاب) هم: المرتبطون بالنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حيث النسب لا من حيث السبب، كما هو الشأن في سارة زوجة إبراهيم(عليه السلام) المرتبطة بإبراهيم(عليه السلام)، من حيث النسب والسبب معاً لا بالسبب وحده.
ولو سلّم شمول آية التطهير لزوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإستناد إلى عموم اللفظ..
نقول: قد خُصّص هذا العموم بالأحاديث الصحيحة المتضافرة من السُنّة الشريفة بأنّ المراد بـ (أهل البيت) في الآية الكريمة هم: الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم.. فلا يتم مطلوب المناهض لهذا الرأي على أيّة حال.
وأيضاً الاستدلال بأنّ أهل البيت يشمل آل جعفر وآل عقيل وآل العبّاس - كما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم(13) - لا يعدو أن يكون رأياً لزيد رآه لا يقوى على مناهضة الأحاديث الصحيحة الصريحة الواردة عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، التي فسّرت أهل البيت بالخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دون غيرهم.
وهذا الرأي لزيد يمكن الاستدلال به على نفي أنّ المراد بأهل البيت: نساؤه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)! فإنّ لزيد بن أرقم في هذه المسألة روايتان، في واحدة منها ينفي أن يكون المراد بأهل بيته: نساؤه، وفي الثانية يثبت فيها أنّ أهل بيته هم: من حرم الصدقة بعده، بالإضافة إلى إثباته بأنّ نساءه من أهل بيته، وقد يبدو التعارض والتناقض بين الروايتين!
ومن هنا قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: ((وأمّا قوله في الرواية الأُخرى: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة. قال: وفي الرواية الأُخرى: فقلنا مَن أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنّه قال: نساؤه لسن من أهل بيته، فتتأوّل الرواية الأُولى على أنّ المراد أنهنّ من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم... ولايدخلن فيمن حرم الصدقة))(14).
فالملاحظ من هذا الشرح أنّ الرواية المعروفة والمشهورة عن زيد أنّ نساءه لسن من أهل بيته, ولكن لورودها في صحيح مسلم على خلاف المعروف والمشهور - كما أشار النووي في شرحه - احتاجت إلى التأويل!
وقد فصل زيد بين أهل البيت بمعنيين: بين من يسكن معه في بيت واحد ويعولهم, وبين من حرم الصدقة بعده, فالمراد بأهل البيت في الحديث - الذي يرويه زيد - هم: مَن حرم الصدقة بعده، وهو المعنى الذي أراد بيانه ونصّ عليه شارح مسلم النووي..
ومن المعلوم أنّ نساءه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تحرم عليهن الصدقة بالإجماع، إذاً هنَّ لسن المرادات من مفهوم (أهل البيت) الوارد في حديث الثـقلين، وكذلك في آية التطهير، بل في كلّ الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
وأمّا التساؤل عن معنى قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) بعد أوامر ونواه: فهو أمر قد تبيّن حاله من الأجوبة السابقة، بأنّ آية التطهير لم يكن نزولها مع آيات النساء والمشتملة على تلك الأوامر والنواهي، وهو الأمر الذي اعتبرناه مؤشراً واضحاً على اختلاف السياقين، وأنّ سياق (آية التطهير) هو سياق المدح والثناء، وهو الذي فهمه كلّ العلماء والمحدّثين، فأوردوا الأحاديث التي وردت فيها هذه الآية بحقّ أهل البيت(عليهم السلام) في باب مناقبهم وفضائلهم.. فتدبّر!
وكذلك الإتيان بلفظة (( يُرِيدُ )) في الآية لا تدلّ على وقوع المراد في المستقبل فقط، إذ يمكن أن يؤتى بصيغة الاستقبال ويراد بها الماضي والحال، كما في قوله تعالى: (( إنَّمَا يريد الشَّيطَان أَن يوقعَ بَينَكم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمر وَالمَيسر )) (المائدة:91)، مع أنّ الشيطان قد أوقع العداوة في الماضي بسبب الخمر، فلا تدلّ الآية على إرادة الوقوع في المستقبل فقط، مع أنّ اللفظ جاء بصيغة الاستقبال..، وأيضاً قوله تعالى: (( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم )) (النساء:28), فالإرادة فيه للحال لا للاستقبال مع أنّ الصيغة صيغة استقبال.. وهكذا غيرها من الموارد المذكورة في القرآن الكريم، فراجع!
وكذلك كونه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا لهم بإذهاب الرجس والتطهير - كما في بعض نصوص هذه الروايات - لا يدلّ على أنّ الرجس كان ثابتاً عندهم والنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلب إذهابه، بل نقول: أنّ لسانه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هنا يجري مجرى قول القائل ((أذهب الله عنكم كلّ مرض)) مع أنّه لم يكن حاصلاً له أيّ مرض.
وما نُقل عن الشهيد الثاني في كتابه (حقائق الإيمان) بخفاء معنى العصمة عن كثير من أصحاب الأئمة(عليهم السلام)(15)، ليس دليلاً على عدم الدليل؛ فقد يخفى فهم الدليل على بعض ويدركه بعض آخر، وإلاّ لما دعا المولى سبحانه إلى التدبّر والتفكّر في آيات الله، وسؤال أهل الذكر، ووصف قوماً بالراسخين في العلم دون غيرهم!
وأمّا قولهم: إنّ عليّاً(عليه السلام) نفى عن نفسه العصمة، كما هو الوارد في (نهج البلاغة) أنّه قال: (وإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن من أن يقع منّي ذلك...).
نقول: هذا النصّ الوارد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة فيه استثناء يدلّ على العصمة، ولكن غالب المستشهدين به يقتطعونه لغرض التلبيس على العوام! فقد قال(عليه السلام) بالنص - كما في النسخة المحقّقة والتي علّق عليها الشيخ محمد عبده المصري -: (فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي).
قال الشيخ محمد عبده في تعليقته: ((يقول: لا آمن من الخطأ في أفعالي، إلاّ إذا كان يسّرَ الله لنفسي فعلاً هو أشد ملكاً منّي، فقد كفاني الله ذلك الفعل فأكون على أمن من الخطأ فيه))(16).
نقول: فهل كفى الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين(عليه السلام) من نفسه ما هو أملك به منه، ويسّر له فعلاً هو أشدّ ملكاً منه ينتصر به على نفسه ويأمن الخطأ في فعله، كما هو مراد الاستثناء في كلامه(عليه السلام) الذي يغض عنه الطرف المغرضون عمداً وتعمية؟!
وفي الجواب، نقول: فليرجع هؤلاء إلى (نهج البلاغة) نفسه الذي استشهدوا بهذه العبارة منه، وليستمعوا إلى أقوال أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذا الجانب وليلاحظوا العبارات التي يعبّر بها (عليه السلام) عن نفسه بما يفيد نفس معنى العصمة الذي يقول به الإمامية له(عليه السلام).
قال(عليه السلام): (وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، ومنهاج من نبّيي، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً)(17).
ويقول(عليه السلام) في كلام له وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد فسكتوا مليّاً: (لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا يهلك عليها إلاّ هالك، من استقام فإلى الجنّة، ومن زلَّ فإلى النار)(18).
ويقول(عليه السلام) في كلام له لبعض أصحابه: (فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحقّ على محضه)(19).
ويقول(عليه السلام): (ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط)(20).
ويقول(عليه السلام) في كلام له ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله وأمره ونهيه: (فوالذّي لا إله إلاّ هو أنّي لعلى جادّة الحقّ وإنّهم لعلى مزلّة الباطل)(21).
ويقول(عليه السلام) في خطبته المسمّاة بـ (القاصعة)، التي ذكر فيها قربه من النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وملازمته إياه منذ الصغر: (وكان - أيّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل)(22).
ويقول(عليه السلام) في حقّ أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولا يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، لا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا)(23).
وهكذا نجد غير هذه الكلمات والنصوص الصادرة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في (نهج البلاغة)، وهي تدلّ بشكل واضح على عصمته وعصمة أهل بيته الكرام(عليهم السلام).
وأيضاً نقول عن الشبهة الأخرى: بأنّه تحمل أقواله(عليه السلام) في وصيّته لابن الحسن(عليه السلام) على اللسان المعروف في الخطاب: (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)؛ وقد ورد هذا الخطاب من الله لنبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في موارد كثيرة في القرآن مع الجزم بعصمة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدم تصوّر اشتماله بالمضمون المخاطب به، كمثل قوله تعالى: (( لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطنَّ عَمَلُكَ )) (الزمر:65), فإنّنا نجزم بأنَّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يشرك، ولا يمكن أن نتصوّر منه الشرك، وإلاّ لما جعل نبيّاً!
وقد سبق من الله سبحانه أنّ عهد النبوّة أو الإمامة لا يناله ظالم، كما في قوله تعالى: (( لا يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة:124), والشرك يُعد ظلماً عظيماً؛ لقوله تعالى: (( إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ )) (لقمان:13), فإن كان الأمر كذلك فلا يمكن أن تصل النوبة إلى تقليد عهد النبوّة أو الإمامة لرجل سبق في علم الله أنّه سيكون من الظالمين، وإنّما الخطاب المتصور في الآية: (( لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطنَّ عَمَلُكَ )) إنّما هو للمغيرة وليس له(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد ورد على الطريقة المعروفة التي أشرنا إليها في الخطاب.
وكذلك يفهم كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) مع ابنه الحسن(عليه السلام)، بل هكذا ينبغي أن تفهم كلماتهم وأدعيتهم(عليهم السلام) التي يوجد فيها الطلب بالمغفرة للذنوب وما أشبه ذلك، وذلك بعد ثبوت الأدلّة على عصمتهم كآية التطهير، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وأحاديث أخرى صحيحة.
وأمّا ما جاء في بيان كلمة (( الرِّجسَ )) والمراد منها، فإنّنا لم نفهم محلّ التعليق عليه؛ فإنّهم قد ذكروا معاني متعدّدة للرجس بحسب ما جاء في اللغة، فيكون الحال - بهذا اللحاظ - أنّه سبحانه قد أذهب كلّ هذه الأمور التي يشتمل عليها معنى الرجس عن أهل البيت(عليهم السلام)، فما ذكروه هو عليهم لا لهم!
وإنَّ لفظ (( الرِّجسَ )) - الذي هو متعلّق التطهير - قد ورد في الآية مطلقاً محلّى بألف ولام الجنس، فالآية الشريفة إذاً تعلن نفي ماهية الرجس بنحو العام الاستيعابي لكلّ ما هو داخل تحت هذا الاسم عن أهل البيت المذكورين في الآية..
وأوضح منه في إفادة العموم: قوله عزّ وجلّ: (( وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))، وهذا لا يحصل برفع بعض الأقذار دون بعض، وإنّما يتحقق - أي التطهير - برفع جميع الأقذار ودفعها عن المحلّ.. فالآية تدلّ على نفي عموم الخبائث والنقائص والقبائح عن أهل البيت(عليهم السلام) ظاهراً وباطناً وبجميع المراتب..
وهذا المعنى أيضاً يمكن تحصيله بملاحظة آيات أخرى وردت في القرآن الكريم؛ فعندما نلاحظ قوله تعالى: (( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتهُم رِجساً إِلَى رِجسِهِم )) (التوبة:125), يتبيّن لنا أنَّ للرجس مراتب، وأنّه من الأمور المتفاوتة - أي: أنّه ليس بمرتبة واحدة - وإلاّ لا تصح الزيادة في الآية الكريمة آنفاً (( فَزَادَتهُم ))!
وكذلك نستفيد أنّ للرجس ظاهر وباطن؛ إذ بحسب تفسير الرجس بالإثم نستفيد دلالة ذلك، كما في قوله تعالى: (( وَذَرُوا ظَاهِرَ الأِثمِ وَبَاطِنَهُ )) (الأنعام:120), وهذا كلّه قد أذهبه الله عزّ وجلّ - بدلالة آية التطهير - عن أهل البيت(عليهم السلام).
وما ذكروه من تفسير الإمام الباقر(عليه السلام) للرجس بالشرك، فإنّنا نفهم هذا التفسير بعد ملاحظة شمول معنى الرجس للذنوب والمعاصي والشكوك، وهو بحسب ما جاء في كلمات أهل اللغة من باب تفسير اللفظ بأبرز مصاديقه، لا أنّه يحصر مفهوم الرجس بهذا المصداق، كيف والقرآن الكريم يعطي هذا المفهوم تلك المصاديق الكثيرة كما هو واضح من الآيات الكريمة التي أوردوا هم بعضها.
ولمزيد الاطلاع على ردود اخرى حول الشبهات الواردة راجع كتاب (رد اباطيل عثمان الخميس) على آية التطهير وحديث الكساء لكاتبه حسن بن عبد الله بن علي .
(1) صحيح مسلم 7: 130 كتاب (فضائل الصحابة) باب (فضائل أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(2) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 560 النوع الثاني والأربعون: قاعدة في التعريف والتنكير.
(3) المستدرك على الصحيحين 3: 148 من مناقب أهل بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
(4) تفسير روح المعاني للآلوسي 22: 13 في تفسير قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ...)).
(5) الدرّ المنثور 5: 199 سورة الأحزاب.
(6) مقاتل الطالبيين: 30 (الحسن بن علي).
(7) تاريخ الطبري 2: 177 غزوة السويق.
(8) انظر: السيوطي في الدرّ المنثور 5: 195 في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ )).
(9) تاريخ الطبري 2: 186 مقتل أبي رافع اليهودي.
(10) انظر: ترجمة عكرمة في: ميزان الاعتدال للذهبي 3: 93 عكرمة مولى ابن عبّاس، المعارف لابن قتيبة: 455 عكرمة مولى ابن عبّاس.
(11) الدر المنثور 5: 198 قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ...)).
(12) مفردات الراغب
(13) صحيح مسلم 7: 122 باب (فضائل عليّ(رض)).
(14) صحيح مسلم بشرح النووي 15: 180 فضائل عليّ بن أبي طالب(رض).
(15) حقائق الإيمان: 151 الأصل الرابع: التصديق بإمامة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين.
(16) نهج البلاغة شرح محمد عبده 2: 201 من خطبة له (عليه السلام) بصفّين (216).
(17) نهج البلاغة 1: 189 خطبة (97).
(18) نهج البلاغة 1: 232 خطبة (119).
(19) نهج البلاغة 2: 64 خطبة (162).
(20) نهج البلاغة 2: 171 (197).
(21) نهج البلاغة 2: 172 (197).
(22) نهج البلاغة 2: 157 (192).
(23) نهج البلاغة 1: 189 (96 ).
آية التطهير خاصة لا تشمل أزواج النبي (صلى الله عليه واله) على كل الوجوه
جاء في كتاب (الكافي)، باب ((ما نص الله عزّ وجلّ ورسوله على الأئمة(عليهم السلام) واحداً فواحد ح1))، وهو صحيح الإسناد: (عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: إنّ الإمام الصادق(عليه السلام) - بعدما نَقَلَ حديث الثقلين عن الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - قال: فلو سكت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يبيّن من أهل بيته، لادّعاها آل فلان وآل فلان، لكن الله عزّ وجلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33)، فكانّ عليّ والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام) فأدخلهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الكساء في بيت أُمّ سلمة، ثم قال: (اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي)، فقالت أُمّ سلمة: ألست من أهلك? فقال: (إنّك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي) ))(1).
أولاً: ماذا يقصد الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله: (لكن الله عزّ وجلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيّه)? هل يقصد بأنَّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا الله عزّ وجلّ بأن يذهب عن أهل البيت(عليهم السلام) الرجس، ثم أنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية تأييداً لرسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ أم نزلت الآية أوّلاً، ثم دعا الرسول هذا الدعاء?
ثانياً: ما هو معنى كلام الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أُمّ سلمة: (أنت إلى خير) أو (على خير)? لأنّ هذا الحديث يوجد في سنن الترمذي وباقي كتب السنة، ولكن لم توجد فيه عبارة: (ولكن هؤلاء أهلي وثقلي)? بل جاء فيه فقط: (أنت على مكانك وأنت على خير)(2)، وأنا لم أفهم معنى هذه العبارة؟
هل يكون المعنى: يا أُمّ سلمة أنت من أهل البيت ولا حاجة بمجيئك تحت الكساء، (كما ورد في بعض كتب السنة) ولا تحتاجي أن أدعو لك? أو يكون المعنى: أنت لا تكوني من أهل البيت، بل أنّك على المنهج الصحيح والى خير، (كما ورد هذا المعنى في كتب الشيعة وبعض السنة)؟
وأنّ حديث الكساء مع روايته بألفاظ أخرى مثل: (أنت من أزواج النبيّ ولكن هؤلاء أهل بيتي) أو قول أُمّ سلمة: ((فوالله؛ ما أنعم رسول الله))، أو عبارة: ((فجذبه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من يدي، وقال: أنّك على خير))، أو عبارة: ((فَوددت أنه قال نَعَم، فكان أحبّ اليّ ممّا تطلع عليه الشمس وتغرب))، ومثل هذه العبارات لا تمتلك السند الصحيح عند أهل السنة، ولا تعتبر عندهم، وليست من الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها عليهم.
ثالثاً: إنّ المفسرين من أهل السنة، لا ينكرون حديث الكساء، بل يقولون: بأنّ هذا الحديث لا يحصر أهل البيت في (عليّ وفاطمة والحسن والحسين)، مثلاً طاهر ابن عاشور (وهو من العلماء السُنّة الذين عرفوا بعدم التعصب، حتى أنّه حلّل زواج المتعة طبق الفقه الشيعي وطبقاً للآية من سورة النساء)، يقول في كتابه التفسيري (التحرير والتنويل) في تفسير الآية: ((وقد تلفق الشيعة حديث الكساء، فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أنّ أزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لسن من أهل البيت، وهذه مصادمة للقرآن، بجعل هذه الآية حشوا بين ما خوطب به أزواج النبيّ، وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف (يعني كلمة أهل البيت) على أهل الكساء، إذ ليس في قوله: (هؤلاء أهل بيتي) صيغة القصر، فهو كقوله تعالى: (( إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي )) (الحِجر:68)، ليس معناه ليس لي ضيفاً غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عمّا قبلها وما بعدها.
ويظهر أنّ هذا التوهم من زمن عصر التابعين، وأنّ منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون إتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها، ويدلّ على ذلك ما رواه المفسرين عن عكرمة، أنّه قال: ((من شاء باهلتة أنّها نزلت في أزواج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ))، وأنّه قال أيضاً: ((ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ))، وأنّه كان يصرخ بذلك في السوق. وحديث عمر بن أبي سلمة (الذي رواه الترمذي) صريح في أنّ الآية نزلت قبل أن يدعو النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الدعوة لأهل الكساء، وأنّها نزلت في بيت أُمّ سلمة.
وأمّا ما وقع من قول عمر بن أبي سلمة، أنّ أُمّ سلمة قالت: وأنا معهم يا رسول الله?... فقال: (أنت على مكانك، وأنت على خير)، فقد وهم فيه الشيعة، فظنوا أنّه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة! لأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما أراد إنّ ما سألته من تحصيل الحاصل، لأنّ الآية نزلت فيها وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأنّ يذهب الله عنها الرجس ويطهّرها دعاء بتحصيل الحاصل، وهو مناف لآداب الدعاء، كما حررّه شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعليما لها.
وقد وقع في بعض الروايات أنّه قال لأم سلمة: (إنّك من أزواج النبيّ)، وهذا أوضح في المراد بقوله: (أنّك على خير). ولمّا إستجاب الله دعاءه كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلق أهل البيت على فاطمة وعليّ وابنيهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: (الصلاة يا أهل البيت، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا)، قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه))(3).
والسؤال: من أين نستطيع أن نعرف (على أساس مصادر أهل السنة)، بأنّ أهل البيت(عليهم السلام) منحصرون في خمسة أصحاب الكساء?
رابعاً: بالنسبة إلى تفسير عكرمة للآية، على أنّ الآية نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
نحن نردّ على ذلك: بأنّه كذّاب وأنّه من الخوارج، ولكن علينا أن نعرف بأنّ عكرمة لم يخص نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكونهم أهل البيت فقط، بل يقول بأنّ الآية نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويقول بدخول عليّ وعائلته تحت عنوان أهل البيت بدليل حديث الكساء، وهذا لا ينافي كون الآية نازلة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ومن جهة أخرى: أنّ عكرمة نقل أحاديث كثيرة في فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، (وأنا شاهدت الكثير منها في كتب السنة).
وكذلك؛ أنّه كان من الأفراد الموثقين عند الإمام الباقر(عليه السلام)، - كما ورد هذا الأمر في كتاب (التفسير والمفسرون) لآية الله معرفة - حيث يقول: ((ويبدو من روايات أصحابنا الإمامية، كونه - يعني عكرمة - من المنقطعين إلى أبواب آل البيت العصمة، وفقا لتعاليم تلقاها من مولاه ابن عبّاس - رضي الله عنه - فقد روى محمد بن يعقوب الكليني باسناده إلى أبي بصير، قال: كنا عند الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) وعنده حمران، إذ دخل عليه مولى له، فقال: جعلت فداك، هذا عكرمة في الموت، وكان يرى رأي الخوارج، وكان منقطعاً إلى أبي جعفر(عليه السلام)، فقال لنا أبوجعفر: (أنظروني حتى أرجع اليكم)، فقلنا: نعم، فما لبث أن رجع، فقال: (أما أنّي لو أدركت عكرمة، قبل أن تقع النفس موقعها لعلمته كلمات ينتفع بها، ولكنّي أدركته وقد وقعت النفس موقعها)، قلت: جعلت فداك، وماذاك الكلام? قال: (هو ـ والله ـ ما أنتم عليه، فلقّنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلاّ الله والولاية)(4). في هذه الرواية مواضع للنظر والإمعان: أوّلا دخول مولى أبي جعفر بذلك الخبر المفاجئ، وقوله: كان منقطعاً إلى أبي جعفر، يؤيّد كون الرجل من خاصّة أصحابه، ولم يكن يدخل على غيره، دخوله على الإمام(عليه السلام)، وأمّا قوله: وكان يرى رأي الخوارج، فهو من كلام الراوي، حدساً بشأنه، حسبما أملت عليه الحكايات الشائعة عنه...))، إلى آخر كلامه الذي يدافع فيه عن عكرمة بشدّة، ويأتي أيضاً بكلمات العلاّمة الشوشتري حول الدفاع عن عكرمة، والشوشتري هو الذي كان يخالف المجلسي حول عكرمة.
وإذا كان عكرمة ممتازاً بهذا الشخصية وهذه المنزلة عند الأئمة، فلا نستطيع أن نصفه بالكذاب ونسمّيه بالخارجي، بل علينا أن نقبله بعنوان راوي، قال بنزول الآية في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وروى عن ابن عبّاس ما يؤيّد رأيه.
وقول عكرمة بكونه حاضراً للمباهلة مع مَن لا يعتقد بنزول الآية في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، موجود في كتب أهل السُنّة بإسناد صحيح.
(1) الكافي 1: 287 حديث (1).
(2) سنن الترمذي 5: 31 سورة الأحزاب.
(3) سنن الترمذي 5: 31.
(4) الكافي 3: 123 باب ((تلقين الميت)).
الجواب:
أولاً: بمراجعة الرواية من أوّلها والتنبه إلى أسلوب الاستدلال الذي جرى عليه الإمام(عليه السلام)، يتوضح لديك أنّ المراد من قوله: (تصديقاً لنبيّه) أي تأييداً وموافقةً لنبيّه, كما لو قلت: أنّ القرآن والسُنّة يصّدق أحدهما الآخر، أي يوافقه ويعاضده ويؤيده.
وإن أبيتَ إلاّ التمسك بظاهر العبارة، فإنّ التصديق قد جاء بعد حديث الثقلين، والصحيح أنّ حديث الثقلين صدر عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مواضع عديدة تصل إلى الثمانية أو العشرة، فيكون المعنى: إنّه بعد أن صرح رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحديث الثقلين، وأنّ الثقل الأصغر هم أهل البيت(عليهم السلام) بعد أن سئل عنهما بـ (وما الثقلان يا رسول الله؟)؛ ومن الطبيعي أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيشير إلى أشخاصهم, جاءت آية التطهير تصديقاً له في تعين أهل البيت(عليهم السلام) وتشخيصهم، حتى لا يدّعي مدّع أنّ المحابات (نعوذ بالله) من الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد تدخلت في التشخيص، وإنّما الأمر من الله عزّ وجلّ.
نعم، توجد هناك رواية رواها الحاكم في (المستدرك) وحكم بصحتها, فيها أنّ الدعاء كان قبل نزول الآية, (( فعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: لمّا نظر رسول الله إلى الرحمة هابطة، قال: أدعوا لي أدعوا لي, فقالت صفية: من يارسول الله؟ فقال: أهل بيتي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين, فجيء بهم, فألقى عليهم النبيّ كساءه ثم رفع يديه، ثم قال: اللّهمّ هؤلاء آلي فصل على محمّد وآل محمّد, وأنزل الله عزّ وجلّ: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) ))(1).
ورواية أخرى عن أُمّ سلمة رواها ابن كثير في تفسيره، عن الأعمش، عن حكيم، وفي آخرها: ((فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط...))(2).
ثانياً: إنّ بعض علماء أهل السُنّة احتمل لجملة (أنتِ على خير) معنيين:
الأوّل: أنّ معناه؛ أنتِ لست من أهل بيتي، بل من أزواجي، وأنّ مآلك إلى خير وحسن العاقبة، وهذا المعنى هو ما يتمسك به الشيعة.
الثاني: أنّ معناه؛ أنت لست بحاجة للدخول تحت الكساء، لأنّك من أهل بيتي، فأزواجي من أهل بيتي.
والسبب في إيرادهم المعنى الثاني، هو أنّهم بعد أن قرروا في آية التطهير، أنّها نازلة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستدلين بالسياق، وجدوا أنّ إلتزامهم هذا يعارض بوضوح مفاد حديث الكساء، الذي شخص فيه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أهل البيت(عليهم السلام) وطبق آية التطهير على مصداقها الخارجي، فأضطروا - حفاظاً على عقيدتهم - لحمل بعض جمل الحديث على التأويل البعيد وغير المتعارف، حلاً منهم للتعارض الظاهر، والذي يودي بعقيدتهم، بعد أن كان سند الحديث صحيحاً لا يمكن ردّه, ولم يجدوا جملة تحتمل التأويل - ولو البعيد غير المألوف - سوى (أنتِ على خير)، فحملّوها المعنى الثاني الذي عرفت.
فكان فعلهم هذا؛ ليس تمسكاً بما هو ظاهر الحديث بمفرده، بل تمسكاً بالتأويل الذي لجأوا إليه، بعد جمعه مع المعنى الذي أرادوه من الآية. فإنّهم بعد أن إلتزموا بأنّ (أهل البيت) في آية التطهير في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأخذوه كأصل موضوعي لا يقبل التبديل، اضطروا لحمل كلّ نص آخر يخالفه ظاهراً على المعنى المعني ولو بالتأويل, فلاحظ!
وإلاّ، فإنّ ظاهر الحديث بإنفراده، ودون النظر إلى الآية - أي حتى لو فرضنا عدم وجود آية في المقام - هو حصر معنى أهل البيت على مصداق هؤلاء الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، وهو ظاهر من القرآئن الحالية واللفظية في قول وفعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا الحديث.
وظاهر جملة (أنتِ على خير) هو ما ذكرناه من المعنى الذي يتمسك به الشيعة، وهو المستعمل في لغة العرب لإخراج من يراد إخراجه، ولم يعهد منهم أن يستخدموا هذه الصيغة بمعنى دخول المخاطب بها في من خصّوه وميّزوه بالقيود والخصائص المذكورة في الكلام، فإنّ ظاهرها النفي بتقدير (لا) قبلها، وإذا أراد العربي أن يعطي مفاد الإيجاب، يجب أن يأتي بصيغة أخرى تفيده، بأن يقول مثلاً (وأنت كذلك), فلم يعهد من العرب بأنّهم إذا عزلوا أو خصوا جماعة من ضمن آخرين موجودين في نفس المكان بصفة أو إضافة معينة كوصفهم بالأضياف أو الشجعان مثلاً، ثم اعترض شخص حاضر فأجيب (بأنتَ على خير) أو (أنتَ مكانك) أنّه سيشمله هذا الوصف أو الإضافة، بل بالعكس فإنّه تأكيد بالخروج فوق ما لو لم يُقَل له مثل ذلك.
ولاحظ أنت؛ إذا دخلت إلى مطعم، وكان فيه أشخاص من ضمنهم بعض أصدقائك الحميمين، فناديت صاحب المطعم وقلت له: هؤلاء أضيافي، بعد أن أجلست أصدقاءك على طاولة خاصّة وعزلتهم عن بقية الناس, فهل يفهم صاحب المطعم أنّ البعض الآخر، يجوز أن يُقدم لهم الطعام على حسابك بكونهم أضيافك؟ ولو جاء شخص من الحاضرين وأراد الجلوس على نفس الطاولة وأنت قلت له: (أنتَ على خير)، أو (أنتَ مكانك) ولم تسمح له بالجلوس على الطاولة بمحضر صاحب المطعم, فهل يجوز لصاحب المطعم أن يجعله من أضيافك، أو أنّك لا تعذره وتعاتبه وكلّ الناس الحاضرين؟ ولا حجّة له بالقول؛ بأنّه أوّل معنى (على خير) بأنّك تعدّه من أضيافه الأساسيين الأصليين، بعد أن سبق كلامك القرائن الحالية بعزل أصدقائك على طاولة خاصّة, فلاحظ.
والذي يقطع الشك في هذا الحديث، الأحاديث الأخرى الكثيرة التي توضح هذه الجملة بما لا لبس فيها، والتي ذكرت أنت جملة منها, وبعض هذه الأحاديث صحيحة على موازين أهل السُنّة كما في مسند أحمد، عن شهر بن حوشب، عن أُمّ سلمة، الذي في آخره: (( فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال: (انّك على خير) ))(3)، ورواه أبو يعلى في مسنده(4).
ثم أين أنت من القاعدة التي تقول: أنّ الأحاديث يقوي بعضها البعض؟
ونحن هنا نريد أن ننبه على شيء: وهو أنّ الحكم بصحة طريق معين، لا يعني أنّ رجال هذا الطريق لم يتكلم فيهم أحد بمغمز، وإلاّ فلا يسلم رجل من رجال أهل السنّة، فإنّه لا بد أن تجد أنّ هناك أحداً من أصحاب الجرح والتعديل طعن في هذا الرجل أو ذاك، وهكذا كلّ رواتهم، وإنّما الحكم عليه يكون من مجموع أقوال أصحاب الجرح والتعديل, فلاحظ. فإنّ كثيراً من المشاغبين المجادلين المتشدقين، تراهم من أجل تضعيف رجل في طريق الحديث ينقلون طعنه من أحد أصحاب الجرح والتعديل، ويغمضون أعينهم عن مجمل ما ورد فيه محاولين إيهام مجادليهم، وتراهم في مكان آخر يأتون بالمدح لنفس الرجل من رجالي آخر!!
والآن نعود لنفس الموضوع: وهو إنّا فوق ما ذكرنا من ظاهر الحديث, نجد أنّ تكرار الفعل من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الظاهر من متن الروايات، يقطع كلّ شك في الإختصاص, بل تكرار قراءة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للآية عند المرور على بيت فاطمة(عليها السلام) يرسخ هذا الإختصاص في أذهان المسلمين.
بل روى مسلم عن عائشة أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرأ بعد أن أدخلهم تحت الكساء: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ))(5)، وقراءة الآية على من تحت الكساء وفيها أدات الحصر (إنّما) بحضور عائشة وغيرها قاطع للتوهم والمناقشة في الإختصاص، فلاحظ.
ثالثاً: قبل الإجابة على ما ذكره (طاهر بن عاشور)، نود الإشارة إلى أنّ إتفاق بعضهم مع الشيعة في بعض الأحكام الفرعية لا يخرجه عن التعصب, فهذا ابن تيمية يتفق مع الشيعة في أنّ الطلاق بالثلاث يعتبر طلقة واحدة(6)، فهل يمكن أن يقال عنه أنّه غير متعصب، مع ما مشهور عنه من نصبه لأهل البيت(عليهم السلام)! وبعد ذلك نقول:
أ - ما ذنب الشيعة إذا كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي قصَر وحصَر معنى أهل البيت في الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، حتى يقول (طاهر بن عاشور) عنهم، أنّهم غصبوا هذا الوصف وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيها(عليهم السلام)؟!
ب - قد ذكرنا في جواب السؤال السابق، أنّ منشأ قولهم يرجع بالحقيقة إلى إعتبارهم أنّ الآية نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كأصل موضوعي لا يناقش (إستناداً إلى السياق المدعى), وهذا واضح من كلام (طاهر بن عاشور)، من قوله: ((وهذه مصادمة للقرآن، بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبيّ))، وعلى هذا الأصل المفترض بنوا كلّ كلامهم.
ولكن سنبين أنّ ما ادعوه وما استدلوا به لم يكن إلاّ دعوى، من دون دليل: فإنّ ما سماه حشواً يدلّ على عدم معرفته بأساليب البلاغة لدى العرب!
يقول الشيخ السبحاني: ((لا غرو في أن يكون الصدر والذيل راجعين إلى موضوع، وما ورد في الأثناء راجعاً إلى غيره، فإنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها, نرى نظيره في الذكر الحكيم وكلام البلغاء وعليه ديدن العرب في محاوراتهم، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي يبحث عنه ثم يرجع إليه. وثانياً: يقول الطبرسي: ((من عادة الفصحاء في كلامهم، أنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم))(7). قال الشيخ محمد عبده: ((إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرّة بعد المرّة))(8). روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (أنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء)(9).
ثم أورد الشيخ السبحاني مثالاً لذلك من القرآن, قوله تعالى: (( إِنَّهُ مِن كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعرِض عَن هَذَا وَاستَغفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ )) (يوسف:28-29)، فنرى إيراد قوله تعالى: (( يُوسُفُ أَعرِض عَن هَذَا )) قبل أن يفرغ من الكلام معها ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل))(10).
فظهر ما في قوله: (حشواً) من حشو، وتجرّ على القرآن وعدم فهم!!
ثم إنّ الروايات عن أُمّ سلمة وعائشة وغيرهن، تنص على أنّ آية التطهير نزلت وحدها، ولم ترد ولا رواية واحدة على أنّها نزلت مع آيات النساء، فأيّ معنى بعد ذلك للاستدلال بالسياق، وإنّما وضعت (بينها) بأمر النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو في مرحلة تأليف القرآن، ولهذا نظير في القرآن، فآية (الإكمال) نزلت في نهاية البعثة يوم غدير خم، مع أنّها الآن في سورة المائدة جزءاً من آية تبين أحكام اللحوم. ثم إنّ وقوعها بين آيات النساء، فيها عبرة لهنّ، بأن ينظرن ويحاولن أن يتبعن أهل هذا البيت النبوي(عليهم السلام) المعصومين عن الذنب.
ح - لقد بيّنا في جواب السؤال الثاني؛ دلالة الحديث بما فيه من القرآئن الحالية واللفظية على القصر فلا نعيد، وأوضحنا بالمثال الذي ذكرناه، بما يدلّ على عكس مراده بإستشهاده بالآية (( إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي )) (الحجر:68), فإنّ في هذه الآية أيضاً تخصيص وقصر على أنّ هؤلاء ضيوفي من بين كلّ الموجودين في المكان، ولا أحد غيرهم منكم من أضيافي, وذلك أنّ أسم الإشارة (هؤلاء) يعرف ويخص ويحصر في المكان والزمان الخاصين الصادر فيهما.
فقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ هؤلاء أهل بيتي)، يعني أنّ هؤلاء في هذا الوقت هم أهل بيتي دونكم أنتم الحاضرون, وكان من الحاضرين زوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعليه لا يصح الإتيان بأداة الإشارة وتعينهم بها إذا كان أحد غيرهم من الموجودين من أهل بيته, إذ لا تصدق الإشارة حين ذاك, وكذا في الآية (( إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي ))، فمن المعلوم أنّ الملائكة كانوا في ذلك الوقت والمكان هم أضياف نبيّ الله لوط(عليه السلام) دون أهل المدينة كلّهم، ولا يعني أنّه نفى أن يكون له أضياف في الزمان اللاحق, ولذا نحن لا نحصر أهل البيت بالخمسة أهل الكساء(عليهم السلام)، بل نعمها إلى الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) في الزمان اللاحق, ومن هذا كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ الآية ويخص بها عليّاً وفاطمة(عليهما السلام), والحسن والحسين(عليهما السلام) بعد لم يولدا(11)، فراجع.
ولكن مع ذلك كرّر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وزاد في التكرار بالإشارة إليهم، وتعريفهم بأهل البيت، دفعاً لمثل هذا التوهم المذكور.
د - وإن تعجب! فعجب من نسبة التوهم إلى التابعين، في حصر هذه الآية بالخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، مع أنّهم أقرب للنص! وقد سموا تابعين لأنّهم تبعوا الصحابة, ولا يَحتَمِل الوهم من شخص واحد جاء بعدهم بمئات السنين, فهو يعترف بأنّ هذا القول كان في عصر التابعين المطمأن، بل الأكيد أنّهم أخذوه من الصحابة, ومع ذلك ينسبهم للوهم دونه، مع أنّه بعيد عن النص والصحابة عدّة قرون، فيا لله والهوى.
بل نحن نقول: إنّ هذا القول كان معروفاً عند الصحابة أيضاً, ولذا لا توجد ولا رواية واحدة عنهم، بل عن نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنفسهن، فيها أنّ الآية خاصّة بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو هنّ والخمسة أصحاب الكساء, ولم يخصها بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى في عصر التابعين إلاّ عكرمة, وفي نفس روايته ما يتضح أنّ رأي الناس مطبق على أنّها نزلت في الخمسة، حين يقول: ((ليس بالذي تذهبون إليه، وإنّما هو نساء...))(12)، فلاحظ، وتأمل وتعجب!!
وقد عرفت من الروايات وخاصّة روايات أُمّ سلمة (رض) أنّ الآية نزلت وحدها، ولذا فلا عجب، بل الصحيح الطبيعي من المسلمين في ذلك الوقت أن يقرؤوها وحدها.
و- وقد عرفت أيضاً، أنّ هناك روايات عديدة تصرّح بأنّ دعاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان قبل نزول الآية, وطريق الجمع ربما يتوضح من تكرار فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما يظهر من الروايات المختلفة, فراجع.
والظاهر من قوله: ((وأنّها نزلت في بيت أُمّ سلمة))، أنّه يريد الاستدلال بمكان النزول، ويجعله سبب النزول في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا من عجيب الاستدلال!! فمكان النزول غير سبب النزول.
ط - ولقد عرفت أيضاً ممّا مضى، جوابنا على ما يدّعونه من معنى (أنتِ على مكانك) و(أنتِ على خير) فلا نعيد, وإنّما نعجب من بهتانه وتناقضه! فإنّه يستدل على ما يريد من كلام رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنتِ على مكانك) و(أنتِ على خير) بأنّ الآية نازلة في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مع أنّ نفس الرواية التي يريد شرحها، تنص على أنّها نزلت وحدها، وأنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) طبقها في أهل البيت(عليهم السلام)! ومع أنّ أكثر أصحابه الذين يدخلون النساء في ضمن أهل البيت، يستدلون لدخولهن بالسياق لا بالنزول، ويقولون أنّ النساء دخلن بالسياق والخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) دخلوا بفعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي بالحقيقة بالنزول, وذلك رداً منهم لإفتراء عكرمة أنّها في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّة.
فهل رأيت تناقضاً أكثر من هذا؟!! فلا نعلم إنّه مع رأي عكرمة، أو مع رأي أكثر أهل السنة!!
ثم لو كانت الآية نازلة فيها وفي ضراتها كما يقول، فما معنى قول أُمّ سلمه: ((وأنا يارسول الله))؟ فهل كانت أُمّ سلمة لا تعرف أنّها نزلت فيها وفي ضراتها, ثم علم عكرمة أو طاهر بن عاشور بذلك!!
ي - إنّ الروايات الواردة في حديث الكساء على ثلاثة أصناف:
1- ما فيها أنّ الدعاء كان قبل النزول.
2- ما فيها أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرأ الآية فقط على من في الكساء، وأضاف في بعضها (إنّ هؤلاء أهل بيتي).
3- ما فيها أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا لهم بعد نزول الآية، وبعد أن جمعهم تحت الكساء.
فلو سلّمنا بما قال: ((فالدعاء لها... دعاء بتحصيل الحاصل))، فهو يصدق على الصنف الثالث فقط, هذا أوّلاً، ثم إنّ ما ذكره لو صح، يتم فقط في عدم الدعاء لها بما هو حاصل, ولكن ما الداعي لإخراجها من التخصيص في أهل بيت في المقام, فالمفروض على مبنى كلامه أن يقول لها: أنتِ من أهل البيت، وقد تحقق لك ما أطلبه في الدعاء من الآية، لا أن يخرجها من أهل البيت أصلاً.
وبعبارة أخرى: نحن نستدل بتخصيص أهل البيت(عليهم السلام) في حديث الكساء، بعدّة أمور: منها فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتلفظه بأداة الإشارة (هؤلاء)، ودعائه لهم, فكلامه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على تسليمه يرد في الدعاء، وأمّا الباقي فعلى حاله.
وبعبارة أوضح: إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو كان يريد من فعله فقط الدعاء لأصحاب الكساء، فما الداعي لفعل وقول ما فعله وقاله؟ وكان يكفي أن يرفع يده ويطلب من الله إدخالهم في الآية، مع العلم أنّ أُمّ سلمة لم تسأله الدعاء، بل سألته الدخول معهم, فلاحظ. هذا ثانياً.
وثالثاً:
1- إنّ كلامه لا يتم إلاّ إذا ادعى بأنّ لفظة (( أَهلَ البَيتِ )) في الآية لا تشمل أصحاب الكساء(عليهم السلام) وإنّما تشمل النساء فقط, وهذا لا يتم لغة وضمير التذكير في (عنكم) يدحضه، وعليه فإذا دخل أصحاب الكساء(عليهم السلام) في الآية، بشمول لفظة (أهل البيت) لهم، يكون دعاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم أيضاً تحصيل للحاصل, وإذا قال عناداً وأصرّ على أنّ (( أَهلَ البَيتِ )) في الآية لا تشمل الذرية، يكون قد خالف الجمهور من علماء أهل السنة.
وإذا قال: أنّ الضمير في (عنكم) يعود للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقط، فيصبح الإشكال إشكالين: الأوّل: فما معنى إذهاب الرجس عنه في الآية؟ إذ من المعلوم أن الرجس منفي عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من السابق، إلاّ أن ينفي ذلك وهو من الشناعة بمكان. والثاني: يكون بحقه أيضاً من تحصيل الحاصل، لأنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان داخلاً تحت الكساء أيضاً، وهو من أهل البيت قطعاً.
2- في الحقيقة أنّ إشكالهم في الأساس، هو أنّ الإرادة في الآية تشريعية، إذ لو كانت تكوينية، فلا معنى لدعاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ هو تحصيل حاصل حسب مدعاه!! وهذا يرد بوجوه:
أ - حتى لو كانت الإرادة تشريعية، فإنّه سيكون أيضاً من تحصيل الحاصل، إذ معناه يا إلهي أدعوك أن تشرع عليهم التطهير كما شرعته عليهم، وأي معنى لهذا؟!
ب - إنّ الإرادة على الصحيح تكوينية، ويكون الدعاء لإدامة الشيء الحاصل ولا مانع منه، فمع أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مهتدي، وهو الذي يهدي للحق، يقرأ في صلاته كلّ يوم خمس مرات (( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )) (الفاتحة:6).
ج - وحصول الشيء عند شخص، لا يعني أنّه سوف يستغني عن الله ببقائه ودوامه.
د - إنّ المقامات السامية ليست كلّها بدرجة واحدة، وإنّما هي في تكامل مستمر عندهم.
ط - قد بيّنا ما في تكرار النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من دلالة على الإختصاص, ولكن العجب من هذا المدعي يقول: ((ولمّا استجاب الله دعاءه، كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطلق أهل البيت على فاطمة وعليّ وابينهما))، فيتهم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنوع من المحاباة! إذ يكرر ويزيد في التكرار على من أصبحوا أهل البيت بدعائه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويترك الإشارة إلى من أشار اليهم الله جلّ جلاله بأهل البيت ولو لمرّة واحدة وهن النساء حسب مدعاهم. ويا لله ولجرأتهم على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!!
أفلا كان لمدّع مغرض؛ أن يقول لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): مالك تخص هؤلاء الذين طلبت أنت من الله أن يدخلوا في أهل البيت، وتترك من فرض الله كونهم من أهل البيت؟! بالله أيصح هذا الفعل من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟! إلاّ أن يكون فعله فيه نوع من الميل عن مراد الله - نعوذ بالله - على الأقل بتركه الأصل وإصراره على التبع, ولماذا لا ننزه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن هذا، ونقول كما هو واضح وعرفه الجميع أنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبيّن بفعله المكرر هذا مقاصد القرآن، وأنّه لا يفعل شيء إلاّ وهو مطابق للقرآن ومن وحي الله تعالى.
نعوذ بالله كيف يقلبون الحقّ باطلاً والباطل حقاً!!
3-
أ- لقد أجمع كلّ من نقل قول عكرمة على أنّه كان يدّعي إختصاصها بنساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا مجال لما ذكرت، فإنّ في متن بعض الروايات قوله: ((إنّها نزلت في نساء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّة))(13).
ثم أنّه قد نُقل عنه عدّة روايات، أحدها قوله: ((ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبيّ))(14) يقصد به قول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ... )) الآية، فهذا منه تفسير للآية لا ذكر شأن النزول, ومن المعلوم أنّ الآية لو كانت دلالتها مختصة بالنساء لاستقر التعارض بينها وبين حديث الكساء. نعم، لو كنّ مورد النزول فقط، كما يدّعي في روايات أُخر، لأمكن إحتمال عدم التعارض، ولكنه لا يتم أيضاً لما عرفنا من فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من التخصيص والحصر، إضافة لوجود روايات كثيرة تنص على أنّ مورد النزول هم الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام).
ب - لا يمكن مدح، فضلاً عن توثيق عكرمة بمثل هذه الروايات بعد أن نص رجاليونا على تضعيفه، فعن الكشي بعد أن نقل هذه الرواية، قال: ((فلم يدركه أبو جعفر(عليه السلام) ولم ينفعه))(15)، وهذا هو الفهم الصحيح للرواية, وقال في حقه العلاّمة في الخلاصة: ((ليس على طريقنا ولا من أصحابنا))(16), وكونه لا يعتقد بالمذهب الحقّ واضح لا يحتاج إلى روايات، بل هو مثل الشمس في رابعة النهار، خصوصاً بعد أن نص رجاليو السُنّة على أنّه كان على رأي الخوارج، وأنّه كان يكذب على ابن عبّاس.
أمّا ما فهمته أنت وغيرك من الرواية، من أنّه كان مورداً لتوجه الإمام الباقر(عليه السلام)، لأنّ الإمام(عليه السلام) أراد الحضور عند احتضاره، فهذا غير صحيح، بعد أن نعرف من سيرة أئمتنا(عليهم السلام) كلّهم معاودة ومواصلة مخالفيهم في المرض، وحالة الموت، أو الضيق والشدّة، وهذا مشهور عنهم بل حتى مع غير المسلمين، وزيارة الإمام الرضا(عليه السلام) للنصراني المحتضر معروفة، فإنّ من مقام أئمتنا(عليهم السلام) إيصال الهداية والرحمة والرأفة إلى كلّ الناس، من دون فرق، ولا يتأخرون عند أي بارقة أو إحتمال لنفع أيّ إنسان، حتى ولو كان مثل عكرمة, فتأمل.
أما إستفادة (الشيخ معرفة) من دخول مولى الإمام(عليه السلام)، وإخباره بإحتضار عكرمة، على كونه ذا منزلة لدى الإمام(عليه السلام)، فعجيب!! بعد أن نعرف أنّ عكرمة كان مولى لابن عبّاس أي محسوب على بني هاشم, ولم يكن شخصاً مجهولاً نكرة حتى ننفي وجود علاقات إجتماعية وتزاور وتراحم بينهم، مع ما كان للإمام(عليه السلام) من منزلة ومكانة في المدينة, ومن يمعن النظر في الواقع الإجتماعي لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في ذلك الوقت، يجد بوضوح أنّهم لم يقطعوا صلاتهم حتى بألدّ أعدائهم المستحلّين لقتلهم بل قتلتهم أنفسهم، وما لجوء مروان بن الحكم إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام) بخافية على أحد، ولا الإجتماعات والتزاور الذي كان يحصل بين الباقر والصادق(عليهما السلام) والأمويين والعباسيين بقليلة.
وأما ما علّق عليه من جملة: ((وكان منقطعاً إلى أبي جعفر(عليه السلام))) بكونه من خاصّة أصحاب الإمام(عليه السلام)، ولم يكن يدخل على غيره دخوله على الإمام(عليه السلام), فقد توضح بعض سببه، ممّا ذكرنا، من أنّه كان يحسب على بني هاشم، ولكن إنقطاعه إلى ابن عبّاس كان أوضح، ومع ذلك لم يمنعه من الكذب عليه وانتحال رأي الخوارج.
ثم إنّ الإمام الباقر(عليه السلام) سنحت له فرصة في أواخر الدولة الأموية لنشر علم أهل البيت(عليهم السلام) علانية، فكثر أصحابه وتلامذته والآخذون عنه حتى من المخالفين، والأمثلة كثيرة على ذلك، فلا عجب من أن يأخذ عكرمة العلم من الإمام(عليه السلام)، فقد كان(عليه السلام) في ذلك الوقت مدرسة لكلّ المسلمين ولا يغلق بابه على أحد خاصّة من كان له معه علاقات أسرية.
ولكن العجب من (الشيخ معرفة) أن يرد القول ((بأنّه كان يرى رأي الخوارج)) على أنّه من كلام الراوي حدساً بشأنه...الخ, ولا يرد القول ((بأنّه كان منقطعاً إلى أبي جعفر(عليه السلام)))، مع أنّه من قول نفس الراوي!! فلاحظ.
وعلى كلّ حال فإنّ (للشيخ معرفة) رأيه الخاص، ولا يلزم به غيره، خاصّة بعد أن نص أصحاب الرجال على تركه وتضعيفه.
وأخيراً حتى لو سلّمنا وقبلنا بعكرمة كراوي له درجة من المقبولية، لا يمكن أن نقبل روايته الخاصّة بآية التطهير، بعد معارضة الروايات الكثيرة عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لها، فإنّ رأي عكرمة المنقول عنه ليس له وزن أمام قول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
(1) مستدرك الحاكم 3: 147 مناقب أهل البيت.
(2) تفسير ابن كثير 3: 493 قوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً)).
(3) مسند أحمد 6: 323.
(4) مسند أبي يعلى 12: 344 حديث6912، 456 حديث7026.
(5) صحيح مسلم 7: 130باب ((فضائل أهل بيت النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(6) منهاج السُنّة 5: 500.
(7) مجمع البيان 8: 158 قوله تعالى: (( يَا نِسَاء النَّبِيِّ...)).
(8) تفسير المنار 2: 541.
(9) المحاسن 2: 300 حديث 5 كتاب العلل.
(10) مفاهيم القرآن 10: 165 أهل البيت في القرآن الكريم الفصل الأوّل.
(11) انظر: الدر المنثور 5: 199 سورة الأحزاب، ما رواه عن أبي سعيد الخدري عن قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا دخل عليّ بفاطمة(عليهما السلام).
(12) الدر المنثور 5: 198 سورة الأحزاب.
(13) انظر: الدر المنثور 5: 198 سورة الأحزاب، تفسير الثعلبي 8: 36 قوله تعالى: (( وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ...)) ما نقله من قول مقاتل.
(14) المصدر السابق.
(15) انظر: اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 478 في عكرمة مولى ابن عبّاس.
(16) خلاصة الأقوال: 383 عكرمة مولى ابن عبّاس.
يتبع