المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شبهات وردود واسئلة واجوبة في اية ولاية الامر


الشيخ عباس محمد
07-01-2018, 08:35 PM
شبهات وردود واسئلة واجوبة في اية ولاية الامر



السؤال: صحّة أسانيد الروايات المفسرة للآيةلدي استفسار عن بعض الأسانيد، ومنها: هذا السند في الكافي1/172-173ح1)؛ فعندما يُذكر في السند: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللَّه(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )) (البقرة:282). فقال: (نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين(عليهم السلام )).
فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يُسَمِّ عليّاً وأهل بيته(عليهم السلام) في كتاب الله عزّ وجلّ؟
قال: فقال: (قولوا لهم إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نزلت عليه الصلاة ولم يُسَمِّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتى كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزل الحجّ فلم يقل لهم: طوفوا أُسبوعاً حتى كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )) ونزلت في عليّ والحسن والحسين، فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه...) إلى آخر الحديث المذكور.
1- هل يعني هذا أنّ السند المذكور هو سندٌ واحد أم سندين؟
2- إذا كانا سندين فهل هما يشتركان في روايتهما عن يونس عن ابن مسكان عن أبي بصير، كما يُفهم من قراءة سند الرواة للحديث؟
وبمعنى آخر: هل يكون السند الأوّل في الرواية هكذا: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير؟
والسند الثاني في الرواية هكذا: علي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير.
3- وهل يكون هذان السندان صحيحين، أم أنّ أحدهما هو الصحيح فقط؟
وأمّا ما يخصّ التوثيقات لرواة الحديث:
ففي بحثنا عن توثيقات هؤلاء الرواة توضّح بأنّ جميعهم من الثقات، إلاّ سهل بن زياد أبي سعيد، ضعّفه النجاشي وشيخ الطائفة، ونقل عنهم العلاّمة أبي منصور الحلّي ذلك واختلاف الشيخ الطوسي في توثيقه، ونقل ما قاله النجاشي والغضائري عنه في القسم الثاني فيمن لا يعتمد على روايتهم من كتابه (خلاصة الأقوال)، وأيضًا نقل تضعيفه الشيخ الحسن بن علي بن داود الحلّي، ولم يعتنِ بتوثيق الشيخ الطوسي له في كتابه (رجال ابن داود). وكذلك السيّد الخوئي استبعد توثيقه أيضاً.
ورغم ذلك فقد وثّقه السيّد بحر العلوم في (الفوائد الرجالية)، والشيخ النوري الطبرسي في (خاتمة المستدرك).
4- فهل نأخذ بتوثيق السيّد بحر العلوم والشيخ النوري رحمهم الله (للراوي سهل بن زياد أبي سعيد)؟
وكما أشرنا سابقًا، فهل يمكننا أن نحكم على السند الذي فيه (سهل) أنّه صحيح، نظراً لثبوت التعارض مع ما ذكرناه ممّن ضعّفوه في حال القبول بالأخذ بتوثيق السيّد والشيخ؟
وإذا كان الجواب بـ(لا)، هل يرتفع السند الذي فيه سهل إلى (الموثوق) أو (الحسن) نظراً لوجود سند آخر صحيح لنفس الحديث؟
وذكر الكليني (رحمه الله) بعد الحديث المذكور مباشرة: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن أيوب بن الحر وعمران بن علي الحلبي، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، مثل ذلك.
وبحسب اطّلاعي على توثيقات كتب الرجال لم أجد في هذا السند راوٍ واحد ضعيف.
ونحن هنا نسألكم، فأنتم أصحاب الخبرة في هذا المجال، فأفيدونا في ذلك: هل قول الكليني عندما ذكر سند الحديث بقوله: (( مثل ذلك ))، فهل قصد بأنّه نفس الحديث السابق؟
وماذا عن السند لهذا الحديث هل هو صحيح بهذا السند؟
وهل هنالك أحد من كبار علمائنا الإمامية علّق على هذا الحديث وحدّد أي درجة من درجات الحديث: صحيح أم حسن أم ضعيف؟
الجواب:


1- الرواية قد ذكرت بثلاثة أسانيد عند الكليني:
السند الأوّل: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام).
السند الثاني: علي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام).
السند الثالث: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن أيوب بن الحر وعمران بن علي الحلبي، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام).
وقد قال المجلسي في (مرآة العقول): صحيح بسنديه(1)، والظاهر أنّه يريد السند الأوّل والسند الثالث إذ عدّ الأوّل والثاني كسند واحد، ويحتمل أنّه يريد السند الأوّل والثاني على بعد، وذلك لأنّه قال في رجاله المعروف بـ(الوجيز)، بخصوص سهل بن زياد: (( ضعيف، وعندي لا يفيد ضعفه لكونه من مشايخ الإجازة ))(2)..
وأيضاً نصَّ على صحّة هذه الرواية السيّد الخوئي(قدس) في تفسيره (البيان)(3).
2- أمّا بشأن عن توثيق سهل بن زياد، فنقول: هناك بحث ظريف للعلاّمة الفاني في كتابه (بحوث في فقه الرجال)(4) بشأن حول وثاقة سهل يمكنكم الاطّلاع عليه، ولكن على أية حال قد ضعّف السيّد الخوئي (قدس) سهلاً(5)، الأمر الذي يستفاد منه أنّه لم يعتمد في تصحيحه للرواية المتقدّمة على السند الذي فيه سهل.
وأمّا ارتفاع السند الذي فيه سهل إلى الموثّق أو الحسن بلحاظ صحّة بعض المتون الأُخرى التي يتّحد سهل في رواياتها مع الثقاة، فهذا ليس من اصطلاح علم الحديث، بل المبنى السليم - والذي يقول به البعض - هو: توثيق الرواية لا الراوي.
3- أمّا سؤالكم عن قول الكليني(ره): (( مثل ذلك ))، فيريد به أي: نفس المتن، والسند المذكور سند صحيح.

(1) مرآة العقول 3: 213.
(2) رجال المجلسي: 224 (870).
(3) البيان في تفسير القرآن: 213 الشبهة الثالثة.
(4) بحوث في فقه الرجال: 171 الخاتمة، البحث الأوّل.
(5) انظر: معجم رجال الحديث 9: 356 (5639).





السؤال: لا يعقل الأمر بالطاعة المطلقة من دون العصمة والاصطفاء
في آية ولاية الأمر، هل من المعقول نقلياً وقرآنياً وعقلياً أن يأمر الله جلّ وعلا بطاعة إنسان من دون أن يصطفيه بعلمه وحكمته؟
أرجو التعليق على هذا الأمر وبيانه للمؤمنين.
الجواب:


إنّ هذا الذي ذكرتموه بعينه قد استفاد منه الفخر الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )) عصمة (ولاة الأمر)؛ لأنّ الطاعة المطلقة لفرد هي فرع عصمته عن الخطأ، وإلاّ كان الأمر بالطاعة المطلقة مع فرض حصول الخطأ أمر باتّباع الباطل، وهو محال على المولى سبحانه... فإذاً لا بدّ من العصمة والاصطفاء ثمّ الأمر بالطاعة.
قال الفخر الرازي: (( والدليل على ذلك أنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ؛ إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً ))(1).
ثمّ تمحّل بأنّ المراد من (أُولي الأمر) أهل الحلّ والعقد من الأمّة، وأنّ ذلك يوجب القطع بأنّ اجتماع الأُمّة حجّة، مع أنّه واضح البطلان بنصّ الآية؛ فإنّها تنصّ على أنّ (أُولي الأمر) بعض الأمّة، فقد قال تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).

(1) تفسير الرازي 10: 144 قوله تعالى: ((أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ... )).






السؤال: بيان معنى الولاة في الآية
يتمسّك مخالفوا الشيعة بالآية (83) من سورة النساء وهي قوله تعالى: (( وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىظ° أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم... )) بأنّ المراد: خصوص حالة الخوف - كما في صدر الآية - وذلك يكشف أنّ المراد من (( أُولي الأَمر )) هم: أُمراء السرايا والغزوات الذين كان الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينصّبهم ويعيّنهم، وليس المراد بهم الأئمّة، وهذا من الآية واضح..
وتُفسّر هذه الآية، أي قوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَظ°لِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً )) (النساء:59) بالآية السابقة, وإذا أردنا أن نستعين في تفسير هذه الآية بالروايات على أنّها نصّ في الخلافة، فذلك خلاف (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)؛ ففي هذه الآية عيّن موارد لزوم الرجوع إلى الله وإلى الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
الجواب:


للإجابة عمّا تمسّك به المخالفون في هذه الآية نقول:
أولاً: إنّ الأُمّة قد اختلفت في تعيين وليّ الأمر، وهذا ممّا لا شكّ فيه, ولكنّهم مهما اختلفوا فقد إتّفقوا وأجمعوا، من حيث يريدون أو لا يريدون، على ما يوجب كون الآية تنطبق على الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) دون من سبقه أو من لحقه ممّن تولّى أمر الخلافة، وذلك أنّ الأقوال في تفسير أُولي الأمر ستّة:
1- أُمراء السرايا والغزوات(1)، وهو ما أُشير إليه في السؤال.
2- العلماء، كما عن بعض المفسّرين(2).
3- الأُمراء والولاة(3).
4- أهل الرأي من الصحابة(4).
5- هم: القوّام على الناس والآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر(5).
6- هم: عليّ وأبناءه الأئمّة المعصومون(عليهم السلام)، كما هو قول الشيعة(6).
ولا شك أنّ عليّاً(عليه السلام) كان من أُمراء السرايا، كما كان من العلماء ومن القوّام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من الأُمراء والولاة، ومن أهل الرأي من الصحابة، فهو مرادٌ بالآية على أيّ تقدير بالإجماع، كما بيّناه, أمّا غيره مهما كان ومَن كان فليس عليه مثل هذا الاتّفاق.
فإذا ثبت ذلك له(عليه السلام) وكان هو وليّ الأمر، فهو الذي يعيّن الذي بعده بحكم ولايته, وإذا قلنا بأنّه(عليه السلام) ليس له ذلك، فهو خلاف القول بالولاية.
ثانياً: إنّ الاستعانة في تفسير الآية بالروايات خلاف (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)، فليس كذلك صغرى وكبرى، أمّا الكبرى وهي (القرآن يفسّر بعضه بعضاً) فهي ليست آية، وهذا كتاب الله خال منها, ولا رواية عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإن زُعم أنّها رواية فلماذا لم يلتزم بها الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه؟
ولنضرب مثلاً واحداً في فريضة واحدة هي من أهم فرائض الإسلام، وهي الصلاة المفروضة خمس مرّات يومياً, ولنأخذ منها فعلاً واحداً من واجباتها كشاهد على ما نقول، وذلك هو: التشهّد، ونختار من أذكاره كيفية الصلاة على النبيّ وآله(عليهم السلام) فيه.
ولا يفوتنا التنبيه على أنّه قد ذهب إلى وجوبها من غير الشيعة الشافعي، وقال ابن حجر في (الصواعق): (( ...الذي ذهب إليه الشافعي هو الحقّ الموافق لصريح السُنّة ولقواعد الأُصوليين، ويدلّ له أيضاًً أحاديث صحيحة كثيرة استوعبتها في شرحي الإرشاد والعباب، مع بيان الردّ الواضح على من شنّع على الشافعي، وبيان أنّ الشافعي لم يشذ، بل قال به قبله جماعة من الصحابة، كـابن مسعود وابن عمر وجابر وأبي مسعود البدري وغيرهم، والتابعين، كـالشعبي والباقر وغيرهم، كإسحاق بن راهويه وأحمد، بل لمالك قول موافق للشافعي رجّحه جماعة من أصحابه, بل قال شيخ الإسلام خاتمة الحفّاظ ابن حجر - العسقلاني -ـ: لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلاّ ما نقل عن إبراهيم النخعي مع إشعاره بأنّ غيره كان قائلاً بالوجوب ))(7).
نقول: فإنّ كيفية هذه الصلاة في التشهد لم يکن يعرفها الصحابة، فسألوه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن كيفيّتها لمّا نزلت الآية: (( إنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلّونَ عَلَى النَّبيّ يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيه وَسَلّموا تَسليمًا )) (الاحزاب:56)، فقد صحّ عن كعب بن عجرة، قال: (( لمّا نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك؟ فقال: (قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد... إلخ ) ))(8).
فهذه الآية أمرت المؤمنين بالصلاة على النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أمّا كيف؟ ومتى؟ فذلك ما تكفّلت السُنّة ببيانه, ولم يُذكر في شيء من مصادر التفسير أو الحديث أنّ أحداًَ من الصحابة اعترض على الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له: كيف فسّرت القرآن من نفسك، وإنّما (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)؟ أو قال له: إنّ الآية أمرتنا بالصلاة عليك وحدك ولم تذكر الآل معك، فمن أين أوجبت الصلاة عليهم ولم يرد ذلك في آية أُخرى تفسّر هذه الآية؟
وهذا الذي ذكرناه هو ما يأتي به المصلّي كلّ يوم في فرائض الصلوات الخمس، فكيف بباقي الأحكام؟ إذاً ليس (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)، وقد تبيّن حال الصغرى ممّا سبق أيضاً.
ثالثاً: لو التزمنا جدلاً بأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، فإنّ في آي الذكر الحكيم ما يدلّ على تعيين (وليّ الأمر) كما في قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) (المائدة:55)، وحيث ثبت أنّ الولاية - في هذه الآية - هي لله ولرسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون لا لغيرهم بقرينة (إنّما)، وهي أداة حصر، فهذه فسّرت من هو المراد بـ(أُولي الأمر) في الآية المشار إليها في السؤال.
بقي تعيين مَن تنطبق عليه تلك الأوصاف الثلاثة مجتمعة: (الإيمان، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وهو راكع)، وهو ما ثبت لأمير المؤمنين(عليه السلام)، كما في تفسير ابن جرير، وكشّاف الزمخشري، والفخر الرازي، والقرطبي، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، والدرّ المنثور للسيوطي، وغيرهم(9).
وبهذه الآية التي تكفّلت معنى الولاية في المقام وأنّها من سنخ ولاية الله وولاية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسّر الآية المشار إليها آنفاً في السؤال؛ فلاحظ!
وتعقيباً على ما تقدّم من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، نقول: إنّ آية المباهلة التي هي قوله تعالى: (( ...فقل تَعَالَوا نَدع أَبنَاءنَا وَأَبنَاءكم وَنسَاءنَا وَنسَاءكم وَأَنفسنَا وأَنفسكم... )) (آل عمران:61) قد نصّت على أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) هو نفس النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ حيث أخرج مسلم والترمذي وأحمد والبيهقي والحاكم والرازي والزمخشري وابن جرير والواحدي وابن حجر وغيرهم: أنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين، وقال: (اللّهمّ هؤلاء أهلي...)(10)، فإذا كان عليّ(عليه السلام) نفس الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنصّ الآية المذكورة، فلماذا تخلّف المسلمون عنه وقد أمرهم الله تعالى بأن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، كما في قوله تعالى: (( مَا كَانَ لأَهل المَدينَة وَمَن حَولَهم مّنَ الأَعرَاب أَن يَتخلّفوا عَن رَّسول اللّه وَلاَ يَرغَبوا بأَنفسهم عَن نفسه... )) (التوبة:120)؟
ولو لم يكن عليّ(عليه السلام) هو المراد لمّا عبّر تعالى عنه بقوله: (( عَن نفسه ))، ولقال: (ولا يرغبوا بأنفسهم عنه)؛ فلاحظ!
وأمّا أنّ المراد من (أولوا الأمر) في قوله تعالى: (( وَلَو رَدّوه إلى الرَّسول وَإلَى أولي الأَمر منهم لَعَلمَه الَّذينَ يَستَنبطونَه منهم... )) (النساء:83)، هم: أُمراء السرايا أوّل الكلام.
كيف وقد عممت الآية في أوّلها الأمر على حالتي الأمن والخوف لا خصوص حالة الخوف، كما يدّعي هذا المستشكل، قال تعالى: (( وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدّوه... )).
والآية نازلة لبيان حالة إشاعة الأراجيف بين المسلمين من قبل ضعاف النفوس، وأنّهم لو ردّوا الأمر إلى الرسول وإلى أُولي الأمر لأعلموهم حقيقة الحال وواقع هذه الأراجيف.
فهذه الآية ناظرة إلى ما يمس أمن الدولة واستقرارها، واتّخاذ القرار في هذا الشأن أنسب بمنصب الإمام ورئيس الدولة لا بأُمراء السرايا الذين هم قادة عسكريون. مع أنّ الآية ساوت في الردّ إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأُولي الأمر، وأخبرت بأنّ ما يستنبطونه يحصل به العلم، ولا يصحّ ذلك إلا إذا ثبتت لهم العصمة كرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّ من قوله يحصل العلم لمحلّ العصمة، وأُمراء السرايا لا يصيبون دائماً؛ لأنّهم غير معصومين.
ومن هنا وردت الروايات الكثيرة عندنا بأنّ المراد من (أُولوا الأمر) في الآية هم: الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)(11).
فظهر من هذا أنّ (أُولي الأمر) في آية الولاية هم المعنيون نفسهم في قوله تعالى: (( وَلَو رَدّوه إلى الرَّسول وَإلَى أولي الأَمر منهم لَعَلمَه الَّذينَ يَستَنبطونَه منهم... )).

(1) تفسير ابن أبي حاتم 3: 988 قوله تعالى: ((يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ... )).
(2) معاني القرآن للنحاس 2: 121(134)، تفسير الواحدي 1: 271.
(3) تفسير البيضاوي 2: 205، جامع البيان 5: 202.
(4) معاني القرآن للنحاس 2: 121، تفسير الثعلبي 3: 334.
(5) الفصول المختارة: 118.
(6) الفصول المختارة: 118، شواهد التنزيل 1: 189 قوله تعالى: ((أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ... )).
(7) الصواعق المحرقة 2: 433 الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبوي، الفصل الأوّل، الآية الثانية.
(8) صحيح البخاري 7: 156 باب (الصلاة على النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم))، سنن الدارمي 1: 309 باب (الصلاة على النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(9) جامع البيان 6: 389 - 390، الكشّاف 1: 624، تفسير الرازي 12: 26، تفسير القرطبي 6: 221 - 222، شواهد التنزيل 1: 209 - 239 ح216 - 240، الدرّ المنثور 2: 293، 294.
(10) صحيح مسلم 7: 120 كتاب فضائل الصحابة باب(فضائل علي عليه السلام)، سنن الترمذي 4: 293 أبواب تفسير القرآن عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن تفسير آل عمران ح4085، ومناقب علي بن أبي طالب ح3808، مسند أحمد 1: 185 مسند سعد بن أبي وقّاص، السنن الكبرى للبيهقي 7: 63 باب (اليه ينسب أولاد بناته)، المستدرك على الصحيحين 3: 150 مناقب أهل البيت، تفسير الرازي 8: 85، الكشّاف 1: 434، جامع البيان 3: 407 - 410، أسباب نزول الآيات: 67 سورة آل عمران، فتح الباري 7: 60 مناقب علي بن ابي طالب.
(11) تفسير العيّاشي 1: 260 قال تعالى: ((وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ... ))، تفسير القمّي: 145، التبيان 3: 273، بشارة المصطفى: 170، خطبة الحسن بن علي(عليه السلام)، المحاسن 1: 268ح356.


يتبع

الشيخ عباس محمد
07-01-2018, 08:35 PM
السؤال: عدم عمومها لكل من يدعي الولاية


أشكركم على الإجابات السابقة الوافية المفحمة (كلمة حقّ) يجب قولها؛ لأنّي باحث عن الحقّ، ومجرّد نفسي عن الطائفية، وجزاكم الله ألف خير. لكن لديّ سؤال على بالي من تأمّل الآية التالية، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )) وكلمة (( مِنكُم )) ضمير راجع للذين آمنوا، أي: من الذين آمنوا، أي: الناس، وهي عامّة، أي: من ولي أميراً يجب الطاعة له من الذين آمنوا منكم للمؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، وكلمة (( مِنكُم )) أي: من الذين آمنوا، عامّة للمؤمنين من وليّ أميراً منهم وجبت له الطاعة.
فكيف قلتم أنتم الشيعة: إنّ الآية خاصّة في الأئمّة؟
أرجو توضيح دلالتكم بشكل واضح؛ لأنّها بحث مصيري بالنسبة لي، وأرجو التوفيق والحقّ للجميع.
الجواب:


إنّ الذي يخصّص العموم المستفاد من جمع (أُولي الأمر) في الآية هو دلالة الآية على عصمة (أُولي الأمر)، فالآية قرنت طاعة (أُولي الأمر) بطاعة الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشكل مطلق؛ فلا يصحّ أن يكون أُولي الأمر غير معصومين، وإلاّ كيف يأمر الله بطاعة أهل المعاصي والذنوب؟!
لذا ثبت أنّ المراد بـ(أُولي الأمر) ليس كلّ من تسلّط على رقاب المسلمين حتى لو بويع بذلك مع ارتكابه للمعاصي والذنوب، بل المراد: مجموعة من المؤمنين الذين ثبتت لهم العصمة، وبالرجوع إلى ما ذكرناه في الأجوبة السابقة يتّضح لك الأمر بشكل كامل.
وأمّا لفظة (( مِنكُم )) ففيه دلالة على أنّ المتولي لأمر الحكومة، أي: الإمام هو من بينكم لا من غيركم، ولا تدلّ على عموم (أُولي الأمر) من قريب أو بعيد، وقد جاء مثل هذا التعبير كثيراً في القرآن الكريم؛ قال تعالى: (( كَمَا أَرسَلنَا فِيكُم رَسُولًا مِنكُم يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِنَا... )) (البقرة:151)، ويتّضح المعنى أكثر من قوله تعالى: (( لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ... )) (آل عمران:164).
وأنت تعلم بوضوح أنّ الآيتان لا تعنيان جواز اختيار الرسل من قبل الناس لورود لفظة (( مِنكُم ))، أو (( مِن أَنفُسِكُم ))، ولا صحّة رسالة كلّ من ادّعى الرسالة، وإنّما تعيين الرسل واختيارهم من قبل الله، ولكن من بينكم لا من غيركم، فكذا (أُولي الأمر)؛ فلاحظ!






السؤال: بيان الملازمة في آية ولاة الأمر
أكثر المخالفين لمذهب الشيعة يسألون عن الآية (59) من سورة النساء، وهي قوله تعالى: (( أَطيعوا اللّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ وَأولي الأَمر منكم ))، فيقولون: إذا كانت إطاعة (أُولي الأمر) - كما يقول الشيعة - ملازمة لطاعة الله والرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فيلزم أن يذكر (أُولوا الأمر) أيضاً في قوله تعالى: (( فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ))، ومن عدم ذكرهم يكشف أنّ الإمامة ليست نصّاً، وأنّ إطاعة الإمام ليست كطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
الجواب:


يجاب السؤال بما يلي:
أولاً: نفي دعوة الملازمة بين ذكر طاعة (أُولي الأمر) في بداية الآية وبين ذكرهم في الردّ إلى الله وإلى الرسول في المقطع الثاني من الآية؛ فقد وردت آيات كثيرة تضمّنت وجوب طاعة الله وطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم), وقرنت بينهما في الطاعة كما في آيات (14،80) من سورة النساء، و(20، 46) من سورة الأنفال، و(52) من سورة النور، و(71) من سورة الأحزاب، وغيرها..
فإذا وردت آيات بطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحده، كما في قوله تعالى: (( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ )) (النور:56)، فهل يحتمل إنسان عدم وجوب طاعة الله لخلو الآية المذكورة عن ذلك؟
أو الآية التي وردت في ردّ الحكم إلى الله عند الاختلاف، وهي قوله تعالى: (( وَمَا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيءٍ فَحُكمُهُ إِلَى اللَّهِ )) (الشورى:10)، فهل يعني ذلك عدم وجوب الرجوع إلى الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند وقوع الاختلاف؟!
مع أنّه تعالى قرن بين ذكره جلّ وعلا، وذكر الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند التنازع، كما في قوله تعالى: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلى اللّه وَالرَّسول )) (النساء:59)، فعدم ذكر الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الآية الأولى التي أرجعت الحكم إلى الله وحده في ما اختلف فيه هل يعني ذلك عدم الرجوع إليه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّه لم يذكر في الآية؟! وهذا ممّا لا يخفى على أحد.
ثانياً: إنّ عدم ذكر (أُولي الأمر) في قوله تعالى: (( فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ )) لا يدلّ على عدم إرادتهم، بعد أن ذكرهم تعالى في صدر الآية، وساواهم في وجوب الإطاعة لهم على حدّ إطاعته وإطاعة رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), واكتفى عن ذكرهم ثانياً بما ذكرهم أوّلاً.
ولذا أجاب السيّد محمد تقي الحكيم على هذا الاشكال في كلام الفخر الرازي بقوله: (( يبقى الاشكال الثالث، وهو عدم ذكره لأُولي الأمر في وجوب الردّ إليهم عند التنازع، بل اقتصر في الذكر على خصوص الله والرسول، وهذا الإشكال أمره سهل؛ لجواز الحذف اعتماداً على قرينة ذكره سابقاً، وقد سبق في صدر الآية أن ساوى بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة، ويؤيّد هذا المعنى: ما ورد في الآية الثانية: (( وَلَو رَدّوه إلى الرَّسول وَإلَى أولي الأَمر منهم لَعَلمَه الَّذينَ يَستَنبطونَه منهم )) (النساء:83) ))(1).
ثالثاً: إنّ هذه الآية المشار إليها في السؤال تدلّ على عصمة (أُولي الأمر) من حيث المقارنة في الذكر والمساواة في وحدة السياق في وجوب طاعتهم كوجوب طاعة الله وطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم), ومن البديهي أنّ من تجب طاعته من (أُولي الأمر) لا بدّ أن يكون معصوماً عن ارتكاب الزلل والخطأ وسائر ما يشينه وينقصه؛ إذ لو لم يكن كذلك وجاز عليه ارتكاب المعصية فكيف يأمر الله بطاعته وهو غير مأمون في نفسه من الذنوب, والله سبحانه ينهى عن طاعة العصاة في كثير من الآيات؟ أليس في ذلك ما فيه من التضاد والتناقض؟!
وحاشا ربّنا تعالى أن يأمرنا بطاعة من يرتكب ما نهى عنه جلّ وعلا.
قال الفخر الرازي في تفسيره: (( إنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية - يعني (( أَطيعوا الرَّسولَ وَأولي الأَمر منكم )) - ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ أن يكون معصوماً عن الخطأ؛ إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته, فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهيّ عنه, فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال.
فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم, وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ, فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً ))(2).
نقول: وإذا دلّت الآية على عصمة (أُولي الأمر), والعصمة من الأمور الخفية التي لا يمكن أن يطّلع عليها كلّ أحد, وإلاّ لزم تصديق كلّ من يدّعيها, فلا بدّ أن يكون جلّ وعلا المطّلع على السرائر هو الذي يبيّن للناس من هو ذلك المعصوم الذي تجب طاعته وولايته باطّلاع نبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم), والنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدوره يكشف ذلك للناس، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (( وَرَبّكَ يَخلق مَا يَشَاء وَيَختَار مَا كَانَ لَهم الخيَرَة )) (القصص:68).
فمن هنا كانت الآية من أدلّة إثبات النصّ على الأئمّة الهداة(عليهم السلام) كما دلّت على عصمتهم؛ فلاحظ!

(1) الأُصول العامة للفقه المقارن: 159 (الثالثة: بيان المراد من أهل البيت الآية الثانية).
(2) تفسير الرازي 10: 144 قوله تعالى: ((أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ... )).





السؤال: اللفظ في آخر الآية لا ينفي عصمة أُولي الأمرالآية (59) من سورة النساء: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ))، أليست فيها دلالة واضحة تامّة وقاطعة على نفي العصمة؟
الجواب:


إنّ آية أُولي الأمر علّقت الإطاعة لـ(أُولي الأمر) بصورة مطلقة، ولا يكون الأمر بوجوب الإطاعة المطلقة إلاّ لمعصوم؛ إذ لو لم يكن معصوماً جاز عليه الخطأ, فلا يمكن أن يوجب الله علينا إطاعة الخاطئ, ومن هنا كانت دلالة الآية على العصمة واضحة وصريحة حتى تنبّه إلى ذلك الفخر الرازي(1).
ولكن الوهابية يغضّون النظر عن أوّل الآية ويتمسّكون بآخرها، بأنّه لا يدلّ على العصمة، وإلاّ لما أرجع الله المتنازعين إلى الله والرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وترك أُولي الأمر!
ولكن هذا فهم غير صحيح للآية؛ فإنّ التنازع المفروض في الآية تنازع كلّي شامل للنزاع حتى مع أُولي الأمر، فإنّ لفظة (شيء) يصدق على كلّ أمر متنازع فيه، أي: فإن تنازعتم أيّها المؤمنون في شيء مع أُولي الأمر بعد أن أُمرتم بطاعتهم فارجعوا إلى الله والرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتعرفوا حكمه.
فإذا كان التنازع مع أُولي الأمر أنفسهم فكيف يصحّ الإرجاع إليهم؟!
وهل من نازعهم سوف يؤمن بقولهم وصوابهم وأحقّيتهم؟
كيف؟! وإلاّ لم ينازعهم من البداية, بل الذي ينازعهم لا يعترف بوجوب طاعتهم، فضلاً عن عصمتهم.
فلا بدّ من إيجاد جامع مشترك بين أُولي الأمر وبين الذين ينازعونهم، يعودون إليه ليصبح الميزان في فصل الدعوى والتنازع, ولا يوجد بينهم إلاّ القرآن والسُنّة، وهما القانون الكلّي والدستور الإسلامي، وهذا واضح من فعل عليّ(عليه السلام) مع طلحة والزبير عندما دعاهم للقرآن قبل القتال, وكذلك فعله(عليه السلام) مع أهل الشام قبل القتال, ولكنّهم أصرّوا على القتال لعلمهم بكونهم محجوجين, ولكنّهم عند الهزيمة رفعوا المصاحف خدعة.
فلا دلالة في الآية على نفي العصمة، وإنّما فيها دلالة على أنّ مرجع الكلّ في الشريعة الإسلامية والذي لا يخرج عنه حتى أُولي الأمر هو: حكم الله وحكم الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي: القرآن والسُنّة، فحكم أُولي الأمر لا يخرج عن حكم الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهم معصومون تابعون لشريعة محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فارجع إلى الآية واقرأها بتمعّن تجد ما قلناه واضحاً؛ إذ كيف يصحّ التنازع في شيء وهم مسلّمون بطاعة أُولي الأمر؟! فإنّ أُولي الأمر سيقولون لهم عليكم بطاعتنا بنصّ القرآن ولا مجال للنزاع, وهل سيكون هذا إلاّ تناقض! فإنّهم مأمورون بإطاعتهم ثمّ يجوّز القرآن لهم عدم اتّباعهم وتركهم والرجوع إلى الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!! ولذا فإنّ المخاطبين بالردّ لا يدخل فيهم أولو الأمر، وإنّما هم من خوطبوا في أوّل الآية بوجوب طاعة الله والرسول وأُولي الأمر أوّلاً.
وبهذا يتّضح أنّ فرض التنازع المذكور في الآية لا يصحّ ولا يقع إلاّ من الذين ينكرون وجوب إطاعة أُولي الأمر, إمّا بالكلّية، أي: لكلّ وليّ أمر، وإمّا بالتعيين، أي: وليّ الأمر المعيّن والمشخّص، كعليّ(عليه السلام)، ويقولون: أنّه ليس وليّ الأمر مثلاً، فعند ذلك لا بدّ من إرجاعهم إلى القرآن والسُنّة لفض النزاع؛ فتأمّل!
فالآية تطرح معالجة واقعية لحلّ ما يعتري طريق المسلمين من مشاكل في مستقبلهم، ففيها نوع استشراف من الغيب لما سيحدث في واقع الأُمّة الإسلامية.

(1) تفسير الرازي 10: 144.

تعليق على الجواب (1)
لي ملاحظات على هذه الإجابة التي لا تخلو من مغالطات, وهي كما يلي:
1- من قال: إنّ الآية تدلّ على الطاعة المطلقة لأُولي الأمر؟
فالمتأمّل في الآية يجد أنّها كررت لفظ الطاعة مع الرسول كون طاعته مطلقة؛ لأنّه المعصوم, ولم تفعل ذلك مع أُولي الأمر، أي: لم تفردهم بطاعة مستقلّة فتقول: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أُولي الأمر)، ولو كانت الآية كذلك لقلنا بطاعتهم المطلقة - أي: الطاعة المستقلّة - فدلّت الآية على أنّ أُولي الأمر ليس لهم طاعة مستقلة وإنّما هي طاعة في إطار طاعة الله والرسول، كما في الحديث: (إنّما الطاعة في المعروف)، وكما في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق), ولذا لم تفردهم الآية بلفظ الطاعة، كما جاء في حقّ الله والرسول، وهذا يدلّ على عدم العصمة، وإلاّ لو كان أُولو الأمر معصومين لشمل النزاع أُولي الأمر والرسول معاً، وعندئذ لا يصحّ الإحالة في آخر الآية إلى الرسول؛ لكونه طرفاً في النزاع، كما قلتم ذلك في أُولي الأمر حينما لم يحل الأمر إليهم في النزاع.
2- قولكم: إنّ الآية في حقّ مَن لم يؤمن بطاعتهم وعصمتهم، فهذا غير صحيح، بل هي في حقّ المؤمنين، كما نصّت الآية في أوّلها: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، وكيف يصحّ لفظ الإيمان في حقّ مَن لم يقل بعصمة أُولي الأمر وطاعتهم؟
يبدو يا سيدي أنّنا بحاجة إلى مراجعة موقفنا من بعض الأمور، وعلى رأسها: الأمر بالعصمة.


الجواب:


أولاً:هناك فرق بين إفراد أُولي الأمر بطاعة مستقلة، وبين القول بأنّ طاعة أُولي الأمر طاعة مطلقة، ويبدو من كلامك أنّك تخلط بينهما!
فنحن لا نقول أنّ طاعة أُولي الأمر مستقلّة، بل هي في طول طاعة الله والرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكن على الرغم من ذلك تبقى طاعة أُولي الأمر مطلقة, فكما أنّ الآية تأمر بطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كذلك تأمر بطاعة أُولي الأمر بحرف العطف, ولم تقيّد الآية الطاعة في حدود معيّنة، فمن أين استفدت التقييد؟!
ولو كانت طاعة أُولي الأمر تتعارض مع طاعة الله وطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما جاز الأمر بها!
وبعبارة أُخرى: إنّ دلالة حرف العطف هي وحدة نوع الطاعة اللازمة للرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولأُولي الأمر، فهذا مقتضى التشريك بالعطف، وأمّا ما يمكن استفادته من إفراد طاعة لله ثمّ إفراد أُخرى للرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأُولي الأمر، فهو أنّ طاعة الله طاعة بالاستقلال والأولوية؛ لأنّه الحاكم الحق, وأمّا طاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن عطف عليه فقد ثبتت بالنيابة والطولية, ولا دلالة في البين للتقييد والإطلاق - أي لسعة وضيق الطاعة - وإنّما لنوعها أو رتبتها الوجودية بالإصالة أو التبع.
فافهم إن كنت طالب حقّ! فالقول بأنّ الطاعة هنا مطلقة هو ظاهر المنطوق من الآية والواضح عند أهل اللغة العربية دون لبس.
ثانياً: وأمّا قولك: (( وإلاّ لو كان أولو الأمر معصومين لشمل النزاع أُولي الأمر والرسول معاً ))، فإنّ لفظ الشيء في الآية وإن كان عامّاً فيشمل كلّ نزاع حتى مع الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكن قوله تعالى في أوّل الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) يخرج هكذا نزاع بين الناس والرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّ مثل هذا النزاع يخرجهم عن الإسلام، والمخاطب في الآية هم الذين آمنوا لله ولرسوله بكلّ ما جاء به.
ولا ملازمة في البين، بين الردّ إلى الله والرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبين عدم عصمة أُولي الأمر، بل بالعكس، فلو دلّت الآية على عدم عصمة أُولي الأمر لدلّت على عدم عصمة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّ الله شركها في طاعة واحدة، وهذا لا يقوله مسلم.
ثالثاً: إنّ لفظ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) في آيات كثيرة يشمل من آمن بالتوحيد والنبوّة، ولذا تجد بعض الآيات القرآنية التي ذكرت هذه الكلمات لا يمكن حصرها بالمؤمنين بالإمامة فقط، فمثلاً قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ )) (البقرة:183) لا تستطيع القول أنّه كتب على من يعتقد بالإمامة فقط، وكذلك قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكتُبُوهُ )) (البقرة:282). فأنت أيضاً لا تستطيع أن تقول أنّ هذا الحكم خاص بالمؤمنين بالمعنى الأخص، ومن هنا يظهر أنّ الأسلوب القرآني استخدم لفظة (المؤمنون) في معنى يشمل كلّ المسلمين في بعض الآيات، واستخدمها للإيمان الحقيقي دون الإسلام الظاهري في آيات أُخرى، ونميّز ذلك بالقرائن.



السؤال: الرجوع إلى أُولي الأمر حال النزاع.
ورد رأي بأنّ عدم ذكر أُولي الأمر بعد التنازع هو لعلّ التنازع قد يكون في تعيّن أُولي الأمر وتحديدهم, فيجب الرجوع آنذاك إلى الله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّهم قد بيّنوا من هم أولو الأمر بالكتاب والسُنّة.
فما مدى صحّة هذا الرأي؟
الجواب:


إنّ فرض عدم جواز الرجوع إلى أولى الأمر؛ لأنّ التنازع قد يحصل فيهم لا يعني عدم صحّة الرجوع إليهم, بل يجب الرجوع إليهم؛ لأنّ الآية في صدرها فرضت طاعتهم, والمفروض طاعته لا بدّ من الأخذ بقوله حتّى لو كان هناك نزاع بشأنه.
نعم, يمكن صياغة الكلام هكذا, وهو: أنّ ولاة الأمر وإن كان المؤمنون مأمورين بطاعتهم, إلاّ أنّ تشخيصهم وتحديد مصداقهم الصحيح مختلف فيه, فهناك أكثر من واحد يدّعي أنّه هو وليّ الأمر, فالإرجاع إلى أُولي الأمر مع اختلافهم مصداقاً لا يحلّ النزاع, فلا معنى للإرجاع إليهم مع هذا الاختلاف.
نعم, يبقى الرجوع إلى أُولي الأمر الحقيقيين صحيح ومطلوب لحلّ النزاع, ولذا قال تعالى في آية أُخرى: (( وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم )) (النساء:83).



يتبع

الشيخ عباس محمد
07-01-2018, 08:36 PM
السؤال: حذف ولاة الأمر في المقطع الثاني لا يفيد عدم وجوب إطاعتهم
قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً ))، قال لي أحد المخالفين: إنّ أُولي الأمر قد حذف من شطر الآية الثاني وهذا يدلّ على عدم إطاعتهم في كلّ شيء؟
الجواب:


للجواب عن هذا الإشكال نقول:
أوّلاً: إنّ واو العطف - كما هو مقرّر في محلّه من علمي النحو والأُصول - موضوعة للجمع المطلق, وعليه تكون الإطاعة المطلقة ثابتة في حقّ ولاة الأمر - بحسب الآية الكريمة - كما هي ثابتة لله ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), وذلك لمحلّ العطف بالواو في قوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
وعدم تكرار الفعل (( أطيعوا )) لا يدلّ على عدم عموم الطاعة، وإلاّ لدلّ هذا المعنى في حقّ الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غير هذا المورد؛ فقد قال تعالى في مورد آخر من كتابه الكريم: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه )) (الأنفال:20)، ولم يستفد منه أحد بأنّه لا تجب إطاعة الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كلّ شيء ومطلقاً لعدم تكرار الفعل في الجملة.
بل القول به باطل بالإجماع، والمستفاد منه هو على العكس من ذلك تماماً، وهو المعنى الصحيح المتّفق عليه ولا نزاع فيه بين المسلمين.
ثانياً: إنّ توجيه الخطاب إلى المؤمنين في قوله تعالى: (( فَإِن تَنَازَعتُم )) كاشف عن أنّ المراد بالتنازع هو: تنازع بينهم، لا تنازع مفروض بينهم وبين أُولي الأمر, وكذا لا تنازع مفروض بين أُولي الأمر أنفسهم, فإنّ الأوّل - أي: التنازع بينهم وبين أُولي الأمر - لا يلائمه افتراض طاعة أُولي الأمر عليهم (نعم يمكن في فرض عصيانهم على أُولي الأمر). والثاني - أي: التنازع بين أُولي الأمر - لا يلائمه افتراض طاعتهم والتنازع الذي أحد طرفيه على الباطل.
ومن هنا قال السيّد الطباطبائي في (الميزان) عند تفسيره للآية الكريمة: (( ولفظ (الشيء) - (( فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ )) - في وإن كان يعمّ كلّ حكم وأمر من الله ورسوله وأُولي الأمر كائناً ما كان, لكن قوله بعد ذلك: (( فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )) يدلّ على أنّ المفروض هو النزاع في شيء ليس لأُولي الأمر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم، كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك؛ إذ لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها. فالآية تدلّ على وجوب الردّ في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلاّ الله ورسوله ))(1).
(1) الميزان في تفسير القرآن 4: 401.






السؤال: لِمَ لم يذكر وليّ الأمر في آخر الآية؟((يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعوا اللّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ وَأولي الأَمر منكم فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ذَلكَ خَيرٌ وَأَحسَن تَأويلاً... )) (النساء:59)
في الآية الكريمة أمر الزامي بإطاعة أُولي الأمر, وطبعاً المراد بـ(أُولي الأمر) هم: الأئمّة صلوات الله تعالى عليهم, إلاّ أنّه في منتصف الآية (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ذَلكَ خَيرٌ وَأَحسَن تَأويلاً )), لا نجد إلحاق أُولي الأمر في التنازع. فما تفسير ذلك؟
الجواب:


يقول صاحب (الميزان في ج 4 / ص 387) :
يقول صاحب (تفسير الميزان):
((قوله تعالى: (( ياأَيّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )), لمّا فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبثّ الإحسان بين طبقات المؤمنين، وذمّ من يعيب هذا الطريق المحمود، أو صدّ عنه صدوداً، عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرّع عليه فروع أُخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي وهو التحضيض والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتّفاق، ورفع كلّ تنازع واقع بالردّ إلى الله ورسوله.
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ )) جملة سيقت تمهيداً وتوطئة للأمر بردّ الأمر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع، وإن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع والأحكام الإلهية.
فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول ))، ثمّ العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: (( أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ... )) (النساء:60)، وقوله: (( وَمَا أَرسَلنَا من رَسول إلَّا ليطَاعَ بإذن اللَّه... )) (النساء:64)، وقوله: (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّىظ° يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم )) (النساء:65).
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلاّ إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع، وأمّا رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فله حيثيّتان:
إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربّه من غير كتاب، وهو ما يبيّنه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلّق ويرتبط بها، كما قال تعالى: (( وَأَنزَلنَا إلَيكَ الذّكرَ لتبَيّنَ للنَّاس مَا نزّلَ إلَيهم )) (النحل:44).
والثانية: ما يراه من صواب الرأي، وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء، قال تعالى: (( لتحكم بَينَ النَّاس بمَا أَرَاكَ اللَّه )) (النساء:105), وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحكم به في عزائم الأمور، وكان الله سبحانه أمره في اتّخاذ الرأي بالمشاورة فقال: (( وَشَاورهم في الأَمر فإذَا عَزَمتَ فتوَكَّل عَلَى اللَّه )) (آل عمران:159), فأشركهم به في المشاورة ووحّده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أنّ لإطاعة الرسول معنى ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة؛ لأنّ الله هو المشرّع لوجوب إطاعته، كما قال: (( وَمَا أَرسَلنَا من رَسول إلَّا ليطَاعَ بإذن اللَّه )) (النساء:64), فعلى الناس أن يطيعوا الرسول في ما يبيّنه بالوحي، وفيما يراه من الرأي.
وهذا المعنى - والله أعلم - هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ ))، لا ما ذكره المفسّرون: أنّ التكرار للتأكيد؛ فإنّ القصد لو كان متعلّقاً بالتأكيد كان ترك التكرار، كما لو قيل: (وأطيعوا الله والرسول)، أدلّ عليه وأقرب منه؛ فإنّه كان يفيد: أنّ إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأنّ الإطاعتين واحدة، وما كلّ تكرار يفيد التأكيد.
وأمّا أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، وإنّما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لمّا ذكر وجوب الردّ والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم، بل خصّ الله والرسول، فقال: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ))، وذلك أنّ المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنين المخاطبون بقوله في صدر الآية: (( يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا ))، والتنازع تنازعهم بلا ريب، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أُولي الأمر مع افتراض طاعتهم، بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، وليس في أمر الرأي، بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها، بقرينة الآيات التالية الذامّة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله، وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب والسُنّة، والكتاب والسُنّة حجّتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، وقول أُولي الأمر في أنّ الكتاب والسُنّة يحكمان بكذا أيضاً حجّة قاطعة؛ فإنّ الآية تقرّر افتراض الطاعة من غير أيّ قيد أو شرط، والجميع راجع بالأخرة إلى الكتاب والسُنّة.
ومن هنا يظهر أنّ ليس لأُولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكماً جديداً، ولا أن ينسخوا حكماً ثابتاً في الكتاب والسُنّة، وإلاّ لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسُنّة، والردّ إلى الله والرسول معنى على ما يدلّ عليه قوله: (( وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )) (الأحزاب:36)، فقضاء الله هو: التشريع، وقضاء رسوله: إمّا ذلك، وإمّا الأعم، وإنّما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامّة.
وبالجملة لمّا لم يكن لأُولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلاّ ما لله ورسوله من الحكم أعني الكتاب والسُنّة، لم يذكرهم الله سبحانه ثانياً عند ذكر الردّ بقوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول ))، فلله تعالى إطاعة واحدة، وللرسول وأُولي الأمر إطاعة واحدة، ولذلك قال: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ )) إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، ولا مقيّدة بقيد، وهو الدليل على أنّ الرسول لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة، وإلاّ كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى وتقدّس، ولا يتم ذلك إلاّ بعصمة فيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهذا الكلام بعينه جارٍ في أُولي الأمر، غير أنّ وجود قوّة العصمة في الرسول، لمّا قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حدّ نفسه من غير جهة هذه الآية، دون أُولي الأمر ظاهراً، أمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ أُولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة، ولا يتوقّف عليها الآية في استقامة معناها.
بيان ذلك: إنّ الذي تقرّره الآية: حكم مجعول لمصلحة الأُمّة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرّب الخلاف، والتشتت فيهم، وشق عصاهم، فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمّم والمجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة، وهم يعلمون أنّه ربّما يعصي، وربّما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، وينبّه في ما أخطأ، وفيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه، وإن كان مخطئاً في الواقع، ولا يبالي بخطأه؛ فإنّ مصلحة حفظ وحدة المجتمع، والتحرّز من تشتّت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط والاشتباهات.
وهذا حال أُولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم؛ فرض الله طاعتهم على المؤمنين، فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسُنّة، فلا يجوز ذلك منهم، ولا ينفذ حكمهم؛ لقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقد روى هذا المعنى الفريقان، وبه يقيّد إطلاق الآية.
وأمّا الخطأ والغلط، فإن علم به ردّ إلى الحق، وهو حكم الكتاب والسُنّة، وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه، كما في ما علم عدم خطأه، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة في ما يخالف الواقع هذا النوع؛ لأنّ مصلحة حفظ الوحدة في الأُمّة وبقاء السؤدد والأبّهة تتدارك بها هذه المخالفة، ويعود إلى مثل ما تقرّر في أُصول الفقه من حجّية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، وعند مخالفة مؤدّاها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.
وبالجملة، طاعة أُولي الأمر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ، فإن فسقوا فلا طاعة لهم، وإن أخطأوا رُدّوا إلى الكتاب والسُنّة إن علم منهم ذلك، ونفذ حكمهم في ما لم يعلم ذلك، ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر؛ رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين، وحفظاً لوحدة الكلمة.
وأنت بالتأمّل في ما قدّمناه في البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله، وذلك أنّ هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وما يؤدّي هذا المعنى من الآيات القرآنية، كقوله: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ )) (الأعراف:28)، وما في هذا المعنى من الآيات.
وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعاً نظير هذه الحجّية الظاهرية المذكورة، كفرض طاعة أُمراء السرايا الذين كان ينصّبهم عليهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذا الحكّام الذين كان يولّيهم على البلاد كمكّة واليمن، أو يخلّفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، وكحجّية قول المجتهد على مقلّده، وهكذا، لكنّه لا يوجب تقيّد الآية، فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسها أمر، وكونها مدلولاً عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر.
فالآية تدلّ على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء، ولم تقيّده بقيد ولا شرط، وليس في الآية القرآنية ما يقيّد الآية في مدلولها حتّى يعود معنى قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم ))، إلى مثل قولنا: وأطيعوا أُولي الأمر منكم في ما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطأهم، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب والسُنّة، فما هذا معنى قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
مع أنّ الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيّد في ما هو دون هذه الطاعة المفترضة، كقوله في الوالدين: (( وَوَصَّينَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيهِ حُسنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلَا تُطِعهُمَا... )) (العنكبوت:8)، فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أسّ أساس الدين، وإليها تنتهي عامّة أعراق السعادة الإنسانية.
على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر، وذكرها لهما معاً طاعة واحدة فقال: (( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )), ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم، فلو جاز شيء من ذلك على أُولي الأمر لم يسع إلاّ أن يذكر القيد الوارد عليهم، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أيّ تقييد، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر، كما اعتبر في جانب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غير فرق ))(1).
ثمّ يقول في تقرير اشكال من بعضهم وجوابه: (( إنّ القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إنّ فائدة اتّباعه إنقاذ الأُمّة من ظلمة الخلاف، وضرر التنازع والتفرّق، وظاهر الآية يبيّن حكم التنازع مع وجود أُولي الأمر، وطاعة الأُمّة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل والوقائع، والخلاف والتنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به؛ لأنّه عندهم مثل الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم.
وفيه: أنّ جوابه ظاهر ممّا تقدّم أيضاً؛ فإنّ التنازع المذكور في الآية إنّما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسُنّة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع والحوادث، وقد تقدّم أن لا حكم إلاّ لله ورسوله، فإن تمكّن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب والسُنّة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه، وهو معصوم في فهمه، وإن لم يتمكّنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، وذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كانوا يتفقّهون في ما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويسألونه في ما لا يتمكّنون من فهمه بالاستنباط.
فحكم أُولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدلّ عليه الآية، وحكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول، كما يدلّ عليه الآيات التالية، وغيبته كما يدلّ عليه الأمر في الآية بإطلاقه؛ فالردّ إلى الله والرسول المذكور في الآية مختصّ بصورة تنازع المؤمنين كما يدلّ عليه قوله: (( تَنَازَعتم ))، ولم يقل: فإن تنازع أولو الأمر، ولا قال: فإن تنازعوا، والردّ إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسُنّة للمتمكّن منه، وعند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط، كما تقدّم بيانه، فلا يكون قوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء... )) (الخ) زائداً من الكلام مستغنى عنه كما ادّعاه المستشكل.
فقد تبيّن من جميع ما تقدّم: أنّ المراد بأُولي الأمر في الآية رجال من الأُمّة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أُولي الأمر بحسب اللغة، وإرادته من اللفظ؛ فإن قصد مفهوم من المفاهيم اللفظ شيء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر، وذلك كما أنّ مفهوم الرسول معنى عامّ كلّي، وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قوله تعالى: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )), إلى آخر الآية، تفريع على الحصر المستفاد من المورد؛ فإنّ قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ... )) حيث أوجب طاعة الله ورسوله، وهذه الطاعة إنّما هي في المواد الدينية التي تتكفّل رفع كلّ اختلاف مفروض، وكلّ حاجة ممكنة لم يبق مورد تمسّ الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله، وكان معنى الكلام: أطيعوا الله، ولا تطيعوا الطاغوت، وهو ما ذكرناه من الحصر.
وتوجّه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أنّ المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم، لا تنازع مفروض بينهم وبين أُولي الأمر، ولا تنازع مفروض بين أُولي الأمر؛ فإنّ الأوّل - أعني: التنازع بينهم وبين أُولي الأمر - لا يلائم افتراض طاعة أُولي الأمر عليهم, وكذا الثاني - أعني: بين أُولي الأمر - فإنّ افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنّه لا يناسب كون الخطاب متوجهاً إلى المؤمنين في قوله: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه )).
ولفظ (الشيء) وإن كان يعمّ كلّ حكم وأمر من الله ورسوله وأُولي الأمر كائناً ما كان، لكنّ قوله بعد ذلك: (( فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )) يدلّ على أنّ المفروض هو النزاع في شيء ليس لأُولي الأمر الاستقلال والأستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم، كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك؛ إذ لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
فالآية تدلّ على وجوب الردّ في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلاّ الله ورسوله، والآية كالصريح في أنّه ليس لأحد أن يتصرّف في حكم ديني شرعه الله ورسوله، وأولوا الأمر ومن دونهم في ذلك سواء ))(2).

(1) الميزان في تفسير القرآن 4: 387 - 391.
(2) الميزان في تفسير القرآن 4: 400 - 402.