الشيخ عباس محمد
09-01-2018, 08:27 PM
الإمام علي ( عليه السلام ) في رأي بعض بني العباس
1 - خمس خلفاء يروون حديث سدّ الأبواب .
أخرج الحافظ ابن مندة الأصفهاني ، في كتاب مناقب العباس في مسانيد المأمون ، قال : حدثني أمير المؤمنين الرشيد ، حدثني أمير المؤمنين المهدي ، حدثني أمير المؤمنين المنصور ، حدثني أبي ـ السفاح ـ عن عبد الله بن العباس ـ حبر الأمّة ـ قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : ( أنت وارثي ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنّ موسى سأل الله تعالى أن يطهّر مسجده ـ لا يسكنه إلاّ موسى وهارون وابنا هارون ـ وإنّي سألت الله تعالى أن يطهّر مسجدي لك ، ولذريتك من بعدك ، ثمّ أرسل إلى أبي بكر : أن سدّ بابك ، فاسترجع أبو بكر وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وقال : فُعل هذا بغيري ؟ فقيل : لا . فقال : سمعاً وطاعةً ، فسدّ بابه . ثمّ أرسل إلى عمر فقال ( صلى الله عليه وآله ) : سدّ بابك ، فاسترجع ـ عمر ـ وقال : فُعل هذا بغيري ؟ فقيل : بأبي بكر . فقال ـ عمر ـ : إنّ في أبي بكر أسوة حسنة ، فسدّ بابه . ثمّ أرسل ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل آخر فسدّ بابه . ولمّا خاض الناس في ذلك ـ بأنّه لم يأمر علياً ( عليه السلام ) بسدّ بابه ـ صعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر فقال : ما أنا سددت أبوابكم ، ولا أنا فتحت باب علي ( عليه السلام ) ، ولكن الله
سدّ أبوابكم ، وفتح باب علي ( عليه السلام ) ) (1) .
أقول : أخرج العلاّمة الأميني حديث سدّ الأبواب ، عن ثمان وثلاثين طريقاً ومصدراً حديثياً ، وغيره من مسانيد وجوامع أهل السُنة ، عن أربعة عشر صحابياً وثلاث وعشرين نصاً (2) .
ومَن يراجع كتاب إحقاق الحق للعلاّمة التستري المرعشي وملحقاته ، يرى أنّ هذا الحديث قد روي في أكثر من ستين مصدراً من كتب أهل السُنة فقط (3) .
ولا يخفى أنّ هذا الحديث كاشف عن منقبة عالية وسامية لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ويثبت تقدّمه وأولويته على غيره للخلافة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما نرى أنّ علياً ( عليه السلام ) ناشد عدلاءه وقرناءه ، الذين قرنهم به عمر في الشورى ، واحتجّ ( عليه السلام ) بهذا الحديث عليهم ، ولم يردّ عليه أحد من أعضاء الشورى العمرية ، أو يكذّبه في ذلك . وأخرجه أيضاً العلاّمة المجلسي في بحاره بأربعة عشر لفظاً مختلفاً ، رواه عن طرق شيعية وسنية عديدة (4) .
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الطرائف لابن طاووس : 60 - 61 أخرجه عن ابن مندة ، العمدة لابن يطرق : 176 ح 273 الفصل العشرون ، وفيه : العباس ، أخرجه عن ابن مندة : 226 ح 288 ، غاية المرام للبحراني : 640 أخرجه عن ابن مندة ، الغدير 3 : 205. أخرجه عن السيوطي عن النسائي ، جامع الأحاديث للمسانيد والمراسيل للسيوطي 4 : 312 ح 12963 وفيه : سدوا هذه الأبواب . ..
( 2 ) الغدير 3 : 202 - 209.
( 3 ) انظر إحقاق الحق 4 : 129 ، 408 ، 410 ، 433 ، 435 ، 502 ، وج 5 : 60 ، 76 ، 87 ، 450 ، 486 ، وج 15 : 630 ، وج 16 : 332 - 375 ، وج 18 : 15 ، وج 21 : 243 - 255.
( 4 ) بحار الأنوار 39 : 19 - 35 كتاب تاريخ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب ( 720 ) باب أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر بسدّ الأبواب. .. إلاّ بابه ( عليه السلام ) ح 1 - 14.
2 - ثلاث خلفاء عباسيين يروون حديث المنزلة .
أخرج العلاّمة الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المشهور بالخطيب البغدادي ، وآخرون من حفّاظ أهل السُنة ومؤرّخيهم ، بإسنادهم عن المأمون العباسي ، عن أبيه هارون العباسي ، عن أبيه المهدي العباسي :
قال : دخل عليّ سفيان الثوري فقلت : حدثني بأفضل فضيلة عندك لعلي ( عليه السلام ) ! .
فقال ـ سفيان ـ : حدثني سلمة بن كهيل ، عن حجية بن عدي ، عن علي ( عليه السلام )
قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ) (1) .
3 - المأمون يعترف بحديث الغدير والمنزلة .
أخرج الحافظ القندوزي وغيره من الحفّاظ والمؤرّخين من السنة والشيعة حديثاً ، ذكره ابن مسكويه صاحب التاريخ بحوادث الإسلام ، في كتاب سمّاه نديم الفريد ، أو نديم الأحباب يقول فيه : لمّا ولّى المأمون العباسي الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ولاية العهد ، بعد ما دعاه من المدينة إلى خراسان ـ وبايعه الإمام ( عليه السلام ) في ذلك ، بشرط أن لا يتدخّل في شؤون الحكومة ، من عزل أو نصب أحد وغيره من الأمور ـ وضرب المأمون النقود باسم الرضا ( عليه السلام ) ، احتجّ بنو العباس على المأمون ، وكتبوا إليه كتاباً شجبوا فعله ، وطلبوا منه الجواب . فكتب المأمون إليهم كتاباً شرح فيه مواقف الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ومناقبه وفضائله ، وأحقيته في الخلافة عن غيره ، ودوره في ديمومة الدين ، ودفاعه
ــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) تاريخ بغداد 4 : 70 - 71 ترجمة أبي الحسن أحمد بن جعفر الصيدلاني رقم 1693، موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي 1 : 397 عن طريقين ترجمة إبراهيم بن سعيد الجوهري رقم 16 ، الرياض النضرة 3 : 117 عن الحافظ السلفي في النسخة البغدادية ، جامع الأحاديث للسيوطي 4 : 411 ح 7887 ، كنز العمال 13 : 150 ح 36470 ، الروضة الندية في شرح التحفة العلوية للكحلاني اليمني : 102 عن السيوطي .
عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وملكاته النفسية وخصائصه العائلية ، وكان ممّا كتب : فلم يقم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فإنّه آزره ووقاه بنفسه ، ونام في مضجعه ، ثمّ لم يزل بعد متمسكاً بأطراف الثغور ، وينازل الأبطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولّي عن جيش ، منيع القلب ، يأمر على الجميع ، ولا يُؤمّر عليه أحد ، أشد الناس وطأةً على المشركين ، وأعظمهم جهاداً في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث خم ، وصاحب قوله : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ) (1) .
أقول : ومَن يرد الاطلاع أكثر فليراجع مصادره في الذيل .
4 - المأمون يعترف بحديث الطائر المشوي ، ويستدل به على أحقية علي للخلافة .
قبل الخوض في بيان الحديث المتعلّق بهذا الموضوع ، لابدّ من الإشارة إلى مسألتين ولو بالاختصار :
1 - ذكر أكثر من مِئة وواحد وثلاثين عالماً وحافظاً من علماء أهل السُنة والجماعة ، أنّه أهدت إحدى النساء المسلمات طائراً مشوياً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، مع أنّ إحدى زوجاته وغلامه أنس بن مالك كانا حاضرينِ في الدار ، ولكنّه ( صلى الله عليه وآله ) دعا ربّه أن يأتيه بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؛ لِما كان له عند الله شأناً كبيراً ، ليأكل معه ذلك الطير المشوي ، أو أنّه أراد بدعائه : ( اللهم ائتني بأحب خلقك يأكل معي هذا الطعام ) أن يُري مقام الإمام علي ( عليه السلام ) للآخرين .
ـــــــــــــــــــ
( 1 ) ينابيع المودة : 484 باب ( 92 ) باختصار ، الطرائف للسيد ابن طاووس : 275 - 282 ، عبقات الأنوار 1 : 147 ، بحار الأنوار 49 : 208 - 214.
وما برح أن جاء علي ( عليه السلام ) يسأل عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فلم يُدخله أنس وعذره ، فرجع علي ثانيةً وثالثةً ، وأنس يمنعه ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) ما زال ينتظر دخول أحب الخلق إلى الله ؛ ليأكل معه الطير ، ويرى أنّ الله قد استجاب دعاءه في علي ( عليه السلام ) (1) .
2 - روى العلاّمة الأديب والمؤرّخ ابن عبد ربّه الأندلسي ـ المتوفى 328 ـ وكذلك روى المحدّث الكبير الشيخ الصدوق ـ المتوفى 381 هـ ـ أنّ المأمون أمر رئيس وزرائه ، وقاضي القضاة يحيى بن أكثم ، أن يجمع له أربعين عالماً من علماء أهل السُنة في بلاط الخلافة العباسية ؛ ليناظرهم في موضوع الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وأحقية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) للخلافة .
فغدا ابن أكثم والعلماء على المأمون في صبيحة الغد ، وناظرهم المأمون في ذلك الموضوع محتجّاً ومستنداً ، على أفضلية أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، بالآيات والأحاديث النبوية ـ الصحيحة التي نقلها واعترف بها أئمة الحديث عند أهل السنة ـ بشأن الإمام علي ( عليه السلام ) .
وبعد الحوار والمناظرة التي دامت ساعات ، واحتجّ عليهم المأمون في بيان أفضلية الإمام علي ( عليه السلام ) وأحقيته وأولويته للخلافة ، على غيره خاصةً الخليفتين الأَوّليين ، أذعن جميع العلماء الأربعون بذلك ، واعترفوا بعدم صحة خلافة غير علي ( عليه السلام ) ، وأنّ خلافتهم باطلة . وإليك نص الاحتجاج نقلناه من العقد الفريد فاقرأه وتأمله (2) .
ــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ومَن أراد زيادة الاطلاع والإلمام ، بالأسانيد والمصادر الحديثية والتاريخية ، لحديث الطير المشوي ، فليراجع المجلدات الثمان من موسوعة عبقات الأنوار ، تأليف العلاّمة مير حامد حسين اللكهنوي ، ومقدمتنا المفصّلة على الطبعة التي طبعتها مؤسسة الإمام المهدي ( عليه السلام ) .
( 2 ) أخي القارئ ، لا يخفى عليك أنّ المؤلّف العلاّمة الشيخ مهدي فقيه الإيماني حفظه الله ، قد اكتفى في هذا الكتاب بنقل حديث الطائر ، واحتجاج المأمون به من أصل الحوار ، ولكنّنا لمّا شاهدنا أنّ هذا الحوار يكتنز في ثناياه حقائق أخرى واعترافات ، ارتأينا أن ننقله برمته ؛ لتكون الفائدة اشمل .
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي ( عليه السلام )
إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد قال :
بعث إليّ يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، فقال : إنّ أمير المؤمنين أمرني أن أُحضر معي غداً ـ مع الفجر ـ أربعين رجلاً ، كلهم فقيه يفقه ما يقال له ويحسن الجواب ، فسمّوا مَن تظنونه يصلح لِما يطلب أمير المؤمنين . فسمّينا له عدة ، وذكر هو عدة ، حتى تمّ العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبكور في السحر ، وبعث إلى مَن لم يحضر فأمره بذلك . فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا ، فركب وركبنا معه ، حتى صرنا إلى الباب ، فإذا بخادم واقف ، فلمّا نظر إلينا قال : يا أبا محمد ، أمير المؤمنين ينتظرك ، فأدخلنا ، فأمرنا بالصلاة ، فأخذنا فيها ، فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال : ادخلوا ، فدخلنا ، فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه ، وعليه سواده وطيلسانه والطويلة وعمامته . فوقفنا وسلّمنا ، فردّ السلام ، وأمرنا بالجلوس . فلمّا استقر بنا المجلس تحدّر عن فراشه ، ونزع عمامته وطيلسانه ، ووضع قلنسوته ، ثمّ أقبل علينا فقال : إنّما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأمّا الخُف فمنع من خلعه علة ، مَن قد عرفها منكم فقد عرفها ، ومَن لم يعرفها فسأعرّفه بها ، ومدّ رجله . ثمّ قال انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالسكم .
قال ـ إسحاق ـ : فأمسكنا ، فقال لنا يحيى : انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين ، فتعجبنا فنزعنا أخفافنا
ـــــــــــــــــــــ
وإنّنا قد بدأنا في بحث مستقل ، في شرح وبيان هذا الخبر المأموني ، والاستدراك عليه ، وأرجو من العلي القدير أن ينجز لنا مقدمات طبعه ؛ وذلك لِما فيه الكثير من الحقائق العلوية ، التي دأب بعض المتعصبين والناصبين العداء لأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) على إخفائها والتعتيم عليها . ومنه التوفيق وعليه التكلان . ( المعرّب ).
وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا ، فلمّا استقر بنا المجلس قال - المأمون - : إنّما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة ، فمَن كان به شيء من الأخبثين (1) ، لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول : فمَن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له . ثمّ ألقى مسألة من الفقه ، فقال : يا أبا محمد ، قل وليقل القوم من بعدك ، فأجابه يحيى ، ثمّ الذي يلي يحيى ، ثمّ الذي يليه ، حتى أجاب آخرنا في العلة وعلة العلة ، وهو مطرق لا يتكلم . حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال : يا أبا محمد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة ، ثمّ لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ، ويخطّئ بعضنا ويصوّب بعضنا ، حتى أتى على آخرنا . ثمّ قال : إنّي لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنّني أحببت أن أنبئكم ، أنّ أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه ، ودينه الذي يدين الله به . قلنا : فليفعل أمير المؤمنين وفّقه الله .
فقال : إنّ أمير المؤمنين يدين الله على أنّ علي بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأولى الناس بالخلافة .
قال إسحاق : قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ فينا مَن لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة .
فقال ـ المأمون ـ : يا إسحاق ، اختر إن شئت أن أسالك ، وإن شئت أن تسأل .
قال إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين .
قال : سلْ .
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الأخبثان : البول والغائط . وفي بعض الأصول : ( الخبيثين ) . وفي ن : ( الحقنتين ) .
قلت : من أين قال أمير المؤمنين إنّ علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله ، وأحقهم بالخلافة بعده ؟
قال : يا إسحاق ، خبّرني عن الناس بِمَ يتفاضلون ، حتى يقال فلان أفضل من فلان ؟
قلت : بالأعمال الصالحة .
قال : صدقت . قال : فأخبرني عمّن صاحبه على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله ، بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله ، أيلحق به ؟
قال ـ إسحاق ـ : فأطرقت .
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل نعم ، فإنّك إن قلت نعم ، أوجدتك في دهرنا هذا ، مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاةً وصدقةً .
قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الفاضل أبداً .
قال : يا إسحاق ، فانظر ما رواه لك أصحابك ، ومَن أخذت عنهم دينك ، وجعلتهم قدوتك ، من فضائل علي بن أبي طالب . فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي فقل إنّه أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده فقل إنّهما أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل علي فقل إنّهم أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله العشرة ـ الذين شهد لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله بالجنة) ـ فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنّهم أفضل منه .
ثمّ قال : يا إسحاق ، أي الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله ؟
قلت : الإخلاص بالشهادة .
قال : أليس السبق إلى الإسلام ؟
قلت : نعم .
قال : اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) إنّما عنى مَن سبق إلى الإسلام ، فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام ؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ علياً أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم ، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم .
قال : أخبرني أيّهما أسلم قبل ؟ ثمّ أناظرك من بعده في الحداثة والكمال .
قلت : علي أسلم قبل أبي بكر على هذا الشريطة .
فقال : نعم ، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من ، أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاماً من الله ؟
قال ـ إسحاق ـ : فأطرقت .
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل إلهاماً فتقدّمه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؛ لأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يعرف الإسلام ، حتى أتاه جبريل عن الله تعالى .
قلت : أجل ، بل دعاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الإسلام .
قال : يا إسحاق ، فهل يخلو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين دعاه إلى الإسلام ، من أن يكون دعاه بأمر الله ، أو تكلّف ذلك من نفسه ؟
قال ـ إسحاق ـ : فأطرقت .
فقال : يا إسحاق ، لا تنسب رسول الله إلى التكلّف ، فإنّ الله يقول : ( وَمَا أَنَا
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الواقعة : 10.
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) .
قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر الله .
قال : فهل من صفة الجبّار جلّ ذكره أن يكلّف رُسله دعاء مَن لا يجوز عليه حكم ؟
قلت : أعوذ بالله !
فقال : أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ إنّ علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم ، وقد كلّف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاء الصبيان إلى ما لا يطيقونه ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء ، ولا يجوز عليهم حكم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، أترى هذا جائزاً عندك أن تنسبه إلى الله عزّ وجلّ (2) ؟
قلت : أعوذ بالله .
قال : يا إسحاق ، فأراك إنّما قصدت لفضيلة فضّل بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً على هذا الخلق ، أبانه بها منهم ؛ ليُعرف (3) مكانه وفضله ، ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا علياً ؟
قلت : بلى .
قال : فهل بلغك أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته ؛ لئلا تقول إنّ علياً ابن عمه ؟ قلت : لا أعلم ، ولا أدري فعل أو لم يفعل .
قال : يا إسحاق ، أرأيت ما لم تدرِه ولم تعلمه هل تسأل عنه ؟
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ص : 86 .
( 2 ) والذي في سائر النسخ : ( رسول الله صلى الله عليه وآله ).
( 3 ) في بعض النسخ : ( ليعرفوا فضله ) .
قلت : لا .
قال : فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك .
ثمّ قال : أي الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام ؟
قلت : الجهاد في سبيل الله .
قال صدقت ، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما تجد لعلي في الجهاد ؟
قلت : في أي وقت ؟
قال : في أي الأوقات شئت ؟
قلت : بدر .
قال : لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلاّ دون ما تجد لعلي يوم بدر ، أخبرني كم قتلى بدر ؟
قلت : نيّف وستون رجلاً من المشركين .
قال : فكم قتل علي وحده ؟
قلت : لا أدري .
قال : ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين ، والأربعون لسائر الناس .
قلت : يا أمير المؤمنين ، كان أبو بكر مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عريشه .
قال : يصنع ماذا ؟
قلت : يدبّر .
قال : ويحك ! يدبّر دون رسول الله ، أو معه شريكاً ، أم افتقاراً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رأيه ؟ أي الثلاث أحب إليك ؟
قلت : أعوذ بالله أن يدبّر أبو بكر دون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو أن يكون معه شريكاً ، أو أن يكون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) افتقار إلى رأيه .
قال : فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك ؟ أليس مَن ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممّن هو جالس ؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهداً .
قال : صدقت ، كلٌّ مجاهد ، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن الجالس أفضل من الجالس ، أَما قرأت في كتاب الله : ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1) .
قلت : وكان أبو بكر وعمر مجاهدينِ .
قال : فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على مَن لم يشهد ذلك المشهد ؟
قلت : نعم .
قال : فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر .
قلت : أجل .
قال : يا إسحاق ، هل تقرأ القرآن ؟
قلت : نعم .
قال : اقرأ عليّ : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) (2) . فقرأت منها حتى بلغت : ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) إلى قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (3) .
قال : على رسلك ، فيمَن أُنزلت هذه الآيات ؟
ــــــــــــــــــــ
( 1 ) النساء : 95.
( 2 ) الإنسان : 1.
( 3 ) الإنسان : 5 - 8.
قلت : في علي .
قال : فهل بلغك أنّ علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير .
قال : إنّما نطعمكم لوجه الله ؟
قلت : أجل .
قال : وهل سمعت الله وصف في كتابه أحداً بمثل ما وصف به علياً ؟
قلت : لا .
قال : صدقت ؛ لأنّ الله جلّ ثناؤه عرف سيرته .
يا إسحاق ، ألست تشهد أنّ العشرة في الجنة ؟
قلت : بلى ، يا أمير المؤمنين .
قال : أرأيت لو أنّ رجلاً قال : والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله ، أكان عندك كافراً ؟
قلت : أعوذ بالله .
قال : أرأيت لو أنّه قال : ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا ، أكان كافراً ؟
قلت : نعم .
قال : يا إسحاق ، أرى بينهما فرقاً ، يا إسحاق ، أتروي الحديث ؟
قلت : نعم .
قال : فهل تعرف حديث الطير ؟
قلت : نعم .
قال : فحدّثني به .
قال ـ اسحاق ـ : فحدّثته الحديث .
فقال : يا إسحاق ، إنّي كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق ، فأمّا الآن فقد
بان لي عنادك ، إنّك توافق أنّ هذا الحديث صحيح ؟
قلت : نعم ، رواه مَن لا يمكنني ردّه .
قال : أفرأيت أنّ مَن أيقن أنّ هذا الحديث صحيح ، ثمّ زعم أنّ أحداً أفضل من علي ، لا يخلو من إحدى ثلاثة :
1 - من أن تكون دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده مردودة عليه .
2 - أو أن يقول : إنّ الله عزّ وجلّ عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه .
3 - أو أن يقال : إنّ الله عزّ وجلّ لم يعرف الفاضل من المفضول .
فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول ؟
قال ـ اسحاق ـ : فأطرقت .
ثمّ قال : يا إسحاق ، لا تقل منها شيئاً ، فإنّك إن قلت منها شيئاً استتبتك ، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله .
قلت : لا أعلم ، وإنّ لأبي بكر فضلاً .
قال : أجل ، لولا أنّ له فضلاً لَما قيل إنّ علياً أفضل منه ، فما فضله الذي قصدت إليه الساعة ؟
قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1) ، فنسبه إلى صحبته .
قال : يا إسحاق ، أَما إنّي لا أحملك على الوعر من طريقك ، إنّي وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة مَن رضيه ، ورضي عنه كافراً ، وهو قوله : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي
ــــــــــــــــــــــ
( 1 ) التوبة : 40.
وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) (1) .
قلت : إنّ ذلك صاحب كان كافراً ، وأبو بكر مؤمن .
قال : فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة مَن رضيه كافراً ، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيّه مؤمناً ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث .
قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ قدر الآية عظيم ، إنّ الله يقول : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) .
قال : يا إسحاق ، تأبى الآن إلاّ أن أخرجك إلى الاستقصاء عليك ، أخبرني عن حزن أبي بكر ، أكان رضاً أم سخطاً ؟
قلت : إنّ أبا بكر إنّما حزن من ؛ أجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خوفاً عليه ، وغماً أن يصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيء من المكروه .
قال : ليس هذا جوابي ، إنّما كان جوابي أن تقول : رضا أم سخط ؟
قلت : بل رضا لله .
قال : فكان الله جلّ ذكره بعث إلينا رسولاً ينهى عن رضا الله عزّ وجلّ وعن طاعته .
قلت : أعوذ بالله .
قال : أَوَ ليس قد زعمت أنّ حزن أبي بكر رضي الله عنه رضا الله ؟
قلت : بلى .
قال : أَوَ لم تجد أنّ القرآن يشهد أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ( لا تَحْزَنْ ) نهياً له عن الحزن .
قلت : أعوذ بالله .
ـــــــــــــــــ
( 1 ) الكهف : 37 - 38.
قال : يا إسحاق ، إنّ مذهبي الرفق بك ، لعلّ الله يردك إلى الحق ، ويعدل بك عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به .
وحدثني عن قول الله : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) مَن عنى بذلك رسول الله أم أبا بكر ؟
قلت : بل رسول الله .
قال : صدقت .
قال : فحدثني عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) إلى قوله : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضع ؟
قلت : لا أدري ، يا أمير المؤمنين .
قال : الناس جميعاً انهزموا يوم حنين ، فلم يبقَ مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلاّ سبعة نفر من بني هاشم : علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله ، والخمسة محدِقون به خوفاً من أن يناله من جراح القوم شيء ، حتى أعطى الله لرسوله الظفر ، فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة ، ثمّ مَن حضره من بني هاشم .
قال : فمَن أفضل : مَن كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك الوقت ، أم مَن انهزم عنه ولم يرَه الله موضعاً لينزلها عليه ؟
قلت : بل مَن أُنزلت عليه السكينة ؟
قال : يا إسحاق ، مَن أفضل : مَن كان معه في الغار أم مَن نام على فراشه ووقاه بنفسه ، حتى تمّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أراد من الهجرة ؟ إنّ الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر علياً بالنوم على فراشه ، وأن يقي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك ، فبكى علي رضي الله عنه ، فقال له رسول الله : ( ما يبكيك يا علي أَجزعاً من الموت ؟ )
قال ـ علي عليه السلام ـ : لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، ولكن خوفاً عليك ، أَفتسلم يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : سمعاً وطاعةً وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله ، ثمّ أتى مضجعه واضطجع ، وتسجّى بثوبه . وجاء المشركون من قريش فحفّوا به ، لا يشكون أنّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربةً بالسيف ؛ لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطناً بدمه ، وعلي يسمع ما القوم فيه من تلف نفسه ، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار ، ولم يزل علي صابراً محتسباً . فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح ، فلمّا أصبح قام ، فنظر القوم إليه فقالوا : أين محمد ؟ قال : وما علمي بمحمد أين هو ؟ قالوا : فلا نراك إلاّ كنت مغرّراً بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يزل علي أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله إليه .
يا إسحاق : هل تروي حديث الولاية ؟
قلت : نعم ، يا أمير المؤمنين .
قال : أروِه .
قال ـ إسحاق ـ : ففعلت .
قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث ، هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه ؟
قلت : إنّ الناس ذكروا ، أنّ الحديث إنّما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي ، وأنكر ولاء علي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ) .
قال : وفي أي موضع قال هذا ؟ أليس بعد منصرفه من حجة الوداع ؟
قلت : أجل .
قال : فإنّ قتل زيد بن حارثة قبل الغدير (1) ، كيف رضيت لنفسك بهذا ؟ أخبرني لو رأيت ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيّها الناس ، فاعلموا ذلك . أكنت منكراً عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون ؟
فقلت : اللهم نعم .
قال : يا إسحاق ، أفتنزّه ابنك عمّا لا تنزّه عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ويحكم !
- يا إسحاق - : لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم ، إنّ الله جلّ ذكره قال في كتابه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (2) ، ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ، ولا زعموا أنّهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم .
يا إسحاق ، أتروي حديث : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعته وسمعت مَن صحّحه وجحده .
قال : فمَن أوثق عندك : مَن سمعت منه فصحّحه ، أو مَن جحده ؟
قلت : مَن صحّحه .
قال : فهل يمكن أن يكون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مزح بهذا القول ؟
قلت : أعوذ بالله .
قال : فقال قولاً لا معنى له ، فلا يوقف عليه ؟
قلت : أعوذ بالله .
ــــــــــــــــــ
( 1 ) يريد : غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، وبينه وبين الجُحفة ميلان ، وكانت في السنة العاشرة من الهجرة ، وكان مقتل زيد بن حارثة في غزوة مؤتة في السنة السابعة من الهجرة .
( 2 ) التوبة : 31.
قال : أَفلا تعلم أنّ هارون كان أخا موسى لأبيه وأمّه ؟
قلت : بلى .
قال : فعليّ أخو رسول الله لأبيه وأمّه ؟
قلت : لا .
قال : أَوَ ليس هارون كان نبياً وعلي غير نبي ؟
قلت : بلى .
قال : فهذان الحالان معدومان في علي ، وقد كانا في هارون .
يا إسحاق ، فما معنى قوله : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) ؟
قلت له : إنّما أراد أن يطيّب بذلك نفس علي لمّا قال المنافقون إنّه خلّفه استثقالاً له .
قال : فأراد أن يطيّب نفسه بقول لا معنى له ؟
قال إسحاق : فأطرقت .
قال : يا إسحاق ، له معنى في كتاب الله بيّن .
قلت : وما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : قوله عزّ وجلّ حكايةً عن موسى إنّه قال لأخيه هارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (1) .
قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ موسى ( عليه السلام ) خلّف هارون ( عليه السلام ) في قومه وهو حي ، ومضى إلى ربّه ، وإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خلّف علياً كذلك حين خرج إلى غزاته .
قال : كلا ليس كما قلت . أخبرني عن موسى حين خلّف هارون ( عليه السلام ) ، هل
ــــــــــــــــــ
( 1 ) الأعراف : 142.
كان معه حين ذهب إلى ربّه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل ؟
قلت : لا .
قال : أَوَ ليس استخلفه على جماعتهم ؟
قلت : نعم .
قال : فأخبرني عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين خرج إلى غزاته ، هل خلّف إلاّ الضعفاء والنساء ، والصبيان ؟ فأنّى يكون مثل ذلك ؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله ، يدل على استخلافه إيّاه لا يقدر أحد أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحداً احتج به ، وأرجو أن يكون توفيقاً من الله .
قلت : وما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : قوله عزّ وجلّ حين حكى عن موسى ( عليه السلام ) قوله : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (1) : فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسى ، وزيري من أهلي ، وأخي أشد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبح الله كثيراً ، ونذكره كثيراً ، فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئاً غير هذا ؟ ولم يكن ليبطل قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن يكون لا معنى له .
قال ـ إسحاق ـ : فطال المجلس وارتفع النهار .
فقال يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين ، قد أوضحت الحق لمَن أراد الله به بالخير ، وأثبتَ ما لا يقدر أحد أن يدفعه .
قال إسحاق : فأقبل علينا وقال : ما تقولون ؟
فقلنا : كلنا نقول أمير المؤمنين أعزّه الله .
ـــــــــــــــــــ
( 1 ) طه : 29 - 35.
فقال : والله لولا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( اقبلوا القول من الناس ) ما كنت لأقبل منكم القول .
اللهم ، قد نصحت لهم القول ، اللهم ، إنّي قد أخرجت الأمر من عنقي ، اللهم ، إنّي أدينك بالتقرّب إليك بحب علي وولايته (1) .
وأخيراً ، نود أن نشير في خاتمة الكتاب ، إلى أنّ هناك العديد من المرويات والاعترافات الصريحة المنقولة ، عن لسان الخلفاء بحق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولكنّا ـ نظراً لضيق الوقت وخوفاً من الإطالة ـ اكتفينا بالمهم منها ، وما غايتنا إلاّ إتمام الحجة والبرهان ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
( 1 ) العقد الفريد 5 : 92 - 101 ، عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق 2 : 185 - 200 باختلاف يسير .
( 2 ) الأنعام : 149.
1 - خمس خلفاء يروون حديث سدّ الأبواب .
أخرج الحافظ ابن مندة الأصفهاني ، في كتاب مناقب العباس في مسانيد المأمون ، قال : حدثني أمير المؤمنين الرشيد ، حدثني أمير المؤمنين المهدي ، حدثني أمير المؤمنين المنصور ، حدثني أبي ـ السفاح ـ عن عبد الله بن العباس ـ حبر الأمّة ـ قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : ( أنت وارثي ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنّ موسى سأل الله تعالى أن يطهّر مسجده ـ لا يسكنه إلاّ موسى وهارون وابنا هارون ـ وإنّي سألت الله تعالى أن يطهّر مسجدي لك ، ولذريتك من بعدك ، ثمّ أرسل إلى أبي بكر : أن سدّ بابك ، فاسترجع أبو بكر وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وقال : فُعل هذا بغيري ؟ فقيل : لا . فقال : سمعاً وطاعةً ، فسدّ بابه . ثمّ أرسل إلى عمر فقال ( صلى الله عليه وآله ) : سدّ بابك ، فاسترجع ـ عمر ـ وقال : فُعل هذا بغيري ؟ فقيل : بأبي بكر . فقال ـ عمر ـ : إنّ في أبي بكر أسوة حسنة ، فسدّ بابه . ثمّ أرسل ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل آخر فسدّ بابه . ولمّا خاض الناس في ذلك ـ بأنّه لم يأمر علياً ( عليه السلام ) بسدّ بابه ـ صعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر فقال : ما أنا سددت أبوابكم ، ولا أنا فتحت باب علي ( عليه السلام ) ، ولكن الله
سدّ أبوابكم ، وفتح باب علي ( عليه السلام ) ) (1) .
أقول : أخرج العلاّمة الأميني حديث سدّ الأبواب ، عن ثمان وثلاثين طريقاً ومصدراً حديثياً ، وغيره من مسانيد وجوامع أهل السُنة ، عن أربعة عشر صحابياً وثلاث وعشرين نصاً (2) .
ومَن يراجع كتاب إحقاق الحق للعلاّمة التستري المرعشي وملحقاته ، يرى أنّ هذا الحديث قد روي في أكثر من ستين مصدراً من كتب أهل السُنة فقط (3) .
ولا يخفى أنّ هذا الحديث كاشف عن منقبة عالية وسامية لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ويثبت تقدّمه وأولويته على غيره للخلافة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما نرى أنّ علياً ( عليه السلام ) ناشد عدلاءه وقرناءه ، الذين قرنهم به عمر في الشورى ، واحتجّ ( عليه السلام ) بهذا الحديث عليهم ، ولم يردّ عليه أحد من أعضاء الشورى العمرية ، أو يكذّبه في ذلك . وأخرجه أيضاً العلاّمة المجلسي في بحاره بأربعة عشر لفظاً مختلفاً ، رواه عن طرق شيعية وسنية عديدة (4) .
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الطرائف لابن طاووس : 60 - 61 أخرجه عن ابن مندة ، العمدة لابن يطرق : 176 ح 273 الفصل العشرون ، وفيه : العباس ، أخرجه عن ابن مندة : 226 ح 288 ، غاية المرام للبحراني : 640 أخرجه عن ابن مندة ، الغدير 3 : 205. أخرجه عن السيوطي عن النسائي ، جامع الأحاديث للمسانيد والمراسيل للسيوطي 4 : 312 ح 12963 وفيه : سدوا هذه الأبواب . ..
( 2 ) الغدير 3 : 202 - 209.
( 3 ) انظر إحقاق الحق 4 : 129 ، 408 ، 410 ، 433 ، 435 ، 502 ، وج 5 : 60 ، 76 ، 87 ، 450 ، 486 ، وج 15 : 630 ، وج 16 : 332 - 375 ، وج 18 : 15 ، وج 21 : 243 - 255.
( 4 ) بحار الأنوار 39 : 19 - 35 كتاب تاريخ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب ( 720 ) باب أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر بسدّ الأبواب. .. إلاّ بابه ( عليه السلام ) ح 1 - 14.
2 - ثلاث خلفاء عباسيين يروون حديث المنزلة .
أخرج العلاّمة الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المشهور بالخطيب البغدادي ، وآخرون من حفّاظ أهل السُنة ومؤرّخيهم ، بإسنادهم عن المأمون العباسي ، عن أبيه هارون العباسي ، عن أبيه المهدي العباسي :
قال : دخل عليّ سفيان الثوري فقلت : حدثني بأفضل فضيلة عندك لعلي ( عليه السلام ) ! .
فقال ـ سفيان ـ : حدثني سلمة بن كهيل ، عن حجية بن عدي ، عن علي ( عليه السلام )
قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ) (1) .
3 - المأمون يعترف بحديث الغدير والمنزلة .
أخرج الحافظ القندوزي وغيره من الحفّاظ والمؤرّخين من السنة والشيعة حديثاً ، ذكره ابن مسكويه صاحب التاريخ بحوادث الإسلام ، في كتاب سمّاه نديم الفريد ، أو نديم الأحباب يقول فيه : لمّا ولّى المأمون العباسي الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ولاية العهد ، بعد ما دعاه من المدينة إلى خراسان ـ وبايعه الإمام ( عليه السلام ) في ذلك ، بشرط أن لا يتدخّل في شؤون الحكومة ، من عزل أو نصب أحد وغيره من الأمور ـ وضرب المأمون النقود باسم الرضا ( عليه السلام ) ، احتجّ بنو العباس على المأمون ، وكتبوا إليه كتاباً شجبوا فعله ، وطلبوا منه الجواب . فكتب المأمون إليهم كتاباً شرح فيه مواقف الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ومناقبه وفضائله ، وأحقيته في الخلافة عن غيره ، ودوره في ديمومة الدين ، ودفاعه
ــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) تاريخ بغداد 4 : 70 - 71 ترجمة أبي الحسن أحمد بن جعفر الصيدلاني رقم 1693، موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي 1 : 397 عن طريقين ترجمة إبراهيم بن سعيد الجوهري رقم 16 ، الرياض النضرة 3 : 117 عن الحافظ السلفي في النسخة البغدادية ، جامع الأحاديث للسيوطي 4 : 411 ح 7887 ، كنز العمال 13 : 150 ح 36470 ، الروضة الندية في شرح التحفة العلوية للكحلاني اليمني : 102 عن السيوطي .
عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وملكاته النفسية وخصائصه العائلية ، وكان ممّا كتب : فلم يقم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فإنّه آزره ووقاه بنفسه ، ونام في مضجعه ، ثمّ لم يزل بعد متمسكاً بأطراف الثغور ، وينازل الأبطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولّي عن جيش ، منيع القلب ، يأمر على الجميع ، ولا يُؤمّر عليه أحد ، أشد الناس وطأةً على المشركين ، وأعظمهم جهاداً في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث خم ، وصاحب قوله : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ) (1) .
أقول : ومَن يرد الاطلاع أكثر فليراجع مصادره في الذيل .
4 - المأمون يعترف بحديث الطائر المشوي ، ويستدل به على أحقية علي للخلافة .
قبل الخوض في بيان الحديث المتعلّق بهذا الموضوع ، لابدّ من الإشارة إلى مسألتين ولو بالاختصار :
1 - ذكر أكثر من مِئة وواحد وثلاثين عالماً وحافظاً من علماء أهل السُنة والجماعة ، أنّه أهدت إحدى النساء المسلمات طائراً مشوياً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، مع أنّ إحدى زوجاته وغلامه أنس بن مالك كانا حاضرينِ في الدار ، ولكنّه ( صلى الله عليه وآله ) دعا ربّه أن يأتيه بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؛ لِما كان له عند الله شأناً كبيراً ، ليأكل معه ذلك الطير المشوي ، أو أنّه أراد بدعائه : ( اللهم ائتني بأحب خلقك يأكل معي هذا الطعام ) أن يُري مقام الإمام علي ( عليه السلام ) للآخرين .
ـــــــــــــــــــ
( 1 ) ينابيع المودة : 484 باب ( 92 ) باختصار ، الطرائف للسيد ابن طاووس : 275 - 282 ، عبقات الأنوار 1 : 147 ، بحار الأنوار 49 : 208 - 214.
وما برح أن جاء علي ( عليه السلام ) يسأل عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فلم يُدخله أنس وعذره ، فرجع علي ثانيةً وثالثةً ، وأنس يمنعه ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) ما زال ينتظر دخول أحب الخلق إلى الله ؛ ليأكل معه الطير ، ويرى أنّ الله قد استجاب دعاءه في علي ( عليه السلام ) (1) .
2 - روى العلاّمة الأديب والمؤرّخ ابن عبد ربّه الأندلسي ـ المتوفى 328 ـ وكذلك روى المحدّث الكبير الشيخ الصدوق ـ المتوفى 381 هـ ـ أنّ المأمون أمر رئيس وزرائه ، وقاضي القضاة يحيى بن أكثم ، أن يجمع له أربعين عالماً من علماء أهل السُنة في بلاط الخلافة العباسية ؛ ليناظرهم في موضوع الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وأحقية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) للخلافة .
فغدا ابن أكثم والعلماء على المأمون في صبيحة الغد ، وناظرهم المأمون في ذلك الموضوع محتجّاً ومستنداً ، على أفضلية أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، بالآيات والأحاديث النبوية ـ الصحيحة التي نقلها واعترف بها أئمة الحديث عند أهل السنة ـ بشأن الإمام علي ( عليه السلام ) .
وبعد الحوار والمناظرة التي دامت ساعات ، واحتجّ عليهم المأمون في بيان أفضلية الإمام علي ( عليه السلام ) وأحقيته وأولويته للخلافة ، على غيره خاصةً الخليفتين الأَوّليين ، أذعن جميع العلماء الأربعون بذلك ، واعترفوا بعدم صحة خلافة غير علي ( عليه السلام ) ، وأنّ خلافتهم باطلة . وإليك نص الاحتجاج نقلناه من العقد الفريد فاقرأه وتأمله (2) .
ــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ومَن أراد زيادة الاطلاع والإلمام ، بالأسانيد والمصادر الحديثية والتاريخية ، لحديث الطير المشوي ، فليراجع المجلدات الثمان من موسوعة عبقات الأنوار ، تأليف العلاّمة مير حامد حسين اللكهنوي ، ومقدمتنا المفصّلة على الطبعة التي طبعتها مؤسسة الإمام المهدي ( عليه السلام ) .
( 2 ) أخي القارئ ، لا يخفى عليك أنّ المؤلّف العلاّمة الشيخ مهدي فقيه الإيماني حفظه الله ، قد اكتفى في هذا الكتاب بنقل حديث الطائر ، واحتجاج المأمون به من أصل الحوار ، ولكنّنا لمّا شاهدنا أنّ هذا الحوار يكتنز في ثناياه حقائق أخرى واعترافات ، ارتأينا أن ننقله برمته ؛ لتكون الفائدة اشمل .
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي ( عليه السلام )
إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد قال :
بعث إليّ يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، فقال : إنّ أمير المؤمنين أمرني أن أُحضر معي غداً ـ مع الفجر ـ أربعين رجلاً ، كلهم فقيه يفقه ما يقال له ويحسن الجواب ، فسمّوا مَن تظنونه يصلح لِما يطلب أمير المؤمنين . فسمّينا له عدة ، وذكر هو عدة ، حتى تمّ العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبكور في السحر ، وبعث إلى مَن لم يحضر فأمره بذلك . فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا ، فركب وركبنا معه ، حتى صرنا إلى الباب ، فإذا بخادم واقف ، فلمّا نظر إلينا قال : يا أبا محمد ، أمير المؤمنين ينتظرك ، فأدخلنا ، فأمرنا بالصلاة ، فأخذنا فيها ، فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال : ادخلوا ، فدخلنا ، فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه ، وعليه سواده وطيلسانه والطويلة وعمامته . فوقفنا وسلّمنا ، فردّ السلام ، وأمرنا بالجلوس . فلمّا استقر بنا المجلس تحدّر عن فراشه ، ونزع عمامته وطيلسانه ، ووضع قلنسوته ، ثمّ أقبل علينا فقال : إنّما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأمّا الخُف فمنع من خلعه علة ، مَن قد عرفها منكم فقد عرفها ، ومَن لم يعرفها فسأعرّفه بها ، ومدّ رجله . ثمّ قال انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالسكم .
قال ـ إسحاق ـ : فأمسكنا ، فقال لنا يحيى : انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين ، فتعجبنا فنزعنا أخفافنا
ـــــــــــــــــــــ
وإنّنا قد بدأنا في بحث مستقل ، في شرح وبيان هذا الخبر المأموني ، والاستدراك عليه ، وأرجو من العلي القدير أن ينجز لنا مقدمات طبعه ؛ وذلك لِما فيه الكثير من الحقائق العلوية ، التي دأب بعض المتعصبين والناصبين العداء لأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) على إخفائها والتعتيم عليها . ومنه التوفيق وعليه التكلان . ( المعرّب ).
وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا ، فلمّا استقر بنا المجلس قال - المأمون - : إنّما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة ، فمَن كان به شيء من الأخبثين (1) ، لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول : فمَن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له . ثمّ ألقى مسألة من الفقه ، فقال : يا أبا محمد ، قل وليقل القوم من بعدك ، فأجابه يحيى ، ثمّ الذي يلي يحيى ، ثمّ الذي يليه ، حتى أجاب آخرنا في العلة وعلة العلة ، وهو مطرق لا يتكلم . حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال : يا أبا محمد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة ، ثمّ لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ، ويخطّئ بعضنا ويصوّب بعضنا ، حتى أتى على آخرنا . ثمّ قال : إنّي لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنّني أحببت أن أنبئكم ، أنّ أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه ، ودينه الذي يدين الله به . قلنا : فليفعل أمير المؤمنين وفّقه الله .
فقال : إنّ أمير المؤمنين يدين الله على أنّ علي بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأولى الناس بالخلافة .
قال إسحاق : قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ فينا مَن لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة .
فقال ـ المأمون ـ : يا إسحاق ، اختر إن شئت أن أسالك ، وإن شئت أن تسأل .
قال إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين .
قال : سلْ .
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الأخبثان : البول والغائط . وفي بعض الأصول : ( الخبيثين ) . وفي ن : ( الحقنتين ) .
قلت : من أين قال أمير المؤمنين إنّ علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله ، وأحقهم بالخلافة بعده ؟
قال : يا إسحاق ، خبّرني عن الناس بِمَ يتفاضلون ، حتى يقال فلان أفضل من فلان ؟
قلت : بالأعمال الصالحة .
قال : صدقت . قال : فأخبرني عمّن صاحبه على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله ، بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله ، أيلحق به ؟
قال ـ إسحاق ـ : فأطرقت .
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل نعم ، فإنّك إن قلت نعم ، أوجدتك في دهرنا هذا ، مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاةً وصدقةً .
قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الفاضل أبداً .
قال : يا إسحاق ، فانظر ما رواه لك أصحابك ، ومَن أخذت عنهم دينك ، وجعلتهم قدوتك ، من فضائل علي بن أبي طالب . فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي فقل إنّه أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده فقل إنّهما أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل علي فقل إنّهم أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله العشرة ـ الذين شهد لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله بالجنة) ـ فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنّهم أفضل منه .
ثمّ قال : يا إسحاق ، أي الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله ؟
قلت : الإخلاص بالشهادة .
قال : أليس السبق إلى الإسلام ؟
قلت : نعم .
قال : اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) إنّما عنى مَن سبق إلى الإسلام ، فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام ؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ علياً أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم ، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم .
قال : أخبرني أيّهما أسلم قبل ؟ ثمّ أناظرك من بعده في الحداثة والكمال .
قلت : علي أسلم قبل أبي بكر على هذا الشريطة .
فقال : نعم ، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من ، أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاماً من الله ؟
قال ـ إسحاق ـ : فأطرقت .
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل إلهاماً فتقدّمه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؛ لأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يعرف الإسلام ، حتى أتاه جبريل عن الله تعالى .
قلت : أجل ، بل دعاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الإسلام .
قال : يا إسحاق ، فهل يخلو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين دعاه إلى الإسلام ، من أن يكون دعاه بأمر الله ، أو تكلّف ذلك من نفسه ؟
قال ـ إسحاق ـ : فأطرقت .
فقال : يا إسحاق ، لا تنسب رسول الله إلى التكلّف ، فإنّ الله يقول : ( وَمَا أَنَا
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الواقعة : 10.
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) .
قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر الله .
قال : فهل من صفة الجبّار جلّ ذكره أن يكلّف رُسله دعاء مَن لا يجوز عليه حكم ؟
قلت : أعوذ بالله !
فقال : أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ إنّ علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم ، وقد كلّف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاء الصبيان إلى ما لا يطيقونه ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء ، ولا يجوز عليهم حكم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، أترى هذا جائزاً عندك أن تنسبه إلى الله عزّ وجلّ (2) ؟
قلت : أعوذ بالله .
قال : يا إسحاق ، فأراك إنّما قصدت لفضيلة فضّل بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً على هذا الخلق ، أبانه بها منهم ؛ ليُعرف (3) مكانه وفضله ، ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا علياً ؟
قلت : بلى .
قال : فهل بلغك أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته ؛ لئلا تقول إنّ علياً ابن عمه ؟ قلت : لا أعلم ، ولا أدري فعل أو لم يفعل .
قال : يا إسحاق ، أرأيت ما لم تدرِه ولم تعلمه هل تسأل عنه ؟
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ص : 86 .
( 2 ) والذي في سائر النسخ : ( رسول الله صلى الله عليه وآله ).
( 3 ) في بعض النسخ : ( ليعرفوا فضله ) .
قلت : لا .
قال : فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك .
ثمّ قال : أي الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام ؟
قلت : الجهاد في سبيل الله .
قال صدقت ، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما تجد لعلي في الجهاد ؟
قلت : في أي وقت ؟
قال : في أي الأوقات شئت ؟
قلت : بدر .
قال : لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلاّ دون ما تجد لعلي يوم بدر ، أخبرني كم قتلى بدر ؟
قلت : نيّف وستون رجلاً من المشركين .
قال : فكم قتل علي وحده ؟
قلت : لا أدري .
قال : ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين ، والأربعون لسائر الناس .
قلت : يا أمير المؤمنين ، كان أبو بكر مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عريشه .
قال : يصنع ماذا ؟
قلت : يدبّر .
قال : ويحك ! يدبّر دون رسول الله ، أو معه شريكاً ، أم افتقاراً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رأيه ؟ أي الثلاث أحب إليك ؟
قلت : أعوذ بالله أن يدبّر أبو بكر دون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو أن يكون معه شريكاً ، أو أن يكون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) افتقار إلى رأيه .
قال : فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك ؟ أليس مَن ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممّن هو جالس ؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهداً .
قال : صدقت ، كلٌّ مجاهد ، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن الجالس أفضل من الجالس ، أَما قرأت في كتاب الله : ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1) .
قلت : وكان أبو بكر وعمر مجاهدينِ .
قال : فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على مَن لم يشهد ذلك المشهد ؟
قلت : نعم .
قال : فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر .
قلت : أجل .
قال : يا إسحاق ، هل تقرأ القرآن ؟
قلت : نعم .
قال : اقرأ عليّ : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) (2) . فقرأت منها حتى بلغت : ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) إلى قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (3) .
قال : على رسلك ، فيمَن أُنزلت هذه الآيات ؟
ــــــــــــــــــــ
( 1 ) النساء : 95.
( 2 ) الإنسان : 1.
( 3 ) الإنسان : 5 - 8.
قلت : في علي .
قال : فهل بلغك أنّ علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير .
قال : إنّما نطعمكم لوجه الله ؟
قلت : أجل .
قال : وهل سمعت الله وصف في كتابه أحداً بمثل ما وصف به علياً ؟
قلت : لا .
قال : صدقت ؛ لأنّ الله جلّ ثناؤه عرف سيرته .
يا إسحاق ، ألست تشهد أنّ العشرة في الجنة ؟
قلت : بلى ، يا أمير المؤمنين .
قال : أرأيت لو أنّ رجلاً قال : والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله ، أكان عندك كافراً ؟
قلت : أعوذ بالله .
قال : أرأيت لو أنّه قال : ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا ، أكان كافراً ؟
قلت : نعم .
قال : يا إسحاق ، أرى بينهما فرقاً ، يا إسحاق ، أتروي الحديث ؟
قلت : نعم .
قال : فهل تعرف حديث الطير ؟
قلت : نعم .
قال : فحدّثني به .
قال ـ اسحاق ـ : فحدّثته الحديث .
فقال : يا إسحاق ، إنّي كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق ، فأمّا الآن فقد
بان لي عنادك ، إنّك توافق أنّ هذا الحديث صحيح ؟
قلت : نعم ، رواه مَن لا يمكنني ردّه .
قال : أفرأيت أنّ مَن أيقن أنّ هذا الحديث صحيح ، ثمّ زعم أنّ أحداً أفضل من علي ، لا يخلو من إحدى ثلاثة :
1 - من أن تكون دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده مردودة عليه .
2 - أو أن يقول : إنّ الله عزّ وجلّ عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه .
3 - أو أن يقال : إنّ الله عزّ وجلّ لم يعرف الفاضل من المفضول .
فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول ؟
قال ـ اسحاق ـ : فأطرقت .
ثمّ قال : يا إسحاق ، لا تقل منها شيئاً ، فإنّك إن قلت منها شيئاً استتبتك ، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله .
قلت : لا أعلم ، وإنّ لأبي بكر فضلاً .
قال : أجل ، لولا أنّ له فضلاً لَما قيل إنّ علياً أفضل منه ، فما فضله الذي قصدت إليه الساعة ؟
قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1) ، فنسبه إلى صحبته .
قال : يا إسحاق ، أَما إنّي لا أحملك على الوعر من طريقك ، إنّي وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة مَن رضيه ، ورضي عنه كافراً ، وهو قوله : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي
ــــــــــــــــــــــ
( 1 ) التوبة : 40.
وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) (1) .
قلت : إنّ ذلك صاحب كان كافراً ، وأبو بكر مؤمن .
قال : فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة مَن رضيه كافراً ، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيّه مؤمناً ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث .
قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ قدر الآية عظيم ، إنّ الله يقول : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) .
قال : يا إسحاق ، تأبى الآن إلاّ أن أخرجك إلى الاستقصاء عليك ، أخبرني عن حزن أبي بكر ، أكان رضاً أم سخطاً ؟
قلت : إنّ أبا بكر إنّما حزن من ؛ أجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خوفاً عليه ، وغماً أن يصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيء من المكروه .
قال : ليس هذا جوابي ، إنّما كان جوابي أن تقول : رضا أم سخط ؟
قلت : بل رضا لله .
قال : فكان الله جلّ ذكره بعث إلينا رسولاً ينهى عن رضا الله عزّ وجلّ وعن طاعته .
قلت : أعوذ بالله .
قال : أَوَ ليس قد زعمت أنّ حزن أبي بكر رضي الله عنه رضا الله ؟
قلت : بلى .
قال : أَوَ لم تجد أنّ القرآن يشهد أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ( لا تَحْزَنْ ) نهياً له عن الحزن .
قلت : أعوذ بالله .
ـــــــــــــــــ
( 1 ) الكهف : 37 - 38.
قال : يا إسحاق ، إنّ مذهبي الرفق بك ، لعلّ الله يردك إلى الحق ، ويعدل بك عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به .
وحدثني عن قول الله : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) مَن عنى بذلك رسول الله أم أبا بكر ؟
قلت : بل رسول الله .
قال : صدقت .
قال : فحدثني عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) إلى قوله : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضع ؟
قلت : لا أدري ، يا أمير المؤمنين .
قال : الناس جميعاً انهزموا يوم حنين ، فلم يبقَ مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلاّ سبعة نفر من بني هاشم : علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله ، والخمسة محدِقون به خوفاً من أن يناله من جراح القوم شيء ، حتى أعطى الله لرسوله الظفر ، فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة ، ثمّ مَن حضره من بني هاشم .
قال : فمَن أفضل : مَن كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك الوقت ، أم مَن انهزم عنه ولم يرَه الله موضعاً لينزلها عليه ؟
قلت : بل مَن أُنزلت عليه السكينة ؟
قال : يا إسحاق ، مَن أفضل : مَن كان معه في الغار أم مَن نام على فراشه ووقاه بنفسه ، حتى تمّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أراد من الهجرة ؟ إنّ الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر علياً بالنوم على فراشه ، وأن يقي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك ، فبكى علي رضي الله عنه ، فقال له رسول الله : ( ما يبكيك يا علي أَجزعاً من الموت ؟ )
قال ـ علي عليه السلام ـ : لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، ولكن خوفاً عليك ، أَفتسلم يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : سمعاً وطاعةً وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله ، ثمّ أتى مضجعه واضطجع ، وتسجّى بثوبه . وجاء المشركون من قريش فحفّوا به ، لا يشكون أنّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربةً بالسيف ؛ لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطناً بدمه ، وعلي يسمع ما القوم فيه من تلف نفسه ، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار ، ولم يزل علي صابراً محتسباً . فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح ، فلمّا أصبح قام ، فنظر القوم إليه فقالوا : أين محمد ؟ قال : وما علمي بمحمد أين هو ؟ قالوا : فلا نراك إلاّ كنت مغرّراً بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يزل علي أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله إليه .
يا إسحاق : هل تروي حديث الولاية ؟
قلت : نعم ، يا أمير المؤمنين .
قال : أروِه .
قال ـ إسحاق ـ : ففعلت .
قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث ، هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه ؟
قلت : إنّ الناس ذكروا ، أنّ الحديث إنّما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي ، وأنكر ولاء علي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ) .
قال : وفي أي موضع قال هذا ؟ أليس بعد منصرفه من حجة الوداع ؟
قلت : أجل .
قال : فإنّ قتل زيد بن حارثة قبل الغدير (1) ، كيف رضيت لنفسك بهذا ؟ أخبرني لو رأيت ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيّها الناس ، فاعلموا ذلك . أكنت منكراً عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون ؟
فقلت : اللهم نعم .
قال : يا إسحاق ، أفتنزّه ابنك عمّا لا تنزّه عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ويحكم !
- يا إسحاق - : لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم ، إنّ الله جلّ ذكره قال في كتابه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (2) ، ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ، ولا زعموا أنّهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم .
يا إسحاق ، أتروي حديث : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعته وسمعت مَن صحّحه وجحده .
قال : فمَن أوثق عندك : مَن سمعت منه فصحّحه ، أو مَن جحده ؟
قلت : مَن صحّحه .
قال : فهل يمكن أن يكون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مزح بهذا القول ؟
قلت : أعوذ بالله .
قال : فقال قولاً لا معنى له ، فلا يوقف عليه ؟
قلت : أعوذ بالله .
ــــــــــــــــــ
( 1 ) يريد : غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، وبينه وبين الجُحفة ميلان ، وكانت في السنة العاشرة من الهجرة ، وكان مقتل زيد بن حارثة في غزوة مؤتة في السنة السابعة من الهجرة .
( 2 ) التوبة : 31.
قال : أَفلا تعلم أنّ هارون كان أخا موسى لأبيه وأمّه ؟
قلت : بلى .
قال : فعليّ أخو رسول الله لأبيه وأمّه ؟
قلت : لا .
قال : أَوَ ليس هارون كان نبياً وعلي غير نبي ؟
قلت : بلى .
قال : فهذان الحالان معدومان في علي ، وقد كانا في هارون .
يا إسحاق ، فما معنى قوله : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) ؟
قلت له : إنّما أراد أن يطيّب بذلك نفس علي لمّا قال المنافقون إنّه خلّفه استثقالاً له .
قال : فأراد أن يطيّب نفسه بقول لا معنى له ؟
قال إسحاق : فأطرقت .
قال : يا إسحاق ، له معنى في كتاب الله بيّن .
قلت : وما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : قوله عزّ وجلّ حكايةً عن موسى إنّه قال لأخيه هارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (1) .
قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ موسى ( عليه السلام ) خلّف هارون ( عليه السلام ) في قومه وهو حي ، ومضى إلى ربّه ، وإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خلّف علياً كذلك حين خرج إلى غزاته .
قال : كلا ليس كما قلت . أخبرني عن موسى حين خلّف هارون ( عليه السلام ) ، هل
ــــــــــــــــــ
( 1 ) الأعراف : 142.
كان معه حين ذهب إلى ربّه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل ؟
قلت : لا .
قال : أَوَ ليس استخلفه على جماعتهم ؟
قلت : نعم .
قال : فأخبرني عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين خرج إلى غزاته ، هل خلّف إلاّ الضعفاء والنساء ، والصبيان ؟ فأنّى يكون مثل ذلك ؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله ، يدل على استخلافه إيّاه لا يقدر أحد أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحداً احتج به ، وأرجو أن يكون توفيقاً من الله .
قلت : وما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : قوله عزّ وجلّ حين حكى عن موسى ( عليه السلام ) قوله : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (1) : فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسى ، وزيري من أهلي ، وأخي أشد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبح الله كثيراً ، ونذكره كثيراً ، فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئاً غير هذا ؟ ولم يكن ليبطل قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن يكون لا معنى له .
قال ـ إسحاق ـ : فطال المجلس وارتفع النهار .
فقال يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين ، قد أوضحت الحق لمَن أراد الله به بالخير ، وأثبتَ ما لا يقدر أحد أن يدفعه .
قال إسحاق : فأقبل علينا وقال : ما تقولون ؟
فقلنا : كلنا نقول أمير المؤمنين أعزّه الله .
ـــــــــــــــــــ
( 1 ) طه : 29 - 35.
فقال : والله لولا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( اقبلوا القول من الناس ) ما كنت لأقبل منكم القول .
اللهم ، قد نصحت لهم القول ، اللهم ، إنّي قد أخرجت الأمر من عنقي ، اللهم ، إنّي أدينك بالتقرّب إليك بحب علي وولايته (1) .
وأخيراً ، نود أن نشير في خاتمة الكتاب ، إلى أنّ هناك العديد من المرويات والاعترافات الصريحة المنقولة ، عن لسان الخلفاء بحق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولكنّا ـ نظراً لضيق الوقت وخوفاً من الإطالة ـ اكتفينا بالمهم منها ، وما غايتنا إلاّ إتمام الحجة والبرهان ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
( 1 ) العقد الفريد 5 : 92 - 101 ، عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق 2 : 185 - 200 باختلاف يسير .
( 2 ) الأنعام : 149.