الشيخ عباس محمد
10-01-2018, 08:08 PM
رزية يوم الخميس / اسئلة واجوبة
السؤال: بحث تفصيلي حول رزية الخميس وما يدور حولها
أتمنى منكم الرد على هذا القول المذكور في أحد مواقع أهل السنة يرد فيه حديث الهجر الذي قاله عمر.
*************************
السؤال
ما صحة الخبر أو الأثر الذي نسمعه من الشيعة في سبّهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب, وهو إنّه عند وفاة النبي (ص) - أو في أيامه الأخيرة - أمر أن يؤتى له بقرطاس وقلم ليكتب للناس كتاباً لا يضلوا بعده أبداً, وعند ذلك تدخَّل عمر بن الخطاب, وقال: إنّه (أي النبي) ليهجر, ومعنى يهجر أي يهذي والعياذ بالله, وقال (أي عمر) : حسبنا كتاب الله, فهذا مخالف لأمر الرسول (ص).
هذه رواية الشيعة التي يرددونها! أرجو التوضيح.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله, وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (3168), ومسلم (1637) من حديث سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ قَالَ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَومُ الخَمِيسِ وَمَا يَومُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمعُهُ الحَصَى...
ومن المعلوم أنّ النبي (ص) في مرضه الذي توفي فيه عزم على أن يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر, ففي صحيح البخاري (5666), ومسلم (2387) من حديث عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِه ِ: ادعِي لِي أَبَا بَكرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ ...
وعن ابن أبي مليكة قال: سُئِلَت عائشة مَن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُستَخلِفًا لَو استَخلَفَهُ؟ قَالَت: أَبُو بَكرٍ... أخرجه مسلم (2385).
ثمّ إنّه حصل التنازع والاختلاف عنده (ص), واشتبه الأمر على عمر هل غلب على النبي (ص) الوجع, أم لم يغلب عليه الوجع ؟ فيكون كلامه من الكلام المعروف الذي يجب قبوله, ولم يجزم عمر بذلك, والشك جائز على عمر إذ لا معصوم إلّا النبي (ص), والنبي (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب, فلما حصل الاختلاف والتنازع, وحصل الشك علم أن الكتاب لا يحصل به المقصود, وقد علم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال : "يَأبَى اللَّهُ وَالمُؤمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكرٍ", ولو أراد النبي (ص) أن يكتب الكتاب, وكان هذا ممّا يجب تبليغه وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره .
قال الإمام البيهقي في كتابه دلائل النبوة (7/184) : " قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله (ص) حين رآه قد غلب عليه الوجع, ولو كان ما يريد النبي (ص) أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عز وجل : (( بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ )) (المائدة:67), كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه, ومعاداة من عاداه, وإنّما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر, ثمّ ترك كِتبَته اعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى...., وقال : يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكرٍ, ثمّ نبّه أمّته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها, وقد ثبت في الصحيح أنّه قال لعائشة في مرضه : ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي" ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر, فلمّا كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً فقال عمر : ماله أهجر؟ فشّك عمر هل هذا القول من هجر الحمى؟ أو هو ممّا يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى, فكان هذا ممّا خفى على عمر, كما خفى عليه موت النبي (ص) بل أنكره, ثمّ قال بعضهم هاتوا كتاباً, وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب, فرأى النبي (ص) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك, فلا يرفع النزاع, فتركه, ولم تكن كتابة الكتاب ممّا أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت ؛ إذ لو كان كذلك لما ترك (ص) ما أمره الله به, لكن ذلك ممّا رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر, ورأى أن الخلاف لا بدّ أن يقع, وقد سأل ربّه لأمّته ثلاثاً فأعطاه اثنتين, ومنعه واحدة, سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة, فأعطاه إياها, وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم, فأعطاه إياها, وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعه إياها, وهذا ثبت في الصحيح.
وقال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب الكتاب ؛ فإنّها رزية أي مصيبة في حقّ الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه, وطعنوا فيها, وابن عباس قال ذلك لمّا ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم, وإلّا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله,, فإن فلم يجد في كتاب الله فبما في سنّة رسول الله, فإن لم يجد في سنّة رسول الله (ص) فبما أفتى أبو بكر وعمر...
ثمّ إنّ النبي (ص) ترك كتابة الكتاب باختياره, فلم يكن في ذلك نزاع, ولو استّمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه.... ومن جهل الرافضة أنّهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي, وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه, ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنّه جعل علياً خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر .
ثمّ يدعون مع هذا أنّه كان قد نصّ على خلافة علي نصّاً جلياً قاطعاً للعذر, فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب, وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه, فهم أيضاً لا يطيعون الكتاب, فأيّ فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا" (ينظر: منهاج السنة (6/315-318)).
وقال رحمه الله في موضع آخر : "عمر رضي الله عنه قد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر, ففي صحيح مسلم عن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي (ص) أنّه كان يقول : قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون, فإن يكن في أمتي أحد فعمر" .
قال ابن وهب : تفسير "محدثون" ملهمون .
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: "إنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون, وإنّه إن كان في أمتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب" .
وفي لفظ للبخاري : "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء, فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر" .
وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي (ص) قال : بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أُتيت به فيه لبن, فشربت منه حتّى أني لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري, ثمّ أعطيت فضلي عمر بن الخطاب, قالوا : فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم".
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (ص) : بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص, ومنها ما يبلغ الثدي, ومنها ما يبلغ دون ذلك, ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه "قالوا ما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال : الدين" .
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال عمر: وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم, وفي الحجاب, وفي أسارى بدر".
وللبخاري عن أنس قال : قال عمر : "وافقت ربي في ثلاث, أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلَّى فنزلت : (( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى )) (البقرة:125), وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البَرُّ والفاجر, فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وبلغني معاتبة النبي (ص) بعض أزواجه, فدخلت عليهم فقلت: إن انتهيتنّ, أو ليبدلنّ الله رسوله خيراً منكن حتّى أتت إحدى نسائه فقالت : يا عمر أما في رسول الله (ص) ما يعظ نساءه حتّى تعظهن أنت, فأنزل الله : (( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِّنكُنَّ )) (التحريم:5).
وأمّا قصة الكتاب الذي كان رسول الله (ص) يريد أن يكتبه, فقد جاء مبيّناً كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله (ص) في مرضه : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً, فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى, ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر .
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمّد قال قالت عائشة: وارأساه فقال رسول الله (ص) لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك, قالت عائشة : واثكلاه, والله إنّي لأظنك تحب موتي, فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك, فقال رسول الله (ص) : "بل أنا وارأساه, لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد : أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون, ويدفع الله ويأبى المؤمنون .
وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة, قال: سمعت عائشة وسُئلت: مَن كان رسول الله (ص) مستخلفاً لو استخلف؟ قالت : أبو بكر, فقيل لها: ثمّ من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر قيل لها : ثمّ من بعد عمر؟ قالت : أبو عبيدة عامر بن الجراح, ثمّ انتهت إلى هذا, وأمّا عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي (ص) من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة, والمرض جائز على الأنبياء, ولهذا قال: ماله أهجر؟ فشك في ذلك ولم يجزم بأنّه هجر, والشك جائز على عمر ؛ فإنّه لا معصوم إلّا النبي (ص), لا سيّما وقد شكّ بشبهة, فإنّ النبي (ص) كان مريضاً, فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض, أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله؟ وكذلك ظن أنّه لم يمت حتّى تبين أنّه قد مات, والنبي (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة, فلمّا رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك, فلم يبق فيه فائدة, وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه, كما قال : ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر, وقول ابن عباس : ( إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب الكتاب), يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حقّ من شكّ في خلافة الصديق, أو اشتبه عليه الأمر ؛ فإنّه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك, فأمّا من علم أن خلافته حقّ فلا رزية في حقّه ولله الحمد .
ومَن توهمّ أن هذا الكتاب كان بخلافة علي, فهو ضال بإتفاق عامة الناس من علماء السنّة والشيعة, أمّا أهل السنّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه, وأمّا الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة فيقولون : إنّه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصّاً جلياً ظاهراً معروفاً, وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب .
وإن قيل: إنّ الأمّة جحدت النصّ المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى, وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته, ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك, فلو كان ما يكتبه في الكتاب ممّا يجب بيانه وكتابته, لكان النبي (ص) يبّينه ويكتبه, ولا يلتفت إلى قول أحدٍ, فإنّه أطوع الخلق له, فعُلم أنّه لمّا ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً, ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ ؛ إذ لو وجب لفعله, ولو أنّ عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر, ثمّ تبيّن له, أو شكَّ في بعض الأمور, فليس هو أعظم ممّن يفتي ويقضي بأمور, ويكون النبي (ص) قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك, ولا يكون قد علم حكم النبي (ص) ؛ فإنّ الشكّ في الحقّ أخف من الجزم بنقيضه, وكلّ هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به" منهاج السنة (6/20-26).
وقال المازري : "إنّما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك ؛ لأنّ الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار, فاختلف اجتهادهم وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه (ص) قال ذلك عن غير قصد جازم, وعزمه (ص) كان إمّا بالوحي وإما بالاجتهاد, وكذلك تركه إن كان بالوحي, فبالوحي, وإلّا فبالاجتهاد أيضا". ينظر: فتح الباري (8/133).
وهذه النصوص عن هؤلاء العلماء الأجلاء توضح المقصود بالحديث, وتدحض افتراءات الشيعة وتلبيسهم وتنقصهم لعمر بن الخطاب .
هذا والله أعلم.
*************************
الجواب:
يكون جوابنا عمّا ورد في هذا السؤال - المشار إليه - وجوابه على نقاط:
النقطة الأولى:
لم تكن الرواية المعروفة برزية يوم الخميس - والوصف بالرزية كان من راويها ابن عباس - من مرويات الشيعة, وإنّما هي رواية معروفة في صحاح أهل السنّة, وكتبهم الحديثية يروونها بألسنة مختلفة, فقد رواها البخاري في باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله) من صحيحه الجزء الخامس الصفحة السابعة والثلاثون بعد المائة, وفي باب (قول المريض قوموا عنّي) في الجزء الخامس الصفحة التاسعة, وهكذا رواها في باب قول النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) في الجزء الثامن الصفحة الواحدة والستون بعد المائة.. وأيضاً رواها مسلم في صحيحه (كتاب الوصية) الجزء الخامس الصفحة الثالثة والسبعون بأكثر من طريق, وأيضاً رواها أحمد في مسنده في الجزء الأوّل, الصفحة الرابعة والعشرون بعد الثلاثمائة, وفي مواضع أخرى, وأيضا رواها غير هؤلاء من محدّثي أهل السنّة .
وكذلك القول : بأنّ قائل كلمة (هجر) في هذه الحادثة إنّما هو عمر بن الخطاب وليس أحد غيره لم يكن من مرويات الشيعة وأقوالهم, وإنّما هذا هو قول علماء أهل السنّة, وسننقل إليك أقوالهم فيما بعد .
ونريد أن نقول هنا أنّ الحادثة هي تنبأ بنفسها عن نفسها, بأنّ قائل تلك الكلمة القارصة في حقّ الجناب الأقدس للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يكن سوى عمر بن الخطاب, وليس أحد غيره.
فاليك جملة من صور هذه الحادثة يمكنك الجمع بينها لتنتهي إلى هذه النتيجة :
ففي الرواية التي يرويها البخاري في باب كراهية الخلاف ج8ص 161 جاء ما نصّه : ((وأختلف أهل البيت فاختصموا, فمنهم مَن يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً لن تضلوا بعده, ومنهم من يقول ما قال عمر, فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم : (قوموا عنّي) (انتهى).
فهذه الرواية, لم تصرّح باسم قائل مناهض في الواقعة لمسألة تقديم الكتاب ليكتبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) سوى عمر, وأن الذين تكلموا في هذا الجانب إنّما كانوا يتابعون في ذلك ما قاله عمر .
فالسؤال : الذي ينبغي الإجابة عليه هنا هو : ماذا قال عمر؟
والجواب: إنّ بعض الروايات - كرواية البخاري في (باب قول المريض قوموا عنّي) ج7 ص9 - تصرّح بأن عمر قال : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع, وعندنا كتاب الله حسبنا .
وبعض الروايات حين لا تذكر بأنّ القائل هو عمر, تصرّح بأنّ الكلمة التي قيلت في وجه النبي هي كلمة (يهجر), كما في هذه الرواية التي يرويها مسلم في صحيحة في باب ترك الوصية ج5ص76 : ((... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً, فقال أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر)) (انتهى).
فإذا جمعنا بين هذه الرواية والرواية التي رواها البخاري - وهي ممّا رواه مسلم أيضاً في نفس الباب المشار إليه سابقاً - التي تقول أنّه كان هناك فريقان عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعضهم يقول قدموا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً, وبعضهم يقول ما قال : عمر .
نخرج بنتيجة - بلحاظ أنّه لم يكن قول هؤلاء سوى ترديد لما قاله عمر . وقد كان من قولهم (بصريح الرواية المتقدمة) كلمة (يهجر) - إنّ ما قاله عمر في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما هو كلمة (يهجر) لا غير . هذا هو الذي يقتضيه الجمع بين هذه الروايات, وهي لا تحتاج إلى كثير عناء للوصول إلى هذه النتيجة.
ولم تكن الرواية التي ذكرت بأن عمر كان قد قال : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع إلّا تعبيراً آخر عن كلمة (يهجر), وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التعبير إنّما كان بالمعنى عن الكلمة التي قالها عمر وليس باللفظ الصريح, كهذه الرواية التي يرويها الجواهري - وهو من علماء أهل السنة في كتابه (السقيفة وفدك ص76), وابن أبي الحديد - وهو معتزلي من أهل السنة أيضاً - في شرح على نهج البلاغة ج6ص51: ((لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة, وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي, فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله). (انتهى).
وعلى أية حال, فقد صرّح جملة علماء أهل السنّة بذلك وقالوا : ليس من قائل لتلك الكلمة القارصة سوى عمر بن الخطاب .
كتصريح ابن تيمية في (منهاج السنّة) في الجزء السادس, الصفحة 315.
وابن الأثير في (نهاية غريب الحديث) في الجزء الخامس, الصفحة 246, في مادة (هجر).
وأيضاً صرّح بذلك اللغوي الشهير ابن المنظور الأفريقي في (لسان العرب) الجزء الخامس, الصفحة 250 مادة (هجر).
وكذلك ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص), الصفحة 099
والغزالي في (سر العالمين) الصفحة 40.
والشهاب الخفاجي في (شرحه على الشفا نسيم الرياض), الجزء الرابع, الصفحة 278.
وهكذا تعرف أن هذه الحادثة لم تكن من مرويات الشيعة, بل من مرويات أهل السنة, وفي أوثق كتبهم!
وإن التصريح بأن قائل كلمة (يهجر) عمر بن الخطاب يمكن الوصول إليه من خلال أدنى تأمل في الألفاظ التي جاءت بها ألسنة الحادثة عند أهل السنة.
وأيضاً يوجد هناك جملة من علماء أهل السنة قد صرّحوا بأن ليس من قائل لتلك الكلمة سوى عمر بن الخطاب لا غير كما ذكرنا ذلك.
نعم, أجتهد المصرّحون (بل جاهدوا) في تمرير هذه العثرة - التي لا تقال ما بقيت السماوات والارضين - والذب عن (الخليفة), فقالوا: إن ما قاله عمر هو كلمة (أهجر) بصيغة الاستفهام, ومعنى كلامه: هل أختلف كلامه بسبب المرض (على سبيل الاستفهام)؟ كما صرّح بذلك ابن تيمية وابن الأثير وغيرهما - .
ولكن لا ندري هل تخف الوطأة وتقل البشاعة بهذا التصريح فيما لو جاء على سبيل الإنشاء دون الإخبار, مع أن ابن الأثير يذكر بكل وضوح بأنّ المراد منها على هذا التعبير : هل تغير كلامه وأختلط لأجل ما به من المرض؟
(قال) : وهذا أحسن ما يقال فيه ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان. والقائل كان عمر, ولا يظن به بذلك (المصدر المتقدم).
ولا ندري كيف نتصور ما رواه ابن الأثير هنا من التفريق بين الإنشاء والإخبار لكلمة (هجر), وهل تراه يختلف معنى الاختلاف والاختلاط في كلام المريض, عن معنى الهذيان فيما لو قيلت هذه الكلمة بالإخبار دون الإنشاء...؟!
إننا لا نجد فرقاً في ذلك بل المعنى واحد, فالذي يخلط في كلامه وهو في حال المرض يقال عنه أنّه يهذي, وإذا أردنا أن نحول هذا المعنى إلى الاستفهام فنقول : ماذا به, هل تراه يهذي؟ فلا يوجد فرق في نسبة الهذيان من هذه الكلمة سواء قيلت إخباراً وإنشاءاً ...
بل نجد أنّ البخاري قد سد على القوم هذه التأويلات والتمحلات وذكر رواية له في باب جوائز الوفد من كتاب السير والجهاد ج4, ص 31 تفيد بأنّ هذه الكلمة قد قيلت في وجه النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله) إخباراً لا إنشاء: ((.. فقال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس, فقال : (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً), فتنازعوا, ولا ينبغي عند نبي تنازع, فقالوا: هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله)..) (انتهى) .
وقد تقدمت رواية مسلم التي تشير بأنّ هذه اللفظة قد قيلت بالإخبار (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليهجر) دون الإنشاء.
وعلى أية حال, لا نجد فرقاً في البشاعة والفظاعة - كما بينا - بين أن تقال هذه الكلمة إنشاءاً أو إخباراً في وجه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله), فهي تنافي الأدب القرآني الذي أمر الله الصحابة بأن يتأدبوا به مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند مخاطبتهم له, فقال سبحانه محذّراً إيّاهم: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أَصوَاتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلا تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ أَن تَحبَطَ أَعمَالُكُم وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصوَاتَهُم عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقوَى لَهُم مَغفِرَةٌ وَأَجرٌ عَظِيمٌ )) (الحجرات:2-3).
ولننقل لك أيها الأخ الكريم ما قاله أهل اللغة في بيان معنى كلمة (يهجر):
قال الجوهري في الصحاح في اللغة من باب (الراء) فصل (الهاء), الهجر: الهذيان, وقال ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق. (صحاح 2: 851).
وهذا المعنى - أي الهذيان وقول غير الحقّ - منفي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدليل قوله تعالى في سورة النجم: (( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى - الى قوله - وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِن هُوَ إِلاَ وَحيٌ يُوحَى )) (النجم:2-5).
وأيضاً جاء في الحديث الصحيح - فيما رواه أهل السنّة أنفسهم ـ: أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كلّ ما يسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله), ورسول الله بشر يتكلم في الرضا والغضب, فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له : (أكتب فو الذي بعثني بالحقّ ما يخرج منه إلّا الحقّ), وأشار إلى لسانه {أنظر مسند أحمد 2: 162, المستدرك على الصحيحين 1: 186 صححه الحاكم ووافقه الذهبي}.
وكلامه (صلى الله عليه وآله) هنا عام ومطلق, وهو لا يبقي لأهل التأويل أي شيء يمكنهم الاستناد إليه في تمرير العثرة المتقدمة!
بل ورد عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه حتى في حالات الممازحة والمداعبة لا يقول إلّا حقّاً؟ قال (صلى الله عليه وآله) : (إني لا أقول إلا حقّ) مجمع الزوائد 9/17 قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط واسناده حسن .
وهذا الحديث كسابقه في الدلالة على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لا يعتريه ما يعتري بقية الناس من حالات الاضطراب في الكلام, أو يكون ضحية لمزاجه, أو هواه في حالات معينة كحالة الغضب والممازحة, أو حالات الوجع والمرض, مع أنَّ حالات الغضب والممازحة هي أشد من غيرها في تحقيق الإضطراب عند المتكلم منها في حالة المرض, ومع هذا فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه حتّى في هذه الحالات لا يقول إلا حقّاً .
قال المباركفوري في شرحه للحديث: (لا أقول إلّا حقّ) أي عدلاً وصدقاً, لعصمتي من الزلل في القول والفعل, ولا كلّ أحد منكم قادر على هذا الحصر لعدم العصمة فيكم) (تحفة الأحوذي في شرح الترمذي 6: 108).
ومن العجيب أن تجد مثلاً هذا الموقف والمواجهة الصريحة من عمر بن الخطاب للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ومحاولة تجريده من قواه العقلية ونبزه بالخلط في الكلام بغية ثنيه عن كتابه الكتاب الذي أراد, وقد أخبرهم عنه بأنّهم ان أخذوا به يعصمهم من الضلالة أبد الآبدين, تجد عمر بن الخطاب في موقف آخر يأخذ بما ذكره أبو بكر في كتابه - وقد كُتب عنه وهو في حالة الإغماء - والذي جاء فيه الأمر باستخلاف عمر من بعده, بل يأمر المسلمين بالأخذ بما جاء في هذا الكتاب, ولم يتهم صاحبه ولا الكاتب - وهو عثمان, وقد كتب مسألة الاستخلاف في حالة إغماء أبي بكر - بالهجر أو الهذيان أو غلبة الوجع بل رأى في كتابه هذا كلّ الحقّ والخير الوفير والنصيحة للمسلمين!!!
وإليك هذه الحقيقة من كلمات أهل السنّة أنفسهم:
روى الطبري في تاريخه وابن عساكر في تاريخ دمشق, وابن سعد في الطبقات, وابن حبّان في الثقات : ((دعا أبو بكر عثمان خالياً فقال له : أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أمّا بعد.. قال: ثمّ أغمي عليه, فذهب عنه, فكتب عثمان : أمّا بعد : فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب, ولم آلكم خيراً منه . ثمّ أفاق أبو بكر فقال : أقرأ عليًَّ . فقرأ عليه, فكبّر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن أفتتلت نفسي في غشيتي! قال : نعم! قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله . وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع)). أنظر تاريخ الطبري 2: 618. تاريخ مدينة دمشق 3: 411. الطبقات الكبرى 3: 200. الثقات 2: 192.
وروى الطبري عن إسماعيل بن قيس, قال : (رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريده, وهو يقول: (أيّها الناس أسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّه يقول لكم إني لم آلكم نصحاً . قال ومعه مولى لأبي بكر يقال له شديد معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر) . تاريخ الطبري 2: 618.
بل ذكر ابن سعد في الطبقات ما يستفاد منه بأن عمر بن الخطاب كان حاضراً عند كتابة هذا الكتاب أيضاً, قال : (فخرج - أي عثمان - بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب, وأسير بن سعيد القرظي) الطبقات الكبرى 3: 200.
فهذا الكتاب تقبّله عمر قبولاً تاماً, ولم يخالفه, أو يعترض عليه بشيء, ولم ينسب إلى قائله - وهو في حالة الإغماء, ولا إلى كاتبه, وقد أملى بغير إرادة القائل المغمي عليه - أي شيء من حالات الهجر والهذيان أو غلبة الوجع, بل كان كل ذلك - برأيه - خيراً أفاضه الله على المسلمين من (الخليفة) الذي لم يأل النصح لهم, وهو يطلب من المسلمين على الأخذ به ويقول لهم: اسمعوا واطيعوا قول خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)!!!
فهل من الإنصاف - أخي الكريم - وأنت ترى هذين الموقفين من عمر في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر - بأن يرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتابة كتابه الذي أراد, ويرمى بالهجر والهذيان وغلبة الوجع, وهو الذي لا يقول إلّا حقاً, وقد شهد بحقّه ربّ السماوات والأرضين أنّه لا ينطق عن الهوى, وأن ما يقوله إنّما هو وحي يوحى.
ويؤخذ بكلام أبي بكر دونه, وقد قال ما قاله وهو في حالة الإغماء, وعدم الوعي مع أنّ أبا بكر قد صرّح في حالة اليقظة وعدم الإغماء أن له شيطان يعتريه, فكيف يكون الأمر في حالة الإغماء وعدم الوعي؟!
إننا نترك لك أخي الكريم المقارنة بين الموقفين والحكم على هذا التباين بين المواقف, بل الأمر سيكون أدهى وأمر فيما لو صدّقنا ما يقوله المعتذرون عن عمر بن الخطاب في رزية يوم الخميس: بأنّه كان من الحرص على المسلمين, وأن لا يكون في الكتاب - الذي أراد كتابته النبي (صلى الله عليه وآله) - شيء قد يختلف بعده المسلمون - كما هي الدعوى في تبرير تصدي عمر - مع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد صرّح لهم - وهو الذي لا ينطق علن الهوى - بأنّهم لن يضلوا بعد هذا الكتاب أبداً.
فهل يكون أبو بكر أنصح للأمّة من رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليأخذ عمر بكتابه, ويردّ كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ مع أننا وجدنا بعد كتابة الكتاب الذي كتبه أبا بكر في حقّ عمر أنّه قد جاء بعض الصحابة يلومون أبو بكر على تعيينه عمر بن الخطاب خليفة بعده, ويقولون له : (ما تقول لربّك وقد وليت علينا فظاً غليظاً). انظر تاريخ دمشق 3: 18, ومصنف ابن أبي شيبة 7: 485, 8: 574, ونوادر الأصول 3 : 18.
وفي أحدى المرّات جاء طلحة - وهو أحد العشرة المبشرين حسب رواية أهل السنّة - وقال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله, إنّا كنا لا نحتمل شراسته, وأنت حي تأخذ على يديه, فكيف يكون حالنا معه وأنت ميت, وهو الخليفة . (أنظر تاريخ المدينة لابن شبه النميري 2: 671).
النقطة الثانية:
ما ورد في الجواب : ((ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضة الذي توفي فيه عزم على أن يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر, ففي صحيح ومسلم.. الخ)).
نقول: الحديث الأوّل المستدل به غير صالح للإحتجاج به من وجوه - (وهو الذي ورد فيه : ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك...) - :
الوجه الأوّل: رواة الحديث مجموعة من المقدوحين والمنحرفين عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام).
فإبراهيم بن سعد : هو صاحب العود والغناء, كان يعزف ويغني, جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه, فوجده يغني فتركه وانصرف, فأقسم إبراهيم ألّا يحدث بحديث إلا غنّى قبله, وعمل والياً على بيت المال لبغداد لهارون الرشيد .
وقد كان هو وعائلته من المقرّبين لبني أميه, فقد كان أبوه قاضياً لبعض ملوك بني أمية على المدينة. (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 8: 306, تاريخ بغداد 6: 81. 86 - الأعلام 1: 40 الأغاني 15: 329).
وأمّا صالح بن كيسان : فهو مؤدب بني أميّة والمدافع عنهم (انظر تأديبه لولد بني أمية ومدحه لسعيد بن العاص في: (مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان) : 216, أنساب الأشراف 5: 3, تاريخ مدينة دمشق 21: 129, تاريخ الإسلام للذهبي 4: 229).
وأمّا الزهري : فهو منديل بني أمية يمسحون به خطاياهم روى ابن عساكر في (تاريخ دمشق 5: 370): قال عمر بن رديح : كنت مع ابن شهاب الزهري نمشي فرآني عمر في عبيد فلقيني بعد فقال : مالك ولمنديل الأمراء؟ يعني ابن شهاب . (انتهى).
وقد ذكر ابن خلّكان في (وفيات الأعيان 4: 178) في ترجمة الزهري, قال : ((لم يزل الزهري مع عبد الملك, ثمّ مع هشام بن عبد الملك, وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه)).
وفي (تهذيب التهذيب لأبن حجر) (4: 225) في ترجمة الأعمش الكوفي: إنّ الزهري يعمل لبني أمية.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (4: 120) وكان الزهري من المنحرفين عن علي (عليه السلام), روى جرير بن عبد الحميد, عن محمّد بن شيبة, قال: شهدت مسجد المدينة, فإذ الزهري. وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً (عليه السلام), فنالا منه.
وجاء في ميزان (الإعتدال للذهبي)(1: 625) في ترجمة خارجة بن مصعب : قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب: قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: قدمت على الزهري وهو صاحب شرطة بني أمية, فرأيته ركب وفي يديه حربة وبين يديه الناس في أيديهم الكافر كوبات, فقلت : قبح الله ذا من عالم, فلم أسمع منه.
وقد روى الذهبي عن مكحول قوله : أنّه - أي الزهري - أفسد نفسه بصحة الملوك (انظر سير أعلام النبلاءه: 329)
وأمّا عروة بن الزبير : فقد تقدم عن المعتزلة ذكره لعلي (عليه السلام) وتناوله له, وأيضاً كان عروة ممّن انتدبه معاوية لوضع أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) (انظر شرح النهج للمعتزلي 4: 64).
وقد اتهمه الزهري هو وعائشة في حديثين يرويهما عنهما, والحديث الأوّل رواية عروة عن عائشة أنّها حدثته بأنّ رسول الله قال عندما أقبل عليه العباس وعلي : يا عائشة هذين يموتان على غير ملتي, أو قال : ديني!!. والحديث الثاني زعم فيه أن عائشة حدثته قالت : كنت عند النبي إذ اقبل العباس وعلي فقال: يا عائشة إن سرك إن تنظري إلى رجلين من أهل النار, فانظري إلى هذين قد طلعا, فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب!! (المصدر السابق) وهذا وضع صريح من عروة للأحاديث .
وأيضاً قد شهد عروة على نفسه بإعانة الظالمين, وشهد ابن عمر على حاله هذه بالنفاق, روى البيهقي في (السنن 86: 165) : أن عروة بن الزبير قال: أتيت عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) فقلت : له يا أبا عبد الرحمن إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء (يريد الخلفاء), فيتكلمون بالكلام, نعلم أنّ الحقذ غيره, فنصدّقهم, ويقضون بالجور فنقوّيهم, ونحسنّه لهم, فكيف ترى في ذلك؟ فقال (أي ابن عمر): يا ابن أخي كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) نعد هذا النفاق, فلا أدري كيف هو عندكم (انتهى).
وأمّا عائشة فهي متهمة في هذا الحديث من جهتين:
الأولى : لموقفها من أمير المؤمنين علي (عليه السلام), وعدائها المعروف له, حتّى أنّها كانت لا تطيق ذكر اسمه كما صرّح بذلك ابن عباس وقال : إنّها لا تطيب له نفساً (أنظر مسند أحمد 6: 228 وقد صححه بسنده الألباني في إرواء الغليل 1: 178..) .
وهذا الحديث - محلّ الكلام - إن سلمنا أنّه يتعرض إلى موضوع الخلافة, وأنّ النزاع في الوصية هل كانت في علي (عليه السلام) أو لا؟ لدرجة أنّ عائشة سُئلت عنها ونفت أنّه أوصي إليه ( عليه السلام) كما في صحيح البخاري 3: 185 كتاب الوصايا.
الثانية: لما فيه من جرّ نفع لأبيها, فهو من شهادة الأبناء للآباء, أو ما يسمّى بشهادة الفرع للأصل, وهي غير مقبولة عند أهل السنّة (انظر الإيجي في المواقف 402, وابن حجر في الصواعق المحرقة 1: 93, والحلبي في السيرة الحلبية 3: 488). ومن هنا صححوا ردّ أبي بكر شهادة الحسن والحسين عليهما السلام لفاطمة عليها السلام في أمر فدك .
الوجه الثاني : في عدم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور : أنّ أبا بكر كان ممّن أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخروج مع أسامة, كما روي ذلك عن الواقدي, وابن سعد, وابن إسحاق, وابن الجوزي, وابن عساكر (انظر فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 124), وقد لعن المتخلف عنه (أنظر شرح المواقف 8: 376, والملل والنحل للشهرستاني 1: 29), فكيف تصح دعوته في هذا الحديث, مع أنّ كتابة الكتاب لم تكن موقوفة على حضوره؟!
الوجه الثالث: إنّ أبا بكر حضر عنده فأمره بالأنصراف ولم يكتب شيئاً, روى ذلك أبو جعفر الطبري وغيره عن ابن عباس حيث سئل: ((أوصى رسول الله؟ قال: لا, قلت: فكيف كان ذلك؟ قال قال رسول الله: إبعثوا إلى علي فادعوه فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر, وقالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعاً . فقال رسول الله: أنصرفوا فإن تكُ لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا...)). (تاريخ الطبري 2: 439) فالرواية صريحة في دعوته (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) ليوصي اليه دون الآخرين, بل صرف من حضر - كابي بكر وعمر - وبيّن أنّه لا حاجة له (صلى الله عليه وآله) بهما.
الوجة الرابع : لم يحتج بهذا الحديث وأمثاله على خلافة أبي بكر بل حتّى في أرجحيته للخلافة وتأهيله لها ؛ إذ لم نشهد لهذا الحديث أو غيره - في خصوص أبي بكر - من أثر أو ذكر في محاججات السقيفة التي احتدم فيها الكلام في المسألة, وكان كل فريق من المتنازعين المهاجرين والأنصار يذكر أقصى ما يمكن استحضاره من الفضائل والمناقب للفوز بالخلافة, فإنّه لو كان لمثل هذا الحديث أصل وواقع لكان هو أوّل الأدلة بل رأسها وسنامها في الاحتجاج على الأنصار يوم السقيفة ؛ إذ لا عطر بعد عرس, مع أننا لم نشهد ذلك ولم يعرف نقلة التواريخ له ذكراً في هذه الواقعة بل في كلّ المحاججات التي جرت حول خلافة أبي بكر في صدر الإسلام.. ولا يعقل أن يكون لمثل هذا الحديث المهم الذي قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصل, وفي مثل هذا الموضوع الخطير الذي اشتد الصراع فيه بين جهات مختلفة من المسلمين ولم يرد له ذكر أو خبر في مساجلات الأصحاب حول الخلافة في صدر الإسلام... الأمر الذي يكشف بكلّ وضوح على أنّه من الموضوعات والمفتريات التي وضعت بعد رسول الله رسول الله (صلى الله عليه وآله)...
وأيضاً صرحّ علماء أهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر لم تكن بالنصّ, وإنّما كانت بالشورى قال : التفتازاني في ((شرح المقاصد)) : أنّه لو كان نصّاً جليّاً ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة, وظهر على آجلتهم الذين لهم زيادة قرب بالنبي (صلى الله عليه وآله) واختصاص بهذا الأمر بحكم العادة (نقول ولا يختص بعائشة راوية الحديث عند البخاري ومسلم فما للنساء و الخلافة), واللازم من منتفٍ, وإلّا لم يتوقفوا على الأنقياد له والعمل بموجبه, ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الإمام, ولم يقل الأنصار منا أمير ومنكم أمير, ولم تمل طائفة إلى أبي بكر رضي الله عنه, وأخرى إلى علي رضي الله عنه, وأخرى إلى العباس رضي الله عنه, ولم يقل عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة رضي الله عنه أمدد يدك أبايعك...)) (شرح المقاصد 2: 283)
الوجة الخامس : الحديث المذكور معارض بما روي عن أبي بكر نفسه أنّه قال لما حضرته الوفاة: وددت أن سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثلاث :(أحدها) سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازعه أهله (المعجم الكبير للطبراني 1: 62, تاريخ الطبري 3: 431, العقد الفريد 2: 254, الإمامة والسياسة 1: 18, مروج الذهب 2: 302).
وأيضاً لو صح الحديث المذكور - الذي رواه البخاري ومسلم - لما كان يحقّ لعمر أن يقول ما قال في حقّ بيعة أبي بكر بأنّها فلته (فيما رواه البخاري 8: 25 كتاب المحاربين) فهل تراه (صلى الله عليه وآله) ينص على بيعة الفلتات, وان الله ورسوله والمؤمنون يأبون إلا بيعة الفلتات؟!
الوجة السادس: هذا الحديث معارض بحديث الدواة والكتف المعلوم المشهور المشار إليه في أوّل كلامنا والذي جرى فيه ذلك النزاع المعلوم, وقد جوبه فيه النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) بتلك الكلمة (الفظيعة) التي أثارت ذلك اللغط الذي اثار النزاع المشار إليه, وقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالخروج من عنده بعد هذا النزاع, وقال لهم : لا ينبغي عند نبي تنازع, وكان ابن عباس (رضي الله عنه) يقول عن تلك الفاجعة : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكتب ذلك الكتاب . فهل تراه يصح أن يمنع عمر بن الخطاب أن يكتب النبي (صلى الله عليه وآله) كتاباً في خلافة أبي بكر, أن هذا لا يعقله عاقل علم بعلاقة الرجلين ؛ إذ كيف يمكن أن يمنع عمر خيراً عن صاحبه أبي بكر, وهو كان يعرف له كالرديف .
بل المروي في الواقع هو خلاف ذلك بأنّ الكتاب الذي أراد أن يكتبه الرسول(صلى الله عليه وآله) في تلك الحادثة إنّما هو في خصوص خلافة علي (عليه السلام) فقد أراد(صلى الله عليه وآله) أن يوثقها لهم كتابة بعد أن تسامعوا بذكرها, وأدركوا معناها في يوم غدير خم وغيره.. بهذا صرّح عمر في المقام .
روى أبن ابي الحديد المعتزلي في (شرح النهج 12: 21) من قول عمر : لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره (أي أمر علي (عليه السلام)) ذروا من قول لا يثبت حجّة, ولا يقطع عذراً, ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه, فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام, لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً)). (انتهى).
وبعد هذا البيان في الحديث الأوّل الذي رواه البخاري ومسلم, يتضح الكلام في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبن أبي مليكة قال : سألت عائشة من كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستخلفاً لو استخلفة؟
النقطة الثالثة:
ما ورد في الجواب : (ولو أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتب الكتاب, وكان هذا ممّا يجب تبليغة وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره...)).
قلنا : قد يكون وجوب كتابة هذا الكتاب من الواجب المشروط, أي أن كتابته مشروطة بإمتثالهم واصغائهم له, وعندما تبين عدم إمتثالهم وقولهم (هجر) سقط الوجوب عنه (صلى الله عليه وآله) في كتابة هذا الكتاب لهم ؛ إذ لم يبق من أثر له فيما لو كتب سوى الفتنة, والاختلاف من بعده في أنّه هل هجر فيما كتبه ((والعياذ بالله)) أو لم يهجر؟!
بل ولأوغلوا في ذلك في بيان هجره - والعياذ بالله - بما يفتح باباً للطعن في النبوة, ومن هنا اقتضت حكمته (صلى الله عليه وآله) العالية بأن يضرب عن ذلك الكتاب صفحاً لئلا يفتح ذلك الباب الذي قد يأتي على الدين كلّه, وهم مصرون ومعلنون بأن القول ما قاله عمر, أي أنّهم شهدوا عليه(صلى الله عليه وآله) بالهجر والهذيان .
ويؤيد هذا المعنى, أي الإعراض عنهم, وعدم وجوب تبليغ هذا الكتاب إليهم, وخشية أن يطال نزاعهم أصل نبوته (صلى الله عليه وآله) إخراجه لهم من حجرته, وتصريحه لهم بأنّه لا ينبغي عند بني تنازع (انظر: فتح الباري 8: 101 حيث عدَّ هذا الكلام من قوله (صلى الله عليه وآله) في الحادثة) .
هذا ما أردنا بيانه باختصار حول هذه الحادثة, وإن كان هناك مجال أوسع للحديث عنها في جوانب مختلفة, وهي تستحق منّا كلّ متابعة واهتمام, ولكننا نحيل الأخ الكريم إلى ما ورد من مناقشات بين العلمين الموسوي والبشري في (المراجعات الأزهرية المراجعة 86 ) وما بعدها, حول هذه الرزية, ونحن بخدمتكم لأي سؤال آخر في الموضوع .
السؤال: بحث تفصيلي حول رزية الخميس وما يدور حولها
أتمنى منكم الرد على هذا القول المذكور في أحد مواقع أهل السنة يرد فيه حديث الهجر الذي قاله عمر.
*************************
السؤال
ما صحة الخبر أو الأثر الذي نسمعه من الشيعة في سبّهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب, وهو إنّه عند وفاة النبي (ص) - أو في أيامه الأخيرة - أمر أن يؤتى له بقرطاس وقلم ليكتب للناس كتاباً لا يضلوا بعده أبداً, وعند ذلك تدخَّل عمر بن الخطاب, وقال: إنّه (أي النبي) ليهجر, ومعنى يهجر أي يهذي والعياذ بالله, وقال (أي عمر) : حسبنا كتاب الله, فهذا مخالف لأمر الرسول (ص).
هذه رواية الشيعة التي يرددونها! أرجو التوضيح.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله, وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (3168), ومسلم (1637) من حديث سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ قَالَ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَومُ الخَمِيسِ وَمَا يَومُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمعُهُ الحَصَى...
ومن المعلوم أنّ النبي (ص) في مرضه الذي توفي فيه عزم على أن يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر, ففي صحيح البخاري (5666), ومسلم (2387) من حديث عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِه ِ: ادعِي لِي أَبَا بَكرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ ...
وعن ابن أبي مليكة قال: سُئِلَت عائشة مَن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُستَخلِفًا لَو استَخلَفَهُ؟ قَالَت: أَبُو بَكرٍ... أخرجه مسلم (2385).
ثمّ إنّه حصل التنازع والاختلاف عنده (ص), واشتبه الأمر على عمر هل غلب على النبي (ص) الوجع, أم لم يغلب عليه الوجع ؟ فيكون كلامه من الكلام المعروف الذي يجب قبوله, ولم يجزم عمر بذلك, والشك جائز على عمر إذ لا معصوم إلّا النبي (ص), والنبي (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب, فلما حصل الاختلاف والتنازع, وحصل الشك علم أن الكتاب لا يحصل به المقصود, وقد علم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال : "يَأبَى اللَّهُ وَالمُؤمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكرٍ", ولو أراد النبي (ص) أن يكتب الكتاب, وكان هذا ممّا يجب تبليغه وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره .
قال الإمام البيهقي في كتابه دلائل النبوة (7/184) : " قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله (ص) حين رآه قد غلب عليه الوجع, ولو كان ما يريد النبي (ص) أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عز وجل : (( بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ )) (المائدة:67), كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه, ومعاداة من عاداه, وإنّما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر, ثمّ ترك كِتبَته اعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى...., وقال : يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكرٍ, ثمّ نبّه أمّته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها, وقد ثبت في الصحيح أنّه قال لعائشة في مرضه : ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي" ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر, فلمّا كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً فقال عمر : ماله أهجر؟ فشّك عمر هل هذا القول من هجر الحمى؟ أو هو ممّا يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى, فكان هذا ممّا خفى على عمر, كما خفى عليه موت النبي (ص) بل أنكره, ثمّ قال بعضهم هاتوا كتاباً, وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب, فرأى النبي (ص) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك, فلا يرفع النزاع, فتركه, ولم تكن كتابة الكتاب ممّا أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت ؛ إذ لو كان كذلك لما ترك (ص) ما أمره الله به, لكن ذلك ممّا رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر, ورأى أن الخلاف لا بدّ أن يقع, وقد سأل ربّه لأمّته ثلاثاً فأعطاه اثنتين, ومنعه واحدة, سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة, فأعطاه إياها, وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم, فأعطاه إياها, وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعه إياها, وهذا ثبت في الصحيح.
وقال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب الكتاب ؛ فإنّها رزية أي مصيبة في حقّ الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه, وطعنوا فيها, وابن عباس قال ذلك لمّا ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم, وإلّا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله,, فإن فلم يجد في كتاب الله فبما في سنّة رسول الله, فإن لم يجد في سنّة رسول الله (ص) فبما أفتى أبو بكر وعمر...
ثمّ إنّ النبي (ص) ترك كتابة الكتاب باختياره, فلم يكن في ذلك نزاع, ولو استّمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه.... ومن جهل الرافضة أنّهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي, وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه, ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنّه جعل علياً خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر .
ثمّ يدعون مع هذا أنّه كان قد نصّ على خلافة علي نصّاً جلياً قاطعاً للعذر, فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب, وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه, فهم أيضاً لا يطيعون الكتاب, فأيّ فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا" (ينظر: منهاج السنة (6/315-318)).
وقال رحمه الله في موضع آخر : "عمر رضي الله عنه قد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر, ففي صحيح مسلم عن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي (ص) أنّه كان يقول : قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون, فإن يكن في أمتي أحد فعمر" .
قال ابن وهب : تفسير "محدثون" ملهمون .
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: "إنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون, وإنّه إن كان في أمتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب" .
وفي لفظ للبخاري : "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء, فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر" .
وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي (ص) قال : بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أُتيت به فيه لبن, فشربت منه حتّى أني لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري, ثمّ أعطيت فضلي عمر بن الخطاب, قالوا : فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم".
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (ص) : بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص, ومنها ما يبلغ الثدي, ومنها ما يبلغ دون ذلك, ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه "قالوا ما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال : الدين" .
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال عمر: وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم, وفي الحجاب, وفي أسارى بدر".
وللبخاري عن أنس قال : قال عمر : "وافقت ربي في ثلاث, أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلَّى فنزلت : (( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى )) (البقرة:125), وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البَرُّ والفاجر, فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وبلغني معاتبة النبي (ص) بعض أزواجه, فدخلت عليهم فقلت: إن انتهيتنّ, أو ليبدلنّ الله رسوله خيراً منكن حتّى أتت إحدى نسائه فقالت : يا عمر أما في رسول الله (ص) ما يعظ نساءه حتّى تعظهن أنت, فأنزل الله : (( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِّنكُنَّ )) (التحريم:5).
وأمّا قصة الكتاب الذي كان رسول الله (ص) يريد أن يكتبه, فقد جاء مبيّناً كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله (ص) في مرضه : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً, فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى, ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر .
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمّد قال قالت عائشة: وارأساه فقال رسول الله (ص) لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك, قالت عائشة : واثكلاه, والله إنّي لأظنك تحب موتي, فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك, فقال رسول الله (ص) : "بل أنا وارأساه, لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد : أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون, ويدفع الله ويأبى المؤمنون .
وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة, قال: سمعت عائشة وسُئلت: مَن كان رسول الله (ص) مستخلفاً لو استخلف؟ قالت : أبو بكر, فقيل لها: ثمّ من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر قيل لها : ثمّ من بعد عمر؟ قالت : أبو عبيدة عامر بن الجراح, ثمّ انتهت إلى هذا, وأمّا عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي (ص) من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة, والمرض جائز على الأنبياء, ولهذا قال: ماله أهجر؟ فشك في ذلك ولم يجزم بأنّه هجر, والشك جائز على عمر ؛ فإنّه لا معصوم إلّا النبي (ص), لا سيّما وقد شكّ بشبهة, فإنّ النبي (ص) كان مريضاً, فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض, أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله؟ وكذلك ظن أنّه لم يمت حتّى تبين أنّه قد مات, والنبي (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة, فلمّا رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك, فلم يبق فيه فائدة, وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه, كما قال : ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر, وقول ابن عباس : ( إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب الكتاب), يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حقّ من شكّ في خلافة الصديق, أو اشتبه عليه الأمر ؛ فإنّه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك, فأمّا من علم أن خلافته حقّ فلا رزية في حقّه ولله الحمد .
ومَن توهمّ أن هذا الكتاب كان بخلافة علي, فهو ضال بإتفاق عامة الناس من علماء السنّة والشيعة, أمّا أهل السنّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه, وأمّا الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة فيقولون : إنّه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصّاً جلياً ظاهراً معروفاً, وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب .
وإن قيل: إنّ الأمّة جحدت النصّ المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى, وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته, ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك, فلو كان ما يكتبه في الكتاب ممّا يجب بيانه وكتابته, لكان النبي (ص) يبّينه ويكتبه, ولا يلتفت إلى قول أحدٍ, فإنّه أطوع الخلق له, فعُلم أنّه لمّا ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً, ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ ؛ إذ لو وجب لفعله, ولو أنّ عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر, ثمّ تبيّن له, أو شكَّ في بعض الأمور, فليس هو أعظم ممّن يفتي ويقضي بأمور, ويكون النبي (ص) قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك, ولا يكون قد علم حكم النبي (ص) ؛ فإنّ الشكّ في الحقّ أخف من الجزم بنقيضه, وكلّ هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به" منهاج السنة (6/20-26).
وقال المازري : "إنّما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك ؛ لأنّ الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار, فاختلف اجتهادهم وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه (ص) قال ذلك عن غير قصد جازم, وعزمه (ص) كان إمّا بالوحي وإما بالاجتهاد, وكذلك تركه إن كان بالوحي, فبالوحي, وإلّا فبالاجتهاد أيضا". ينظر: فتح الباري (8/133).
وهذه النصوص عن هؤلاء العلماء الأجلاء توضح المقصود بالحديث, وتدحض افتراءات الشيعة وتلبيسهم وتنقصهم لعمر بن الخطاب .
هذا والله أعلم.
*************************
الجواب:
يكون جوابنا عمّا ورد في هذا السؤال - المشار إليه - وجوابه على نقاط:
النقطة الأولى:
لم تكن الرواية المعروفة برزية يوم الخميس - والوصف بالرزية كان من راويها ابن عباس - من مرويات الشيعة, وإنّما هي رواية معروفة في صحاح أهل السنّة, وكتبهم الحديثية يروونها بألسنة مختلفة, فقد رواها البخاري في باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله) من صحيحه الجزء الخامس الصفحة السابعة والثلاثون بعد المائة, وفي باب (قول المريض قوموا عنّي) في الجزء الخامس الصفحة التاسعة, وهكذا رواها في باب قول النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) في الجزء الثامن الصفحة الواحدة والستون بعد المائة.. وأيضاً رواها مسلم في صحيحه (كتاب الوصية) الجزء الخامس الصفحة الثالثة والسبعون بأكثر من طريق, وأيضاً رواها أحمد في مسنده في الجزء الأوّل, الصفحة الرابعة والعشرون بعد الثلاثمائة, وفي مواضع أخرى, وأيضا رواها غير هؤلاء من محدّثي أهل السنّة .
وكذلك القول : بأنّ قائل كلمة (هجر) في هذه الحادثة إنّما هو عمر بن الخطاب وليس أحد غيره لم يكن من مرويات الشيعة وأقوالهم, وإنّما هذا هو قول علماء أهل السنّة, وسننقل إليك أقوالهم فيما بعد .
ونريد أن نقول هنا أنّ الحادثة هي تنبأ بنفسها عن نفسها, بأنّ قائل تلك الكلمة القارصة في حقّ الجناب الأقدس للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يكن سوى عمر بن الخطاب, وليس أحد غيره.
فاليك جملة من صور هذه الحادثة يمكنك الجمع بينها لتنتهي إلى هذه النتيجة :
ففي الرواية التي يرويها البخاري في باب كراهية الخلاف ج8ص 161 جاء ما نصّه : ((وأختلف أهل البيت فاختصموا, فمنهم مَن يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً لن تضلوا بعده, ومنهم من يقول ما قال عمر, فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم : (قوموا عنّي) (انتهى).
فهذه الرواية, لم تصرّح باسم قائل مناهض في الواقعة لمسألة تقديم الكتاب ليكتبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) سوى عمر, وأن الذين تكلموا في هذا الجانب إنّما كانوا يتابعون في ذلك ما قاله عمر .
فالسؤال : الذي ينبغي الإجابة عليه هنا هو : ماذا قال عمر؟
والجواب: إنّ بعض الروايات - كرواية البخاري في (باب قول المريض قوموا عنّي) ج7 ص9 - تصرّح بأن عمر قال : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع, وعندنا كتاب الله حسبنا .
وبعض الروايات حين لا تذكر بأنّ القائل هو عمر, تصرّح بأنّ الكلمة التي قيلت في وجه النبي هي كلمة (يهجر), كما في هذه الرواية التي يرويها مسلم في صحيحة في باب ترك الوصية ج5ص76 : ((... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً, فقال أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر)) (انتهى).
فإذا جمعنا بين هذه الرواية والرواية التي رواها البخاري - وهي ممّا رواه مسلم أيضاً في نفس الباب المشار إليه سابقاً - التي تقول أنّه كان هناك فريقان عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعضهم يقول قدموا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً, وبعضهم يقول ما قال : عمر .
نخرج بنتيجة - بلحاظ أنّه لم يكن قول هؤلاء سوى ترديد لما قاله عمر . وقد كان من قولهم (بصريح الرواية المتقدمة) كلمة (يهجر) - إنّ ما قاله عمر في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما هو كلمة (يهجر) لا غير . هذا هو الذي يقتضيه الجمع بين هذه الروايات, وهي لا تحتاج إلى كثير عناء للوصول إلى هذه النتيجة.
ولم تكن الرواية التي ذكرت بأن عمر كان قد قال : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع إلّا تعبيراً آخر عن كلمة (يهجر), وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التعبير إنّما كان بالمعنى عن الكلمة التي قالها عمر وليس باللفظ الصريح, كهذه الرواية التي يرويها الجواهري - وهو من علماء أهل السنة في كتابه (السقيفة وفدك ص76), وابن أبي الحديد - وهو معتزلي من أهل السنة أيضاً - في شرح على نهج البلاغة ج6ص51: ((لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة, وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي, فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله). (انتهى).
وعلى أية حال, فقد صرّح جملة علماء أهل السنّة بذلك وقالوا : ليس من قائل لتلك الكلمة القارصة سوى عمر بن الخطاب .
كتصريح ابن تيمية في (منهاج السنّة) في الجزء السادس, الصفحة 315.
وابن الأثير في (نهاية غريب الحديث) في الجزء الخامس, الصفحة 246, في مادة (هجر).
وأيضاً صرّح بذلك اللغوي الشهير ابن المنظور الأفريقي في (لسان العرب) الجزء الخامس, الصفحة 250 مادة (هجر).
وكذلك ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص), الصفحة 099
والغزالي في (سر العالمين) الصفحة 40.
والشهاب الخفاجي في (شرحه على الشفا نسيم الرياض), الجزء الرابع, الصفحة 278.
وهكذا تعرف أن هذه الحادثة لم تكن من مرويات الشيعة, بل من مرويات أهل السنة, وفي أوثق كتبهم!
وإن التصريح بأن قائل كلمة (يهجر) عمر بن الخطاب يمكن الوصول إليه من خلال أدنى تأمل في الألفاظ التي جاءت بها ألسنة الحادثة عند أهل السنة.
وأيضاً يوجد هناك جملة من علماء أهل السنة قد صرّحوا بأن ليس من قائل لتلك الكلمة سوى عمر بن الخطاب لا غير كما ذكرنا ذلك.
نعم, أجتهد المصرّحون (بل جاهدوا) في تمرير هذه العثرة - التي لا تقال ما بقيت السماوات والارضين - والذب عن (الخليفة), فقالوا: إن ما قاله عمر هو كلمة (أهجر) بصيغة الاستفهام, ومعنى كلامه: هل أختلف كلامه بسبب المرض (على سبيل الاستفهام)؟ كما صرّح بذلك ابن تيمية وابن الأثير وغيرهما - .
ولكن لا ندري هل تخف الوطأة وتقل البشاعة بهذا التصريح فيما لو جاء على سبيل الإنشاء دون الإخبار, مع أن ابن الأثير يذكر بكل وضوح بأنّ المراد منها على هذا التعبير : هل تغير كلامه وأختلط لأجل ما به من المرض؟
(قال) : وهذا أحسن ما يقال فيه ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان. والقائل كان عمر, ولا يظن به بذلك (المصدر المتقدم).
ولا ندري كيف نتصور ما رواه ابن الأثير هنا من التفريق بين الإنشاء والإخبار لكلمة (هجر), وهل تراه يختلف معنى الاختلاف والاختلاط في كلام المريض, عن معنى الهذيان فيما لو قيلت هذه الكلمة بالإخبار دون الإنشاء...؟!
إننا لا نجد فرقاً في ذلك بل المعنى واحد, فالذي يخلط في كلامه وهو في حال المرض يقال عنه أنّه يهذي, وإذا أردنا أن نحول هذا المعنى إلى الاستفهام فنقول : ماذا به, هل تراه يهذي؟ فلا يوجد فرق في نسبة الهذيان من هذه الكلمة سواء قيلت إخباراً وإنشاءاً ...
بل نجد أنّ البخاري قد سد على القوم هذه التأويلات والتمحلات وذكر رواية له في باب جوائز الوفد من كتاب السير والجهاد ج4, ص 31 تفيد بأنّ هذه الكلمة قد قيلت في وجه النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله) إخباراً لا إنشاء: ((.. فقال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس, فقال : (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً), فتنازعوا, ولا ينبغي عند نبي تنازع, فقالوا: هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله)..) (انتهى) .
وقد تقدمت رواية مسلم التي تشير بأنّ هذه اللفظة قد قيلت بالإخبار (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليهجر) دون الإنشاء.
وعلى أية حال, لا نجد فرقاً في البشاعة والفظاعة - كما بينا - بين أن تقال هذه الكلمة إنشاءاً أو إخباراً في وجه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله), فهي تنافي الأدب القرآني الذي أمر الله الصحابة بأن يتأدبوا به مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند مخاطبتهم له, فقال سبحانه محذّراً إيّاهم: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أَصوَاتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلا تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ أَن تَحبَطَ أَعمَالُكُم وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصوَاتَهُم عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقوَى لَهُم مَغفِرَةٌ وَأَجرٌ عَظِيمٌ )) (الحجرات:2-3).
ولننقل لك أيها الأخ الكريم ما قاله أهل اللغة في بيان معنى كلمة (يهجر):
قال الجوهري في الصحاح في اللغة من باب (الراء) فصل (الهاء), الهجر: الهذيان, وقال ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق. (صحاح 2: 851).
وهذا المعنى - أي الهذيان وقول غير الحقّ - منفي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدليل قوله تعالى في سورة النجم: (( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى - الى قوله - وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِن هُوَ إِلاَ وَحيٌ يُوحَى )) (النجم:2-5).
وأيضاً جاء في الحديث الصحيح - فيما رواه أهل السنّة أنفسهم ـ: أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كلّ ما يسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله), ورسول الله بشر يتكلم في الرضا والغضب, فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له : (أكتب فو الذي بعثني بالحقّ ما يخرج منه إلّا الحقّ), وأشار إلى لسانه {أنظر مسند أحمد 2: 162, المستدرك على الصحيحين 1: 186 صححه الحاكم ووافقه الذهبي}.
وكلامه (صلى الله عليه وآله) هنا عام ومطلق, وهو لا يبقي لأهل التأويل أي شيء يمكنهم الاستناد إليه في تمرير العثرة المتقدمة!
بل ورد عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه حتى في حالات الممازحة والمداعبة لا يقول إلّا حقّاً؟ قال (صلى الله عليه وآله) : (إني لا أقول إلا حقّ) مجمع الزوائد 9/17 قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط واسناده حسن .
وهذا الحديث كسابقه في الدلالة على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لا يعتريه ما يعتري بقية الناس من حالات الاضطراب في الكلام, أو يكون ضحية لمزاجه, أو هواه في حالات معينة كحالة الغضب والممازحة, أو حالات الوجع والمرض, مع أنَّ حالات الغضب والممازحة هي أشد من غيرها في تحقيق الإضطراب عند المتكلم منها في حالة المرض, ومع هذا فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه حتّى في هذه الحالات لا يقول إلا حقّاً .
قال المباركفوري في شرحه للحديث: (لا أقول إلّا حقّ) أي عدلاً وصدقاً, لعصمتي من الزلل في القول والفعل, ولا كلّ أحد منكم قادر على هذا الحصر لعدم العصمة فيكم) (تحفة الأحوذي في شرح الترمذي 6: 108).
ومن العجيب أن تجد مثلاً هذا الموقف والمواجهة الصريحة من عمر بن الخطاب للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ومحاولة تجريده من قواه العقلية ونبزه بالخلط في الكلام بغية ثنيه عن كتابه الكتاب الذي أراد, وقد أخبرهم عنه بأنّهم ان أخذوا به يعصمهم من الضلالة أبد الآبدين, تجد عمر بن الخطاب في موقف آخر يأخذ بما ذكره أبو بكر في كتابه - وقد كُتب عنه وهو في حالة الإغماء - والذي جاء فيه الأمر باستخلاف عمر من بعده, بل يأمر المسلمين بالأخذ بما جاء في هذا الكتاب, ولم يتهم صاحبه ولا الكاتب - وهو عثمان, وقد كتب مسألة الاستخلاف في حالة إغماء أبي بكر - بالهجر أو الهذيان أو غلبة الوجع بل رأى في كتابه هذا كلّ الحقّ والخير الوفير والنصيحة للمسلمين!!!
وإليك هذه الحقيقة من كلمات أهل السنّة أنفسهم:
روى الطبري في تاريخه وابن عساكر في تاريخ دمشق, وابن سعد في الطبقات, وابن حبّان في الثقات : ((دعا أبو بكر عثمان خالياً فقال له : أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أمّا بعد.. قال: ثمّ أغمي عليه, فذهب عنه, فكتب عثمان : أمّا بعد : فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب, ولم آلكم خيراً منه . ثمّ أفاق أبو بكر فقال : أقرأ عليًَّ . فقرأ عليه, فكبّر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن أفتتلت نفسي في غشيتي! قال : نعم! قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله . وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع)). أنظر تاريخ الطبري 2: 618. تاريخ مدينة دمشق 3: 411. الطبقات الكبرى 3: 200. الثقات 2: 192.
وروى الطبري عن إسماعيل بن قيس, قال : (رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريده, وهو يقول: (أيّها الناس أسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّه يقول لكم إني لم آلكم نصحاً . قال ومعه مولى لأبي بكر يقال له شديد معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر) . تاريخ الطبري 2: 618.
بل ذكر ابن سعد في الطبقات ما يستفاد منه بأن عمر بن الخطاب كان حاضراً عند كتابة هذا الكتاب أيضاً, قال : (فخرج - أي عثمان - بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب, وأسير بن سعيد القرظي) الطبقات الكبرى 3: 200.
فهذا الكتاب تقبّله عمر قبولاً تاماً, ولم يخالفه, أو يعترض عليه بشيء, ولم ينسب إلى قائله - وهو في حالة الإغماء, ولا إلى كاتبه, وقد أملى بغير إرادة القائل المغمي عليه - أي شيء من حالات الهجر والهذيان أو غلبة الوجع, بل كان كل ذلك - برأيه - خيراً أفاضه الله على المسلمين من (الخليفة) الذي لم يأل النصح لهم, وهو يطلب من المسلمين على الأخذ به ويقول لهم: اسمعوا واطيعوا قول خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)!!!
فهل من الإنصاف - أخي الكريم - وأنت ترى هذين الموقفين من عمر في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر - بأن يرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتابة كتابه الذي أراد, ويرمى بالهجر والهذيان وغلبة الوجع, وهو الذي لا يقول إلّا حقاً, وقد شهد بحقّه ربّ السماوات والأرضين أنّه لا ينطق عن الهوى, وأن ما يقوله إنّما هو وحي يوحى.
ويؤخذ بكلام أبي بكر دونه, وقد قال ما قاله وهو في حالة الإغماء, وعدم الوعي مع أنّ أبا بكر قد صرّح في حالة اليقظة وعدم الإغماء أن له شيطان يعتريه, فكيف يكون الأمر في حالة الإغماء وعدم الوعي؟!
إننا نترك لك أخي الكريم المقارنة بين الموقفين والحكم على هذا التباين بين المواقف, بل الأمر سيكون أدهى وأمر فيما لو صدّقنا ما يقوله المعتذرون عن عمر بن الخطاب في رزية يوم الخميس: بأنّه كان من الحرص على المسلمين, وأن لا يكون في الكتاب - الذي أراد كتابته النبي (صلى الله عليه وآله) - شيء قد يختلف بعده المسلمون - كما هي الدعوى في تبرير تصدي عمر - مع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد صرّح لهم - وهو الذي لا ينطق علن الهوى - بأنّهم لن يضلوا بعد هذا الكتاب أبداً.
فهل يكون أبو بكر أنصح للأمّة من رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليأخذ عمر بكتابه, ويردّ كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ مع أننا وجدنا بعد كتابة الكتاب الذي كتبه أبا بكر في حقّ عمر أنّه قد جاء بعض الصحابة يلومون أبو بكر على تعيينه عمر بن الخطاب خليفة بعده, ويقولون له : (ما تقول لربّك وقد وليت علينا فظاً غليظاً). انظر تاريخ دمشق 3: 18, ومصنف ابن أبي شيبة 7: 485, 8: 574, ونوادر الأصول 3 : 18.
وفي أحدى المرّات جاء طلحة - وهو أحد العشرة المبشرين حسب رواية أهل السنّة - وقال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله, إنّا كنا لا نحتمل شراسته, وأنت حي تأخذ على يديه, فكيف يكون حالنا معه وأنت ميت, وهو الخليفة . (أنظر تاريخ المدينة لابن شبه النميري 2: 671).
النقطة الثانية:
ما ورد في الجواب : ((ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضة الذي توفي فيه عزم على أن يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر, ففي صحيح ومسلم.. الخ)).
نقول: الحديث الأوّل المستدل به غير صالح للإحتجاج به من وجوه - (وهو الذي ورد فيه : ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك...) - :
الوجه الأوّل: رواة الحديث مجموعة من المقدوحين والمنحرفين عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام).
فإبراهيم بن سعد : هو صاحب العود والغناء, كان يعزف ويغني, جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه, فوجده يغني فتركه وانصرف, فأقسم إبراهيم ألّا يحدث بحديث إلا غنّى قبله, وعمل والياً على بيت المال لبغداد لهارون الرشيد .
وقد كان هو وعائلته من المقرّبين لبني أميه, فقد كان أبوه قاضياً لبعض ملوك بني أمية على المدينة. (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 8: 306, تاريخ بغداد 6: 81. 86 - الأعلام 1: 40 الأغاني 15: 329).
وأمّا صالح بن كيسان : فهو مؤدب بني أميّة والمدافع عنهم (انظر تأديبه لولد بني أمية ومدحه لسعيد بن العاص في: (مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان) : 216, أنساب الأشراف 5: 3, تاريخ مدينة دمشق 21: 129, تاريخ الإسلام للذهبي 4: 229).
وأمّا الزهري : فهو منديل بني أمية يمسحون به خطاياهم روى ابن عساكر في (تاريخ دمشق 5: 370): قال عمر بن رديح : كنت مع ابن شهاب الزهري نمشي فرآني عمر في عبيد فلقيني بعد فقال : مالك ولمنديل الأمراء؟ يعني ابن شهاب . (انتهى).
وقد ذكر ابن خلّكان في (وفيات الأعيان 4: 178) في ترجمة الزهري, قال : ((لم يزل الزهري مع عبد الملك, ثمّ مع هشام بن عبد الملك, وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه)).
وفي (تهذيب التهذيب لأبن حجر) (4: 225) في ترجمة الأعمش الكوفي: إنّ الزهري يعمل لبني أمية.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (4: 120) وكان الزهري من المنحرفين عن علي (عليه السلام), روى جرير بن عبد الحميد, عن محمّد بن شيبة, قال: شهدت مسجد المدينة, فإذ الزهري. وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً (عليه السلام), فنالا منه.
وجاء في ميزان (الإعتدال للذهبي)(1: 625) في ترجمة خارجة بن مصعب : قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب: قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: قدمت على الزهري وهو صاحب شرطة بني أمية, فرأيته ركب وفي يديه حربة وبين يديه الناس في أيديهم الكافر كوبات, فقلت : قبح الله ذا من عالم, فلم أسمع منه.
وقد روى الذهبي عن مكحول قوله : أنّه - أي الزهري - أفسد نفسه بصحة الملوك (انظر سير أعلام النبلاءه: 329)
وأمّا عروة بن الزبير : فقد تقدم عن المعتزلة ذكره لعلي (عليه السلام) وتناوله له, وأيضاً كان عروة ممّن انتدبه معاوية لوضع أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) (انظر شرح النهج للمعتزلي 4: 64).
وقد اتهمه الزهري هو وعائشة في حديثين يرويهما عنهما, والحديث الأوّل رواية عروة عن عائشة أنّها حدثته بأنّ رسول الله قال عندما أقبل عليه العباس وعلي : يا عائشة هذين يموتان على غير ملتي, أو قال : ديني!!. والحديث الثاني زعم فيه أن عائشة حدثته قالت : كنت عند النبي إذ اقبل العباس وعلي فقال: يا عائشة إن سرك إن تنظري إلى رجلين من أهل النار, فانظري إلى هذين قد طلعا, فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب!! (المصدر السابق) وهذا وضع صريح من عروة للأحاديث .
وأيضاً قد شهد عروة على نفسه بإعانة الظالمين, وشهد ابن عمر على حاله هذه بالنفاق, روى البيهقي في (السنن 86: 165) : أن عروة بن الزبير قال: أتيت عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) فقلت : له يا أبا عبد الرحمن إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء (يريد الخلفاء), فيتكلمون بالكلام, نعلم أنّ الحقذ غيره, فنصدّقهم, ويقضون بالجور فنقوّيهم, ونحسنّه لهم, فكيف ترى في ذلك؟ فقال (أي ابن عمر): يا ابن أخي كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) نعد هذا النفاق, فلا أدري كيف هو عندكم (انتهى).
وأمّا عائشة فهي متهمة في هذا الحديث من جهتين:
الأولى : لموقفها من أمير المؤمنين علي (عليه السلام), وعدائها المعروف له, حتّى أنّها كانت لا تطيق ذكر اسمه كما صرّح بذلك ابن عباس وقال : إنّها لا تطيب له نفساً (أنظر مسند أحمد 6: 228 وقد صححه بسنده الألباني في إرواء الغليل 1: 178..) .
وهذا الحديث - محلّ الكلام - إن سلمنا أنّه يتعرض إلى موضوع الخلافة, وأنّ النزاع في الوصية هل كانت في علي (عليه السلام) أو لا؟ لدرجة أنّ عائشة سُئلت عنها ونفت أنّه أوصي إليه ( عليه السلام) كما في صحيح البخاري 3: 185 كتاب الوصايا.
الثانية: لما فيه من جرّ نفع لأبيها, فهو من شهادة الأبناء للآباء, أو ما يسمّى بشهادة الفرع للأصل, وهي غير مقبولة عند أهل السنّة (انظر الإيجي في المواقف 402, وابن حجر في الصواعق المحرقة 1: 93, والحلبي في السيرة الحلبية 3: 488). ومن هنا صححوا ردّ أبي بكر شهادة الحسن والحسين عليهما السلام لفاطمة عليها السلام في أمر فدك .
الوجه الثاني : في عدم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور : أنّ أبا بكر كان ممّن أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخروج مع أسامة, كما روي ذلك عن الواقدي, وابن سعد, وابن إسحاق, وابن الجوزي, وابن عساكر (انظر فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 124), وقد لعن المتخلف عنه (أنظر شرح المواقف 8: 376, والملل والنحل للشهرستاني 1: 29), فكيف تصح دعوته في هذا الحديث, مع أنّ كتابة الكتاب لم تكن موقوفة على حضوره؟!
الوجه الثالث: إنّ أبا بكر حضر عنده فأمره بالأنصراف ولم يكتب شيئاً, روى ذلك أبو جعفر الطبري وغيره عن ابن عباس حيث سئل: ((أوصى رسول الله؟ قال: لا, قلت: فكيف كان ذلك؟ قال قال رسول الله: إبعثوا إلى علي فادعوه فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر, وقالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعاً . فقال رسول الله: أنصرفوا فإن تكُ لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا...)). (تاريخ الطبري 2: 439) فالرواية صريحة في دعوته (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) ليوصي اليه دون الآخرين, بل صرف من حضر - كابي بكر وعمر - وبيّن أنّه لا حاجة له (صلى الله عليه وآله) بهما.
الوجة الرابع : لم يحتج بهذا الحديث وأمثاله على خلافة أبي بكر بل حتّى في أرجحيته للخلافة وتأهيله لها ؛ إذ لم نشهد لهذا الحديث أو غيره - في خصوص أبي بكر - من أثر أو ذكر في محاججات السقيفة التي احتدم فيها الكلام في المسألة, وكان كل فريق من المتنازعين المهاجرين والأنصار يذكر أقصى ما يمكن استحضاره من الفضائل والمناقب للفوز بالخلافة, فإنّه لو كان لمثل هذا الحديث أصل وواقع لكان هو أوّل الأدلة بل رأسها وسنامها في الاحتجاج على الأنصار يوم السقيفة ؛ إذ لا عطر بعد عرس, مع أننا لم نشهد ذلك ولم يعرف نقلة التواريخ له ذكراً في هذه الواقعة بل في كلّ المحاججات التي جرت حول خلافة أبي بكر في صدر الإسلام.. ولا يعقل أن يكون لمثل هذا الحديث المهم الذي قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصل, وفي مثل هذا الموضوع الخطير الذي اشتد الصراع فيه بين جهات مختلفة من المسلمين ولم يرد له ذكر أو خبر في مساجلات الأصحاب حول الخلافة في صدر الإسلام... الأمر الذي يكشف بكلّ وضوح على أنّه من الموضوعات والمفتريات التي وضعت بعد رسول الله رسول الله (صلى الله عليه وآله)...
وأيضاً صرحّ علماء أهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر لم تكن بالنصّ, وإنّما كانت بالشورى قال : التفتازاني في ((شرح المقاصد)) : أنّه لو كان نصّاً جليّاً ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة, وظهر على آجلتهم الذين لهم زيادة قرب بالنبي (صلى الله عليه وآله) واختصاص بهذا الأمر بحكم العادة (نقول ولا يختص بعائشة راوية الحديث عند البخاري ومسلم فما للنساء و الخلافة), واللازم من منتفٍ, وإلّا لم يتوقفوا على الأنقياد له والعمل بموجبه, ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الإمام, ولم يقل الأنصار منا أمير ومنكم أمير, ولم تمل طائفة إلى أبي بكر رضي الله عنه, وأخرى إلى علي رضي الله عنه, وأخرى إلى العباس رضي الله عنه, ولم يقل عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة رضي الله عنه أمدد يدك أبايعك...)) (شرح المقاصد 2: 283)
الوجة الخامس : الحديث المذكور معارض بما روي عن أبي بكر نفسه أنّه قال لما حضرته الوفاة: وددت أن سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثلاث :(أحدها) سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازعه أهله (المعجم الكبير للطبراني 1: 62, تاريخ الطبري 3: 431, العقد الفريد 2: 254, الإمامة والسياسة 1: 18, مروج الذهب 2: 302).
وأيضاً لو صح الحديث المذكور - الذي رواه البخاري ومسلم - لما كان يحقّ لعمر أن يقول ما قال في حقّ بيعة أبي بكر بأنّها فلته (فيما رواه البخاري 8: 25 كتاب المحاربين) فهل تراه (صلى الله عليه وآله) ينص على بيعة الفلتات, وان الله ورسوله والمؤمنون يأبون إلا بيعة الفلتات؟!
الوجة السادس: هذا الحديث معارض بحديث الدواة والكتف المعلوم المشهور المشار إليه في أوّل كلامنا والذي جرى فيه ذلك النزاع المعلوم, وقد جوبه فيه النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) بتلك الكلمة (الفظيعة) التي أثارت ذلك اللغط الذي اثار النزاع المشار إليه, وقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالخروج من عنده بعد هذا النزاع, وقال لهم : لا ينبغي عند نبي تنازع, وكان ابن عباس (رضي الله عنه) يقول عن تلك الفاجعة : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكتب ذلك الكتاب . فهل تراه يصح أن يمنع عمر بن الخطاب أن يكتب النبي (صلى الله عليه وآله) كتاباً في خلافة أبي بكر, أن هذا لا يعقله عاقل علم بعلاقة الرجلين ؛ إذ كيف يمكن أن يمنع عمر خيراً عن صاحبه أبي بكر, وهو كان يعرف له كالرديف .
بل المروي في الواقع هو خلاف ذلك بأنّ الكتاب الذي أراد أن يكتبه الرسول(صلى الله عليه وآله) في تلك الحادثة إنّما هو في خصوص خلافة علي (عليه السلام) فقد أراد(صلى الله عليه وآله) أن يوثقها لهم كتابة بعد أن تسامعوا بذكرها, وأدركوا معناها في يوم غدير خم وغيره.. بهذا صرّح عمر في المقام .
روى أبن ابي الحديد المعتزلي في (شرح النهج 12: 21) من قول عمر : لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره (أي أمر علي (عليه السلام)) ذروا من قول لا يثبت حجّة, ولا يقطع عذراً, ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه, فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام, لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً)). (انتهى).
وبعد هذا البيان في الحديث الأوّل الذي رواه البخاري ومسلم, يتضح الكلام في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبن أبي مليكة قال : سألت عائشة من كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستخلفاً لو استخلفة؟
النقطة الثالثة:
ما ورد في الجواب : (ولو أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتب الكتاب, وكان هذا ممّا يجب تبليغة وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره...)).
قلنا : قد يكون وجوب كتابة هذا الكتاب من الواجب المشروط, أي أن كتابته مشروطة بإمتثالهم واصغائهم له, وعندما تبين عدم إمتثالهم وقولهم (هجر) سقط الوجوب عنه (صلى الله عليه وآله) في كتابة هذا الكتاب لهم ؛ إذ لم يبق من أثر له فيما لو كتب سوى الفتنة, والاختلاف من بعده في أنّه هل هجر فيما كتبه ((والعياذ بالله)) أو لم يهجر؟!
بل ولأوغلوا في ذلك في بيان هجره - والعياذ بالله - بما يفتح باباً للطعن في النبوة, ومن هنا اقتضت حكمته (صلى الله عليه وآله) العالية بأن يضرب عن ذلك الكتاب صفحاً لئلا يفتح ذلك الباب الذي قد يأتي على الدين كلّه, وهم مصرون ومعلنون بأن القول ما قاله عمر, أي أنّهم شهدوا عليه(صلى الله عليه وآله) بالهجر والهذيان .
ويؤيد هذا المعنى, أي الإعراض عنهم, وعدم وجوب تبليغ هذا الكتاب إليهم, وخشية أن يطال نزاعهم أصل نبوته (صلى الله عليه وآله) إخراجه لهم من حجرته, وتصريحه لهم بأنّه لا ينبغي عند بني تنازع (انظر: فتح الباري 8: 101 حيث عدَّ هذا الكلام من قوله (صلى الله عليه وآله) في الحادثة) .
هذا ما أردنا بيانه باختصار حول هذه الحادثة, وإن كان هناك مجال أوسع للحديث عنها في جوانب مختلفة, وهي تستحق منّا كلّ متابعة واهتمام, ولكننا نحيل الأخ الكريم إلى ما ورد من مناقشات بين العلمين الموسوي والبشري في (المراجعات الأزهرية المراجعة 86 ) وما بعدها, حول هذه الرزية, ونحن بخدمتكم لأي سؤال آخر في الموضوع .