المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ارتدّوا على أدبارهم


الشيخ عباس محمد
10-01-2018, 08:11 PM
ارتدّوا على أدبارهم
!
قالت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): " أَلَئِنْ مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمتُّم دينه؟!!... تلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ )(1)(2).
وقال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): " حتّى إذا قبض الله رسوله، رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودّته، ونقلوا البناء على رصِّ أساسه، فبنوه في غير موضعه.. معادن كل خطيئة، وأبواب كلّ ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنّة من آل فرعون.. من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين "(3).
ودلّتنا النصوص المتواترة ـ بين الفريقين ـ إلى هذا الانقلاب الذي أُشير إليه في القرآن وصرّحت به الأحاديث وقام عليه الوجدان.. وإليك بعض ما ورد في المقام:
____________
1. شرح نهج البلاغة 16/212.
2. آل عمران (3): 144.
3. نهج البلاغة: 65، الخطبة 150 ; شرح نهج البلاغة: 9/132 ; بحار الأنوار: 29/616.

خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " يا أيّها النّاس! إنّكم محشورون إلى الله عُراةً حفاتاً عزّلاً(1)، ثم تلا: ( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ )(2).
ثمّ قال: " ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنّه يجاء برجال من أُمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي..! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ )(3) فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم "(4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّ أصحابي..! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك "(5).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليردن على الحوض رجال ممّن صاحبني، حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ! أصحابي أصحابي! فليقالن لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وفي بعض الروايات: " فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي "(6).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، مَنْ مَرّ عليّ شرب، ومَنْ شرب لم
____________
1. أي جرداً لا شعر لهم، وفي بعضها: غرلاً، وهو جمع الأغرل أي الأغلف.
2. الأنبياء (21): 104.
3. المائدة (5): 117.
4. راجع! سنن النسائي: 4/117 ; مسند أحمد: 1/235، 253 ; البخاري: 4/110، 142 ـ 143 و 5/191 ـ 192، 240 و 7/195 ; مسلم: 8/157 ; سنن الترمذي: 4/38 و 5/4 ; كنز العمال: 14/358 ; البداية والنهاية: 2/116 ; الدرّ المنثور: 2/349.
5. البخاري: 8/87.
6. مسلم: 7/70 ـ 71.

يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ اقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يحال بيني وبينهم، فأقول: فإنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي "(1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ".
أو قال: " من أُمّتي " فَيُحلَّؤُن(2) عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي! فيقول: لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى "(3).
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " بينا أنا قائم [على الحوض] إذا زمرة.. حتّى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟! قال: إلى النار والله، فقلت: وما شأنهم؟! قال: إنّهم قد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى..
ثم إذا زمرة اُخرى حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني بينهم، فقال لهم: هلمّ، فقلت: إلى أين؟! قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم قال: إنّهم قد ارتدّوا على أدبارهم.. فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم "(4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ترد عليَّ أُمّتي الحوض وأنا أذود الناس كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله... وليصدن عنّي طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا ربّ! هؤلاء من أصحابي، فيجيئني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟! "(5).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم، ليقتطعن دوني رجالاً فلأقولنَّ: أي ربّ منّي ومن أُمّتي، يقول إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم "(6).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّي على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ ناس
____________
1. البخاري: 7/207 ـ 208 و 8/87 ; مسلم: 7/66.
2. أي: يُمنعون من وروده.
3. البخاري: 7/208.
4. البخاري: 7/208.
5. مسلم: 1/149 ـ 150.
6. مسلم: 7/66.

دوني، فأقول: يا ربّ! منّي ومن أُمّتي.. ".
وفي رواية: فأقول: أصحابي!.. فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم "(1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع: " لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(2).
قال أُبيّ بن كعب: كنّا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما وجهنا واحد، فلما قُبض نظرنا هكذا وهكذا(3).
وقال أنس: ما نفضنا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأيدي ـ إنّا لفي دفنه ـ حتّى أنكرنا قلوبنا(4).
وعن أبي وائل، عن حذيفة قال: قلت: يا أبا عبد الله! النفاق اليوم أكثر أم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه! وهو اليوم ظاهر، إنّهم كانوا يستخفونه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(5).
____________
1. البخاري: 7/209 ; مسلم: 7/66 ; وراجع أيضاً: مسند أحمد: 1/257 و 3/18، 39، 384 و 6/121 ; مسلم: 7/68 ; البخاري: 7/206 ـ 210 و 8/86 ; سنن ابن ماجه: 2/1440 ; المستدرك: 2/447 و 4/74 ـ 75 ; مجمع الزوائد: 3/85 و 10/364 ـ 365 ; كنز العمّال: 1/387 و 4/543 و 11/132 و 176 ـ 177 و 14/417 ـ 419 و 434.
2. سنن النسائي: 7/126 ـ 128 ; مسند أحمد: 1/230، 402 و 2/85، 87، 104 و 4/351، 358، 366 و 5/39، 44 ـ 45 و 49، 68، 73 ; سنن الدارمي: 2/69 ; البخاري: 1/38 و 2/191 ـ 192 و 5/126 و 6/236 و 7/112 و 8/16، 36، 91 ; مسلم: 1/58 و 5/108 ; سنن ابن ماجه: 13002 ; سنن أبي داود: 2/409 ; سنن الترمذي: 3/329 ; سنن البيهقي: 5/140 و 6/92، 97 و 8/20 ; المستدرك: 1/191.
3. ابن ماجه ونعيم بن حماد في الفتن، عنهما جامع الأحديث: 17/524.
4. مسند أبي يعلى الموصلي: 6/51.
5. البحر الزخّار المعروف بمسند البزاز: 7/303 ـ 304 (ط المدينة) وراجع البخاري: 8/100 ; كنز العمال: 1/367. أقول: راجع أيضاً ما ذكرناه من الروايات في الجواب على إنكار نسبة الهجوم إلى الصحابة في أول الفصل السادس.

ثم إنّ الله عزّ وجلّ قال: ( وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ )(1).
وفي هذا ما يستدلّ به على أنّ الأصحاب قد اختلفوا من بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فمنهم من آمن ومنهم من كفر، لاتّفاق الفريقين على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلّ ما كان في الأمم السالفة فإنّه يكون في هذه الأمّة مثله، حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة "(2).
والعجب مما رواه ابن عساكر عن ابن عباس قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ـ إذ أقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لمعاوية: " أتحبّ علياً؟ " قال: نعم. قال: " انها ستكون بينكم هنيهة ". قال معاوية: فما بعد ذلك يا رسول الله..؟! قال: " عفوالله ورضوانه..! " قال: رضينا بقضاء الله ورضوانه... فعند ذلك نزلت هذه الآية: ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ )(3).
____________
1. البقرة (2): 253.
2. رواهما كثير من أهل السنة راجع مسند أحمد: 2/527 و 4/125 ; صحيح البخاري: 4/144 (ط دار الفكر) ; المستدرك: 1/37، 129 (ط دار المعرفة) ; النهاية لابن الأثير: 1/357 ; كنز العمال: 1/211 و 11/253 ; شرح نهج البلاغة: 9/286. وتجد الروايتين في كثير من مصادرنا، بل حكم بصحّتهما في إعلام الورى: 476 ; كشف الغمة: 2/545 ; مختصر بصائر الدرجات: 205 ; تأويل الآيات: 402 ; الصوارم المهرقة: 195.
3. الدر المنثور: 1/322.

ولا نشك في أنهم حرّفوا الرواية عن وجهها ـ إن كانت ـ إذ صرّح في الآية الشريفة بكفر بعضهم، مع أن الرواية تستند الذنب في القتال إلى القضاء الالهي! وهي تتم على مبناهم الجبري وعقيدتهم في الصحابه وتنزيههم للمنافقين والكافرين..
التنصيص على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّح بخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإمامته ـ بنصِّ من الله تعالى ـ طيلة حياته ومن اليوم الذي دعا أقاربه إلى الإسلام(2)، وفي السنة العاشرة من الهجرة أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحجّ بالنّاس، فحجّ معه جمع كثير من المسلمين في تلك السنة.
فلمّا دخل مكّة وأقام بها يوماً واحداً، هبط جبرئيل (عليه السلام) بأوّل سورة
____________
1. يعرف كلّ عاقل أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحيل أن يترك أُمته سدى، ويهمل أمرهم بعده ولم يدبّر لهم تدبيراً صحيحاً يمنعهم عن الاختلاف في الدين و الدنيا، فإنّه لو لم يكن نبيّاً وكان سلطاناً عاقلاً لم يرض بذلك في رعيّته، فكيف وهو رئيس العقلاء؟!، أفترضى أن تقول: إنّه أهمل أمر الأُمّة حتّى ينجرّ الأمر إلى ما وقع في السقيفة وغيرها من الاختلافات، وتشعّبت فرق كثيرة يكفّر بعضهم بعضاً، ويحارب بعضهم بعضاً، وتهراق دماء آلاف من المسلمين في طلب الخلافة.. إلى وقائع كثيرة تراها حتّى اليوم؟! أكان أبو بكر أعرف بأمر الأمّة حيث عرف لزوم تعيين الخليفة ولكن النبي لم يعرف؟! نعم لا سبيل إلى هذا التوهّم أبداً. وأمّا نصّه على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنّه الوصي، ووليّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعده.. وغير ذلك، فوردت فيها روايات متواترة بين الشيعة وأهل السنة، ودلالتها واضحة بيّنة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
راجع الغدير، إحقاق الحقّ وملحقاته، عبقات الأنوار.. وغيرها.
2. كما ورد في ذيل الآية الشريفة (وأنذر عشريتك الأقربين) (الشعراء (26): 214) ورواه غير واحد من أهل السنّة وحكموا بصحّتها، راجع الغدير: 2/278 ـ 284.

العنكبوت، فقال: " يا محمّد! اقرأ: ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم * أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ )(1).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا جبرئيل! وما هذه الفتنة؟! " فقال: يا محمّد! إنّ الله يقرئك السلام، ويقول: إنّي ما أرسلت نبيّاً إلاّ أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على أُمّته من بعده من يقوم مقامه، ويحيي لهم سنّته وأحكامه، وهو يأمرك أن تنصب لأُمّتك من بعدك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتَعْهَد إليه، فهو الخيلفة القائم برعيّتك وأُمّتك إن أطاعوا وإن عصوه.. وسيفعلون ذلك، وهي الفتنة التي تلوت الآي فيها، وإنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تعلّمه جميع ما علّمك وتستحفظه جميع ما حفظك واستودعك، فإنّه الأمين المؤتمن، يا محمّد! إنّي اخترتك من عبادي نبياً واخترته لك وصيّاً ".
وكان من عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيم عليّا (عليه السلام) وينصبه للناس بالمدينة، فنزل جبرئيل فقرأ عليه ( يأَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِيْنَ )(2).
فنزل بغدير خم وصلى بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ في الموعظة، ونعى إلى الأُمّة نفسه، وقال: " قد دُعيت ويوشك أن أُجيب وقد حان منّي خفوق من بين أظهركم، وإنّي مخلف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي ; كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّهما
____________
1. العنكبوت (29) 1 ـ 4.
2. إرشاد القلوب: 328 ـ 331 ; عنه بحار الأنوار: 28/95 ـ 98. والآية في سورة المائدة (5): 67.
لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض "(1).
ودعا عليّاً (عليه السلام) ورفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يد علي اليسري بيده اليمنى ورفع صوته بالولاء لعليّ (عليه السلام) على الناس أجمعين، وفرض طاعته عليهم، وأمرهم أن لا يتخلّفوا عليه بعده، وخبّرهم أنّ ذلك عن أمر الله عزّ وجلّ(2).
ثمّ نادى بأعلى صوته: " ألستُ أولى بكم منكم بأنفسكم..؟ قالوا: اللّهمّ بلى، فقال لهم ـ على النسق من غير فصل وقد أخذ بضبعي أمير المؤمنين (عليه السلام)فرفعهما حتّى بان بياض إبطيهما ـ: " فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله "، ثمّ نزل (صلى الله عليه وآله وسلم)وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين، ثمّ زالت الشمس فأذّن مؤُذِّنه لصلاة الظهر فصلّى بهم الظهر وجلس (عليه السلام) في خيمته وأمر عليّاً (عليه السلام) أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً.. فيهنّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلّهم، ثمّ أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين، ففعلن، وكان فيمن أطنب في تهنيته بالمقام عمر بن الخطاب وأظهر له من المسرّة به: وقال فيما قال: بخ بخ لك يا علي! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(3)!.
الصحيفة الملعونة
واجتمع قوم من المنافقين وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما عرض عليهم من ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعده، فلمّا
____________
1. اتفق الفريقان على نقل حديث الثقلين، راجع عبقات الأنوار، وخلاصة العبقات ج 1 و 2.
2. إرشاد القلوب: 331 ; عنه بحار الأنوار: 28/98.
3. الإرشاد: 1/175 ـ 177 ; عنه بحار الأنوار: 21/386 ـ 388.
رجعوا من الحجّ ودخلوا المدينة كتبوا صحيفة بينهم، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنّ الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم(1)، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً أصحاب العقبة وعشرون رجلاً آخر، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة ابن الجرّاح وجعلوه أمينهم عليها.
قال حذيفة: حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعيمة امرأة أبي بكر: إنّ القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبّرونه في ذلك حتّى اجتمع رأيهم على ذلك، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم.
وأهمّ ما فيها: هذا ما اتّفق عليه الملأ من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار بعد أن أجهدوا في رأيهم، وتشاوروا في أمرهم نظراً منهم إلى الإسلام وأهله، ليقتدي بهم من يأتي بعدهم.
إنّ الله لمّا أكمل دينه قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه من غير أن يستخلف أحداً وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم، والذي يجب على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح فيتشاوروا في أُمورهم، فمن رأوه مستحقّاً للخلافة ولّوه أُمورهم.
فإن ادّعى مدّع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف رجلاً بعينه نصبه للناس ونصّ
____________
1. أقول: وهذا هو السرّ فيما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته... لو كان سالم حيّاً استخلفته. وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل أيضاً، راجع مسند أحمد: 1/18 ; الإمامة والسياسة: 1/28 ; الطبري: 4/277 ; الكامل لابن الاثير: 3/65 ; المستدرك للحاكم: 3/268 ; تاريخ الإسلام للذهبي: 3/56 و 172 ; شرح نهج البلاغة: 1/190 و 16/265 ; كنز العمّال: 5/738 و 12/675 و 13/215 ـ 216 ; العقد الفريد: 4/274 ; جامع الأحاديث: 13/369، 373، 379، 382، 399.

عليه باسمه فقد أبطل في قوله وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولا يكون قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبب استحقاق الخلافة والإمامة لأنّ الله يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )(1).
فمن كره ما ذُكر وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه كائناً من كان!!..
ثمّ دُفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح ليوجّه بها إلى مكّة(2).
ثمّ انصرفوا.. وصلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس صلاة الفجر، ثمّ جلس في مجلسه يذكر الله تعالى حتىّ طلعت الشمس، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجرّاح فقال له: " بخ بخ من مثلك وقد أصبحت أمين هذه الأُمّة! " ثمّ تلا: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ )(3) " لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الأُمة ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) "(4).
ثمّ قال: " لقد أصبح في هذه الأُمّة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية وعلّقوها في الكعبة، وإنّ الله تعالى يمتّعهم ليبتليهم ويبتلي من يأتي بعدهم تفرقة بين الخبيث والطيّب، ولو لا أنّه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقدّمتهم فضربت أعناقهم.
قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر ـ عند قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المقالة ـ وقد أخذتهم الرعدة فما يملك أحد منهم نفسه شيئاً، ولم يخفَ على أحد
____________
1. الحجرات (49): 13.
2. فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أوان عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها وهي الصحيفة التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا توفي عمر، فوقف به وهو مسجّى بثوبه، فقال: " ما أحبّ إليّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجّى ".
3. البقرة (2): 79.
4. النساء (4): 108.

ممن حضر مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك اليوم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاهم عنى بقوله ولهم ضرب تلك الأمثال(1).
أقول: وإلى هذا أشار أُبي بن كعب في كلمته المشهورة: ألا هلك أهل العقدة والله ما آسي عليهم إنّما آسي على من يضلّون(2).
____________
1. إرشاد القلوب: 333 ـ 336 عنه بحار الأنوار: 28/101 ـ 106.
2. سنن النسائي: 2/88 ; مسند أحمد: 5/140 ; المستدرك للحاكم: 2/226 (وأشار إليها في 3/305) ; الطبقات لابن سعد: 3/ ق 2/61 ; حلية الأولياء: 1/252 ; شرح نهج البلاغة: 20/24 ; النهاية لابن الاثير: 3/270.
ورواها من الإمامية: الإيضاح ص 378 ; المسترشد: 28 ـ 29 ; الفصول المختارة: 90 عنه بحار الأنوار: 10/296 ; الصراط المستقيم: 3/154 و 257 عنه بحار الأنوار: 28/122.
ثم أنك تجد في غير واحد من المصادر التصريح أو الإشارة إلى تعاهد القوم على صرف الأمر من بني هاشم إلى أنفسهم، وفي كثير منها أُشير إلى الصحيفة، راجع كتاب سليم: 86 ـ 87، 92، 118 ـ 119، 164 ـ 165، 168، 222 ـ 226 ; تفسير العياشي: 1/274 ـ 275 و 2/200 ; المسترشد: 413 ; الكافي: 1/391، 420 ـ 421 و 4/545 و 8/179 ـ 180، 334، 379 ; تفسير القمي: 1/142، 173، 175، 301 و 2/289، 308، 356، 358 ; الاستغاثة: 171 ـ 172 ; الخصال: 171 ; معاني الاخبار: 412 ; أمالي المفيد: 112 ـ 113 ; المسائل العكبرية: 77 ـ 78 ; الفصول المختارة: 90 ; تقريب المعارف: 227، 367 (تبريزيان) ; المناقب: 3/212 ـ 213 ; بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): 197 ; الاحتجاج: 62 (في ضمن خطبة الغدير) 84 ـ 86، 150 ـ 151 ; شرح نهج البلاغة: 2/37، 60 (عن الشيعة) و 20/298 ; الاقبال: 445، 458 ; اليقين: 355 ; إرشاد القلوب: 332، 336، 341، 391 ـ 392 ; الصراط المستقيم: 1/290 و 2/94 ـ 95، 300، 3/118، 150، 153 ـ 154 ; مختصر البصائر: 30 ; المقنع للسد آبادي: 58، 115 ; التحصين: 537 ـ 538 ; مثالب النواصب: 92 ـ 96 ; تأويل الآيات: 139، 214، 532، 539، 554، 646، وراجع بحار الأنوار: 22/546 و 28/85، الباب الثالث، 280 و 30/12، 122، 125، 127 ـ 133، 162، 194، 216، 264 ـ 265، 271، 405 و31/416 ـ 417، 419 و 53/75.

ويظهر من سائر الروايات أنّهم تعاقدوا قبل ذلك أيضاً في الكعبة في عدد يسير ; وهم: عمر، وأبو بكر، وأبو عبيدة، وسالم، ومعاذ بن جبل، وعبد الرّحمن بن عوف، والمغيرة بن شعبة(1)..
أقول: ويدلّك على تعاقد القوم وتدبيرهم في أمر الخلافة من قبل أُمور:
الأوّل: إحالة كل واحد من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة أمر الخلافة إلى الآخر وعرض البيعة عليه، من دون مشاورة سائر الناس، فهل يكون اتّفاق هؤلاء الثلاثة وبعض من عاونهم إجماع المسلمين؟!
وهل كانوا وكلاء المسلمين في انتخاب الخليفة؟! هل يكون اعتبار الشورى مختصاً بتشاور هؤلاء؟!
الثاني: إنكار عمر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مجيء أبي بكر لإغفال الناس عن أمر الخلافة، فما زال يتكلّم ويتوعّد المنافقين ـ بزعمه ـ، حتّى ازبدّ شدقاه(2)!!.. وسكوته بعد مجيء أبي بكر.
وفي رواية: وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه(3)، بل في غير واحد من المصادر أنه دعا إلى بيعة أبي بكر عقيب ذلك من دون فصل(4).
الثالث: مسارعة أبي بكر إلى الكلام عقيب ذكر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترشيحه نفسه لأمر الخلافة، وفي رواية إنّه قال: ألا وإنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مضى لسبيله، ولابدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبّروا وانظروا وهاتوا ما عندكم رحمكم
____________
1. راجع الكافي: 8/179 ـ 180، 334 ; الصراط المستقيم: 3/153.
2. تاريخ الخميس: 2/167 ; جامع الاحاديث الكبير: 13/260.
3. كنز العمال: 7/245.
4. الطبقات لابن سعد: 2/ ق 2/54 ; مسند أحمد: 6/220 ; أنساب الأشراف: 2/238 ; السيرة، لابن كثير: 4/480 ; تاريخ الإسلام، للذهبي: 1/564 ; نهاية الارب: 18/387 ; مجمع الزوائد: 9/32 ; كنز العمال: 7/232 ; جامع الأحاديث: 13/16.

الله(1).
الرابع: مواضع من كلام عمر حين حكاية قضايا السقيفة، مثل قوله: هيأت كلاماً(2).. أو: وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها..
وفي بعض الروايات: أُريد أن أُقدمها بين يدي أبي بكر(3).. فإنّها تدلّ على توطئتهم مسبقاً في أمر الخلافة، وتدبيرهم لها، نعم لتلبيس الأمر على الناس يقول عمر: والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته.
أو قولته المشهورة: كانت بيعة أبي بكر فلتة.
وقد صرّح عثمان ـ في أوّل مرّة صعد المنبر ـ، بأنّ أبا بكر وعمر كانا يهيّئان أنفسهما للخلافة ; قال الجاحظ وغيره: إنّ عثمان صعد المنبر فارتجّ عليه.. فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً.. سآتيكم الخطبة على وجهها!!(4).
الخامس: إنّ عمر هو الذي كان يحثّ أبا بكر أن يصعد المنبر، فلم يزل به حتّى صعد المنبر(5)، وفي رواية أنس: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً(6).. ثمّ تراه يصعد المنبر ويتكلّم قبل أبي بكر ويدعو الناس إلى
____________
1. كتاب الردّة، للواقدي: 31 ; الفتوح، لأحمد بن أعثم: 1/4 ; المواقف للإيجي، مع شرح الجرجاني: 3/575.
2. البخاري: 4/194 ; الطبقات: 2/ ق 2/55.
3. مسند أحمد: 1/56 ; البخاري: 8/27 ; السنن الكبرى، للبيهقي: 8/142 ; العقد الفريد: 4/258 (ط مصر) ; البداية والنهاية: 5/266 ; كنز العمال: 5/645.
4. أنساب الأشراف: 6/131 (ط دار الفكر) ; البيان والتبين للجاحظ: 1/345 (ط دار الكفر) ; شرح نهج البلاغة: 13/13 ; بحار الأنوار: 31/245.
5. البخاري: 8/126 ; سيرة ابن كثير: 4/492 ; البداية و النهاية: 5/268.
6. المغازي، للواقدي: 135 ; الآحاد والمثاني: 1/77 ; المصنف لعبد الرزّاق: 5/438.

مبايعته(1)، بل صرّح أبو بكر بذلك حينما قال لعمر: أنت كلّفتني هذا الأمر(2).
السادس: تولّى عمر جميع الأُمور زمن خلافة أبي بكر، قال ابن عبد ربّه: وكان على أمره كلّه وعلى القضاء عمر بن الخطّاب(3).
بل خالفه في غير واحد من القضايا، فلم يجترئ أبو بكر أن يدافع عن نفسه ويردّ حكم عمر، فلمّا قيل له: أنت الخليفة أم عمر؟!
أجاب: بل عمر.. ولكنّه أبى!!
وفي رواية: بل هو إن شاء.
وفي اُخرى: بل هو ولو شاء كان.
وفي غيرها: الأمير عمر غير أنّ الطاعة لي!!
أو: إنّا لانجيز إلاّ ما أجازه عمر(4).
السابع: ولعلّه أهمّها ما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته..! لو كان سالم حيّاً استخلفته..! وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل(5)!
____________
1. البداية والنهاية: 5/268 ; كنز العمال: 5/600 ـ 601.
2. جامع الأحاديث: 13/100.
3. العقد الفريد: 4/255.
4. راجع كنز العمال: 1/315 و 3/914 و 12/546، 582 ـ 583 ; جامع الأحاديث: 13/60، 153، وقريب منه في: 13/175، 273.
5. تقدّمت مصادره قريباً.
التخلف عن بيعة أبي بكر والإنكار عليه
لقد حاول جمع كثير من العامة كتمان تخلّف من تخلّف عن بيعة أبي بكر وإثبات إجماع المسلمين عليها ورضاهم بها، إذ تبتني مشروعية خلافته بهذا الإجماع عندهم، لادّعائهم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تجتمع أُمّتي على الضلال. ولذلك اضطروا إلى القول بأنّه: ما خالف على أبي بكر أحد إلاّ مرتدّ أو من كان قد ارتدّ!!(5).
____________
1. شرح نهج البلاغة: 6/40.
2. تثيبت الإمامة: 13 (ط بيروت).
3. مثالب النواصب: 130.
4. البخاري: 4/193 ـ 195.
5. الطبري: 3/207 ; بل هذا هو السرّ في نسبة الارتداد إلى مالك بن نويرة، والمقام لا يسع التفصيل، راجع بحار الأنوار: 30/471 ـ 495.

والمتتبِّع في كتب أهل السنّة يجدها مشحونة بذكر تخلّف وجوه الأصحاب وعدم رضاهم بالبيعة.
روى البخاري ومسلم والطبري وغيرهم أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبنو هاشم جميعاً لم يبايعوا أبا بكر في حياة فاطمة (عليها السلام)(1).. أي ستّة أشهر على رواياتهم.
قال المقدسي: ولم يبايع علي (عليه السلام) أبا بكر مالم يدفن فاطمة (عليها السلام)، وذكر ابن دأب(2) : أنها ماتت عاتبة على أبي بكر وعمر(3).
قال المسعودي: لمّا بُويع أبو بكر في يوم السقيفة وجدّدت البيعة له يوم الثلاثاء على العامّة، خرج عليٌّ (عليه السلام) فقال: " افسدتَ علينا أُمورنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقّاً؟! فقال أبو بكر: بلى، ولكنّي خشيت الفتنة(4). وكان للمهاجرين
____________
1. راجع البخاري: 5/82 ـ 83 ; مسلم: 5/153 ـ 154 ; السنن للبيهقي: 6/300 ; الطبري: 3/208 ; الكامل لابن الأثير: 2/331 ; كفاية الطالب: 370 ; السيرة الحلبية: 3/360 ; شرح مسلم للنووي: 12/77 ; تاريخ الخميس: 2/174 ; المصنف، لعبد الرزّاق: 5/472 ; الرياض النضرة: 1/243 ; الصواعق المحرقة: 15 ; شرح نهج البلاغة: 6/46. وذكر تخلّفه (عليه السلام) في غير هذه الرواية أيضاً راجع المختصر في تاريخ البشر: 1/156 ; النهاية لابن الأثير: 2/68 ; الطبري: 3/205 ; نور الأبصار: 60 ; الكامل لأبن الأثير: 2/325 ; تتمة المختصر: 1/215، 249 ; البداية والنهاية: 5/307 ; صفوة الصفوة: 1/254 ; كتاب الردّة للواقدي: 47 ; الثقات لابن حبان: 2 / 161 ; السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، له: 426 ; تاريخ العيقوبي: 2/126 ; العقد الفريد: 4/260 ; نهاية الإرب: 19/40 ; السيرة النبوية لابن هشام: 4/308 ـ 310 ; سمط النجوم العوالي: 2/247، 251.
2. ابن دأب: عيسى بن يزيد بن دأب، راوية وخطيب وشاعر، توفي سنة 171، انظر الاعلام: 5/111.
3. البدء والتاريخ: 5/20.
4. وأشارت إليه السيدة فاطمة (عليها السلام) في الخطبة فقالت: وإنّما زعمتم ذلك خوف الفتنة، (ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، شرح نهج البلاغة: 16/251.



يتبع

الشيخ عباس محمد
10-01-2018, 08:11 PM
والأنصار يوم السقيفة خطب طويل ومجاذبة في الإمامة، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع، ولم يبايعه أحدمن بني هاشم حتّى ماتت فاطمة (عليها السلام)(1).
وقال اليعقوبي: جاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم..! بويع أبو بكر! فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه، ونحن أولى بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال العباس: فعلوها، وربّ الكعبة.
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي (عليه السلام)، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، انّه ما حقّت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم.
وقام عتبة بن أبي لهب فقال:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس ايماناً وسابقة وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً بالنبي، ومن جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به وليس في القوم ما فيه من الحسن(2)
____________
1. مروج الذهب: 2/301.
2. اليعقوبي: 2/124، وفي رواية: خرج العباس الى المسجد وقد اجتمعوا فيه، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد هذه الأشعار كما في مثالب النواصب: 131. ونقل الأبيات عن عتبة أيضاً في المختصر في تاريخ البشر: 1/156 وتتمة المختصر: 2/215، ونسبها في غير واحد من المصادر إلى غيره راجع شرح نهج البلاغة: 6/21 و 13/232 ; فرائد السمطين: 2/82 ; كتاب سليم: 78 ; كنز الفوائد: 1/266 ـ 267 ; الارشاد: 1/32 ; الجمل: 118 ; الفصول المختارة: 268 ; إعلام الورى: 184 ; روضة الواعظين: 87 ; كشف الغمة: 1/67 ; الصراط المستقيم: 1/205، 236 ـ 237 ; قصص الأنبياء للجزائري: 194 ; المقنع للسدآبادي: 129، وذكر في المقنع: 120 ـ 131، أشعاراً لعدّة من المخالفين للبيعة فراجع.

وروى الزبير بن بكار عن محمّد بن اسحاق انه قال: إن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرّة!!
قال: وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال الفضل بن العباس: يا معشر قريش! وخصوصاً يا بني تيم! إنّكم إنّما اخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم، ولو طالبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا حسداً منهم لنا وحقداً علينا، وإنّا لنعلم إنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه(1).
وروى أيضاً الزبير بن بكار ضمن رواية: قال زيد بن أرقم: إنا لنعلم إنّ من قريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد.. علي بن أبي طالب (عليه السلام)(2).
وذكر الواقدي أن زيد بن أرقم قال ـ عقيب بيعة السقيفة لعبد الرّحمن بن عوف ـ: يا ابن عوف! لولا أن علي بن أبي طالب وغيره من بني هاشم اشتغلوا بدفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبحزنهم عليه فجلسوا في منازلهم ما طمع فيها من طمع!!(3).
قال اليعقوبي: وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبيّ ابن كعب..(4)
____________
1. شرح نهج البلاغة: 6/21.
2. شرح نهج البلاغة: 6/20، ونسب اليعقوبي هذا الكلام إلى المنذر بن أرقم، انظر اليعقوبي: 2/123.
3. كتاب الردّة للواقدي: 45 ; الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي: 1/12.
4. اليعقوبي: 2 / 124 ; المختصر في تاريخ البشر: 1 / 156 ; تتمة المختصر: 1 / 215 وراجع أيضاً: أنساب الأشراف: 1 / 588 (270 ـ 271 ط دار الفكر) البدء والتاريخ: 5 / 95 ; الطبري: 3 / 387 ـ 388 ; السيرة النبوية: 4 / 656 (ط دار المعرفة) ; العقد الفريد: 4 / 259 ; أسد الغابة: 1 / 37 و 3/222 ; تاريخ الخميس: 2 / 169 ; نهاية الأرب: 19 / 39 ـ 40 ; أخبار الموفقيات: ص 590 (تخلف غير واحد منهم).

وغيرهم(1).
بل يظهر من عبارة بعض أهل السنة تخلف جمع كثير، قال ابن عبد البرّ: وتخلف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش.. ثم ذكر علياً (عليه السلام) والزبير وطلحة وخالد بن سعيد..(2).
وقال محب الدين الطبري: وتخلّف... سعد بن عبادة في طائفة من الخزرج وعلي بن أبي طالب وابناه (عليهم السلام) وبنو هاشم والزبير وطلحة وسلمان وعمار وأبوذر والمقداد وغيرهم من المهاجرين، وخالد بن سعيد بن العاص(3).
وقال محمّد أبو الفضل محمّد ـ من أعلام أهل السنة في القرن الثامن والتاسع ـ: إنّ علياً (عليه السلام) كان في غاية الشجاعة ومعه فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)وكثير من أكابر الصحابة، حتى روي عنهم أنّه اجتمع عنده سبعمائة من الأكابر مريدين إمامته.. إلى أن قال: أجاب الشيعة: بأنه وان كان معه سبعمائة لكن جميع عوام الصحابة مع أبي بكر، وكانوا أكثر من ثلاثين ألفاً فأين القدرة..؟!(4).
ثم إنّ اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدّمه على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)(5).
____________
1. تجد تخلف سعد بن عبادة، وأبي سفيان وأبان بن سعيد وغيرهم في غير واحد من كتب الفريقين بل في كتب الشيعة ذكروا جمعاً كثيراً منهم، راجع عيون اخبار الرضا (عليه السلام): 2/126 ; عنه بحار الأنوار: 10/358، مثالب النواصب: 127 ـ 128 تحفة الأبرار: 261 ـ 262 ; الكشكول للآملي: 138 ـ 140.
2. الاستيعاب: 3/937، (ط دار الجيل).
3. الرياض النضرة: 1/241.
4. قاموس البحرين: 337 (نشر ميراث مكتوب).
5. ذكر غير واحد من مؤلّفينا إنكار عدّة من الأصحاب على أبي بكر، ونقله السيد ابن طاووس (رحمه الله) عن بعض علماء السنّة وقال: روته الشيعة متواترين. والظاهر وقوع هذا الإنكار والاحتجاج بعد الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)، إذ ورد في بعض رواياته إشارة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى إخراجه ملبّباً. ونحن نذكر تلفيقاً من الروايات في ذلك عن مولانا الصادق (عليه السلام)وعن زيد بن وهب ونعتذر عن عدم إيراد كلمات المنكرين واحتجاجاتهم، إذ لا نريد أن يملّ القارئ العزيز بطولها، فمن أراد الوقوف عليها يراجع المصادر الآتية.

من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص(1)، والمقداد بن الأسود، وأُبيّ بن كعب، وعمّار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود(2)، وبريدة الأسلمي.
ومن الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان، وغيرهم(3).
فلمّا صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلاّ نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقد قال الله عزّ وجلّ: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(4) ولكن امضوا بنا إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نستشيره ونستطلع أمره، فأتوا عليّاً (عليه السلام)، فقالوا: يا أمير المؤمنين! ضيّعت نفسك.. وتركت حقّاً أنت أولى به..! وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ الحقّ حقّك وأنت أولى بالأمر منه، لأنّا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يميل مع الحقّ كيف مال " فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.
فقال لهم علي (عليه السلام): " لو فعلتم ذلك ما كنتم إلاّ حرباً لهم، ولا كنتم إلاّ كالكحل في العين، أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأُمّة التاركة لقول نبيّها،
____________
1. وذكر في كتاب اليقين بدل خالد أخاه عمرو.
2. وفي الاحتجاج عثمان بن حنيف بدل ابن مسعود وفي رجال البرقي قيس بن سعد.
3. وروي أنّهم كانوا غيباً عن وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقدموا وقد تولّى أبو بكر وهم يومئذ أعلام مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
4. البقرة (2): 195.

والكاذبة على ربّها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلاّ السكوت لما يعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم لله عزّ وجلّ ولأهل بيت نبيّه..، وإنّهم يطالبون بثارات الجاهليّة، والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدّين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتّى قهروني وغلبوني على نفسي ولبّبوني وقالوا لي: بايع وإلاّ قتلناك!! فلم أجد حيلة إلاّ أنّ أدفع القوم عن نفسي، وذاك أنّي ذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عليّ! إنّ القوم نقضوا أمرك، واستبدّوا بها دونك وعصوني فيك، فعليك بالصبر حتّى ينزل الله الأمر، وإنّهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي.. كذلك أخبرني جبرئيل (عليه السلام) من ربّي تبارك وتعالى ".
وفي رواية: " وإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى، وإنّ الأُمّة من بعدي بمنزلة هارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه، فقلت: يا رسول الله! فما تعهد إليّ إذا كان ذلك؟ فقال: إن وجدتَ أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم وإن لم تجد أعواناً كفّ يدك واحقن حتّى تلحق بي مظلوماً.. " " ولمّا تُوفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ثمّ آليت يميناً أن لا أرتدي إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن ففعلت، ثمّ أخذت بيد فاطمة وابنيّ الحسن والحسين (عليهما السلام) فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقّي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط، منهم: سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر.. فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرّفوه ما سمعتم من قول رسولكم (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا تدعوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أوكد للحجّة وأبلغ للعذر وأبعد لهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا وردوا عليه.
فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وكان يوم الجمعة ـ، فلمّا صعد أبو بكر قاموا وتكلّموا ببيانات شافية وافية، فأوّل من تكلّم كان خالد بن سعيد بن العاص وقال: اتّق الله يا أبا بكر! فقد علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال

ـ ونحن محتوشوه يوم قريظة، حين فتح الله له وقد قَتَل علي (عليه السلام) يومئذ عدّة من صناديد رجالهم وأُولي البأس والنجدة منهم ـ: " يا معاشر المهاجرين والأنصار! إنّي موصّيكم بوصية فاحفظوها، ومودّعكم أمراً فاحفظوه، ألا إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) أميركم بعدي وخليفتي فيكم، بذلك أوصاني ربّي، ألا وإنّكم إن لم تحفظوا فيه وصيّتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم، واضطرب عليكم أمر دينكم، ووليكم شراركم، ألا إنّ أهل بيتي هم الوارثون لأمري، والعالمون بأمر أُمّتي من بعدي، اللّهمّ من أطاعهم من أُمّتي وحفظ فيهم وصيّتي فاحشرهم في زمرتي، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي، يدركون به نور الآخرة، اللّهمّ ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها كعرض السماء والأرض ".
فقال له عمر بن الخطّاب: اسكت يا خالد! فلست من أهل المشورة ولا ممن يقتدى برأيه، فقال خالد: اسكت ـ يا ابن الخطاب! ـ فإنّك تنطق عن لسان غيرك، وأيم الله لقد عَلمَتْ قريش إنّك من ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، وأخسّها قدراً، واخملها ذكراً، وأقلّهم غناءً عن الله ورسوله، وإنّك لجبان في الحروب، بخيل بالمال، لئيم العنصر، ما لك في قريش من فخر ولا في الحروب من ذكر، وانّك في هذا الأمر بمنزلة ( الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ * فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ )(1).
فأبلس عمر، وجلس خالد بن سعيد.
ثم احتجّ عليه بقية المهاجرين والأنصار..
قال الصادق (عليه السلام): " فأُفحم أبو بكر على المنبر حتّى لم يُحر جواباً، ثمّ قال: ولّيتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني. فقال عمر بن الخطاب: انزل عنها ـ يا
____________
1. الحشر (59): 16 ـ 17.

لكع! ـ إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لِمَ أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ".
" فنزل ثمّ أخذ بيده وانطلق إلى منزله ـ وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل وقال لهم: ما جلوسكم؟ فقد طمع فيها ـ والله ـ بنو هاشم.. وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل.. وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل.. فما زال يجتمع رجل رجل حتّى اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عمر: والله يا صحابة عليّ! لئن ذهب الرجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه. فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص... [وجرى بينهما كلام]، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " اجلس ـ يا خالد ـ فقد عرف الله مقامك وشكر لك سعيك "، فجلس، وقام إليه سلمان الفارسي... [فتكلّم]، فهمّ به عمر بن الخطاب فوثب إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثمّ جلد به الأرض، ثمّ قال: " يا ابن صهاك الحبشية! لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدّم لأريتك أيّنا أضعف ناصراً وأقلّ عدداً "، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: " انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلاّ كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: [فـ] ( إِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ )(1)، والله لا أدخل إلاّ لزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لقضية أقضيها فإنّه لا يجوز لحجّة أقامه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يترك الناس في حيرة "(2).
____________
1. المائدة (5): 24.
2. راجع رجال البرقي: 63 ـ 66 ; الخصال: 461 ـ 465، عنه بحار الأنوار: 28/208 ـ 214 ; الاحتجاج: 75 ـ 80، عنه بحار الأنوار: 28/189 ـ 203 ; اليقين: 235 ـ 242، عنه بحار الأنوار: 28/214 ـ 219 ; إبطال الاختيار للحسين بن جبر، عنه الصراط المستقيم: 2/79 ـ 84 ; وحفيده علي بن جبر (ق7) في نهج الإيمان: 578 ـ 589، وقال: ذلك بينهم معروف مشهور لا خفاء به ولا تناكر فيه ; حقائق المعرفة، لأحمد بن سليمان اليمني الزيدي (المتوفّى 566)، عنه أنوار اليقين: 386 ـ 388، وشفاء صدور النّاس: 481 ـ 484 ; بهجة المباهج: 264 ـ 271، عن الصفواني (القرن الرابع)، الدر النظيم: 441 ـ 447، وأشار إلى احتجاجهم الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإفصاح: 48، والهادي الزيدي في تثبيت الإمامة: 14 ـ 15، ورواه مختصراً في مثالب النواصب: 127، ونقل عن ابن أبي جمهور الأحسائي شهرته، راجع مجالس المؤمنين: 1/858.

تدبير لم يتمّ!
روى الجوهري عن جرير بن المغيرة: إنّ سلمان والزبير والأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليّاً (عليه السلام)(1).
وروى ابن أبي الحديد عن الزبير بن بكّار: لمّا بويع أبو بكر واستقرّ أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهتفوا باسمه وأنّه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون وكثر في ذلك الكلام(2).
وفي رواية أُخرى عنه بعد ذكر البيعة لأبي بكر يوم الوفاة: فلمّا كان آخر النهار افترقوا إلى منازلهم فاجتمع قوم من الأنصار وقوم من المهاجرين فتعاتبوا فيما بينهم..(3).
ويظهر من رواية البراء بن عازب أيضاً أنّ جماعة من الأصحاب اجتمعوا في تلك الليلّة ـ أي الليلة الأُولى من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وتكلّموا حول مسألة الخلافة، وأرادوا الوقوف امام دسيسة القوم وابطال مخططهم في البيعة لابي بكر،
____________
1. شرح نهج البلاغة: 2/49 و 6/43، وراجع أيضاً ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة النعمان بن عجلان الزرقي واشعاره في السقيفة، وأشار إلى بعضها في شرح نهج البلاغة: 16/174.
2. شرح نهج البلاغة: 6/23.
3. شرح نهج البلاغة: 6/19 ـ 20.
تفصيل قضيّة الهجوم
.
الهجوم الأوّل
لما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام في منزله بما عهد إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، واجتمع إليه جماعة من بني هاشم والأصحاب من المهاجرين والأنصار(2) ـ كالعبّاس(3)، والزبير(4)، والمقداد(5)، وطلحة(6)، وسعد بن أبي وقّاص(7) ـ فإنّهم غضبوا من بيعة أبي بكر(8)، وأرادوا التحيّز عنه
____________
1. اثبات الوصيّة: 145 ـ 146.
2. راجع الطبري: 3/202 ; اليعقوبي: 2/126 ; نهج الحق: 271.
3. العقد الفريد: 4/259.
4. الطبري: 3/202، وذكره كثير من أرباب السيرة.
5. شرح نهج البلاغة: 2/56.
6. الطبري: 3/202 ; الكامل لابن الأثير: 2/325 ; وذكر هؤلاء الأربعة فى السيرة الحلبية: 3/360.
7. شرح نهج البلاغة: 2/56.
8. الرياض النضرة: 1/241 ; تاريخ الخميس: 2/169.

وإظهار الخلاف عليه(1)، وأن يبايعوا أمير المؤمنين (عليه السلام)(2). وقد أشار إلى ذلك معاوية في كتابه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: وما يوم المسلمين منك بواحد، لقد حسدت أبا بكر..! والتويت عليه، ورمت إفساد أمره، وقعدت في بيتك عنه، واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخروا عن بيعته(3)..
فذهب إليهم عمر في جماعة ممن بايع فيهم أسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة فألفوهم مجتمعين، فقالوا لهم: بايعوا أبا بكر! فقد بايعه النّاس! فوثب الزبير إلى سيفه، فقال عمر: عليكم بالكلب فاكفونا شرّه.. فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السيف من يده، فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره(4)، وأحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر، فلمّا حضروا قالوا: بايعوا أبا بكر! فقد بايعه الناس، وأيم الله لئن أبيتم ذلك لنحاكمنّكم بالسيف.. فلمّا رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع(5)، حتّى لم يبق ممن حضر إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: بايع أبا بكر، فقال علي (عليه السلام): " أنا أحقّ بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم
____________
1. الجمل: 117.
2. شرح نهج البلاغة: 2/56.
3. شرح نهج البلاغة: 15/186.
4. أقول: إخراج الزبير وكسر سيفه إنّما كان في الهجوم الثاني الذي وقع قبل الهجوم الثالث بلحظات يسيرة، راجع الطبري: 3/203 ; الكامل لابن الأثير: 2/325 ; شرح نهج البلاغة: 2/45، 50، 56 و 6/47 ـ 48 ; المسترشد: 378، وأمّا في الهجوم الأوّل فقد صرّحوا بعدم مبايعة أمير المؤمنين (عليه السلام)بل قال (عليه السلام) في جواب عمر: " إذن والله لا أقبل قولك ولا أُبايعه "، وورد في غير هذه الرواية أيضاً سكوتهم عنه (عليه السلام) حينذاك. راجع مصادر الرواية في الهجوم الأوّل، والإيضاح: 367 ; المسترشد: 381. والمتحصّل من ذلك كلّه: أنّ ذكر إخراج الزبير وكسر سيفه هنا وهم صدر من الرواة بسبب الخلط بين الهجوم الأول والثاني.
5. لم يذكر ابن أبي الحديد مبايعة بني هاشم لأبي بكر هنا ويعضده ما ذكروه من عدم مبايعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبني هاشم بأجمعهم في حياة فاطمة (عليها السلام) وقد مرّ قريباً.

بالقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً؟! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطوكم المقادة، وسلّموا لكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيّاً وميّتاً. (وأنا وصيّه ووزيره، ومستودع سرّه وعلمه، وأنا الصدِّيق الأكبر، أوّل من آمن به وصدّقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنّة، وأفقهكم في الدِّين، وأعلمكم بعواقب الأُمور، وأذربكم لساناً، وأثبتكم جناناً، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر..؟!)(1) أنصفونا ـ إن كنتم تخافون الله - من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم، وإلاّ فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون..
(فقال عمر: أما لك بأهل بيتك أُسوة..؟! فقال علي (عليه السلام): " سلوهم عن ذلك.. "، فابتدر القوم الذين بايعوا من بني هاشم، فقالوا: ما بيعتنا بحجّة على علي (عليه السلام).. ومعاذ الله أن نقول أنّا نوازيه في الهجرة وحسن الجهاد، والمحل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))(2) فقال عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع طوعاً أو كرهاً. فقال علي (عليه السلام): " احلب حلباً لك شطره، اشدد له اليوم ليردّ عليك غداً، إذاً والله لا أقبل قولك، ولا أحفل بمقامك.. ولا أُبايع "، فقال أبو بكر: مهلاً يا أبا الحسن! ما نشدّد عليك ولا نكرهك. فقام أبو عبيدة إلى علي فقال: يا ابن عم! لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ولكنّك حدث السنّ ـ وكان لعليٍّ (عليه السلام)يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ـ وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك(3)، وهو أحمل لثقل هذا الأمر، وقد مضى الأمر بما فيه، فسلِّم له، فإن عمّرك الله لسلّموا هذا الأمر
____________
1 و 2. ما بين القوسين لا يوجد في شرح نهج البلاغة و الامامة والسياسة.
3. ذكره ابن قتيبة وابن أبي الحديد هكذا: هؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور..!). وفي هذا الكلام إشارة إلى حكومة " الحزب " دون شخص أبي بكر، فتدبّره.
________________________________________
إليك، ولا يختلف عليك اثنان بعد هذا إلاّ وأنت به خليق وله حقيق... (ولا تبعث الفتنة قبل أوان الفتنة، قد عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك)(1).
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " يا معاشر المهاجرين والأنصار! الله الله (لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري و)(2) لا تخرجوا سلطان محمّد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم وتدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في الناس، يا معاشر الجمع! (إنّ الله قضى وحكم ونبيّه أعلم وأنتم تعلمون)(3) إنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، أما كان منّا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرعية؟ والله إنّه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعداً، وتفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم. فقال بشير بن سعد الأنصاري ـ (الذي وطّأ الأمر لأبي بكر ـ وقالت جماعة الأنصار)(4) : يا أبا الحسن! لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك قبل الانضمام لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان (.. فقال علي (عليه السلام): " يا هؤلاء أكنتُ أدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجّى لا أُواريه وأخرج أُنازع في سلطانه؟!! ")(5).
وفي رواية: " لَبيعتي كانت قبل بيعة أبي بكر، شهدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر الله بها، أو ليس قد بايعني؟!... فما بالهما يدّعيان ما ليس لهما وليسا بأهله "(6).
(" والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك يوم غدير خم لأحد حجّة، ولا لقائل مقالاً، فأُنشد الله رجلاً سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم يقول: " من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره،
____________
1 ـ 4. ما بين القوسين لا يوجد في شرح نهج البلاغة والامامة والسياسة.
5. ما بين القوسين لا يوجد في شرح نهج البلاغة.
6. مثالب النواصب: 139.

واخذل من خذله ".. أن يشهد بما سمع ".
قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك، وكنت ممن سمع القول من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكتمت الشهادة يومئذ فذهب بصري.
قال: وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشى عمر أن يصغى ألى قول علي (عليه السلام) ففسخ المجلس وقال: إنّ الله تعالى يقلّب القلوب والأبصار، ولا يزال ـ يا أبا الحسن ـ ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك)(1).
اشتغال أمير المؤمنين (عليه السلام) بجمع القرآن
فجلس أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيته، واشتغل بجمع القرآن ـ كما أوصاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ من يومه ذلك ـ وهو اليوم الثالث من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي يوم الأربعاء(2) ـ فأكثر الناس في تخلّفه عن بيعة أبي بكر، واشتدّ أبو بكر وعمر
____________
1. الاحتجاج: 73 ـ 75، عنه بحار الأنوار: 28/183 ـ 188 ; الإمامة والسياسة: 1/18 ـ 19 ; مثالب النواصب: 138 ـ 139 ; شرح نهج البلاغة: 6/11 ـ 12. وجعلنا علامة () رمزاً للمواضع المحذوفة في الإمامة والسياسة وشرح نهج البلاغة: وبعد التأمل تجد ما حذف نصّاً على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)ووصايته، ولا يجديهم ما دلّسوه مع قولهم عنه (عليه السلام): وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً. وقوله: فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون؟
ثمّ ذكر بعض ما وقع في هذا المجلس في كتاب الردّة للواقدي: 46 ـ 47 ; الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي: 1/13 ـ 14 ; روضة الصفا: 2/595 ـ 597 ; حبيب السير: 1/447 ; المسترشد: 374 ـ 376 (عن مولانا أبي جعفر الباقر (عليه السلام)) ; أنوار اليقين، للحسيني الزيدي: 380، شفاء صدور الناس: 478 ـ 479 ; التاريخ السياسي والحضاري، للسيّد عبد العزيز سالم: 177 ; تاريخ الدولة العربية: 161 ; دائرة المعارف، محمّد فريد وجدي: 3/758 ـ 759.
2. أقول: بناءً على أنّ الدفن كان في ليلة الأربعاء ـ كما ورد في غير واحد من روايات الفريقين ـ فلا شكّ في كون يوم الأربعاء الأول من أيام جمع القرآن، هذا من حيث المبدأ. اما تاريخ الفراغ ; فالذي يظهر من رواية الفرات الكوفي في تفسيره بسنده عن مولانا أبي جعفر (عليه السلام)ومما ذكره ابن النديم في الفهرست أنه فرغ بعد ثلاثة أيام، راجع تفسير الفرات: 398 ـ 399 ; عنه بحار الأنوار: 23/249 ; الفهرست: 30 ولكن ورد في الروايات عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)عن آبائه (عليهم السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)خطب خطبة (الوسيلة) بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعة أيام، وفي بعض النسخ بتسعة أيام، وذلك حين فرغ من جمع القرآن. الكافي: 8/17 ; التوحيد: 73 ; أمالي الصدوق: 320 ; أمالي الطوسي: 1/263، عنه بحار الأنوار: 4/221 و 77/382.

عليه في ذلك فخرجت أُمّ مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر وقالت:
كانت أُمور وأنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب(1)


يتبع

الشيخ عباس محمد
10-01-2018, 08:12 PM
قالوا: وكان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي (عليه السلام)فيتشاورون ويتراجعون أُمورهم، فجاء عمر وكلّم فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحلف لها وقال: إن اجتمع هؤلاء النفر عندكم آمر بإحراق البيت عليهم(2).. وفي رواية: أن يهدم البيت عليهم..(3).
فوقفت فاطمة (عليها السلام) على بابها فقالت: " لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً "(4)(5).
وفي رواية: ".. وقطعتم أمركم فيما بينكم فلم تؤمرونا ولم تروا لنا حقّنا، كأنّكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيّكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة "(6).
____________
1. شرح نهج البلاغة: 2/50 و 6/46.
2. المصنف لابن أبي شيبة: 14/267.
3. الجواب الحاسم، طبع مع المغني، للقاضي الأسد آبادي: 20/ ق 2/269.
4. خ. ل: لم تشاورونا ولم تروا لنا حقّاً.
5. الإمامة والسياسة: 1/19.
6. الاحتجاج: 80 عنه بحار الأنوار: 28/204.
________________________________________
المراجعات مع أمير المؤمنين (عليه السلام)
ثم إن عمر أتى أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة(1)؟ فإنّ الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر(2)..!
وفي رواية سلمان: أرسل إلى علي فليبايع، فإنّا لسنا في شيء حتّى يبايع.. ولو قد بايع أمنّاه(3).
وفي رواية: يا هذا! ليس في يديك شيء منه مالم يبايعك علي، فابعث إليه حتّى يأتيك فيبايعك، فإنّما هؤلاء رعاع.. فبعث إليه قنفذاً فقال له: اذهب فقل لعليٍّ: أجب خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذهب قنفذ فما لبث أن رجع فقال لأبي بكر: قال لك: " ما خلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحداً غيري(4)، لسريع ما كذبتم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "(5).
وفي رواية ابن عباس: قال علي (عليه السلام): " ما أسرع ما كذبتم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وارتددتم، والله ما استخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غيري، فارجع ـ يا قنفذ ـ فإنّما أنت رسول، فقل له: قال لك علي (عليه السلام): " والله ما استخلفك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّك لتعلم مَنْ خليفة رسول الله "، فأقبل قنفذ إلى أبي بكر فبلّغه الرسالة فقال أبو بكر: صدق علي..! ما استخلفني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(6).
وفي رواية اُخرى: لمّا جاء قنفذ قال لفاطمة (عليها السلام): أنا قنفذ رسول أبي بكر ابن أبي قحافة خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قولي لعليّ: يدعوك خليفة رسول الله..!
____________
1. الإمامة والسياسة: 1/19.
2. كتاب سليم: 249.
3. كتاب سليم: 82.
4. تفسير العياشي: 2/66 ـ 67 ; الاختصاص: 185 ـ 186.
5. الإمامة والسياسة: 1/19.
6. كتاب سليم: 249 عنه بحار الأنوار: 28/297.
________________________________________
قال علي (عليه السلام): " قولي: ما أسرع ما ادّعيت ما لم تكن بالأمس، حين خاطبت الأنصار في ظلّة بني ساعدة ودعوت صاحبيك عمر وأبا عبيدة ". فقالت فاطمة ذلك. فرجع قنفذ، فقال عمر: ارجع إليه فقل: خليفة المسلمين يدعوك.
فردّ قنفذ إلى عليّ فأدّى الرسالة، فقال علي (عليه السلام): " من استخلف متسخلَفاً فهو دون من استخلفه، وليس للمستخلَف أن يتأمّر على المستخلِف.. " فلم يسمع له ولم يطع(1).
فبكي أبو بكر طويلاً(2). فغضب عمر ووثب وقام، وقال: ألا تضمّ هذا المتخلّف عنك بالبيعة..؟! فقال أبو بكر: اجلس، ثم قال لقنفذ: اذهب إليه فقل له: أجب أمير المؤمنين أبا بكر.. فأقبل قنفذ حتّى دخل على علي (عليه السلام) فأبلغه الرسالة، فقال: " كذب والله! انطلق إليه فقل له: لقد تسمّيت باسم ليس لك، فقد علمت أنّ أمير المؤمنين غيرك.. " فرجع قفنذ فأخبرهما(3).
وفي رواية سلمان عنه (عليه السلام): " سبحان الله! ما والله طال العهد فينسى، والله إنّه ليعلم إنّ هذا الاسم لا يصلح إلاّ لي، ولقد أمّره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو سابع سبعة ـ فسلّموا عليّ بإمره المؤمنين، فاستفهم هو وصاحبه من بين السبعة، فقالا: أمر من الله ورسوله، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " نعم حقّاً من الله ورسوله إنّه أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وصاحب لواء الغرّ المحجّلين، يقعده الله عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءَه الجنّة وأعداءه النار "(4).
____________
1. الكشكول، للسيد حيدر الآملي: 83 ـ 84.
2. الإمامة والسياسة: 1/19.
3. كتاب سليم:ص 249 عنه بحار الأنوار: 28/297.
4. كتاب سليم: 82.

فوثب عمر غضبان فقال: والله إنّي لعارف بسخفه..! وضعف رأيه..! وإنّه لا يستقيم لنا أمر حتّى نقتله.. فخلّني آتيك برأسه، فقال أبو بكر: اجلس! فأبى، فأقسم عليه فجلس، ثمّ قال: يا قنفذ! انطلق فقل له: أجب أبا بكر.. فأقبل قنفذ فقال: يا علي! أجب أبا بكر، فقال علي (عليه السلام): " إنّي لفي شغل عنه، وما كنت ُ بالذي أترك وصيّة خليلي وأخي وأنطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور "(1).
وفي رواية: قال أبو بكر: ارجع إليه فقل: أجب! فإنّ الناس قد أجمعوا على بيعتهم إيّاه، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش، وإنّما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم، وذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع، فقال: قال لك: " إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي وأوصاني إذا واريته في حفرته: أن لا أخرج من بيتي حتّى أُؤلف كتاب الله فإنّه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل "(2).
أقول: يستفاد من ظاهر بعض الروايات وقوع الهجوم الأخير في هذا اليوم، لذكره عقيب هذه المراسلات، كما يظهر من كلام المسعودي، ولكن روى سليم عن سلمان أنّ إرسالهم كان بعد عرض القرآن عليهم قال سلمان:
لما بعث إليه علي (عليه السلام): " إني مشغول وقد آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه.. " سكتوا عنه أياماً، فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنادى علي (عليه السلام) بأعلى صوته: " أيّها الناس! إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مشغولاً بغسله، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب
____________
1. كتاب سليم: 249، عنه بحار الأنوار: 28/297.
2. تفسير العياشي: 2/66 ـ 67 ; الاختصاص: 186.

الواحد، فلم ينزل الله على رسول آية منه إلاّ وقد جمعتها، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلّمني تأويلها.. ".
ثم قال علي (عليه السلام): " لئلا تقولوا غداً إنّا كنا عن هذا غافلين، لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكم إلى نصرتي.. ولم أُذكّركم حقّي.. ولم أدعُكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ".
فقال له عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه!
ثم دخل علي (عليه السلام) بيته(1). ثم ذكر مراودات القوم معه كما مرّ.. وقال: فسكتوا عنه يومهم ذلك.
الاستنصار
قال سلمان: فلمّا كان الليل حمل علي (عليه السلام)، فاطمة (عليها السلام) على حمار، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أتاه في منزله، فناشدهم الله حقّه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل غيرنا أربعة، فإنّا حلقنا رؤوسنا، وبذلنا له نصرتنا، فلما أن رأى علي (عليه السلام) خذلان الناس إيّاه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته(2).
وفي رواية ابن قتيبة: خرج علي (عليه السلام) يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)على دابّة ليلاً يدور [بها] في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا
____________
1. كتاب سليم: 81 ـ 82 وراجع أيضاً بحار الأنوار: 28/307 عن المسعودي في إثبات الوصية و 92/52 عن المناقب.
2. كتاب سليم: 81 ـ 83 عنه بحار الأنوار: 28/264 ـ 268.

قبل أبي بكر ما عدلنا به..!
فيقول علي (عليه السلام): " أفكنت أدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته لم أدفنه وأخرج أُنازع الناس سلطانه..؟! " فقالت فاطمة (عليها السلام): " ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له وقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم "(1).
الهجوم الثاني
فاُخبر أبو بكر باجتماع بعض المتخلّفين عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فبعث إليهم عمر بن الخطاب في جمع كثير(2)، فجاء فناداهم فأبوا أن يخرجوا، فدعا عمر بالحطب، فقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنها على من فيها.. فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة! فقال: وإن؟!!(3).
ثمّ استأذن عمر أن يدخل عليهم فلم يُؤذن له، فشغب وأجلب(4).
خروج الزبير
فخرج إليه الزبير مصلتاً سيفه(5)، وقال: لا أغمده حتّى يُبايَع علي (عليه السلام)(6).. وشدّ على عمر ليضربه بالسيف، فرماه خالد بن الوليد بصخرة فأصابت قفاه وسقط السيف من يده(7).
____________
1. الإمامة والسياسة: 1/19 وذكرنا للاستنصار مصادر اُخرى عن الفريقين في الفصل السادس.
2. الاحتجاج: 80.
3. الإمامة والسياسة: 1/19.
4. مثالب النواصب: 136 ـ 137 ; الرسائل الاعتقادية: 1/447.
5. الطبري: 3/202.
6. الطبري: 3/202 ; الكامل لابن الاثير: 2/325.
7. الاختصاص: 186.

وفي رواية: ففرّ عمر من بين يديه ـ حسب عادته ـ وتبعه الزبير فعثر بصخرة في طريقه فسقط لوجهه(1).
وفي رواية أُخرى: زلّت قدمه وسقط إلى الأرض، فقال أبو بكر: عليكم بالكلب(2).
وفي رواية: فنادى عمر: دونكم الكلب(3).. فوثبوا عليه(4)وأحاطوا به وكانوا أربعين رجلاً(5)، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر(6)، فندر السيف من يده(7)، فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر(8)..
وفي رواية: صاح به أبو بكر ـ وهو على المنبر ـ: اضربوا به الحجر(9)، فأخذ سلمة بن أسلم سيفه فضربه على صخرة أو جدار(10)، فكسره.
وفي رواية أُخرى: إنّ محمّد بن سلمة هو الّذي كسره(11)..
وفي رواية ثالثة: إنّ عمر ضرب بسيفه صخرة فكسره(12). فخرج من كان في الدار فبايعوا(13) إلاّ عليّ (عليه السلام).
____________
1. مثالب النواصب: 136 ـ 137 ; الرسائل الاعتقادية: 1/447 ـ 448.
2. أمالي المفيد: 49 ـ 50.
3. مثالب النواصب: 136 ـ 137 ; الرسائل الاعتقادية: 1/447 ـ 448.
4. الطبري: 3/202.
5. بحار الأنوار: 30/291.
6. ولعلّه عبد الله بن ابي ربيعة راجع تثبيت الامامة: ص 17.
7. شرح نهج البلاغة: 2/56.
8. الطبري: 3/203 ; الكامل: 2/325.
9. شرح نهج البلاغة: 2/56 و 6/48.
10. المسترشد: 378.
11. شرح نهج البلاغة: 6/48.
12. شرح نهج البلاغة: 6/48.
13. في الهجوم الثاني على البيت خرج من كان في الدار غير أهل البيت (عليهم السلام) ولكنّهم لم يبايعوا حتّى بايع أمير المؤمنين (عليه السلام) مكرهاً. راجع الكافي: 8/245 ; رجال الكشي: 1/26 ; تفسير العياشي: 1/199، عنهما بحار الأنوار: 22/333، 351.

التوطئة للهجوم الأخير
فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع..(1)؟! وإن لم تفعل لأفعلن. ثم خرج مغضباً وجعل ينادي القبائل والعشائر: أجيبوا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فأجابه الناس من كل ناحية ومكان..! فاجتمعوا عند مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فدخل على أبي بكر وقال: قد جمعت لك الخيل والرجال(2).. فقال له أبو بكر: من نرسل إليه؟ قال عمر: نرسل إليه قنفذاً فهو رجل فظّ غليظ جاف من الطلقاء، أحد بني عدي بن كعب، فأرسله وأرسل معه أعواناً(3)، وقال له: أخرجهم من البيت فإن خرجوا وإلاّ فاجمع الأحطاب على بابه، وأعلمهم إنّهم إن لم يخرجوا للبيعة أضرمت البيت عليهم ناراً(4).
فانطلق قنفذ واستأذن على علي (عليه السلام) فأبى أن يأذن لهم، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر ـ وهما جالسان في المسجد والناس حولهما ـ فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا! فإن أذن لكم وإلاّ فادخلوا بغير إذن.. فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة (عليها السلام): " أحرّج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن.. " فرجعوا وثبت قنفذ، فقالوا: إنّ فاطمة قالت: كذا وكذا.. فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن.
الهجوم الأخير
فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء..؟! ثم أمر أُناساً حوله بتحصيل
____________
1. كتاب سليم: 83.
2. الكوكب الدرّي: 1/194 ـ 195.
3. كتاب سليم: 82.
4. الجمل: 117.
________________________________________
الحطب(1).
وفي رواية: فوثب عمر غضبان.. فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً(2) فقال أبو بكر لعمر: إئتني به بأعنف العنف..(3)! وأخرجهم وإن أبوا فقاتلهم(4)، فخرج في جماعة(5) كثيرة(6) من الصحابة(7) من المهاجرين والأنصار(8) والطلقاء(9)والمنافقين(10) وسفلة ا لأعراب وبقايا الأحزاب(11).
وفي رواية: إنّهم كانوا ثلاثمائة(12).
وقيل: غير ذلك، منهم:
1 ـ عمر بن الخطاب(13) 2 ـ خالد بن الوليد(14) 3 ـ قنفذ(15)
____________
1. كتاب سليم: 83.
2. كتاب سليم: 250.
3. أنساب الأشراف: 1/587 ـ 588.
4. العقد الفريد: 4/259، (ط المصر).
5. اليعقوبي: 2/126 ; المسترشد: 377 ـ 378.
6. شرح نهج البلاغة: 6/49 ; الأحتجاج: 80.
7. الكشكول: 83 ـ 84.
8. تاريخ الخميس: 2/169.
9. علم اليقين: 2/686.
10. المصدر السابق ; مؤتمر علماء بغداد: 63 ; كامل بهائي: 1/305 ; حديقة الشيعة: 30.
11. مصباح الزائر: 463 ـ 464.
12. جنات الخلود: 19.
13. اتفق الجميع على كون عمر بن الخطاب منهم.
14. تفسير العياشي: 2/66 ; شرح نهج البلاغة: 2/57 و 6/48 ; مؤتمر علماء بغداد: 63 ; الاختصاص: 186 ; كتاب سليم: 251 ; كامل بهائي: 1/305 ; الكشكول: 83 ـ 84 ; الهداية الكبرى: 178 ـ 179 ; بحار الأنوار: 30/290، 348 و 53/13.
15. تفسير العياشي: 2/307 ـ 308 ; مؤتمر علماء بغداد: 63 ; الجمل: 117 ; كتاب سليم: 84 ; الهداية الكبرى: 178 ـ 179 و 400 ; حديقة الشيعة: 30 ; بحار الأنوار: 30/290 ـ 348 و 53/18.
4 ـ عبد الرحمن بن عوف(1) 5 ـ أسيد بن حضير(2) الأشهلي(3) 6 ـ سلمة بن سلامة بن وقش الأشهلي(4) 7 ـ سملة بن أسلم(5).
وفي بعضها: سلمة بن أسلم بن جريش الأشهلي(6) 8 ـ المغيرة بن شعبة(7) 9 ـ أبو عبيد ة بن الجراح(8) 10 ـ ثابت بن قيس بن شماس(9) 11 ـ محمد بن مسلمة(10)
____________
1. السنن للبيهقي: 8/152 ; المستدرك: 3/66 ; حياة الصحابة للكاندهلوي: 2/13 ; شرح نهج البلاغة: 6/48 ; الكشكول: 83 ـ 84 ; حديقة الشيعة: 30.
2. خ. ل: حصين.
3. شرح نهج البلاغة: 2/50 و 6/11 و 47 ; الامامة والسياسة: 1/18 ; الاحتجاج: 73 ; تاريخ الخميس: 2/169.
4. شرح نهج البلاغة: 2/50 و 6/47 ; الاحتجاج: 73 ; تاريخ الخميس: 2/169.
5. شرح نهج البلاغة: 6/11 ; الامامة والسياسة 1: 18.
6. المسترشد: 378.
7. الاختصاص: 186، تفسير العياشي: 2/66 ; الكوكب الدرّي: 1/194.
8. الكوكب الدرّي: 1/194.
9. تاريخ الخميس: 2/169 ; شرح نهج البلاغة: 6/48.
10. شرح نهج البلاغة: 6/48 ; السنن للبيهقي: 8/152 ; المستدرك: 3/66 ; حياة الصحابة للكاندهلوي: 2/13.

12 ـ سالم مولى أبي حذيفة(1) 13 ـ أسلم العدوي(2) 14 ـ عياش بن ربيعة(3) 15 ـ هرمز الفارسي (جدّ عمرو بن أبي المقدام)(4) 16 ـ عثمان(5) 17 ـ زياد بن لبيد(6) 18 ـ عبد الله بن أبي ربيعة(7) 19 ـ عبد الله بن زمعة(8) 20 ـ سعد بن مالك(9) 21 ـ حماد(10) وذكروا بعضهم أبا بكر أيضاً(11) وكذا زيد بن ثابت(12)، فقال لهم عمر: هلّموا في جمع الحطب(13).. فأتوا بالحطب(14)، والنار(15)، وجاء
____________
1. الجمل: 117 ; الاختصاص: 186 ; تفسير العياشي: 2/67.
2. الشافي لابن حمزة: 4/173.
3. الشافي لابن حمزة: 4/173.
4. الاختصاص: 186 ; تفسير العياشي: 2/66 ـ 67.
5. الاختصاص: 186، تفسير العياشي: 2/66 ـ 67.
6. شرح نهج البلاغة: 2/56، 6/48.
7. تثبيت الامامة: 17.
8. مثالب النواصب: 136.
9. مثالب النواصب: 136.
10. مثالب النواصب: 136.
11. الاختصاص: 186 ; تفسير العياشي: 2/66 ; الكوكب الدرّي: 1/194 ـ 195 ولعله المستفاد مما رواه المفيد في الأمالي: 49 ـ 50 فراجع.
12. في رواية موضوعة رووها عن أبي سعيد الخدري راجع كنز العمال: 5/613.
13. دلائل الأمامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/293.
14. الطرائف: 239 ; نهج الحقّ: 271 ; مؤتمر علماء بغداد: 63 ; دلائل الامامة: 242 (ط مؤسسة البعثة، ص 455) ; كتاب سليم: 83 وغيرها.
15. تفسير العياشي: 2/308 ; كتاب سليم: 250 ; الهداية الكبرى: 178 ـ 179.

عمر ومعه فتيلة(1).
وفي رواية: أقبل بقبس من نار(2)، وهو يقول: إن أبوا أن يخرجوا فيبايعوا أحرقت عليهم البيت.. فقيل له: إنّ في البيت فاطمة، أفتحرقها؟! قال: سنلتقي أنا وفاطمة(3)!!.
فساروا إلى منزل علي (عليه السلام) وقد عزموا على إحراق البيت بمن فيه(4). قال أُبي بن كعب: فسمعنا صهيل الخيل، وقعقعة اللجم، واصطفاق الأسنة، فخرجنا من منازلنا مشتملين بأرديتنا مع القوم حتى وافوا منزل علي (عليه السلام)(5). وكانت فاطمة (عليها السلام)قاعدة خلف الباب، قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(6)، فلما رأتهم أغلقت الباب في وجوههم وهي لا تشكّ أن لا يدخل عليها إلاّ بإذنها(7)، فقرعوا الباب قرعاً شديداً(8) ورفعوا أصواتهم وخاطبوا من في البيت بخطابات شتّى(9)، ودعوهم إلى بيعة أبي بكر(10)، وصاح عمر:
يابن أبي طالب! افتح الباب(11)..!
____________
1. أنساب الأشراف: 1/586.
2. العقد الفريد: 4/242 (مكتبة النهضة المصرية) ; تاريخ أبي الفداء: 1/156.
3. الشافي، لابن حمزة: 4/173.
4. العقد الفريد: 4/242 ; تاريخ أبي الفداء: 1/156 ; أمالي المفيد: 50 ومصادر أخرى.
5. الكوكب الدرّي: 194 ـ 195.
6. كتاب سليم: 250.
7. تفسير العياشي: 2/67 ; الاختصاص: 186.
8. دلائل الامامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/290 ; الكشكول، للآملي: 83 ـ 84.
9. حديقة الشيعة: 30.
10. الشافي لابن حمزة: 4/171.
11. كتاب سليم: 250.

والله لئن لم تفتحوا لنحرقّنه بالنار(1)..!
والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم(2)..!
اخرج يا علي إلى ما أجمع عليه المسلمون وإلاّ قتلناك(3)..!
إن لم تخرج يابن أبي طالب وتدخل مع الناس لأحرقنّ البيت بمن فيه(4)..!
يابن أبي طالب! افتح الباب وإلاّ أحرقت عليك دارك(5)..!
والله لتخرجن إلى البيعة ولتبايعنّ خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلاّ أضرمت عليك النار(6)..!
يا علي! اخرج وإلاّ أحرقنا البيت بالنار(7)..!
فخرجت فاطمة (عليها السلام) فوقفت من وراء الباب، فقالت: " أيها الضالّون المكذبون! ماذا تقولون؟ وأيّ شيء تريدون؟ " فقال عمر: يا فاطمة! فقالت: " ما تشاء يا عمر؟ " قال: ما بال ابن عمّك قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب؟
فقالت:" طغيانك يا شقيّ أخرجني وألزمك الحجّة.. وكلّ ضالّ غوي ".
فقال: دعي عنك الأباطيل وأساطير النساء!! وقولي لعلي يخرج.
فقالت: " لاحبّ ولاكرامة، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر؟! وكان حزب الشيطان ضعيفاً ".
____________
1. علم اليقين: 2/687 ; التتمة في تواريخ الائمة (عليهم السلام): 52.
2. السقيفة للجوهري عنه شرح نهج البلاغة: 2/56 ; قريب منها: الطبري، 3/202 ; المسترشد: 378 وغيرها.
3. الهداية الكبرى: 406 ; بحار الأنوار: 53/18.
4. الكشكول: 83 ـ 84.
5. كامل بهائي: 1/305.
6. كتاب سليم: 83.
7. الكوكب الدرّي: 194 ـ 195.

فقال: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها ناراً على أهل هذا البيت وأحرق من فيه، أو يقاد علي إلى البيعة(1)..!
فقالت فاطمة (عليها السلام): " يا عمر! ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه؟ " فقال: افتحي الباب وإلاّ أحرقنا عليكم بيتكم(2)..
فقالت فاطمة (عليها السلام): " أفتحرق عليّ ولدي(3)؟! " فقال: إي والله أو ليخرجنّ وليبايعنّ(4).
وفي رواية: " يابن الخطاب! أتراك محرقاً عليَّ بابي؟! " قال: نعم(5).
قالت: " ويحك يا عمر! ما هذه الجرأة على الله وعلى رسوله؟! تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتطفئ نور الله والله متمّ نوره؟! " فقال: كفّي يا فاطمة! فليس محمّد حاضراً! ولا الملائكة آتية بالأمر والنهي والزجر من عند الله! وما عليّ إلاّ كأحد من المسلمين، فاختاري إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر أو إحراقكم جميعاً..!
____________
1. دلائل الامامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/293.
2. كتاب سليم: 83 ـ 84، 250.
3. خ. ل: عليّاً وولدي.
4. الطرائف: 239، نهج الحق: 271.
5. أنساب الأشراف: 1/586 ; وانظر: روضة المناظر: 11/113 (حاشية الكامل لابن الأثير); الجمل: 117 ; كامل بهائي: 2/24.
________________________________________ الصفحة 120 ________________________________________
فقالت ـ وهي باكية ـ: " اللّهم إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك، وارتداد أمّته علينا، ومنعهم إيّانا حقّنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيّك المرسل ".
فقال لها عمر: دعي عنك يا فاطمة حمقات [حماقات] النساء! فلم يكن الله ليجمع لكم النبوّة والخلافة(1)..!!
فقالت: " يا عمر! أما تتقي الله عزّ وجلّ.. تدخل على بيتي، وتهجم على داري؟! " فأبى أن ينصرف(2).
إحراق الباب وإسقاط جنين فاطمة (عليها السلام) وضربها
ثم أمر عمر بجعل الحطب حوالي البيت وانطلق هو بنار(3) وأخذ يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها(4).
فنادت فاطمة (عليها السلام) بأعلى صوتها: " يا أبت يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ".
فلما سمع القوم صوتها وبكاءَها انصرفوا باكين، وبقي عمر ومعه قوم(5)، ودعا بالنار وأضرمها في الباب(6)، فأخذت النار في خشب الباب(7)، ودخل الدخان البيت(8)، فدخل قنفذ يده يروم فتح الباب(9)..
____________
1. الهداية الكبرى: 407، بحار الأنوار: 53/19.
2. كتاب سليم: 84، 250.
3. تفسير العياشي: 2/308.
4. الملل والنحل: 1/57.
5. الامامة والسياسة: 1/20 ; المسترشد: 377 ـ 378.
6. كتاب سليم: 250.
7. الهداية الكبرى: 407 ; بحار الأنوار: 53/19.
8. الشافي للسيد المرتضى: 3/241.
9. الهداية الكبرى: 407 ; بحار الأنوار: 53/19.

فأخذت فاطمة (عليها السلام) بعضادتي الباب تمنعهم من فتحه، وقالت: " ناشدتكم الله وبأبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكفّوا عنا وتنصرفوا ".
فأخذ عمر السوط من قنفذ وضرب به عضدها، فالتوى السوط على يديها حتى صار كالدملج(1) الأسود(2).
فضرب عمر الباب برجله فكسره(3)، وفاطمة (عليها السلام) قد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه، فركل الباب برجله(4) وعصرها بين الباب والحائط عصرة شديدة قاسية حتى كادت روحها أن تخرج من شدّة العصرة، ونبت المسمار في صدرها(5) ونبع الدم من صدرها وثدييها(6)، فسقطت لوجهها ـ والنار تسعر(7) ـ، فصرخت صرخة جعلت أعلى المدينة أسفلها، وصاحت: " يا أبتاه! يا رسول الله! هكذا يصنع بحبيبتك وابنتك.. آه يا فضّة! إليك فخذيني فقد والله قتل ما في أحشائي "، ثم استندت إلى الجدار وهي تمخض(8)، وكانت حاملة بالمحسن لستة أشهر فأسقطته(9)، فدخل عمر وصفق على خدّها صفقة من ظاهر الخمار، فانقطع قرطها وتناثرت إلى الأرض(10).
____________
1. الهداية الكُبرى: 178 ـ 179.
2. المصدر: 407 ; بحار الأنوار: 53/19.
3. تفسير العياشي: 2/67 ; الاختصاص: 186.
4. دلائل الامامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/294.
5. مؤتمر علماء بغداد: 63.
6. الكوكب الدرّي: 194 ـ 195.
7. الهداية الكبرى: 178 ـ 179.
8. دلائل الامامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/294.
9. الهداية الكبرى: 407 ; بحار الأنوار: 53/19.
10. دلائل الإمامة: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/294، وراجع إرشاد القلوب: ج 2، عنه بحار الأنوار: 30/349 ; الهداية الكبرى: 179، 407 ; المحتضر: 44 ـ 45، ويظهر من بعض الروايات أنّ لطم الخدّ كان حين إخراج أمير المؤمنين (عليه السلام) من البيت، راجع الكوكب الدرّي: 195.

فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) من داخل الدار محمرّ العين حاسراً، حتى ألقى ملاءته عليها وضمّها إلى صدره وصاح بفضّة: " يا فضة! مولاتك! فاقبلي منها ما تقبله النساء فقد جاءها المخاض من الرفسة وردّ الباب، فأسقطت محسناً ".
وقال (عليه السلام): " إنّه لا حق بجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشكو اليه ".
وقال لفضة: " واريه بقعر البيت "(1).
ثم وثب علي (عليه السلام) فأخذ بتلابيب عمر ثم هزّه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله، فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أوصاه به من الصبر والطاعة، فقال: " والذي أكرم محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة يا ابن صهاك! لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلمت أنك لا تدخل بيتي ".
فأرسل عمر يستغيث، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار، فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوّف أن يخرج عليّ (عليه السلام) بسيفه، لما قد عرف من بأسه وشدّته، فقال أبو بكر لقنفذ: ارجع، فإن خرج وإلاّ فاقتحم عليه بيته، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم النار..!
فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وثار علي (عليه السلام) إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه ـ وهم كثيرون ـ، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه(2).
فقال عمر لعلي (عليه السلام): قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: قم، فأبى أن يقوم(3)، فألقوا في عنقه حبلاً(4) وفي رواية: جعلوا حمائل سيفه في عنقه(5)، وفي غير واحد من النصوص: أخرجوه ملبباً(6)(7)
____________
1. الهداية الكبرى: 408.
2. كتاب سليم: 84.
3. شرح نهج البلاغة: 2/57 و 6/49.
4. كتاب سليم: 84 ; رجال الكشي: 1/37 ; الاحتجاج: 83 ; الصراط المستقيم: 3/25.
5. الكوكب الدرّي: 1/194 ـ 195.
6. لبّب فلاناً: أخذه بتلبيته وجرّه.
7. الإيضاح: 367 ; بصائر الدرجات: 275 ; تفسير العياشي: 2/67 ; الشافي: 3/244 ; الاختصاص: 11، 186، 275 ; المسترشد: 381 ; المناقب: 2/248 ; شرح نهج البلاغة: 6/45.

بثيابه يجرّونه إلى المسجد، فصاحت فاطمة (عليها السلام) وناشدتهم الله(1) وحالت بينهم وبين بلعها، وقالت: " والله لا أدعكم تجرّون ابن عمّي ظلماً، ويلكم ما أسرع ما خنتم الله ورسوله فينا أهل البيت.. " وبزعمها أنّها تخلّصه من أيديهم(2)، فتركه أكثر القوم لأجلها.
فأمر عمر قنفذاً أن يضربها بسوطه، فضربها بالسوط على ظهرها وجنبيها إلى أن أنهكها وأثر في جسمها الشريف(3).
وفي رواية: ضربها قنفذ على وجهها وأصاب عينها(4).
وفي رواية اخرى: ألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها فكسر ضلعاً من جنبها فألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة(5).
وفي روايات اُخرى: ضربها على رأسها أو ذراعها أو كتفها، أو عضدها وبقي أثر السوط في عضدها مثل الدملج(6)، أو لكزها بنعل السيف، وأنّ
____________
1. شرح نهج البلاغة: 2/50.
2. الكوكب الدرّي: 194 ـ 195.
3. علم اليقين: 2/686 ـ 688.
4. سيرة الأئمّة الاثنى عشر (عليهم السلام): 1/145.


يتبع

الشيخ عباس محمد
10-01-2018, 08:12 PM
5. كتاب سليم: 85 ; الاحتجاج: 83. وفي كسر ضلعها أو جَنْبها روايات أُخرى، راجع كتاب سليم: 2/907 (الطبعة الحديثة) ; أمالي الصدوق: 114 (ط بيروت ص 100) ; الفضائل: 9 ; المحتضر: 61، 109 ; مكتوب بخط الشيخ الجبعي، عنه بحار الأنوار: 101/44 ; فرائد السمطين: 2/35 ; إرشاد القلوب: 295 ; مصباح الكفعمي: 553.
6. كتاب سليم: 134 ; الكشكول للآملي: 83 ـ 84 ; حديقة الشيعة: 30 ; الكوكب الدرّي: 1/194 ـ 195 ; الكبريت الأحمر: 277.

الضرب الصادر منه كان السبب في إسقاط جنينها(1) أو كان اقوى سبب في ذلك(2).
وفي رواية: ضربها خالد بن الوليد ايضاً بغلاف السيف.
وفي رواية: ضغطها خالد بن الوليد خلف الباب فصاحت.. ولذا أسند بعض الثقات إسقاط الحمل إلى خالد أيضاً(3).
وفي رواية ضربها المغيرة بن شعبة حتى أدماها، أو دفع الباب على بطنها..
ولذا أُسند الإسقاط إليه أيضاً(4).
وفي رواية: التفت عمر إلى من حوله وقال: اضربوا فاطمة..!! فانهالت السياط على حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبضعته حتى أدموا جسمها، وبقيت آثار العصرة القاسية والصدمة المريرة تنخر في جسم فاطمة، فأصبحت مريضة عليلة حزينة(5).
وفي عدّة من الروايات: ضرب عمر بالغلاف على جنبها، وبالسوط على ذراعها(6)، واسودّ متنها من أثر الضرب(7) وبقي إلى أن قبضت(8).
قال سلمان: فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون!! ما فيهم إلاّ باك، غير عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة، وعمر يقول: إنّا لسنا من النساء ومن
____________
1. دلائل الإمامة: 45 (الطبعة الحديثة ص 134 ـ 135).
2. علم اليقين: 2/686 ـ 688.
3. الكشكول، للآملي: 83 ـ 84 ; حديقة الشيعة: 30.
4. الاحتجاج: 278 ; جلاء العيون للسيّد شبّر: 1/193.
5. مؤتمر علماء بغداد: 63.
6. كتاب سليم: 84، 250 وراجع كامل بهائي: 1/305 ; جنّات الخلود: 19.
7. جنّة العاصمة: 252 ; الشمس الضحى: 154.
8. مصائب المعصومين (عليهم السلام): 127 وغيره كما يأتي.

رأيهنّ في شيء(1).
إخراج أمير المؤمنين (عليه السلام) ثانياً
فاستخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) من منزله(2) مكرهاً مسحوباً(3)، وانطلقوا به(4)، يسوقه عمر(5) سوقاً عنيفاً(6)، ويقوده آخرون كما قال (عليه السلام): ".. كما يقاد الجمل المخشوش(7).. " إلى بيعتهم، مصلتة سيوفها، مقذعة أسنتها.. وهو ساخط القلب، هائج الغضب، شديد الصبر، كاظم الغيظ(8)، فجيء به تعباً(9)، وفي رواية: يمضي به ركضاً(10).. واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة من الرجال(11)، فما مرّ بمجلس من المجالس إلاّ يقال له: انطلق فبايع(12).. واتّبعه سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار وبريدة، وهم يقولون: ما أسرع ما خنتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأخرجتم الضغائن التي في
____________
1. كتاب سليم: 85، وذكر بكاؤهم أيضاً في الإمامة والسياسة: 1/20 ; المسترشد: 377 ـ 378.
2. المسترشد: 381 ; الاحتجاج: 86.
3. الهداية الكبرى: 138 ـ 139.
4. شرح نهج البلاغة: 6 / 11.
5. المسترشد: 378 ; شرح نهج البلاغة: 2/50 و 6/47.
6. شرح نهج البلاغة: 6/49.
7. هذه العبارة موجودة في كتاب معاوية وجواب أمير المؤمنين (عليه السلام) له، راجع وقعة صفّين: 87 ; الفتوح، للأعثم الكوفي: 2/578 ; العقد الفريد: 4/308 ـ 309 (دار الكتاب العربي) ; نهج البلاغة: 122 ـ 123 ; الفصول المختارة: 287 ; تقريب المعارف: 237 ; المناقب للخوارزمي: 175 ; الاحتجاج: 171 ; شرح نهج البلاغة: 15/74 و 183 ; صبح الأعشى: 1/228 ـ 230 ; جواهر المطالب: 1/357، 374 ; الصراط المستقيم: 3/11.
8. مصباح الزائر: 463 ـ 464.
9. تاريخ الطبري: 2/203.
10. شرح نهج البلاغة: 6/45.
11. شرح نهج البلاغة: 6/49.
12. شرح نهج البلاغة: 6/45.

صدوركم.
وقال بريدة بن الخصيب الأسلمي: يا عمر! أتيت على أخي رسول الله ووصيّه وعلى ابنته فتضربها، وأنت الذي تعرفك قريش بما تعرفك به(1)!!
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يتألّم ويتظلّم ويستنجد ويستصرخ(2)، وهو يقول: " أما والله لو وقع سيفي في يدي، لعلمتم أنكم لم [لن] تصلوا إلى هذا أبداً، أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم ولو كنت استمسك من أربعين رجلاً لفرّقت جماعتكم، ولكن لعن الله أقواماً بايعوني ثم خذلوني.. "(3).
ويقول أيضاً: " واجعفراه..! ولا جعفر لي اليوم، واحمزتاه..! ولا حمزة لي اليوم.. "(4).
فمرّوا به على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوقف عند القبر وقال: " يـ ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي )(5) " فخرجت يد من قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يعرفون أنها يده، وصوت يعرفون أنه صوته نحو أبي بكر: " يا هذا ( أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلا )(6)..؟! " قال عدي بن حاتم: ما رحمت أحداً رحمتي علياً حين أُتي به ملببا(7)..
وقال سلمان حينما رأى ذلك: أيصنع ذا بهذا؟ والله لو أقسم على الله
____________
1. كتاب سليم: 251.
2. شرح نهج البلاغة: 11/111، عن كثير من المحدّثين.
3. كتاب سليم: 85 ; بحار الأنوار: 28/270.
4. شرح نهج البلاغة: 11/111.
5. الأعراف (7): 150.
6. بصائر الدرجات: 275 ; الاختصاص: 275 ; المناقب: 2/248 ; الكشكول للآملي: 83 ـ 84 والآية الشريفة في سورة الكهف: 37.
7. الشافي: 3/244 ; تلخيص الشافي: 3/79.

لانطبقت ذه على ذه [أي السماء على الأرض](1)!!
وقال أبوذر: ليت السيوف عادت بأيدينا ثانية(2).
فخرجت فاطمة (عليها السلام) واضعة قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رأسها آخذة بيدي ابنيها ـ وهي تبكي وتصيح فنهنهت من الناس ـ فما بقيت هاشمية إلاّ خرجت معها فصرخت وولولت ونادت: " يا أبا بكر! ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله(3).. خلّوا عن ابن عمّي..، مالي ولك يا أبا بكر؟! أتريد أن تؤتم ابنيّ وترملني من زوجي؟! والله لئن لم تكف عنه لأنشرنّ شعري، ولا شقنّ جيبي، ولآتينّ قبر أبي، ولأصيحنّ إلى ربّي.. فما صالح باكرم على الله من ابن عمّي، ولا ناقة صالح بأكرم على الله منّي، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي.. " فقال علي (عليه السلام) لسلمان: " أدرك ابنة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإني أرى جنبتي المدينة تكفئان، والله إن نشرت شعرها، وشقّت جيبها، وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربّها، لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها.. " فأدركها سلمان (رضي الله عنه) فقال: يا بنت محمّد! إن الله بعث أباك رحمةً.. فارجعي.
فقالت: " يا سلمان! يريدون قتل علي، ما عَلَيّ صبر ".
فقال سلمان: إنّي أخاف أن يخسف بالمدينة، وعلي (عليه السلام) بعثني إليك يأمرك أن ترجعني إلى بيتك.
فقالت:" إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأُطيع "(4).
____________
1. الاختصاص: 11.
2. رجال الكشي: 1/37.
3. شرح نهج البلاغة: 2/56 ـ 57 و 6/49.
4. راجع تفسير العياشي: 2/67 ; الاختصاص: 186 ; الكافي: 8/237 ; المسترشد: 381 ; المناقب: 3/339 ـ 340 ; الاحتجاج: 86 ـ 87.

قال أبو جعفر (عليه السلام): " والله لو نشرت شعرها لماتوا طرّاً "(1).
وفي رواية: عدلت بعد ذلك إلى قبر أبيها، فأشارت إليه بحزنة ونحيب وهي تقول:
" نفسي على زفراتها محبوسة يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنما أبكي مخافة أن تطول حياتي "
ثم قالت: " وا أسفاه عليك يا أبتاه، واثكل حبيبك أبو الحسن المؤتمن، وأبو سبطيك الحسن والحسين، ومن ربيّته صغيراً وواخيته كبيراً، وأجلّ أحبّائك لديك، وأحبّ أصحابك عليك، أولهم سبقاً إلى الاسلام، ومهاجرةً إليك يا خير الأنام.. فها هو يساق في الأسر كما يقاد البعير ".
ثم إنها أنّت أنّةً وقالت: " وامحمداه..! واحبيباه..!، وا أباه..! وا أبا القاسماه..! وا أحمداه..! وا قلّة ناصراه..! وا غوثاه وا طول كربتاه..! وا حزناه..! وا مصيبتاه..! وا سوء صباحاه..! " وخرّت مغشيةً عليها، فضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وصار المسجد مأتماً(2).
وفي رواية: وأصبحت فاطمة (عليها السلام) تنادي: " وا سوء صباحاه..! "، فسمعها أبو بكر فقال لها: إنّ صباحك لصباح سوء(3)(4).
الإجبار على البيعة
____________
1. الكافي: 8/237.
2. علم اليقين: 2/686 ـ 688.
3. قال الجوهرى: يوم الصباح: يوم الغارة انظر الصحاح: 1/380. وقال الطريحي: يا صباحاه! هذه كلمة يقولها المستغيث عند وقوع أمر عظيم، وأصلها إذا صاحوا للغارة، لأنّهم أكثر ما كانوا يغيرون وقت الصباح، فكأنّ القائل: واصباحاه! يقول: قد غشينا العدوّ. راجع مجمع البحرين: 2/283.
4. مصباح الأنوار: 290 ; الارشاد: 1/189.

ثم انتهى بعليّ (عليه السلام) إلى أبي بكر فأجلسوه بين يديه(1) ـ وعمر قائم بالسيف على رأسه ـ وخالد بن الوليد وأبو عبيد ة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة و معاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة وأُسيد بن حضير و بشير بن سعد وسائر الناس حول أبي بكر عليهم السلاح، فقال علي (عليه السلام): " ما أسرع ما توثّبتم على أهل بيت نبيّكم، يا أبا بكر! بأيّ حقّ.. وبأيّ ميراث.. وبأيّ سابقة..! تحثّ الناس إلى بيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ "(2) فجلس عمر على ركبتيه وحسر عن ذراعيه(3)، وانتهر علياً (عليه السلام) وقال له: بايع ودع عنك هذه الأباطيل، فقال له (عليه السلام): " فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ " قالوا: نقتلك ذلاً وصغاراً.
وفي بعض الروايات: قال أبو بكر ـ وفي بعضها قال عمر ـ: إذاً والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك.
فقال: " إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله ".
قال أبو بكر أو عمر ـ على اختلاف النصوص ـ: أمّا عبد الله فنعم، أمّا أخا رسول الله فلا(4).
فقال علي (عليه السلام): " أما والله لولا قضاء من الله سبق وعهد عهده إليّ خليلي لست أجوزه لعلمت أيّنا أضعف ناصراً وأقلّ عدداً ".
ثم أقبل علي (عليه السلام) عليهم فقال: " يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار! أُنشدكم الله أسمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم.. كذا وكذا، وفي غزوة تبوك.. كذا وكذا.. " فلم يدع علي (عليه السلام) شيئاً قاله فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)علانية للعامّة
____________
1. المسترشد: 377 ـ 378.
2. كتاب سليم: 84 ـ 85، 251.
3. الكوكب الدريّ: 1/194 ـ 195.
4. راجع كتاب سليم: 86 ; الايضاح: 367 ; الامامة والسياسة: 1/19 ـ 20 ; تفسير العياشي: 2/67 ; الاختصاص: 187 ; الشافي: 3/244 ; المسترشد: 377 ـ 381 ـ الاحتجاج: 83.

إلاّ ذكّرهم إيّاه. فقالوا: اللّهم نعم، فلما تخوّف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه.. بادرهم فقال: كلّما قلت حقّ، قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا، ولكن قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول بعد هذا: إنّا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا، وإنّ الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوّة والخلافة.
فقال علي (عليه السلام): " هل أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهد هذا معك؟ " فقال عمر: صدق خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد سمعنا هذا منه كما قال، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: قد سمعنا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال علي (عليه السلام): " لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي قد تعاقدتم عليها في الكعبة إن قتل الله محمداً أو مات لتزونّ هذا الأمر عنّا أهل البيت، فقال أبو بكر: فما علمك بذلك؟! ما اطلعناك عليها؟!
فقال علي (عليه السلام): " أنت يا زبير.. وأنت يا سلمان.. وأنت يا أباذر.. وأنت يا مقداد.. أسألكم بالله وبالإسلام أما سمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك وأنتم تسمعون: " إن فلاناً وفلاناً.. حتى عدّ هؤلاء الخمسة قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا فيه وتعاقدوا على ما صنعوا؟ " فقالوا: اللّهم نعم، قد سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إنّهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا وكتبوا بينهم كتاباً إن قتلت أو متُّ أن يزووا عنك هذا يا علي "، فقلتَ: " بأبي أنت يا رسول الله! فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل؟ " فقال لك: " إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن لم تجد أعواناً فبايعهم واحقن دمك ".
فقال علي (عليه السلام): " أما والله لو أنّ اؤلئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله، ولكن ـ أما والله ـ لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة. وفيما يكذّب قولكم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الله: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً

عَظِيماً )(1) فالكتاب: النبوّة، والحكمة: السنّة، والملك: الخلافة، ونحن آل ابراهيم.. " فقام بريدة فقال: يا عمر! ألستما اللذين قال لكما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " انطلقا إلى علي (عليه السلام) فسلّما عليه بإمرة المؤمنين "، فقلتما: أعن أمر الله وأمر رسوله؟ فقال: " نعم ".
فقال أبو بكر: قد كان ذلك يا بريدة ولكنّك غبت وشهدنا والأمر يحدث بعده الأمر.
وفي رواية قال أبو بكر: قد كان ذلك ; ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ـ بعد ذلك ـ: لا يجتمع لأهل بيتي الخلافة والنبوة. فقال: والله ما قال هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال عمر: ما أنت وهذا يا بريده! وما يدخلك في هذا؟ قال بريدة: والله لاسكنت في بلدة أنتم فيها أُمراء.. فأمر به عمر فضُرب وأُخرج.
ثم قام سلمان فقال: يا أبا بكر! اتق الله وقم عن هذا المجلس ودعه لأهله، يأكلوا به رغداً إلى يوم القيامة، لا يختلف على هذه الاُمة سيفان.. فلم يجبه أبو بكر، فأعاد سلمان فقال مثلها، فانتهره عمر وقال: ما لك ولهذا الأمر وما يدخلك فيما هاهنا؟ فقال: مهلاً يا عمر! قم يا أبا بكر عن هذا المجلس ودعه لأهله يأكلوا به والله خضراً إلى يوم القيامة، وإن أبيتم لتحلبن به دماً، وليطمعن فيه الطلقاء والطرداء والمنافقون، والله لو أعلم أني أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لوضعت سيفي على عاتقي ثم ضربت به قدماً قدماً، أتثبون على وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!! فابشروا بالبلاء.. واقنطوا من الرخاء.
ثم قام أبو ذر فقال: أيّتها الأُمّة المتحيرة بعد نبيّها (صلى الله عليه وآله وسلم) المخذولة بعصيانها..! إنّ الله يقول: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ
____________
1. النساء (4): 54.

عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1) وآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم، والصفوة والسلالة من إسماعيل وعترة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وهم كالسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، والكعبة المستورة، والعين الصافية، والنجوم الهادية، والشجرة المباركة، أضاء نورها، وبورك زيتها.. محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم، وعلي وصيّ الأوصياء، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين، وهو الصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، ووصيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)ووارث علمه، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم، كما قال الله تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْض فِي كِتابِ اللّهِ )(2) فقدّموا من قدّم الله، وأخّروا من أخرّ الله، واجعلوا الولاية والوزارة لمن جعل الله..
ثم قام أبو ذر والمقداد وعمار فقالوا لعليّ (عليه السلام): ما تأمر؟ والله إن أمرتنا لنضربن بالسيف حتى نُقتل. فقال علي (عليه السلام): " كفّوا رحمكم الله! واذكروا عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أوصاكم به.. " فكفّوا.
وأقبلت أُمّ أيمن النوبية ـ حاضنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وأُمّ سلمة فقالتا: يا عتيق! ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمّد.. فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد، وقال: ما لنا وللنساء(3)؟!
ثم قام عمر فقال لأبي بكر ـ وهو جالس فوق المنبر ـ: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك أو تأمر به فتضرب عنقه..؟ والحسن والحسين (عليهما السلام) قائمان، فلما سمعا مقالة عمر بكيا، فضمّهما (عليه السلام) إلى صدره فقال:
____________
1. آل عمران (3): 33.
2. الأحزاب (33): 6.
3. كتاب سليم: 86 ـ 87، 251 ـ 252.

" لا تبكيا فوالله ما يقدران على قتل أبيكما "، ثم قال عمر: قم يابن أبي طالب فبايع.
فقال (عليه السلام): " فإن لم أفعل؟ " قال: اذاً والله نضرب عنقك(1).. فاحتج عليهم ثلاث مرّات(2)فالتفت علي (عليه السلام) إلى القبر، وقال: " يـ ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي )(3) " ـ وفي بعض الروايات قالها قبل ذلك(4)، وفي بعضها بعده(5) ـ ورفع رأسه إلى السماء وقال: " اللّهم اشهد "(6).
فمدّوا يده كرهاً فقبض على أنامله وعسر عليهم فتحها فراموا بأجمعهم فتحها فلم يقدروا، فمسح أبو بكر عليها وهي مضمومة(7).
وفي رواية: لما بلغ ذلك العباس بن عبد المطلب أقبل مسرعاً يهرول ويقول: ارفقوا بابن أخي ولكم عليّ أن يبايعكم.. فأخذ هو بيد علي (عليه السلام) فمسحها على يد أبي بكر ثمّ خلّوه مغضباً(8).
ثم قال علي (عليه السلام): " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ليجئن قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة منّي ليمرّوا على الصراط فإذا رأيتهم ورأوني.. وعرفتهم
____________
1. وفي رواية: قال عمر لعلي (عليه السلام) والزبير: لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان. انظر الطبري: 3/203.
2. راجع كتاب سليم: 88 ـ 89.
3. كتاب سليم: ص 89 ; الاحتجاج: ص 84 ; المسترشد: ص 377 ـ 378. والآية في سورة الأعراف (7): 150.
4. بصائر الدرجات: 275 ; تفسير العياشي: 2/67 ; الاختصاص: 186، 275 ; المناقب: 2/248.
5. الإمامة والسياسة: 1/19 ـ 20 ; علم اليقين: 2/386 ـ 388.
6. الشافي: 3/244.
7. إثبات الوصيّة: 145 ـ 146 ; الشافي: 3/244 ; علم اليقين: 2/386 ـ 388.
8. تفسير العياشي: 2/68 ; الاختصاص: 187.

وعرفوني.. اختلجوا دوني فأقول: أي ربّ أصحابي.. أصحابي! فيقال: ما تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم حيث فارقتهم، فأقول: بعداً وسحقاً "(1).
وأما فاطمة (عليها السلام)
وأما فاطمة (عليها السلام) ; فبقيت آثار العصرة القاسية في جسمها، وأصبحت مريضة عليلة حزينة(2)، ولزمت الفراش، ونحل جسمها، وذاب لحمها، وصارت كالخيال(3)، ومرضت مرضاً شديداً، ولم تدع أحداً ممن آذاها يدخل عليها(4)، وما رئيت ضاحكة إلى أن قبضت(5).
عيادة الشيخين
فلما ثقلت واشتدّ مرضها(6) قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة (عليها السلام)فإنّا قد أغضبناها.. فاستأذنا عليها فلم تأذن لهما(7)، فطالت عليهما المدافعة(8)، فأتيا علياً (عليه السلام) وقالا: قد كان بيننا وبينها ما قد علمت، فإن رأيت
____________
1. راجع كتاب سليم: 93.
2. مؤتمر علماء بغداد: 63.
3. دعائم الاسلام: 1/232.
4. دلائل الإمامة: 45، عنه بحار الأنوار: 43/170.
5. حلية الأولياء: 2/43 ; المعجم الكبير للطبراني: 22/399 ; الطبقات: 2/ ق 2/84 ; المستدرك: 3/162 ; تهذيب الكمال: 35/251 ; مجمع الزوائد: 9/211 ـ 212 ; البداية والنهاية: 6/367.
6. كتاب سليم: 253، عنه بحار الأنوار: 28/303.
7. الامامة والسياسة: 19.
8. الشافي: 4/214، عنه شرح نهج البلاغة: 16/218.

أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا(1).
وفي رواية: فلما رأى ذلك أبو بكر أعطى الله عهداً، لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة (عليه السلام) ويترضاها، فبات ليلة في الصقيع(2) ما أظلّه شيء، ثم إن عمر أتى علياً (عليه السلام) فقال له: إنّ أبا بكر شيخ رقيق القلب وقد كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فله صحبة، وقد أتيناها غير هذه المرّة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنتراضى، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل، قال: " نعم ". فدخل علي (عليه السلام) على فاطمة (عليها السلام) فقال: " يا بنت رسول الله! قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت.. وقد تردّدا مراراً كثيرة... ورددتِهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك "، فقالت: " والله لا آذن لهما ولا أكلّمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني.. " فألحّ عليها علي (عليه السلام)(3) وقال: " فإنّي ضمنت لهما ذلك "، قالت: " إن كنت قد ضمنت لهما شيئاً.. فالبيت بيتك، والنساء تتبع الرجال لا أُخالف عليك شيء، فائذن لمن أحببت " فخرج علي (عليه السلام) فأذن لهما، فلما وقع بصرهما على فاطمة (عليها السلام) سلّما عليها.. فلم تردّ عليهما وحوّلت وجهها الكريم عنهما!!، فتحولا واستقبلا وجهها، حتى فعلت مراراً، وقالت: " يا علي! جاف الثوب.. " وقالت لنسوة حولها: " حوّلن وجهي.. " فلما حولن وجهها حَوَّلا إليها، فقال أبو بكر: يا بنت رسول الله! إنّما أتيناك ابتغاء مرضاتك، واجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عمّا كان منّا إليك، قالت: " لا أكلمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى أبي.. وأشكوكما إليه.. وأشكو صنعكما وفعالكما وما ارتكبتما منّي ". قالا: إنا جئنا
____________
1. كتاب سليم: 253، عنه بحار الأنوار: 28/303.
2. خ. ل: البقيع.
3. الشافي: 4/214.

معتذرين مبتغين مرضاتك فاغفري واصفحي عنّا ولا تؤاخذينا بما كان منا.
وفي رواية: اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك.
فالتفتت إلى علي (عليه السلام) وقالت: " إنّي لا أكلمهما من رأسي كلمة حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنْ صدقاني رأيت رأيى.. " قالا: اللّهم ذلك لها، وإنّا لا نقول إلاّ حقّاً ولا نشهد إلاّ صدقاً، فقالت: " أُنشدكما بالله! هل سمعتما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " فاطمة بضعة منّي وأنا منها، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟! " قالا: اللّهم نعم.
فقالت: " الحمد لله "، ثم قالت: " اللّهم إنّي أُشهدك فاشهدوا يا من حضرني، أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي، والله لا أُكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما به وبي وارتكبتما مني.. " فدعا أبو بكر بالويل والثبور، وقال: ليت أُمّي لم تلدني، فقال عمر: عجباً للناس كيف ولّوك أُمورهم وأنت شيخ قد خرفت، تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها(1).
وفي رواية: قالت: " نشدتكما الله! ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَنْ أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومَنْ أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَنْ أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ " قالا: نعم، قالت: " فإني أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني.. ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما إليه " فانتحب أبو بكر يبكي، وهي تقول: " والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة
____________
1. علل الشرايع: 186 ـ 187، عنه بحار الأنوار: 43/202 ـ 203.

أصلّيها "(1).
فلما خرجا قالت لامير المؤمنين (عليه السلام): " هل صنعت ما أردت؟ " قال: " نعم "، قالت: " فهل أنت صانع ما آمرك به؟ " قال: " نعم "، قالت: " فإنىّ أُنشدك الله ألاّ يصلّيا على جنازتي.. ولا يقوما على قبري "(2).
تجهيز فاطمة (عليها السلام) ودفنها وبكاء أمير المؤمنين (عليه السلام) عليها
ثم إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يمرّضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس سرّاً، إلى أن حضرتها الوفاة فأخذت تبكى، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): " يا سيدتي! ما يبكيك؟ " قالت: " أبكي لما تلقى بعدي ". فقال لها: " لا تبكي! فوالله إن ذلك لصغير في ذات الله "(3) فوصّته بأن يتولى أمرها ويدفنها ليلاً،
____________
1. الامامة والسياسة: 19 ـ 20. أقول: قولها (عليه السلام): " والله لأدعونّ عليك.. " رواه أيضاً البلاذري في أنساب الأشراف: 10/79 (ط دار الفكر) في ترجمة أبي بكر، والجاحظ في الرسائل (السياسية)، ص 467 (ط مكتبة دار الهلال) وعنه شرح نهج البلاغة: 16/264 ; والجوهري في السقيفة وفدك عنه شرح نهج البلاغة: 16/214.
وأما العيادة ; فذكرها كثير من علماء الفريقين راجع: 167 (الهامش).
2. الشافي: 4/214، عنه شرح نهج البلاغة: 16/281.
3. مصباح الانوار (مخطوط)، عنه بحار الأنوار: 43/217.
أقول: لماذا أخرّ أبو بكر وعمر عيادتها وطلب مرضاتها إلى أن ثقلت وأيقنا بوفاتها؟!
لماذا أصرّت فاطمة (عليها السلام) على المنع وألحّ علي (عليه السلام) على الإذن لهما؟!
لماذا لم تردّ فاطمة (عليها السلام) عليهما جواب السلام..؟! ألم يكونا مسلمَيْن؟!
لماذا لم تعف عنهما..؟! أليس العفو من الصفات الحسنة التي أمرنا بها في الكتاب والسنّة؟! ولماذا...
الجواب واضح:إنّهما أرادا بهذه العيادة السياسية تلبيس الأُمور على الناس، ولماذا.. ولذا أخرّاها إلى قبل وفاتها،.. وقد أظهرت فاطمة (عليها السلام) غضبها بمنعها عن العيادة، وزاد وضوحاً حين أجاز أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يدخلا عليها، إذ صرحت بأنّها تدعو على أبي بكر، ولذا خرج باكياً.
نعم، العفو عن المقرّ لا عن المصرّ، فلو كانا صادقَيْن! لماذا لم يردّا الخلافة المغتصبة إلى أمير المؤمين (عليه السلام)؟! ولماذا لم يردّا فدكاً إلى فاطمة (عليها السلام)؟!

ويعفى قبرها(1)، ولا يحضر عند تجهيزها والصلاة عليها ودفنها الشيخان وأعوانهم(2).
ثم إنها لبست ثيابها الجدد ـ بعد أن اغتسلت ـ ثم أمرت أن لا تكشف(3)..
وفي بعض الروايات قالت: " لا يكشفنّ أحد لي كتفاً "(4).
فعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصيتها، فغسّلها ليلاً، وحينما كان مشغولاً بتغسيلها بكى بكاءً عالياً، ثم خرج ودموعه تسيل على خدّيه، فلما سُئل عن ذلك أجاب بأنّه وجد آثار السياط والرفسة والضربات بجسمها(5)، بل قال المقداد
____________
1. الكافي: 1/458 ; أمالى المفيد: 281.
2. علل الشرائع: 185 ; المناقب: 3/363، مصباح الأنوار، عنه بحار الأنوار: 81/390، 254 ـ 255.
3. حلية الأولياء: 2/43 ; المعجم الكبير للطبراني: 22/399 ; مسند أحمد: 6/461 ـ 462 ; الاصابة: 4/379 ; اُسد الغابة: 5/590 ; مجمع الزوائد: 9/210 ـ 211 ; مقتل الخوارزمي: 1/81 ; البداية والنهاية: 5/350 ; وفاء الوفاء: 3/903.
4. الطبقات لابن سعد: 8/18 ; الإصابة: 4/379، (8/58، ط دار الجيل) ; سير أعلام النبلاء: 2/95 ; شرح المواهب للزرقاني: 3/206.
أقول: ولعلّها تريد بذلك أن تغسل الدم عن ثيابها وجسدها وتمنع عن كشف كتفها لتخفي على أمير المؤمنين المظلوم (عليه السلام) ما أصابها من الضربات.
5. راجع مصائب المعصومين (عليهم السلام): 27 ; بيت الأحزان: 33 (لليزدي) ; جامع النورين: 244 ; شعشعة الحسينية: 144 ـ 145 ; حزن المؤمنين: 61 ; بشارة الباكين: 26 ; مرقاة الإيقان: 1/112، 125 ; أنوار الشهادة: 207، 208 (مصوّرة) ماتمكده: المجلس الثالث عشر.

: خرجت بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدنيا وظهرها وجنبها يدميان من أثر ضربات السيف والسياط(1). فصلّى عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلاً(2) ولم يشهدها إلاّ خواصه(3).
فدفنها أمير المؤمنين (عليه السلام) وعَفَّى موضع قبرها.. فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن، فأرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " السلام عليك يا رسول الله منّى والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك، وقرّة عينك، وزائرتك، والبائتة في الثري ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك.. قلّ يا رسول الله! عن صفيّتك صبري، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي، إلاّ أن في التأسّي لي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزي، ولقد وسّدتك في ملحود قبرك، بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمّضتك بيدي، وتولّيت أمرك بنفسي، نعم وفي كتاب الله أنعم القبول ( إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ )(4) قد استُرجِعَت الوديعة وأُخذت الرهينة وأُخلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء.
يا رسول الله! أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، لا يبرح الحزن من
____________
1. كامل بهائي: 1/312. (فارسي)
2. له مصادر كثيرة عن العامة والخاصة كما يأتي في محلّه ان شاء الله تعالى.
3. المشهور حضور سبعة من الأصحاب للصلاة على فاطمة (عليها السلام) وهم: سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وحذيفة وعبد الله بن مسعود وهذا هو المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في الخصال: 361 ورجال الكشى: 1/34 ح 13 ولكن ورد في غير واحد من المصادر حضور غيرهم والمتحصّل من الجميع حضور: الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، وعقيل، وعبد الله بن جعفر وبريدة والعباس وابناه فضل وعبد الله وأُسامة والزبير ونفر من بني هاشم وبنات أمير المؤمنين (عليه السلام) ونسوة من قريش وأسماء بنت عميس وخادمتها فضة، راجع إعلام الورى: 152 ; المناقب: 3/363 ; بحار الأنوار: 43/180، 183، 189، 192، 199 ـ 200 و 81/310 ; كامل بهائي: 1/312.
4. البقرة (2): 156.

قلبي أو يختار الله لي دارك الّتي فيها أنت مقيم، كمد مقيّح، وهم مهيّج، سرعان ما فرّق بيننا وإلى الله أشكو..
وستنبئك ابنتك بتظاهر أُمّتك عليّ وعلى هضمها حقّها فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول و ( يَحْكُم اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ )(1).
سلام عليك ـ يا رسول الله! ـ سلام مودّع، لاسئم ولا قال، فإنْ أنصرف فلا عن ملالة، وإنْ أقم فلا عن سوء ظنّي بما وعد الله الصابرين الصبر أيمن وأجمل، ولو لا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند، قبرك لزاماً، والتلبّث عنده معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة فبعين الله تدفن بنتك سرّاً.. ويهتضم حقّها قهراً.. ويمنع إرثها جهراً.. ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله ـ يا رسول الله! ـ المشتكى، وفيك أجمل العزاء.. فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته "(2).
____________
1. يونس (10): 109.
2. أمالي المفيد: 281 ; بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): 258 ; الكافي: 1/458 ; أمالي الطوسي: 1/107 ; (ط النجف) ; دلائل الإمامة: 47 ; بحار الأنوار: 43/193، 211، وله مصادر أُخرى يأتي مع الإشارة إلى موارد اختلاف النُسخ، راجع الرواية المرقّمة [130] في الفصل الآتي.