الشيخ عباس محمد
10-01-2018, 08:17 PM
الادلّة التي يقيمونها على إمامة أبي بكر
البحث الان في الادلّة التي يقيمونها على إمامة أبي بكر، ولولا التعرّض لهذه الادلّة لبقي البحث ناقصاً، لانّا قد أقمنا الادلّة على إمامة أمير المؤمنين، لكنّهم أيضاً يقيمون الادلّة على إمامة أبي بكر، فلا بدّ من النظر في تلك الادلّة أيضاً، لنرى مدى تمامية تلك الادلّة بحسب الموازين العلميّة.
.
لكن الادلّة التي يستدلون بها على إمامة أبي بكر أدلّة ينفردون هم بها، وإذا كانت روايات، فإنّها ليست إلاّ في كتبهم وعن طرقهم، ومع ذلك ننظر في تلك الروايات ونباحثهم عليها، على أساس كتبهم ورواياتهم وأقوال علمائهم.
________________________________________
وكلّ استدلالاتنا ستكون على ضوء رواياتهم وكتبهم، ليتّضح لهم عدم تماميّة أدلّتهم بحسب كلمات علمائهم، فكيف لو أرادوا أن يلزمونا بمثل هذه الادلّة التي هم لا يقبلون بها، وعلماؤهم لا يرتضون بصحّتها وجواز الاستدلال بها ؟
وعندما نريد أنْ ننقل تلك الادلّة، نعتمد على أهم كتبهم، نعتمد على أشهر كتبهم في علم العقائد.
وأهم كتبهم: كتاب المواقف في علم الكلام وشرح المواقف وأيضاً شرح المقاصد، هذه أهم كتبهم الكلامية التي ألّفت في القرن الثامن والتاسع من الهجرة، وكانت هذه الكتب تدرس في حوزاتهم العلمية، ولاساتذتهم شروح وحواشي كثيرة على هذه الكتب، فلو رجعتم إلى كشف الظنون وقرأتم ما يقوله صاحب كشف الظنون عن شرح المواقف وعن شرح المقاصد وعن المواقف(1) نفسها، لرأيتم كثرة الكتب والشروح والحواشي المؤلفة عليها، وإنّ هذه الكتب أصبحت محوراً لتلك الكثرة من الكتب الكلامية عندهم.
ولا خلاف بينهم في اعتبار هذه الكتب وأهميتها، وكونها المعتمد والمستند عندهم في مباحث العقائد.
____________
(1) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2 / 1780، 1891.
أهمّ أدلّة القوم على إمامة أبي بكر
إذن، لننظر في أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، ولننظر ماذا يقولون هم في هذه الادلّة.
نصّ عبارة شرح المواقف(1) :
المقصد الرابع: في الامام الحق بعد رسول الله، هو عندنا أبو بكر، وعند الشيعة علي... لنا وجهان ـ أي دليلان ـ الاول: إنّ طريقه ـ طريق الامام ـ وتعيين الامام إمّا النص أو الاجماع... أمّا النص فلم يوجد(2) ، وأمّا الاجماع فلم يوجد على غير أبي بكر إتفاقاً من الاُمّة... الاجماع منعقد على حقيّة إمامة أحد الثلاثة: أبي بكر وعلي والعباس [ أي الشبهة منحصرة ومحصورة بين هؤلاء
____________
(1) شرح المواقف 8 / 354.
(2) فيعترف على عدم وجود نص على أبي بكر، وإنْ كان يدّعي عدم وجود نص على علي، لكن كلامنا الان في أبي بكر.
الثلاثة ] ثمّ إنّهما [ أي علي والعباس ] لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن على الحق [ أبو بكر ] لنازعاه.
إذن يتم الدليل على إمامة أبي بكر عن طريق الاجماع، ويعترف بعدم وجود النص.
فالدليل الاول على إمامة أبي بكر هو الاجماع والنص مفقود.
ويقول صاحب شرح المقاصد(1) في المبحث الثالث في طريق ثبوت الامامة:
إنّ الطريق إمّا النص وإمّا الاختيار(2) ، والنص منتف في حقّ أبي بكر، مع كونه إماماً بالاجماع.
فظهر إلى الان أنْ لا نصّ على أبي بكر، وأنّ الدليل هو الاجماع.
يبقى طريق ثالث، هم أيضاً يتعرضون لذلك الطريق، وهو طريق الافضلية، فكما بحثنا نحن يبحثون هم أيضاً عن الافضلية، كما أشرنا بالامس، عندما يبحثون عن الافضلية يختلفون في اشتراطها في الامام، كما أشرنا من قبل، فمن أنكر اعتبار الافضليّة
____________
(1) شرح المقاصد 5 / 255.
(2) لاحظوا: شارح المواقف يقول: الاجماع، شارح المقاصد يقول: الاختيار، وفرقٌ بين الاجماع والاختيار، وكلّ هذا سيتّضح في محلّه بالتفصيل.
فلا داعي له للاصرار على أفضلية أبي بكر، كالفضل ابن روزبهان، وقد أشرنا أمس، وأمّا الذي يعتبر الافضلية في الامام، فلابدّ وأن يصرّ على أفضليّة أبي بكر، لانّه قائل بإمامة أبي بكر، ومن هؤلاء القائلين بالافضليّة ابن تيميّة، ولذا يصرّ على أفضليّة أبي بكر، ويكذّب كلّما يستدلّ به الاماميّة على أفضليّة علي (عليه السلام).
أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
حينئذ نرجع إلى بحث الافضليّة في كتاب المواقف وشرح المواقف(1) يقول:
المقصد الخامس: في أفضل الناس بعد رسول الله، هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر، وعند الشيعة وعند أكثر متأخّري المعتزلة علي.
فيظهر إلى هنا: إنّ الدليل عندهم على إمامة أبي بكر: الاجماع والافضليّة، بناء على اعتبار الافضليّة في الامام، والنصّ عندهم مفقود.
أمّا نحن، فقد أقمنا الادلّة الثلاثة كلّها على إمامة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
____________
(1) شرح المواقف 8 / 365.
هم يقولون بعدم النصّ على أبي بكر ويعترفون بهذا، فتبقى دعوى الافضليّة، ثمّ دعوى الاجماع على إمامة أبي بكر.
فلننظر إلى أدلّتهم في الافضليّة:
الدليل الاول:
قوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى)(1) .
يقول في شرح المواقف: قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في أبي بكر، فهو أتقى، ومن هو أتقى فهو أكرم عند الله تعالى، لقوله عزّوجلّ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(2) ، فيكون أبو بكر هو الافضل عند الله سبحانه وتعالى.
ولا ريب أنّ من كان الافضل والاكرم عند الله، فهو المتعيّن للامامة والخلافة بعد رسول الله، وهذا لا إشكال فيه، من كان الاكرم والافضل عند الله فهو المتعيّن للامامة والخلافة بعد رسول الله، فيكون أبو بكر هو الافضل، الافضل من الاُمّة كلّها بعد رسول الله، فهو المتعيّن للخلافة بعده (صلى الله عليه وسلم).
____________
(1) سورة الليل: 17.
(2) سورة الحجرات: 13.
الدليل الثاني:
قوله (صلى الله عليه وسلم): «إقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر».
فإنّ «اقتدوا» أمر، والخطاب لعموم المسلمين، وهذا الخطاب العام يشمل عليّاً، فعلي أيضاً مأمور بالاقتداء بالشيخين، فيجب على علي أنْ يكون مقتدياً بالشيخين، والمقتدى هو الامام.
وهذا حديث نبوي يروونه في كتبهم، فحينئذ يكون دليلاً على إمامة أبي بكر، وخلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، فإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وليس البحث الان في خلافة عمر بن الخطّاب.
الدليل الثالث:
إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لابي الدرداء: «والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر».
وهذا في الحقيقة يصلح أنْ يكون نصّاً على إمامة أبي بكر، والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر، فيكون أبو بكر أفضل من علي، وتقديم المفضول على الفاضل أو تقديم الفاضل على الافضل قبيح، فيكون
أبو بكر هو المتعين للخلافة والامامة بعد رسول الله.
الدليل الرابع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) لابي بكر وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين والمرسلين».
ومن كان سيّد القوم، ومن كان كبير القوم، فهو الامام بينهم، هو المقتدى بينهم، هو المتّبع لهم، وعلي أيضاً من الناس، فيكون علي من جملة من عليه أن يتّبع الشيخين وهما سيّدا كهول أهل الجنّة.
الدليل الخامس:
قوله (عليه السلام): «ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدم عليه غيره».
إذن، غير أبي بكر لا يجوز أنْ يتقدّم على أبي بكر، وهذا يشمل عليّاً أيضاً، فعلي لا يجوز له أنْ يتقدم على أبي بكر، ولا يجوز لاحد أن يدّعي التقدم لعلي على أبي بكر، لانّه سيخالف قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
الدليل السادس:
تقديمه ـ أي تقديم النبي أبا بكر ـ في الصلاة مع أنّها أفضل
العبادات، فأبو بكر صلّى في مكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في مرض النبي، وكانت صلاته تلك على ما يروون بأمر من النبي، والصلاة أفضل العبادات، فإذا صلّى أحد في مكان النبي وأمّ المسلمين بأمر من النبي، فيكون هذا الشخص صالحاً لانْ يكون إماماً للمسلمين بعد النبي.
الدليل السابع:
قوله (صلى الله عليه وسلم): «خير أُمّتي أبو بكر ثمّ عمر».
وهذا أيضاً حديث يروونه في كتبهم.
الدليل الثامن:
قوله (صلى الله عليه وسلم): «لو كنت متّخذاً خليلاً دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلاً».
الدليل التاسع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) وقد ذكر عنده أبو بكر فقال رسول الله: «وأين مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله، وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف».
الدليل العاشر:
قول علي (عليه السلام): «خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ الله أعلم».
هذه هي عمدة أدلّتهم على أفضليّة أبي بكر، تجدون هذه الادلّة في: كتب الفخر الرازي، وفي الصواعق المحرقة، وفي شرح المواقف، وفي شرح المقاصد، وفي عامة كتبهم من المتقدمين والمتأخرين، وحتى المعتزلة، أي المعتزلة أيضاً يشاركون الاشاعرة في الاستدلال بمثل هذه الادلّة على إمامة أبي بكر، إلاّ المعتزلة المتأخّرين الذين لا يقولون بأفضليّة أبي بكر، وإنّما يقولون بأفضليّة علي، لكن المصلحة اقتضت أن يتقدّم أبو بكر على علي في الامامة.
مناقشة أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
هذه عامّة أدلّتهم، ولو سألتني عن أهمّ هذه الادلّة لذكرت لك: قضيّة الصلاة أوّلاً، وحديث «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، فهما أهم هذه الادلّة العشرة.
لكنّا نبحث عن كل هذه الادلّة واحداً واحداً، على ضوء كتبهم، وعلى أساس رواياتهم، وأقوال علمائهم.
الدليل الاول:
قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى) .
هذه آية قرآنية، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الايات المستدل بها على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ دلالة الاية على إمامة علي تتوقّف على ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر، وإلاّ فالاية من
القرآن، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.
قوله تعالى: (سَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى) يتوقّف الاستدلال به على مقدمات، حتّى تتمّ دلالة الاية على إمامة أبي بكر...
أوّلاً:
الاستدلال بهذه الاية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الادلّة التي أقامها الامامية على عصمة علي (عليه السلام)، وإلاّ فالمعصوم أكرم عند الله سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى، فإذن، يتوقّف الاستدلال بهذه الاية على إمامة أبي بكر ـ لو كانت نازلةً فيه ـ على عدم تماميّة تلك الادلّة التي أقامها الامامية على عصمة علي (عليه السلام)، وإلاّ فلو تمّ شيء من تلك الادلّة لكان علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يبطل هذا الاستدلال.
وثانياً:
يتوقف الاستدلال بهذه الاية المباركة لاكرميّة أبي بكر، على أنْ لا يتمّ ما استدلّ به لافضليّة علي (عليه السلام)، وإلاّ لتعارضا بناء على صحة هذا الاستدلال وحجيّة هذا الحديث الوارد في ذيل هذه الاية المباركة، ويكون الدليلان حجّتين متعارضتين، ويتساقطان، فلا تبقى في الاية هذه دلالة على امامته.
ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثبات هو: أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يسجد لصنم قط، وأبو بكر سجد، ولذا يقولون ـ إذا ذكروا عليّاً ـ: كرّم الله وجهه، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً:
يتوقف الاستدلال بهذه الاية المباركة على نزول الاية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الاية على ثلاثة أقوال:
القول الاول: إنّ الاية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.
القول الثاني: إنّ الاية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة، راجعوا الدر المنثور في التفسير بالمأثور(1) ، يذكر لكم هذه القصة في ذيل هذه الاية، وإنّ الاية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.
القول الثالث: إنّ الاية نازلة في أبي بكر.
فالقول بنزول الاية المباركة في أبي بكر أحد الاقوال الثلاثة عندهم.
لكن هذا القول ـ أي القول بنزول الاية في أبي بكر ـ يتوقف على صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الاية في أبي بكر يبطل هذا القول.
وإليكم المصدر الذي ذكر فيه خبر نزول الاية في أبي بكر
____________
(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6 / 358.
وتصريحه بضعف سند هذه الرواية:
الرواية يرويها الطبراني، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، ثمّ يقول: فيه ـ أي في سنده ـ مصعب بن ثابت، وفيه ضعف(1) .
فالقول الثالث الذي هو أحد الاقوال في المسألة يستند إلى هذه الرواية، والرواية ضعيفة.
ومصعب بن ثابت هو حفيد عبدالله بن الزبير، مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصلة المطولة، ومصعب بن ثابت: ضعّفه يحيى بن معين، ضعّفه أحمد بن حنبل، ضعّفه أبو حاتم قال: لا يحتجّ به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وهكذا قال غير هؤلاء(2) .
فكيف يستدل بالاية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته، وفي المسألة ثلاثة أقوال، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية، وتلك الرواية ضعيفة ؟
مضافاً: إلى أنّ هذا الاستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الاماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته.
____________
(1) مجمع الزوائد 9 / 50.
(2) تهذيب التهذيب 10 / 144.
الدليل الثاني:
الحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».
هذاالحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين...، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام، وفي كتب الاُصول أيضاً، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة، فالحديث مهمّ جدّاً، لاسيّما وأنّه في مسند أحمد بن حنبل(1) ، وأيضاً في صحيح الترمذي(2) ، وأيضاً في مستدرك الحاكم(3) ، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.
ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث، وتدقّقوا النظر في حال تلك الاسانيد، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.
____________
(1) مسند أحمد 5 / 382، 385.
(2) صحيح الترمذي 5 / 572.
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 75.
لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه بالنسبة إلى هذا الحديث، وأُقرّب لكم الطريق ولا تحتاجون إلى مراجعة الكتب، فأقول:
قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير(1) : أعلّه أبو حاتم [ أي قال: هذا الحديث عليل ]وقال البزّار كابن حزم لا يصح(2) .
فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث: أبو حاتم، أبو بكر البزّار، وابن حزم الاندلسي.
والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعّفه بصراحة، فراجعوا كتاب الترمذي وهو موجود(3) .
وإذا ما رجعتم إلى كتاب الضعفاء الكبير لابي جعفر العُقيلي لرأيتموه يقول: منكر لا أصل له(4) .
وإذا رجعتم إلى ميزان الاعتدال يقول نقلاً عن أبي بكر
____________
(1) وقد ذكرت لكم من قبل إنّنا في فهم الاحاديث والدقّة في أسانيدها لابدّ وأن نرجع إلى ماقيل في شرحها والكتب المؤلّفة في شروح الاحاديث، من قبيل المرقاة وفيض القدير وشروح الشفاء للقاضي عياض، وأمثال ذلك.
(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2 / 56.
(3) صحيح الترمذي 5 / 572.
(4) كتاب الضعفاء الكبير 4 / 95.
النقّاش: وهذا الحديث واه(1) .
ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ: هذا الحديث لا يثبت(2) .
وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743هـ، يقول في شرحه على منهاج البيضاوي: إنّ هذا الحديث موضوع(3) .
ولو رجعتم إلى ميزان الاعتدال لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله، فراجعوا(4) .
وإذا رجعتم إلى تلخيص المستدرك ترونه يتعقّب الحاكم ويقول: سنده واه جدّاً(5) .
وإذا رجعتم إلى مجمع الزوائد للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول: وفيه من لم أعرفهم(6) .
____________
(1) ميزان الاعتدال 1 / 142.
(2) لسان الميزان 5 / 237.
(3) شرح المنهاج: مخطوط.
(4) ميزان الاعتدال 1/105، 141 و43/610.
(5) تلخيص المستدرك ـ ط في ذيل المستدرك 3 / 75.
(6) مجمع الزوائد 9 / 53.
وإذا رجعتم إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الاسلام لرأيتم يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوط هذا الحديث، فراجعوا لسان الميزان(1) .
وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة، وهو شيخ الاسلام الهروي، له كتاب الدر النضيد من مجموعة الحفيد ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول: هذا الحديث موضوع(2) .
وابن درويش الحوت يورد هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب، ويذكر الاقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(3)(4) .
فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق أنْ يُستدلّ به على مبحث الامامة، سواء كان يستدل به الشيعة الامامية أو السنّة، حتّى لو
____________
(1) لسان الميزان 1/188، 272 و5/237.
(2) الدر النضيد من مجموعة الحفيد: 97.
(3) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 48.
(4) هذا، وللحافظ ابن حزم الاندلسي في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً، إنّه يقول ما هذا نصّه: ولو أننا نستجيز التدليس والامر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، ولكنّه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح. الفصل في الملل والنحل 4 / 88.
أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لامامة علي (عليه السلام)، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الائمّة، فلا يمكن الاحتجاج به على القوم لاثبات الامامة أصلاً، ولا يمكن الاستدلال به في مورد من الموارد.
ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لاثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.
فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه شرح الفقه الاكبر إلى صحيحي البخاري ومسلم، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.
ثمّ كيف يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بالاقتداء بالشيخين، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد، فبمن يقتدي المسلمون ؟ وكيف يأمر رسول الله بالاقتداء بالشيخين، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا ؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما، وتلك الموارد كثيرة جدّاً ؟!
الدليل الثالث:
قول رسول الله لابي الدرداء: «ما طلعت شمس ولا غربت...» إلى آخره.
هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم، فقد رواه الطبراني في الاوسط بسند قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب.
وفيه أيضاً ـ أي في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول: فيه بقيّة ـ بقيّة بن الوليد ـ وهو مدلّس وهو ضعيف(1) .
وهو ساقط عند علماء الرجال.
الدليل الرابع:
«هما سيّدا كهول أهل الجنّة».
هذا الحديث يرويه البزّار، ويرويه الطبراني، كلاهما عن أبي سعيد.
____________
(1) مجمع الزوائد 9 / 44.
قال الهيثمي حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد: فيه علي بن عابس وهو ضعيف.
ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيدالله بن عمر ويقول في راويه عبد الرحمن بن ملك: هو متروك(1) .
وليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.
الدليل الخامس:
«ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره».
ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(2) .
وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.
الدليل السادس:
وأمّا صلاة أبي بكر، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين:
____________
(1) مجمع الزوائد 9 / 53.
(2) كتاب الموضوعات 1 / 318.
السبب الاوّل:
إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين لا بسند بل أكثر، ووارد في المسانيد والسنن، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة.
وثانياً:
الصلاة أفضل العبادات، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده، فيكون هذا الحديث ـ حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول الله ـ من أحسن الادلّة على إمامة أبي بكر.
ولو راجعتم الكتب لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث، واستدلالهم بهذا الخبر على رأس جميع الادلّه وفي أوّل ما يحتجّون به لامامة أبي بكر.
رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة، وعلى رأسهم عائشة بنت أبي بكر، ولكنّك لو تأمّلت في الاسانيد لرأيت الصحابة يروون هذا الخبر مرسلاً، أو يسمعون الخبر عن عائشة وتكون هي الواسطة في نقل هذا الخبر، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين:
الاوّل:
مخالفتها لعلي.
الثاني:
كونها بنت أبي بكر.
ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر، وأيضاً القرائن الخارجية التي لها علاقة بهذا الخبر، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها، ولم يكن من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فمن جملة القرائن المهمة التي لها الاثر البالغ في فهم هذه القضية: قضية أمر رسول الله بخروج القوم مع أُسامة، قضية بعث أُسامة، وتأكيده (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.
أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة، وإلى آخر لحظة من حياته، فلم يخالف فيه أحد، ولا خلاف فيه أبداً، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم، فلا خلاف في هذا.
وأمّا أنّ كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر، فكيف يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بخروج أبي بكر في بعث أُسامة، ويؤكّد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه ؟
وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لان ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة، ويقول هذا كذب، لانّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث
أُسامة، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، إذن، لابدّ من الانكار والحال أنّ وجود أبي بكر في بعث اُسامة لا يقبل الانكار.
أنقل لكم عبارة واحدة فقط، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح البخاري:
قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر، وغيرهم(1) . أي: وغيرهم من علماء المغازي والحديث.
ولذا لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة، ولذا لمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر قال: أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه ؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.
القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر، أي خبر: أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصلاة.
ولكن لا نكتفي بهذا القدر، ونضيف أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعتقد،
____________
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124.
وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول الله.
قال ابن أبي الحديد: سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه ؟ فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، لكن عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً.
ولا نكتفي بهذا القدر فنقول:
سلّمنا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة، فكم من صحابي أمر رسول الله بأنْ يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الامامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي الذي صلّى في مكانه (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكنْ لكم أن تقولوا: بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الاوقات السابقة، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب، بنصب أبي بكر للامامة من بعده، لك أنْ تقول هذا، كما قالوا.
فاسمع لواقع القضية، واستمع لما يأتي:
إنّه لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الامر، فقد ذكرت تلك
الاخبار أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين
ورجلاه تخطّان على الارض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.
لكنّهم يعودون فيقولون: بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة، وهذا الذي وقع من رسول الله وقع مرّة واحدةً فقط.
قلت:
يتبع
البحث الان في الادلّة التي يقيمونها على إمامة أبي بكر، ولولا التعرّض لهذه الادلّة لبقي البحث ناقصاً، لانّا قد أقمنا الادلّة على إمامة أمير المؤمنين، لكنّهم أيضاً يقيمون الادلّة على إمامة أبي بكر، فلا بدّ من النظر في تلك الادلّة أيضاً، لنرى مدى تمامية تلك الادلّة بحسب الموازين العلميّة.
.
لكن الادلّة التي يستدلون بها على إمامة أبي بكر أدلّة ينفردون هم بها، وإذا كانت روايات، فإنّها ليست إلاّ في كتبهم وعن طرقهم، ومع ذلك ننظر في تلك الروايات ونباحثهم عليها، على أساس كتبهم ورواياتهم وأقوال علمائهم.
________________________________________
وكلّ استدلالاتنا ستكون على ضوء رواياتهم وكتبهم، ليتّضح لهم عدم تماميّة أدلّتهم بحسب كلمات علمائهم، فكيف لو أرادوا أن يلزمونا بمثل هذه الادلّة التي هم لا يقبلون بها، وعلماؤهم لا يرتضون بصحّتها وجواز الاستدلال بها ؟
وعندما نريد أنْ ننقل تلك الادلّة، نعتمد على أهم كتبهم، نعتمد على أشهر كتبهم في علم العقائد.
وأهم كتبهم: كتاب المواقف في علم الكلام وشرح المواقف وأيضاً شرح المقاصد، هذه أهم كتبهم الكلامية التي ألّفت في القرن الثامن والتاسع من الهجرة، وكانت هذه الكتب تدرس في حوزاتهم العلمية، ولاساتذتهم شروح وحواشي كثيرة على هذه الكتب، فلو رجعتم إلى كشف الظنون وقرأتم ما يقوله صاحب كشف الظنون عن شرح المواقف وعن شرح المقاصد وعن المواقف(1) نفسها، لرأيتم كثرة الكتب والشروح والحواشي المؤلفة عليها، وإنّ هذه الكتب أصبحت محوراً لتلك الكثرة من الكتب الكلامية عندهم.
ولا خلاف بينهم في اعتبار هذه الكتب وأهميتها، وكونها المعتمد والمستند عندهم في مباحث العقائد.
____________
(1) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2 / 1780، 1891.
أهمّ أدلّة القوم على إمامة أبي بكر
إذن، لننظر في أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، ولننظر ماذا يقولون هم في هذه الادلّة.
نصّ عبارة شرح المواقف(1) :
المقصد الرابع: في الامام الحق بعد رسول الله، هو عندنا أبو بكر، وعند الشيعة علي... لنا وجهان ـ أي دليلان ـ الاول: إنّ طريقه ـ طريق الامام ـ وتعيين الامام إمّا النص أو الاجماع... أمّا النص فلم يوجد(2) ، وأمّا الاجماع فلم يوجد على غير أبي بكر إتفاقاً من الاُمّة... الاجماع منعقد على حقيّة إمامة أحد الثلاثة: أبي بكر وعلي والعباس [ أي الشبهة منحصرة ومحصورة بين هؤلاء
____________
(1) شرح المواقف 8 / 354.
(2) فيعترف على عدم وجود نص على أبي بكر، وإنْ كان يدّعي عدم وجود نص على علي، لكن كلامنا الان في أبي بكر.
الثلاثة ] ثمّ إنّهما [ أي علي والعباس ] لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن على الحق [ أبو بكر ] لنازعاه.
إذن يتم الدليل على إمامة أبي بكر عن طريق الاجماع، ويعترف بعدم وجود النص.
فالدليل الاول على إمامة أبي بكر هو الاجماع والنص مفقود.
ويقول صاحب شرح المقاصد(1) في المبحث الثالث في طريق ثبوت الامامة:
إنّ الطريق إمّا النص وإمّا الاختيار(2) ، والنص منتف في حقّ أبي بكر، مع كونه إماماً بالاجماع.
فظهر إلى الان أنْ لا نصّ على أبي بكر، وأنّ الدليل هو الاجماع.
يبقى طريق ثالث، هم أيضاً يتعرضون لذلك الطريق، وهو طريق الافضلية، فكما بحثنا نحن يبحثون هم أيضاً عن الافضلية، كما أشرنا بالامس، عندما يبحثون عن الافضلية يختلفون في اشتراطها في الامام، كما أشرنا من قبل، فمن أنكر اعتبار الافضليّة
____________
(1) شرح المقاصد 5 / 255.
(2) لاحظوا: شارح المواقف يقول: الاجماع، شارح المقاصد يقول: الاختيار، وفرقٌ بين الاجماع والاختيار، وكلّ هذا سيتّضح في محلّه بالتفصيل.
فلا داعي له للاصرار على أفضلية أبي بكر، كالفضل ابن روزبهان، وقد أشرنا أمس، وأمّا الذي يعتبر الافضلية في الامام، فلابدّ وأن يصرّ على أفضليّة أبي بكر، لانّه قائل بإمامة أبي بكر، ومن هؤلاء القائلين بالافضليّة ابن تيميّة، ولذا يصرّ على أفضليّة أبي بكر، ويكذّب كلّما يستدلّ به الاماميّة على أفضليّة علي (عليه السلام).
أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
حينئذ نرجع إلى بحث الافضليّة في كتاب المواقف وشرح المواقف(1) يقول:
المقصد الخامس: في أفضل الناس بعد رسول الله، هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر، وعند الشيعة وعند أكثر متأخّري المعتزلة علي.
فيظهر إلى هنا: إنّ الدليل عندهم على إمامة أبي بكر: الاجماع والافضليّة، بناء على اعتبار الافضليّة في الامام، والنصّ عندهم مفقود.
أمّا نحن، فقد أقمنا الادلّة الثلاثة كلّها على إمامة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
____________
(1) شرح المواقف 8 / 365.
هم يقولون بعدم النصّ على أبي بكر ويعترفون بهذا، فتبقى دعوى الافضليّة، ثمّ دعوى الاجماع على إمامة أبي بكر.
فلننظر إلى أدلّتهم في الافضليّة:
الدليل الاول:
قوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى)(1) .
يقول في شرح المواقف: قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في أبي بكر، فهو أتقى، ومن هو أتقى فهو أكرم عند الله تعالى، لقوله عزّوجلّ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(2) ، فيكون أبو بكر هو الافضل عند الله سبحانه وتعالى.
ولا ريب أنّ من كان الافضل والاكرم عند الله، فهو المتعيّن للامامة والخلافة بعد رسول الله، وهذا لا إشكال فيه، من كان الاكرم والافضل عند الله فهو المتعيّن للامامة والخلافة بعد رسول الله، فيكون أبو بكر هو الافضل، الافضل من الاُمّة كلّها بعد رسول الله، فهو المتعيّن للخلافة بعده (صلى الله عليه وسلم).
____________
(1) سورة الليل: 17.
(2) سورة الحجرات: 13.
الدليل الثاني:
قوله (صلى الله عليه وسلم): «إقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر».
فإنّ «اقتدوا» أمر، والخطاب لعموم المسلمين، وهذا الخطاب العام يشمل عليّاً، فعلي أيضاً مأمور بالاقتداء بالشيخين، فيجب على علي أنْ يكون مقتدياً بالشيخين، والمقتدى هو الامام.
وهذا حديث نبوي يروونه في كتبهم، فحينئذ يكون دليلاً على إمامة أبي بكر، وخلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، فإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وليس البحث الان في خلافة عمر بن الخطّاب.
الدليل الثالث:
إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لابي الدرداء: «والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر».
وهذا في الحقيقة يصلح أنْ يكون نصّاً على إمامة أبي بكر، والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر، فيكون أبو بكر أفضل من علي، وتقديم المفضول على الفاضل أو تقديم الفاضل على الافضل قبيح، فيكون
أبو بكر هو المتعين للخلافة والامامة بعد رسول الله.
الدليل الرابع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) لابي بكر وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين والمرسلين».
ومن كان سيّد القوم، ومن كان كبير القوم، فهو الامام بينهم، هو المقتدى بينهم، هو المتّبع لهم، وعلي أيضاً من الناس، فيكون علي من جملة من عليه أن يتّبع الشيخين وهما سيّدا كهول أهل الجنّة.
الدليل الخامس:
قوله (عليه السلام): «ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدم عليه غيره».
إذن، غير أبي بكر لا يجوز أنْ يتقدّم على أبي بكر، وهذا يشمل عليّاً أيضاً، فعلي لا يجوز له أنْ يتقدم على أبي بكر، ولا يجوز لاحد أن يدّعي التقدم لعلي على أبي بكر، لانّه سيخالف قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
الدليل السادس:
تقديمه ـ أي تقديم النبي أبا بكر ـ في الصلاة مع أنّها أفضل
العبادات، فأبو بكر صلّى في مكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في مرض النبي، وكانت صلاته تلك على ما يروون بأمر من النبي، والصلاة أفضل العبادات، فإذا صلّى أحد في مكان النبي وأمّ المسلمين بأمر من النبي، فيكون هذا الشخص صالحاً لانْ يكون إماماً للمسلمين بعد النبي.
الدليل السابع:
قوله (صلى الله عليه وسلم): «خير أُمّتي أبو بكر ثمّ عمر».
وهذا أيضاً حديث يروونه في كتبهم.
الدليل الثامن:
قوله (صلى الله عليه وسلم): «لو كنت متّخذاً خليلاً دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلاً».
الدليل التاسع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) وقد ذكر عنده أبو بكر فقال رسول الله: «وأين مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله، وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف».
الدليل العاشر:
قول علي (عليه السلام): «خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ الله أعلم».
هذه هي عمدة أدلّتهم على أفضليّة أبي بكر، تجدون هذه الادلّة في: كتب الفخر الرازي، وفي الصواعق المحرقة، وفي شرح المواقف، وفي شرح المقاصد، وفي عامة كتبهم من المتقدمين والمتأخرين، وحتى المعتزلة، أي المعتزلة أيضاً يشاركون الاشاعرة في الاستدلال بمثل هذه الادلّة على إمامة أبي بكر، إلاّ المعتزلة المتأخّرين الذين لا يقولون بأفضليّة أبي بكر، وإنّما يقولون بأفضليّة علي، لكن المصلحة اقتضت أن يتقدّم أبو بكر على علي في الامامة.
مناقشة أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
هذه عامّة أدلّتهم، ولو سألتني عن أهمّ هذه الادلّة لذكرت لك: قضيّة الصلاة أوّلاً، وحديث «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، فهما أهم هذه الادلّة العشرة.
لكنّا نبحث عن كل هذه الادلّة واحداً واحداً، على ضوء كتبهم، وعلى أساس رواياتهم، وأقوال علمائهم.
الدليل الاول:
قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى) .
هذه آية قرآنية، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الايات المستدل بها على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ دلالة الاية على إمامة علي تتوقّف على ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر، وإلاّ فالاية من
القرآن، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.
قوله تعالى: (سَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى) يتوقّف الاستدلال به على مقدمات، حتّى تتمّ دلالة الاية على إمامة أبي بكر...
أوّلاً:
الاستدلال بهذه الاية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الادلّة التي أقامها الامامية على عصمة علي (عليه السلام)، وإلاّ فالمعصوم أكرم عند الله سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى، فإذن، يتوقّف الاستدلال بهذه الاية على إمامة أبي بكر ـ لو كانت نازلةً فيه ـ على عدم تماميّة تلك الادلّة التي أقامها الامامية على عصمة علي (عليه السلام)، وإلاّ فلو تمّ شيء من تلك الادلّة لكان علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يبطل هذا الاستدلال.
وثانياً:
يتوقف الاستدلال بهذه الاية المباركة لاكرميّة أبي بكر، على أنْ لا يتمّ ما استدلّ به لافضليّة علي (عليه السلام)، وإلاّ لتعارضا بناء على صحة هذا الاستدلال وحجيّة هذا الحديث الوارد في ذيل هذه الاية المباركة، ويكون الدليلان حجّتين متعارضتين، ويتساقطان، فلا تبقى في الاية هذه دلالة على امامته.
ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثبات هو: أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يسجد لصنم قط، وأبو بكر سجد، ولذا يقولون ـ إذا ذكروا عليّاً ـ: كرّم الله وجهه، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً:
يتوقف الاستدلال بهذه الاية المباركة على نزول الاية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الاية على ثلاثة أقوال:
القول الاول: إنّ الاية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.
القول الثاني: إنّ الاية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة، راجعوا الدر المنثور في التفسير بالمأثور(1) ، يذكر لكم هذه القصة في ذيل هذه الاية، وإنّ الاية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.
القول الثالث: إنّ الاية نازلة في أبي بكر.
فالقول بنزول الاية المباركة في أبي بكر أحد الاقوال الثلاثة عندهم.
لكن هذا القول ـ أي القول بنزول الاية في أبي بكر ـ يتوقف على صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الاية في أبي بكر يبطل هذا القول.
وإليكم المصدر الذي ذكر فيه خبر نزول الاية في أبي بكر
____________
(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6 / 358.
وتصريحه بضعف سند هذه الرواية:
الرواية يرويها الطبراني، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، ثمّ يقول: فيه ـ أي في سنده ـ مصعب بن ثابت، وفيه ضعف(1) .
فالقول الثالث الذي هو أحد الاقوال في المسألة يستند إلى هذه الرواية، والرواية ضعيفة.
ومصعب بن ثابت هو حفيد عبدالله بن الزبير، مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصلة المطولة، ومصعب بن ثابت: ضعّفه يحيى بن معين، ضعّفه أحمد بن حنبل، ضعّفه أبو حاتم قال: لا يحتجّ به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وهكذا قال غير هؤلاء(2) .
فكيف يستدل بالاية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته، وفي المسألة ثلاثة أقوال، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية، وتلك الرواية ضعيفة ؟
مضافاً: إلى أنّ هذا الاستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الاماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته.
____________
(1) مجمع الزوائد 9 / 50.
(2) تهذيب التهذيب 10 / 144.
الدليل الثاني:
الحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».
هذاالحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين...، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام، وفي كتب الاُصول أيضاً، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة، فالحديث مهمّ جدّاً، لاسيّما وأنّه في مسند أحمد بن حنبل(1) ، وأيضاً في صحيح الترمذي(2) ، وأيضاً في مستدرك الحاكم(3) ، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.
ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث، وتدقّقوا النظر في حال تلك الاسانيد، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.
____________
(1) مسند أحمد 5 / 382، 385.
(2) صحيح الترمذي 5 / 572.
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 75.
لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه بالنسبة إلى هذا الحديث، وأُقرّب لكم الطريق ولا تحتاجون إلى مراجعة الكتب، فأقول:
قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير(1) : أعلّه أبو حاتم [ أي قال: هذا الحديث عليل ]وقال البزّار كابن حزم لا يصح(2) .
فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث: أبو حاتم، أبو بكر البزّار، وابن حزم الاندلسي.
والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعّفه بصراحة، فراجعوا كتاب الترمذي وهو موجود(3) .
وإذا ما رجعتم إلى كتاب الضعفاء الكبير لابي جعفر العُقيلي لرأيتموه يقول: منكر لا أصل له(4) .
وإذا رجعتم إلى ميزان الاعتدال يقول نقلاً عن أبي بكر
____________
(1) وقد ذكرت لكم من قبل إنّنا في فهم الاحاديث والدقّة في أسانيدها لابدّ وأن نرجع إلى ماقيل في شرحها والكتب المؤلّفة في شروح الاحاديث، من قبيل المرقاة وفيض القدير وشروح الشفاء للقاضي عياض، وأمثال ذلك.
(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2 / 56.
(3) صحيح الترمذي 5 / 572.
(4) كتاب الضعفاء الكبير 4 / 95.
النقّاش: وهذا الحديث واه(1) .
ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ: هذا الحديث لا يثبت(2) .
وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743هـ، يقول في شرحه على منهاج البيضاوي: إنّ هذا الحديث موضوع(3) .
ولو رجعتم إلى ميزان الاعتدال لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله، فراجعوا(4) .
وإذا رجعتم إلى تلخيص المستدرك ترونه يتعقّب الحاكم ويقول: سنده واه جدّاً(5) .
وإذا رجعتم إلى مجمع الزوائد للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول: وفيه من لم أعرفهم(6) .
____________
(1) ميزان الاعتدال 1 / 142.
(2) لسان الميزان 5 / 237.
(3) شرح المنهاج: مخطوط.
(4) ميزان الاعتدال 1/105، 141 و43/610.
(5) تلخيص المستدرك ـ ط في ذيل المستدرك 3 / 75.
(6) مجمع الزوائد 9 / 53.
وإذا رجعتم إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الاسلام لرأيتم يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوط هذا الحديث، فراجعوا لسان الميزان(1) .
وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة، وهو شيخ الاسلام الهروي، له كتاب الدر النضيد من مجموعة الحفيد ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول: هذا الحديث موضوع(2) .
وابن درويش الحوت يورد هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب، ويذكر الاقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(3)(4) .
فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق أنْ يُستدلّ به على مبحث الامامة، سواء كان يستدل به الشيعة الامامية أو السنّة، حتّى لو
____________
(1) لسان الميزان 1/188، 272 و5/237.
(2) الدر النضيد من مجموعة الحفيد: 97.
(3) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 48.
(4) هذا، وللحافظ ابن حزم الاندلسي في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً، إنّه يقول ما هذا نصّه: ولو أننا نستجيز التدليس والامر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، ولكنّه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح. الفصل في الملل والنحل 4 / 88.
أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لامامة علي (عليه السلام)، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الائمّة، فلا يمكن الاحتجاج به على القوم لاثبات الامامة أصلاً، ولا يمكن الاستدلال به في مورد من الموارد.
ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لاثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.
فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه شرح الفقه الاكبر إلى صحيحي البخاري ومسلم، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.
ثمّ كيف يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بالاقتداء بالشيخين، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد، فبمن يقتدي المسلمون ؟ وكيف يأمر رسول الله بالاقتداء بالشيخين، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا ؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما، وتلك الموارد كثيرة جدّاً ؟!
الدليل الثالث:
قول رسول الله لابي الدرداء: «ما طلعت شمس ولا غربت...» إلى آخره.
هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم، فقد رواه الطبراني في الاوسط بسند قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب.
وفيه أيضاً ـ أي في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول: فيه بقيّة ـ بقيّة بن الوليد ـ وهو مدلّس وهو ضعيف(1) .
وهو ساقط عند علماء الرجال.
الدليل الرابع:
«هما سيّدا كهول أهل الجنّة».
هذا الحديث يرويه البزّار، ويرويه الطبراني، كلاهما عن أبي سعيد.
____________
(1) مجمع الزوائد 9 / 44.
قال الهيثمي حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد: فيه علي بن عابس وهو ضعيف.
ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيدالله بن عمر ويقول في راويه عبد الرحمن بن ملك: هو متروك(1) .
وليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.
الدليل الخامس:
«ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره».
ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(2) .
وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.
الدليل السادس:
وأمّا صلاة أبي بكر، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين:
____________
(1) مجمع الزوائد 9 / 53.
(2) كتاب الموضوعات 1 / 318.
السبب الاوّل:
إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين لا بسند بل أكثر، ووارد في المسانيد والسنن، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة.
وثانياً:
الصلاة أفضل العبادات، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده، فيكون هذا الحديث ـ حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول الله ـ من أحسن الادلّة على إمامة أبي بكر.
ولو راجعتم الكتب لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث، واستدلالهم بهذا الخبر على رأس جميع الادلّه وفي أوّل ما يحتجّون به لامامة أبي بكر.
رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة، وعلى رأسهم عائشة بنت أبي بكر، ولكنّك لو تأمّلت في الاسانيد لرأيت الصحابة يروون هذا الخبر مرسلاً، أو يسمعون الخبر عن عائشة وتكون هي الواسطة في نقل هذا الخبر، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين:
الاوّل:
مخالفتها لعلي.
الثاني:
كونها بنت أبي بكر.
ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر، وأيضاً القرائن الخارجية التي لها علاقة بهذا الخبر، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها، ولم يكن من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فمن جملة القرائن المهمة التي لها الاثر البالغ في فهم هذه القضية: قضية أمر رسول الله بخروج القوم مع أُسامة، قضية بعث أُسامة، وتأكيده (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.
أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة، وإلى آخر لحظة من حياته، فلم يخالف فيه أحد، ولا خلاف فيه أبداً، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم، فلا خلاف في هذا.
وأمّا أنّ كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر، فكيف يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بخروج أبي بكر في بعث أُسامة، ويؤكّد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه ؟
وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لان ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة، ويقول هذا كذب، لانّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث
أُسامة، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، إذن، لابدّ من الانكار والحال أنّ وجود أبي بكر في بعث اُسامة لا يقبل الانكار.
أنقل لكم عبارة واحدة فقط، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح البخاري:
قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر، وغيرهم(1) . أي: وغيرهم من علماء المغازي والحديث.
ولذا لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة، ولذا لمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر قال: أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه ؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.
القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر، أي خبر: أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصلاة.
ولكن لا نكتفي بهذا القدر، ونضيف أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعتقد،
____________
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124.
وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول الله.
قال ابن أبي الحديد: سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه ؟ فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، لكن عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً.
ولا نكتفي بهذا القدر فنقول:
سلّمنا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة، فكم من صحابي أمر رسول الله بأنْ يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الامامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي الذي صلّى في مكانه (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكنْ لكم أن تقولوا: بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الاوقات السابقة، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب، بنصب أبي بكر للامامة من بعده، لك أنْ تقول هذا، كما قالوا.
فاسمع لواقع القضية، واستمع لما يأتي:
إنّه لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الامر، فقد ذكرت تلك
الاخبار أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين
ورجلاه تخطّان على الارض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.
لكنّهم يعودون فيقولون: بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة، وهذا الذي وقع من رسول الله وقع مرّة واحدةً فقط.
قلت:
يتبع