مسفر
19-01-2018, 02:47 PM
كان نبينا الأعظم محمد صلى اللّه عليه وآله، المثل الأعلى في سائر نواحي الكمال، اصطفاه اللّه من الخلق واختاره من العباد، وحباه بأرفع الخصائص والمواهب التي حبا بها الأنبياء عليهم السلام، وجمع فيه ما تفرق فيهم من صنوف العظمات والأمجاد ما جعله سيدهم وخاتمهم. وناهيك في عظمته أنه استطاع بجهوده الجبارة ومبادئه الخالدة، أن يحقق في أقل من ربع قرن من الانتصارات الروحية والمكاسب الدينية، ما لم يستطع تحقيقه سائر الأنبياء والشرائع في أكثر من قرون.
جاء بأكمل الشرائع الالهية، وأشدها ملائمة لأطوار الحياة، وأكثرها تكفلاً بإسعاد الانسان مادياً وروحياً، ديناً ودنياً، فأخرج الناس من ظلمة الكفر الى نور الاسلام، ومن شقاء الجاهلية الى السعادة الأبدية. وجعل أمته أكمل الأمم ديناً، وأوفرهم علماً، واسماهم أدباً وأخلاقاً، وأرفعهم حضارة ومجداً. وقد عانى في سبيل ذلك من ضروب الشدائد والأهوال، ما لم يعانه أي نبي. من أجل ذلك، فان القلم عاجز عن تعداد أياديه، وحصر حقوقه على المسلمين سيما في هذا المقال الوجيز.
وهي، بعد الايمان بنبوته، وتصديقه فيما جاء به من عند اللّه عز وجل، والاعتقاد بأنه سيد الرسل، وخاتم الأنبياء
1- طاعته: وطاعة النبي فرض محتم على الناس، كطاعة اللّه تعالى، إذ هو سفيره الى العباد، وأمينه على الوحي، ومنار هدايته الوضاء. وواقع الطاعة هو: اتباع شرعته، وتطبيق مبادئه الخالدة، التي ما سعد المسلمون ونالوا آمالهم وأمانيهم، الا بالتمسك بها والحفاظ عليها. وما تخلفوا واستكانوا الا باغفالها والانحراف عنها.
أنظر كيف يحرض القرآن الكريم على طاعة النبي صلى اللّه عليه وآله، ويحذر مغبة عصيانه ومخالفته، حيث قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الحشر:7). وقال تعالى: ﴿َمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾(الأحزاب: 36).
وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(النساء:13-14).
وقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(المجادلة:20-21).
2- محبته: تختلف دواعي الحب والإعجاب باختلاف نزعات المحبين وميولهم، فمن الناس من يحب الجمال ويقدسه، ومنهم من يحب البطولة والأبطال ويمجدهم، ومنهم من يحب الاريحية ويشيد بأربابها. وقد اجتمع في النبي الأعظم صلى اللّه عليه وآله كل ما يفرض المحبة ويدعو الى الاعجاب، حيث كان نموذجاً فذاً، ونمطاً فريداً بين الناس. لخص اللّه فيه آيات الجمال والكمال، وأودع فيه أسرار الجاذبية، فلايملك المرء أزائه الا الحب والاجلال، وهذا ما تشهد به شخصيته المثالية، وتأريخه المجيد.
قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف شمائل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: "كان نبي اللّه أبيض اللون، مشرباً حمرة، أدعج العين، سبط الشعر، كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة، كأنما عنقه ابريق فضة يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته الى سرته كقضيب خيط، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدمين، اذا مشى كأنه ينقلع من صخر، اذا أقبل كأنما ينحدر من صب، اذا التفت التفت جميعاً بأجمعه، ليس بالقصير ولا بالطويل، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من المسك"1.
وقال عليه السلام وهو يصف أخلاق الرسول صلى اللّه عليه وآله: "كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده"2.
ولأجل تلك الشمائل والمآثر، أحبه الناس على اختلاف ميولهم في الحب: أحبه الأبطال لبطولته الفذة التي لا يجاريه فيها بطل مغوار، وأحبه الكرام اذ كان المثل الأعلى في الأريحية والسخاء، وأحبه العباد لتولهه في العبادة وفنائه في ذات اللّه، وأحبه أصحابه المخلصون لمثاليته الفذة في الخَلق والخُلق.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "جاء رجل من الانصار الى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال: يا رسول اللّه ما استطيع فراقك، واني لأدخل منزلي فأذكرك، فأترك ضيعتي وأقبل حتى أنظر اليك حباً لك، فذكرت اذا كان يوم القيامة، وأدخلتَ الجنة، فرفعت في أعلى عليين، فكيف لي بك يا نبي اللّه؟، فنزل: ﴿َمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾(النساء:69)، فدعا النبي صلى اللّه عليه وآله الرجلَ فقرأها عليه وبشره بذلك"3.
وقال أنس: جاء رجل من أهل البادية، وكان يعجبنا ان يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال: يا رسول اللّه متى قيام الساعة؟ فحضرت الصلاة، فلما قضى صلاته، قال: أين السائل عن الساعة؟
قال: أنا يا رسول اللّه. قال: فما أعددتَ لها؟
قال: واللّه ما أعددت لها من كثير عمل صلاة ولا صوم، الا اني أحب اللّه ورسوله.
فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله: المرء من أحب.
قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الاسلام بشيء أشد من فرحهم بهذا4.
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: كان رجل يبيع الزيت، وكان يحب رسول اللّه صلي اللّه عليه وآله حباً شديداً، كان اذا أراد أن يذهب في حاجة لم يمض حتى ينظر الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، قد عرف ذلك منه، فاذا جاء تطاول له حتى ينظر اليه. حتى اذا كان ذات يوم، دخل فتطاول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حتى نظر اليه ثم مضى في حاجته، فلم يكن بأسرع من أن رجع، فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قد فعل ذلك، أشار اليه بيده إجلس، فجلس بين يديه، فقال: مالك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل؟
فقال: يا رسول اللّه، والذي بعثك بالحق نبياً، لغشى قلبي شيء من ذكرك حتى ما استطعت ان أمضي في حاجتي، رجعت اليك. فدعا له وقال له خيراً. ثم مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أياماً لا يراه، فلما فقده سأل عنه، فقيل له: يا رسول اللّه ما رأيناه منذ أيام. فانتعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وانتعل معه أصحابه، فانطلق حتى أتى سوق الزيت، فاذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل عنه جيرته، فقالوا: يا رسول اللّه، مات... ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً، الا انه قد كان فيه خصلة، قال: وما هي؟ قالوا: كان يزهق (يعنون، يتبع النساء). فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لقد كان يحبني حباً، لو كان بخاساً لغفر اللّه له5.
3- الصلاة عليه: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(الأحزاب: 56). درج الناس على إجلال العظماء وتوقيرهم بما يستحقونه من صور الاجلال والتوقير، تكريماً لهم وتقديراً لجهودهم ومساعيهم في سبيل أممهم.
ومن هنا كان السلام الجمهوري والتحية العسكرية فرضاً على الجنود، تبجيلاً لقادتهم وإظهاراً لاخلاصهم لهم. فلا غرابة أن يكون من حقوق النبي صلى اللّه عليه وآله على أمته وهو سيد الخلق وأشرفهم جميعاً تعظيمه والصلاة عليه، عند ذكر اسمه المبارك أو سماعه، وغيرهما من مواطن الدعاء.
وقد أعربت الآية الكريمة عن بالغ تكريم اللّه تعالى وملائكته للنبي صلى اللّه عليه وآله "ان اللّه وملائكته يصلون على النبي"، ثم وجهت الخطاب الى المؤمنين بضرورة تعظيمه والصلاة والسلام عليه "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".
وجاءت نصوص اهل البيت عليهم السلام توضح خصائص ورغبات الصلاة عليه، بأسلوب شيق جذاب. فمن ذلك ما جاء عن ابن أبي حمزة عن أبيه، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عز وجل "إن اللّه وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". فقال: الصلاة من اللّه عز وجل رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء. وأما قوله عز وجل "وسلموا تسليما"، فانه يعني بالتسليم له فيما ورد عنه. قال: فقلت له: فكيف نصلي على محمد وآله؟
قال: تقولون "صلوات اللّه وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد، والسلام عليه وعليهم ورحمة اللّه وبركاته". قال: فقلت فما ثواب من صلى على النبي وآله بهذه الصلاة؟
قال: الخروج من الذنوب، واللّه، كهيئة يوم ولدته أمه6. وقال الصادق عليه السلام: من صلى على محمد وآل محمد عشراً صلى اللّه عليه وملائكته مائة مرة، ومن صلى على محمد وآل محمد مائة صلى اللّه عليه وملائكته ألفاً، أما تسمع قول اللّه تعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾(الأحزاب:43)7.
وقال الصادق عليه السلام: كل دعاء يدعى اللّه تعالى به، محجوب عن السماء حتى يصلى على محمد وآل محمد8. وعن احدهما عليهما السلام قال: ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد، وإن الرجل ليوضع أعماله في الميزان فيميل به، فيخرج صلى اللّه عليه وآله "الصلاة عليه" فيضعها في ميزانه، فيرجح به9.
وقال الرضا عليه السلام: من لم يقدر على ما يكفّر به ذنوبه، فليكثر من الصلاة على محمد وآله، فانها تهدم الذنوب هدما10. وجاء في الصواعق (ص87)، قال: ويروى "لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء. فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صل على محمد وتمسكون. بل قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد"11.
مودة أهل بيته الطاهرين: الذين فرض اللّه مودتهم في كتابه، وجعلها أجر الرسالة، وحقاً مفروضاً من حقوق النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(الشورى:23).
وقد اتصف اهل البيت عليهم السلام بجميع دواعي الاعجاب والاكبار، وبواعث الحب والولاء، كما وصفهم الشاعر:
من معشر حبهم دين وبغضهم*** كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم*** أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
نعم هم صفوة الخلق، وحجج العباد، وسفن النجاة، وخير من أقلته الأرض وأظلّته السماء بعد جدهم الأعظم صلى اللّه عليه وآله حسباً ونسباً وفضائل وأمجاداً. وكيف يرتضي الوجدان السليم محبة النبي صلى اللّه عليه وآله دون أهل بيته الطاهرين، الجديرين بأصدق مفاهيم الحب والود، إنها ولاريب محبة زائفة تنمّ عن نفاق ولؤم، كما جاء عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جمهور، فقال: يا محمد. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: المرء مع من أحب. فقال: يا محمد، اعرض عليَّ الاسلام. فقال: إشهد ان لا إله الا اللّه، واني رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت.
فقال: يا محمد، تأخذ على هذا أجرأ؟ فقال: لا، إلا المودة في القربى. قال: قرباي أو قرباك؟ فقال: بل قرباي. قال: هلمّ يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن يودّك ولا يودّ قرباك12.
وقد أجمع الامامية أنّ المراد بالقربى في الآية الكريمة، هم الأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السلام، ووافقهم على ذلك ثلة من أعلام غيرهم من المفسرين والمحدثين، كأحمد بن حنبل، والطبراني، والحاكم عن ابن عباس. كما نص عليه ابن حجر، في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه، قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال صلى اللّه عليه وآله: علي وفاطمة وابناهما13.
انظر، كيف يحرض النبي صلى اللّه عليه وآله امته على مودة قرباه وأهل بيته، كما يحدثنا به رواة الفريقين: فمما ورد من طرقنا: عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من أحبنا أهل البيت فليحمد اللّه على أول النعم. قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته14.
وعن أبي جعفر الباقر عن ابيه عن جده عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط15. وعن ابي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لو أن عبداً عبد اللّه الف عام، ثم يذبح كما يذخ الكبش، ثم أتى اللّه ببغضنا أهل البيت، لرد اللّه عليه عمله16.
وعن الباقر عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: لا تزول قدم عبدٍ يوم القيامة من بين يدي اللّه، حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت17.
وعن الحكم بن عتيبة، قال: بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام، والبيت غاص بأهله، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة له، حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته، ثم سكت. فقال ابو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته. ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت، حتى أجابه القوم جميعاً وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على ابي جعفر عليه السلام، ثم قال: يابن رسول اللّه أدنني منك، جعلني اللّه فداك، فواللّه اني لأحبكم وأحب من يحبكم، وواللّه ما أحبكم وما أحب من يحبكم لطمع في دنيا. واني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللّه ما ابغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. واللّه اني لأحلّ حلالكم، وأحرم حرامكم، وأنتظر أمركم. فهل ترجو لي، جعلني اللّه فداك؟!
فقال ابوجعفر عليه السلام: اليّ... اليّ، حتى أقعده الى جنبه. ثم قال: أيها الشيخ، إن ابي علي بن الحسين عليه السلام، أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي: إن تمت ترِد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم السلام، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينيك، وتستقبل بالرَّوح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسك هاهنا وأهوى بيده الى حلقه وان تعش تر ما يقر اللّه به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى الخ.
ومما جاء من طرق إخواننا: وأخرج ابن حنبل والترمذي، كما في الصواعق ص 91: انه صلى اللّه عليه وآله أخذ بيد الحسنين وقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة19. وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، الا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة اللّه الحديث20.
وأورد ابن حجر ص 103 من صواعقه حديثاً، هذا نصه: إن النبي خرج على أصحابه ذات يوم، ووجهه مشرق كدائرة القمر. فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك، فقال صلى الّله عليه وآله: بشارة اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي، بأن زوّج علياً من فاطمة، وأمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى، فحملت رقاقاً (يعني صكاكاً) بعدد محبي أهل بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور، دفع الى كل ملك صكاً، فاذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق، فلا يبقى محب لأهل البيت الا دفعت اليه صكاً فيه فكاكه من النار، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من امتي من النار21.
وجاء في مستدرك الصحيحين ج 3، 127، عن ابن عباس قال: نظر النبي صلى اللّه عليه وآله الى علي عليه السلام فقال: ياعلي، أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوك عدوي، وعدوي عدو اللّه، والويل لمن أبغضك بعدي22.
وأخرج الحافظ الطبري، في كتاب الولاية، باسناده عن علي عليه السلام انه قال: لا يحبني ثلاثه: ولد زنا، ومنافق، ورجل حملت به أمه في بعض حيضها23. وأخرج الطبراني في الأوسط، والسيوطي في إحياء الميت، وابن حجر في صواعقه في باب الحث على حبهم: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إلزموا مودتنا أهل البيت، فانه من لقي اللّه وهو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا24 الى كثير من النصوص التي يطول عرضها في هذا المختصر.
ولا ريب أن المراد بأهل البيت عليهم السلام، هم الأئمة الاثنا عشر المعصومون صلوات اللّه عليهم، دون سواهم، لأن هذه الخصائص الجليلة، والمزايا الفذة، لا يستحقها إلا حجج اللّه تعالى على العباد، وخلفاء رسوله الميامين.
1- البحار م 6 في أوصاف خلقه وشمائله.
2- سفينة البحار م 2 ص 414.
3- البحار م 6 في باب وجوب طاعته وحبه.
4- البحار م 6، باب وجوب طاعته وحبه، عن علل الشرائع.
5- الوافي ج 3، ص 143-144. الزهق: غشيان المحارم. والبخس: النقص في المكيال والميزان.
6- البحار م 19، ص 78، عن معاني الأخبار للصدوق رضوان الله عليه.
7- الوافي ج 5، ص 228، عن الكافي.
8- الوافي ج 5، ص 227، عن الكافي.
9- الوافي ج 5، ص 228، عن الكافي.
10- البحار م 19، ص76، عن عيون اخبار الرضا وامالي الشيخ الصدوق رضوان الله عليه.
11- فضائل الخمسة، من الصحاح الستة.
12- البحار م 7، ص 389، عن مجالس الشيخ المفيد رضوان الله عليه.
13- انظر الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء، للامام شرف الدين رضوان الله عليه ص 18.
14- البحار م 7، ص 389، عن علل الشرائع ومعاني الأخبار وامالي الصدوق رضوان الله عليه.
15- البحار م 7، ص 391، عن الخصال.
16- البحار م 7، ص 397، عن محاسن البرقي.
17- البحار م 7، ص 389، عن مجالس الشيخ المفيد.
18- الوافي ج 3، ص 139، عن الكافي.
19- الفصول المهمة للامام شرف الدين، ص 41.
20- الفصول المهمة للامام شرف الدين، ص 42.
21- الفصول المهمة، للامام شرف الدين، ص 43.
22- فضائل الخمسة، من الصحاح الستة ج 1 ، ص 200.
23- الغدير ج 4، ص 322.
24- المراجعات، للامام شرف الدين، ص 22.
جاء بأكمل الشرائع الالهية، وأشدها ملائمة لأطوار الحياة، وأكثرها تكفلاً بإسعاد الانسان مادياً وروحياً، ديناً ودنياً، فأخرج الناس من ظلمة الكفر الى نور الاسلام، ومن شقاء الجاهلية الى السعادة الأبدية. وجعل أمته أكمل الأمم ديناً، وأوفرهم علماً، واسماهم أدباً وأخلاقاً، وأرفعهم حضارة ومجداً. وقد عانى في سبيل ذلك من ضروب الشدائد والأهوال، ما لم يعانه أي نبي. من أجل ذلك، فان القلم عاجز عن تعداد أياديه، وحصر حقوقه على المسلمين سيما في هذا المقال الوجيز.
وهي، بعد الايمان بنبوته، وتصديقه فيما جاء به من عند اللّه عز وجل، والاعتقاد بأنه سيد الرسل، وخاتم الأنبياء
1- طاعته: وطاعة النبي فرض محتم على الناس، كطاعة اللّه تعالى، إذ هو سفيره الى العباد، وأمينه على الوحي، ومنار هدايته الوضاء. وواقع الطاعة هو: اتباع شرعته، وتطبيق مبادئه الخالدة، التي ما سعد المسلمون ونالوا آمالهم وأمانيهم، الا بالتمسك بها والحفاظ عليها. وما تخلفوا واستكانوا الا باغفالها والانحراف عنها.
أنظر كيف يحرض القرآن الكريم على طاعة النبي صلى اللّه عليه وآله، ويحذر مغبة عصيانه ومخالفته، حيث قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الحشر:7). وقال تعالى: ﴿َمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾(الأحزاب: 36).
وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(النساء:13-14).
وقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(المجادلة:20-21).
2- محبته: تختلف دواعي الحب والإعجاب باختلاف نزعات المحبين وميولهم، فمن الناس من يحب الجمال ويقدسه، ومنهم من يحب البطولة والأبطال ويمجدهم، ومنهم من يحب الاريحية ويشيد بأربابها. وقد اجتمع في النبي الأعظم صلى اللّه عليه وآله كل ما يفرض المحبة ويدعو الى الاعجاب، حيث كان نموذجاً فذاً، ونمطاً فريداً بين الناس. لخص اللّه فيه آيات الجمال والكمال، وأودع فيه أسرار الجاذبية، فلايملك المرء أزائه الا الحب والاجلال، وهذا ما تشهد به شخصيته المثالية، وتأريخه المجيد.
قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف شمائل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: "كان نبي اللّه أبيض اللون، مشرباً حمرة، أدعج العين، سبط الشعر، كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة، كأنما عنقه ابريق فضة يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته الى سرته كقضيب خيط، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدمين، اذا مشى كأنه ينقلع من صخر، اذا أقبل كأنما ينحدر من صب، اذا التفت التفت جميعاً بأجمعه، ليس بالقصير ولا بالطويل، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من المسك"1.
وقال عليه السلام وهو يصف أخلاق الرسول صلى اللّه عليه وآله: "كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده"2.
ولأجل تلك الشمائل والمآثر، أحبه الناس على اختلاف ميولهم في الحب: أحبه الأبطال لبطولته الفذة التي لا يجاريه فيها بطل مغوار، وأحبه الكرام اذ كان المثل الأعلى في الأريحية والسخاء، وأحبه العباد لتولهه في العبادة وفنائه في ذات اللّه، وأحبه أصحابه المخلصون لمثاليته الفذة في الخَلق والخُلق.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "جاء رجل من الانصار الى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال: يا رسول اللّه ما استطيع فراقك، واني لأدخل منزلي فأذكرك، فأترك ضيعتي وأقبل حتى أنظر اليك حباً لك، فذكرت اذا كان يوم القيامة، وأدخلتَ الجنة، فرفعت في أعلى عليين، فكيف لي بك يا نبي اللّه؟، فنزل: ﴿َمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾(النساء:69)، فدعا النبي صلى اللّه عليه وآله الرجلَ فقرأها عليه وبشره بذلك"3.
وقال أنس: جاء رجل من أهل البادية، وكان يعجبنا ان يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال: يا رسول اللّه متى قيام الساعة؟ فحضرت الصلاة، فلما قضى صلاته، قال: أين السائل عن الساعة؟
قال: أنا يا رسول اللّه. قال: فما أعددتَ لها؟
قال: واللّه ما أعددت لها من كثير عمل صلاة ولا صوم، الا اني أحب اللّه ورسوله.
فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله: المرء من أحب.
قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الاسلام بشيء أشد من فرحهم بهذا4.
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: كان رجل يبيع الزيت، وكان يحب رسول اللّه صلي اللّه عليه وآله حباً شديداً، كان اذا أراد أن يذهب في حاجة لم يمض حتى ينظر الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، قد عرف ذلك منه، فاذا جاء تطاول له حتى ينظر اليه. حتى اذا كان ذات يوم، دخل فتطاول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حتى نظر اليه ثم مضى في حاجته، فلم يكن بأسرع من أن رجع، فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قد فعل ذلك، أشار اليه بيده إجلس، فجلس بين يديه، فقال: مالك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل؟
فقال: يا رسول اللّه، والذي بعثك بالحق نبياً، لغشى قلبي شيء من ذكرك حتى ما استطعت ان أمضي في حاجتي، رجعت اليك. فدعا له وقال له خيراً. ثم مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أياماً لا يراه، فلما فقده سأل عنه، فقيل له: يا رسول اللّه ما رأيناه منذ أيام. فانتعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وانتعل معه أصحابه، فانطلق حتى أتى سوق الزيت، فاذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل عنه جيرته، فقالوا: يا رسول اللّه، مات... ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً، الا انه قد كان فيه خصلة، قال: وما هي؟ قالوا: كان يزهق (يعنون، يتبع النساء). فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لقد كان يحبني حباً، لو كان بخاساً لغفر اللّه له5.
3- الصلاة عليه: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(الأحزاب: 56). درج الناس على إجلال العظماء وتوقيرهم بما يستحقونه من صور الاجلال والتوقير، تكريماً لهم وتقديراً لجهودهم ومساعيهم في سبيل أممهم.
ومن هنا كان السلام الجمهوري والتحية العسكرية فرضاً على الجنود، تبجيلاً لقادتهم وإظهاراً لاخلاصهم لهم. فلا غرابة أن يكون من حقوق النبي صلى اللّه عليه وآله على أمته وهو سيد الخلق وأشرفهم جميعاً تعظيمه والصلاة عليه، عند ذكر اسمه المبارك أو سماعه، وغيرهما من مواطن الدعاء.
وقد أعربت الآية الكريمة عن بالغ تكريم اللّه تعالى وملائكته للنبي صلى اللّه عليه وآله "ان اللّه وملائكته يصلون على النبي"، ثم وجهت الخطاب الى المؤمنين بضرورة تعظيمه والصلاة والسلام عليه "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".
وجاءت نصوص اهل البيت عليهم السلام توضح خصائص ورغبات الصلاة عليه، بأسلوب شيق جذاب. فمن ذلك ما جاء عن ابن أبي حمزة عن أبيه، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عز وجل "إن اللّه وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". فقال: الصلاة من اللّه عز وجل رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء. وأما قوله عز وجل "وسلموا تسليما"، فانه يعني بالتسليم له فيما ورد عنه. قال: فقلت له: فكيف نصلي على محمد وآله؟
قال: تقولون "صلوات اللّه وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد، والسلام عليه وعليهم ورحمة اللّه وبركاته". قال: فقلت فما ثواب من صلى على النبي وآله بهذه الصلاة؟
قال: الخروج من الذنوب، واللّه، كهيئة يوم ولدته أمه6. وقال الصادق عليه السلام: من صلى على محمد وآل محمد عشراً صلى اللّه عليه وملائكته مائة مرة، ومن صلى على محمد وآل محمد مائة صلى اللّه عليه وملائكته ألفاً، أما تسمع قول اللّه تعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾(الأحزاب:43)7.
وقال الصادق عليه السلام: كل دعاء يدعى اللّه تعالى به، محجوب عن السماء حتى يصلى على محمد وآل محمد8. وعن احدهما عليهما السلام قال: ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد، وإن الرجل ليوضع أعماله في الميزان فيميل به، فيخرج صلى اللّه عليه وآله "الصلاة عليه" فيضعها في ميزانه، فيرجح به9.
وقال الرضا عليه السلام: من لم يقدر على ما يكفّر به ذنوبه، فليكثر من الصلاة على محمد وآله، فانها تهدم الذنوب هدما10. وجاء في الصواعق (ص87)، قال: ويروى "لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء. فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صل على محمد وتمسكون. بل قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد"11.
مودة أهل بيته الطاهرين: الذين فرض اللّه مودتهم في كتابه، وجعلها أجر الرسالة، وحقاً مفروضاً من حقوق النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(الشورى:23).
وقد اتصف اهل البيت عليهم السلام بجميع دواعي الاعجاب والاكبار، وبواعث الحب والولاء، كما وصفهم الشاعر:
من معشر حبهم دين وبغضهم*** كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم*** أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
نعم هم صفوة الخلق، وحجج العباد، وسفن النجاة، وخير من أقلته الأرض وأظلّته السماء بعد جدهم الأعظم صلى اللّه عليه وآله حسباً ونسباً وفضائل وأمجاداً. وكيف يرتضي الوجدان السليم محبة النبي صلى اللّه عليه وآله دون أهل بيته الطاهرين، الجديرين بأصدق مفاهيم الحب والود، إنها ولاريب محبة زائفة تنمّ عن نفاق ولؤم، كما جاء عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جمهور، فقال: يا محمد. فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: المرء مع من أحب. فقال: يا محمد، اعرض عليَّ الاسلام. فقال: إشهد ان لا إله الا اللّه، واني رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت.
فقال: يا محمد، تأخذ على هذا أجرأ؟ فقال: لا، إلا المودة في القربى. قال: قرباي أو قرباك؟ فقال: بل قرباي. قال: هلمّ يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن يودّك ولا يودّ قرباك12.
وقد أجمع الامامية أنّ المراد بالقربى في الآية الكريمة، هم الأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السلام، ووافقهم على ذلك ثلة من أعلام غيرهم من المفسرين والمحدثين، كأحمد بن حنبل، والطبراني، والحاكم عن ابن عباس. كما نص عليه ابن حجر، في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه، قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال صلى اللّه عليه وآله: علي وفاطمة وابناهما13.
انظر، كيف يحرض النبي صلى اللّه عليه وآله امته على مودة قرباه وأهل بيته، كما يحدثنا به رواة الفريقين: فمما ورد من طرقنا: عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من أحبنا أهل البيت فليحمد اللّه على أول النعم. قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته14.
وعن أبي جعفر الباقر عن ابيه عن جده عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط15. وعن ابي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لو أن عبداً عبد اللّه الف عام، ثم يذبح كما يذخ الكبش، ثم أتى اللّه ببغضنا أهل البيت، لرد اللّه عليه عمله16.
وعن الباقر عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: لا تزول قدم عبدٍ يوم القيامة من بين يدي اللّه، حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت17.
وعن الحكم بن عتيبة، قال: بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام، والبيت غاص بأهله، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة له، حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته، ثم سكت. فقال ابو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته. ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت، حتى أجابه القوم جميعاً وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على ابي جعفر عليه السلام، ثم قال: يابن رسول اللّه أدنني منك، جعلني اللّه فداك، فواللّه اني لأحبكم وأحب من يحبكم، وواللّه ما أحبكم وما أحب من يحبكم لطمع في دنيا. واني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللّه ما ابغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. واللّه اني لأحلّ حلالكم، وأحرم حرامكم، وأنتظر أمركم. فهل ترجو لي، جعلني اللّه فداك؟!
فقال ابوجعفر عليه السلام: اليّ... اليّ، حتى أقعده الى جنبه. ثم قال: أيها الشيخ، إن ابي علي بن الحسين عليه السلام، أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي: إن تمت ترِد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم السلام، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينيك، وتستقبل بالرَّوح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسك هاهنا وأهوى بيده الى حلقه وان تعش تر ما يقر اللّه به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى الخ.
ومما جاء من طرق إخواننا: وأخرج ابن حنبل والترمذي، كما في الصواعق ص 91: انه صلى اللّه عليه وآله أخذ بيد الحسنين وقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة19. وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، الا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة اللّه الحديث20.
وأورد ابن حجر ص 103 من صواعقه حديثاً، هذا نصه: إن النبي خرج على أصحابه ذات يوم، ووجهه مشرق كدائرة القمر. فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك، فقال صلى الّله عليه وآله: بشارة اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي، بأن زوّج علياً من فاطمة، وأمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى، فحملت رقاقاً (يعني صكاكاً) بعدد محبي أهل بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور، دفع الى كل ملك صكاً، فاذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق، فلا يبقى محب لأهل البيت الا دفعت اليه صكاً فيه فكاكه من النار، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من امتي من النار21.
وجاء في مستدرك الصحيحين ج 3، 127، عن ابن عباس قال: نظر النبي صلى اللّه عليه وآله الى علي عليه السلام فقال: ياعلي، أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوك عدوي، وعدوي عدو اللّه، والويل لمن أبغضك بعدي22.
وأخرج الحافظ الطبري، في كتاب الولاية، باسناده عن علي عليه السلام انه قال: لا يحبني ثلاثه: ولد زنا، ومنافق، ورجل حملت به أمه في بعض حيضها23. وأخرج الطبراني في الأوسط، والسيوطي في إحياء الميت، وابن حجر في صواعقه في باب الحث على حبهم: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إلزموا مودتنا أهل البيت، فانه من لقي اللّه وهو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا24 الى كثير من النصوص التي يطول عرضها في هذا المختصر.
ولا ريب أن المراد بأهل البيت عليهم السلام، هم الأئمة الاثنا عشر المعصومون صلوات اللّه عليهم، دون سواهم، لأن هذه الخصائص الجليلة، والمزايا الفذة، لا يستحقها إلا حجج اللّه تعالى على العباد، وخلفاء رسوله الميامين.
1- البحار م 6 في أوصاف خلقه وشمائله.
2- سفينة البحار م 2 ص 414.
3- البحار م 6 في باب وجوب طاعته وحبه.
4- البحار م 6، باب وجوب طاعته وحبه، عن علل الشرائع.
5- الوافي ج 3، ص 143-144. الزهق: غشيان المحارم. والبخس: النقص في المكيال والميزان.
6- البحار م 19، ص 78، عن معاني الأخبار للصدوق رضوان الله عليه.
7- الوافي ج 5، ص 228، عن الكافي.
8- الوافي ج 5، ص 227، عن الكافي.
9- الوافي ج 5، ص 228، عن الكافي.
10- البحار م 19، ص76، عن عيون اخبار الرضا وامالي الشيخ الصدوق رضوان الله عليه.
11- فضائل الخمسة، من الصحاح الستة.
12- البحار م 7، ص 389، عن مجالس الشيخ المفيد رضوان الله عليه.
13- انظر الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء، للامام شرف الدين رضوان الله عليه ص 18.
14- البحار م 7، ص 389، عن علل الشرائع ومعاني الأخبار وامالي الصدوق رضوان الله عليه.
15- البحار م 7، ص 391، عن الخصال.
16- البحار م 7، ص 397، عن محاسن البرقي.
17- البحار م 7، ص 389، عن مجالس الشيخ المفيد.
18- الوافي ج 3، ص 139، عن الكافي.
19- الفصول المهمة للامام شرف الدين، ص 41.
20- الفصول المهمة للامام شرف الدين، ص 42.
21- الفصول المهمة، للامام شرف الدين، ص 43.
22- فضائل الخمسة، من الصحاح الستة ج 1 ، ص 200.
23- الغدير ج 4، ص 322.
24- المراجعات، للامام شرف الدين، ص 22.