المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إيضاح عبارة ( من لم يلحق بي لم يدرك الفتح )


جعفر صادق الحسيني
04-11-2019, 09:40 PM
إيضاح عبارة ( من لم يلحق بي لم يدرك الفتح )
محتملات ومقاربات

أقبلت رياح شهر محرّم تحمل لنا أجواء حزينة لذكرى أليمة وفاجعة عظيمة وقيامة وجيعة حلّت بخامس أصحاب الكساء وذويه وأصحابه النجباء.
السلام عليك يا سيدي يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك وأناخت برحلك، عليكم منّي سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ورحمة الله وبركاته.
نعم، في كلّ عام من هذا الشهر تكثر المجالس والمقالات التي تتناول طرفاً ممّا وقع في الغاضريّات، وسيرة الصفوة البواسل في شطّ الفرات، فتلهب العواطف والفكر وتؤجّج الأحاسيس والمشاعر، وبطبيعة الحال فإنّ هذا يعتمد على قيمة المجلس أو وزن المقال مع إمكانيّة المتصدّي، فكلّما كانت المادّة المطروحة دسمة متنوعّة وتتمتّع معطياتها بالتطوّر والدقّة، فلا بدّ أن تحظى عند المتلقي الواعي والمستمع الفطن بالقبول والمدح، وبعكس ذلك تصبح عند بعضهم شرعة للانتقاد والقدح.
ولذلك ينبغي على المبلّغ والخطيب والمحاضر والكاتب أن يكون مُتجدّداً في طرحه، مُقنعاً في حجّته، هاضماً لما يضخّه، متضلّعاً في اختصاصه، مواكباً لثقافة زمانه ومستوعباً لأفكار مجتمعه ومراعياً لقابليّات جلّاسه، متسلّحاً بالخبرة الناجعة.
وكذلك يتطلّب منه أن يهتم بجودة الإعداد ويعتني بمادته، ويعرض فكرته بسلاسة، ويُبسّط لجمهوره المطالب الصعبة، ويُوضّح لهم المعاني الغامضة، ويُحلّل لهم الفقرات المبهمة، ويُركّز في معالجاته على القضايا الواقعيّة والمعاصرة، ويهتم بالمسائل الشائكة التي تفتقد إلى حلول مرضية وافية، إمّا لكونها لم تناقش بما فيه الكفاية، أو ربّما كانت مقارباتها غير متعكّزة على وثائق معتمدة وغير متضمّنة مستندات جديرة بالثقة.
ولو أجرينا نظرة فاحصة لشرائح مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة فإنّنا نرى الكثير منها تستهويها البحوث التحقيقيّة وتشغفها المحاضرات غير التقليديّة، وهذه الظاهرة بحمد الله سبحانه آخذة بالتزايد في المجتمع الموالي المتفقّه الواعد، وهي حيثما وجدت فإنّها تنمّ عن نضج اجتماعي وحالة عافية، يلزم تنميتها ورعايتها بروح أبويّة وبطريقة مؤسّساتيّة.
ومن هنا وجدنا توصيات قيّمة تصدر من مراجعنا العظام إلى الشخصيّة التربويّة المنبريّة الوعظيّة تدعوها للاهتمام بهذه المفردات وتنشيط تلك العوامل الواقعيّة.
بعد هذه التوطئة البسيطة نأخذ بأيديكم الآن وننطلق معكم للخوض في استنطاق كلمة حسينيّة وفهم عبارة شبيريّة عنونّا مقالنا بها.
لقد نُوقشت الكلمة من قبل وشُرحت، وتناول بعض الفضلاء شكر الله سعيهم العبارة وما يحتمل منها وما يراد بها، لكن بحسب قناعتنا بقي متنها بحاجة إلى تسليط الضوء عليه بصورة أليق ومن ثمّ إيجاد إجابة أوفق.
نبدأ بتقشير العبارة باعتماد عدّة خطوات كي نسهّل على القارئ أمرين: الاستيعاب وإيضاح المطلب، وخطواتنا ستكون كالتالي: الأولى: نقل النصّ من مصادره، الثانية: دراسة سنده، الثالثة: دلالة المتن، الرابعة: مقاربة ونتيجة.

الخطوة الأولى: النصّ ومصدره
قال الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي: وحدثني أبي رحمه الله وجماعة مشايخي عن سعد بن عبد الله عن علي بن إسماعيل بن عيسى ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن عمرو بن سعيد الزيّات عن عبد الله بن بُكير عن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: ( كتب الحسين بن علي من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم، أمّا بعد فإنّ من لحق بي أُستشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح ).
كامل الزيارات للشيخ ابن قولويه جعفر القمّي:157/ب23/20، عنه بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار للشيخ محمّد باقر المجلسي:45/87/ب37/23.
إيضاح: يوجد نحوه وبتفاوت يسير في بصائر الدرجات للشيخ محمّد بن الحسن الصفّار:502/ب9/5 وفيه: من ألحق بي منكم أستشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام، ودلائل الإمامة للشيخ محمّد بن جرير الطبري:188/107/12 وفيه: ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح والسلام.

الخطوة الثانية: دراسة السند
رجال سند كامل الزيارات ثقات.
إيضاح: جعفر بن محمّد بن قولويه وأبوه من كبار مشايخنا ومعتمديهم.
قال الشيخ أحمد النجاشي: « جعفر بن محمّد بن جعفر بن موسى بن قولويه أبو القاسم، وكان أبوه يلقّب مسلمة من خيار أصحاب سعد، وكان أبو القاسم من ثقات أصحابنا وأجلّائهم في الحديث والفقه...وكلّ ما يوصف به النّاس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه ».
فهرست أسماء مصنّفي الشيعة المعروف برجال النجاشي:123/318.
وكذلك انظر: الفهرست للشيخ محمد الطوسي:91/141، ومقدّمة مّحقّق كتاب كامل الزيارات صفحة:8-9، ومعجم رجال الحديث للمحقّق المرجع الخوئي:5/76-76 و:16/181.
والمرجع الخوئي يرى توثيق مشايخ ابن قولويه الذين روى عنهم بلا واسطة.
راجع: معجم رجال الحديث:1/23/مقدّمة الطبعة الخامسة.
وسعد بن عبد الله الأشعري ثقة. قال النجاشي: « سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمّي أبو القاسم، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ».
رجال النجاشي:177/467.
وقال عنه الطوسي: « سعد بن عبد الله القمّي، يكنّى أبا القاسم، جليل القدر، واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة ».
الفهرست:135/316.
ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب ثقة. قال النجاشي: « محمد بن الحسين بن أبي الخطاب أبو جعفر الزيات الهمداني - واسم أبي الخطّاب زيد - جليل من أصحابنا، عظيم القدر، كثير الرواية، ثقة، عين، حسن التصانيف، مسكون إلى روايته ».
رجال النجاشي:334/897. ووثقه أيضاً الطوسي في الفهرست:215/607.
ومحمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات ثقة. قال النجاشي: « محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات المدائني، ثقة، عين ».
رجال النجاشي:369/1001.
وعبد الله بن بُكير ثقة. قال عنه الطوسي: « عبد الله بن بكير، فطحي المذهب، إلّا أنّه ثقة ».
الفهرست:173/461.
وكتب المرجع الخوئي عنه التالي: « أنّك قد عرفت توثيق عبد الله بن بُكير من الشيخ، والمفيد، وعلي بن إبراهيم، وعدّ الكشي إيّاه من أصحاب الإجماع، فلا ينبغي الإشكال في وثاقته وإن كان فطحيّاً ».
معجم رجال الحديث:11/131-132.
وزرارة أشهر من أن يُعرّف. نكتفي في تعريفه بقول النجاشي قال: « زرارة بن أعين بن سنسن مولى لبني عبد الله بن عمرو السمين بن أسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، أبو الحسن . شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم، وكان قارئا فقيها متكلما شاعرا أديبا ، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين ، صادقا فيما يرويه ».
رجال النجاشي:175/463. وكذلك انظر: اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي:1/345-382.
وعلى ضوء ما تقدّم فإنّ سند كامل الزيارات معتبر.
راجع: موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد محمّد مهدي الخرسان:5/244.

الخطوة الثالثة: دلالة المتن
معلوم لديكم أيّها الأعزّة أن فاجعة الطفّ انتهت بطريقة مأساويّة فضيعة وبصورة محزنة موجعة، وقعتها فطرت القلوب السليمة الطيبة وحدثها شغل العقول النيّرة الحانية، وقد كانت نتيجتها الكارثيّة عند أهل البيت معروفة ونهايتها المؤلمة عند المعصوم وآله وصحبه الكرام معلومة، والنصّ أعلاه يشهد بذلك بلا اشتباه.
إذن فما دام يعلم الموالي والمعادي والقاصي والداني ما آل إليه أمرهم ومصيرهم، ولا يختلف عليه اثنان ولا يتنازع فيه قلمان، ينبغي أن نعرف المراد من كلمة ( الفتح ) ومغزاها، وماذا يقصد الإمام المعصوم بها ؟
ولأجل مزيد إضاءة للمطالعين وإشاعة الفائدة للباحثين سنقوم بشرح فقرات المتن.
لقد تناول بعض الأفاضل النصّ وفهموا من دلالته وجوهاً نقتطف إليكم أهمّ ما جاء فيها ونضع بين أيديكم خلاصة ما ورد فيها:
ألف: « الكتاب يشتمل على دعوة ترغيب صريحة وعنوانه إلى محمّد بن عليّ ومَن قبله من بني هاشم ».
موسوعة عبد الله بن عبّاس للخرسان:5/244-245.
إيضاح: المراد بمحمّد بن علي هو محمد بن علي بن أبي طالب عليهما السلام المعروف بابن الحنفيّة رضي الله عنه وعن والدته.
والدعوة الحسينيّة الترغيبيّة لا تستهدف أموراً دنيويّة محضة ولا تحمل طابع إغراءات عاجلة، وإنّما في محصّلتها تستهدف أموراً أخروية وآجلة، ولذا قدّمت هذه الدعوة الشهادة على الفتح.
باء: « بيّنت هذه الكلمات القصيرة النتيجة الأوّليّة لنهضته المباركة التي عبّر عنها بالشهادة ».
الحداثة، العولمة، الإرهاب في ميزان النهضة الحسينيّة لشيخ محمّد السند:99 بتصرّف يسير.
إيضاح: المراد بالشهادة هنا الموت مع الإمام الحسين عليه السلام والقتل في سبيل الله دون غيرها من المعاني اللغويّة الأخرى.
جيم: « الإمام عليه السلام بصريح من القول يخاطب بني هاشم قائلاً: ( من لحق بي استشهد ) حيث يقولها بقطع ويقين، والشهادة بعد لم تقع، وما ذاك إلّا لعلم غيب».
إجابة للشيخ محمد كاظم الخاقاني عن سؤال حول العبارة وهي موجودة على موقعه.
إيضاح: نصّ القرآن المجيد على أنّ علم الغيب مختصّ بالذات المقدّسة الله جلّ جلاله لا يشاركه فيه غيره، لكنّه تبارك اسمه يهب ويمنح بعضه إلى بعض عباده الأصفياء ورسله ويطلعهم على ما في خزائنه ولوحه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ سورة الجنّ:26-27.
وعليه فإنّ هكذا علم الغيب يكون تعلّماً من ذي علم.
ولا يخفى على الفضلاء أنّ هذا العلم الحسيني مقتبس من أحاديث النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم وإخباراته، وكذلك من الكتاب أو الصحيفة النازلة من السماء التي فيها برنامج عمل كلّ معصوم وقت إمامته ولا يجوز له تجاوزه إلى غيره، وغير ذلك.
راجع: بصائر الدرجات للشيخ محمد بن الحسن الصفّار:1/297/ب12/24، الكافي للشيخ محمّد بن يعقوب الكليني:1/283/باب أنّ الأئمّة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلّا بعهد من الله، كامل الزيارات:178/ب27/20.
وكذلك انظر: الثاقب في المناقب للشيخ ابن حمزة محمّد بن علي الطوسي:323/ب6/ف1/1.
ولتنوير القارئ ننقل له ما رواه محمّد بن أحمد بن عبيد الله العمري عن أبيه عن جده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ( إن الله عزّ وجلّ أنزل على نبيّه صلّى الله عليه وآله كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمّد هذه وصيّتك إلى النجبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل ؟
فقال: عليّ بن أبي طالب وولده عليهم السلام.
وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأمره أن يفكّ خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففكّ أمير المؤمنين عليه السلام خاتماً وعمل بما فيه، ثمّ دفعه إلى ابنه الحسن عليه السلام ففكّ خاتماً وعمل بما فيه، ثمّ دفعه إلى الحسين عليهما السلام، ففكّ خاتماً فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلّا معك واشر نفسك لله عزّ وجلّ، ففعل، ثمّ دفعه إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام ففكّ خاتماً فوجد فيه أن أطرق واصمت وألزم منزلك واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين، ففعل، ثمّ دفعه إلى ابنه محمّد بن عليّ عليهما السلام، ففكّ خاتماً فوجد فيه حدّث النّاس وافتهم ولا تخافن إلّا الله عزّ وجلّ، فإنّه لا سبيل لأحدٍ عليك [ ففعل ]، ثمّ دفعه إلى ابنه جعفر ففكّ خاتماً فوجد فيه حدّث النّاس وافتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدّق آبائك الصالحين ولا تخافن إلّا الله عزّ وجلّ، وأنت في حرز وأمان، ففعل، ثمّ دفعه إلى ابنه موسى عليه السلام، وكذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده، ثمّ كذلك إلى قيام المهديّ صلّى الله عليه ).
الكافي:1/280-281/باب أنّ الأئمّة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلّا بعهد من الله عزّ وجلّ وأمر منه لا يتجاوزونه/2. ومثله ح1، الأمالي للشيخ الطوسي:655-656/مجلس:15/47.
وبتفاوت يسير في علل الشّرائع للشيخ الصدوق:1/228/ب135 العلّة التي من أجلها خرج بعض الأئمّة عليهم السلام بالسيف، وبعضهم لزم منزله وسكت، وبعضهم أظهر أمره وبعضهم أخفى أمره، وبعضهم نشر العلوم وبعضهم لم ينشرها/1.
ولأجل ما ورد في هذه النصوص ذهب بعض الفقهاء والباحثين إلى وجود تكليف خاصّ بالإمام الحسين عليه السلام لا يمكن تعميمه.
راجع: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام للشيخ محمّد حسن الجواهري:21/295-296، وموسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ للشيخ محمّد الريشهري:2/352.
دال: ذُكر في بعض المصادر أنّ محمّد بن الحنفية رضي الله عنه معذور في تخلّفه عن الالتحاق بالإمام الحسين عليه السلام، لأنّ الإمام أجازه للبقاء في المدينة.
راجع: الفتوح للشيخ أحمد بن أعثم الكوفي:5/21، والصحيح من مقتل سيّد الشهداء:296 و301، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ للسيد جعفر العاملي:11/217 و226-227 و231 و:14/60.
إيضاح: ورد في بعض المصادر تعذير مماثل لتخلّف الصحابي عبد الله بن عبّاس من الالتحاق ونصرة الإمام الحسين عليه السلام.
راجع: الفتوح لابن الأعثم:5/26، وموسوعة الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب والسنّة والتاريخ:3/286، سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:12/43 و87، وموسوعة عبد الله بن عبّاس للخرسان:5/244.
هاء: ذكر بعض المؤرّخين أنّ عدد من لحق بالإمام عليه السلام من بني هاشم تسعة عشر رجلاً، وإنّ بعض من لحق به عليه السلام لم يستشهد، واحتمل أنّ الكلام وارد مورد التغليب. وهو الصواب.
راجع: الصحيح من مقتل سيّد الشهداء للريشهري:305 و1088-1099، وسيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:12/32 و:14/27 و60.
واو: كتب بعض الأعلام: « لا يبعد أن يكون مراده صلوات الله عليه في كتابه هذا أنّ في نهضته - التي تنتهي به وبمن معه للقتل والشهادة - فتحاً للدّين وللدعوة إلى الله تعالى يتناسب مع حجم التضحية التي تحصل فيها ».
فاجعة الطفّ للسيّد محمّد سعيد الحكيم:46.
وأضاف: « وقد ظهر من جميع ما سبق أنّ نهضة الإمام الحسين صلوات الله عليه التي ختمت بفاجعة الطفّ صارت نقطة تحوّل مهمّة في مذهب التشيّع، حيث صار لها أعظم الأثر في قوّته، ورسوخ قدمه وبقائه، ووضوح حجّته وسماع دعوته، وتوسّعه بمرور الزمن، رغم الضغوط الكثيرة، والصراع العنيف...وهو المناسب لحجم التضحية التي أقدم عليها الإمام صلوات الله عليه صابراً محتسباً، راضياً بقضاء الله تعالى وقدره.
ثمّ قال: وبذلك يتّضح وجه قوله صلوات الله عليه في كتابه المتقدّم: ( أمّا بعد، فإنّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح ) ».
فاجعة الطفّ:418-419.
إيضاح: العبارة المناقشة قاصرة فلا يوجد فيها تلميح إلى أنّ الإمام عليه السلام كان يقصد في كلامه تنامي قوّة مذهب التشيّع ورسوخه بمرور الزمن وتوسّع دعوته، ولا توجد قرينة تساعد على ذلك لتعتمد، وإنّما ظاهر كلامه مختصّ بمن وجّه إليهم رسالته، وإذا تساهلنا قليلاً وتنزّلنا ولم نجعله ينحصر ببني هاشم، فيمكن أن ندخل معهم معاصري الإمام وأصحابه، من غير أن نتجاوز ذلك ونقفز إلى حقب متطاولة وأزمنة متمادية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ مأساة الطفّ وإن عجلّت بانتزاع ملك يزيد لعنه الله منه وإهلاكه، لكنّها على صعيد الواقع الذي تلا الفاجعة لم تخفض سقف ظلم حكّام الجور ولا استأصلت فساد سلاطين الاستكبار، ولا جعلت الطغاة يتورّعون عن إظهار المنكرات، أو يخشون انتهاك المحرّمات وارتكاب الموبقات، ولا أجبرت العتاة كي ينتهون عن تحريف بعض قواعد الدّين وقتل المؤمنين، أو يحسبون للعوام حساباً يثنيهم عن تجاسرهم وجشعهم، واستباحة المدينة وهتك الكعبة المشرّفة ومراقد الأئمّة. ولم تبق للأمّة إلّا بعض الثوابت الدّينيّة والشكلّيات الإسلاميّة وما شابه.
ويروى أنّ الإمام الحسين عليه السلام تنبّأ بذلك فقال: ( ولا أراهم إلّا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلّا انتهكوها ).
تاريخ مدينة دمشق:14/216/1566، تاريخ الإسلام للشيخ محمّد بن أحمد الذهبي:5/12، البداية والنهاية للشيخ ابن كثير للشيخ ابن كثير إسماعيل الدمشقي:8/183.
وهذا ما توقّعه عبد الله بن مطيع أيضاً حين أقسم للإمام الحسين عليه السلام قائلاً له بأنّه إذا قتله بنو أميّة: « ليسترقّن المسلمين بعده ويتّخذونهم عبيداً وخولاً، ولا يهابون بعده أحداً أبداً، ولا تبقى حينئذٍ حرمة إلّا أُستحلّت ».
مقتل الحسين عليه السلام للشيخ أبي مخنف لوط الأزدي:73، وتاريخ الطبري للشيخ محمّد بن جرير الطبري:4/261 و298، والإرشاد في معرفة حجج الله على العباد للشيخ محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالمفيد:2/72، والبداية والنهاية لابن كثير:8/175، والكامل في التاريخ للشيخ ابن الأثير علي الجزري:4/41، والعقد الفريد للشيخ أحمد محمّد بن عبد ربّه الأندلسي:5/125، وتاريخ مدينة دمشق للشيخ علي بن الحسن المعروف بابن عساكر:14/207، وجواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب للشيخ محمّد الدمشقي الشافعي:2/264/ب75.
وفي رواية بيّن الإمام الصادق عليه السلام لبريد بن معاوية العجلي أنّه ما بقيت لله حُرمة إلّا انتهكت ولا عُمل بالحقّ إلى يوم النّاس هذا.
فراجع: الكافي للكليني:3/538/كتاب الزكاة/باب أدب الصدق/1، تهذيب الأحكام للشيخ محمد بن الحسن الطوسي:4/97/كتاب الزكاة/باب من الزيادات في الزكاة/8.
وسند الرواية معتبر في كتاب روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه للشيخ محمّد تقي المجلسي:3/59، ومرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول للشيخ محمّد باقر المجلسي:16/65، وموسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام للشيخ هادي النجفي:7/284، وموسوعة الإمام المهديّ عليه السلام للشيخ الريشهري:8/27 هامش.
كما روي عن عمر بن بشر الهمداني أنّه سأل أبا إسحاق: « متى ذلّ النّاس ؟
فقال: حين قُتل الحسين بن عليّ عليهما السلام، وادّعي زياد، وقُتل حجر بن عديّ ».
الخصال للشيخ محمّد بن علي بن بابويه القمّي المعروف بالصدوق:1/209/ب3/248.
بل إنّ قتل السبط الشهيد أذلّ عزيز أهل البيت عليهم السلام وأقرح جفونهم وأورثهم الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء.
راجع: الأمالي للشيخ الصدوق:190/مجلس:27/2، البحار:44/284/ب34/17.
وقيل أنّ أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين هو قتل الإمام الحسين عليه السلام، لأنّ المسلمين يئسوا بعد قتله من كلّ فرج يرتجونه، وعدل ينتظرونه. ويروى أنّه ارتدّ الكثير من النّاس بعد واقعة كربلاء في بادئ الأمر، ثمّ إنّهم لحقوا ورجعوا.
راجع: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للأديب عبد الملك الثعالبي النيسابوري:689/1222/تحقيق الأستاذ محمّد أبو الفضل، ومعرفة الناقلين المشتهر برجال الكشي للشيخ محمّد بن عمر الكشي:95/57/تحقيق السيّد أحمد الحسيني.
وإلى هذا أشارت فقرات من الزيارة المنسوبة إلى المعصوم المسمّاة بزيارة الناحية.
ويعضده ما ورد في معتبر عيسى بن السري عن الإمام الصادق عليه السلام الحاكية ظروف الظلم والضغط بما معناه أنّ الإمام الباقر عليه السلام هو من فتح على الشيعة وبيّن لهم مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم بصورة أفضل.
راجع: الكافي:2/20/كتاب الإيمان والكفر/باب دعائم الإسلام/6، مرآة العقول:7/112، وموسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام:3/442.
وذكر المعتزلي ابن أبي الحديد في أثناء كلامه عن الإمام الباقر من أنّه: « سيّد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلّم الناس الفقه ».
شرح النهج:15/277.
وروي عن الشيخ أبي حنيفة أنّه قال: « لولا جعفر بن محمّد ما علم النّاس مناسك حجّهم ».
من لا يحضره الفقيه:2/519/ضمن 3112.
بلى، لم يرتدع الحكّام عن التمادي في المنكرات والظلم والتورّط بملاحقة شيعة أهل البيت والتنكيل بهم، وقد تفاقم البلاء بعد القيامة الكربلائيّة واشتدّ وازداد أوار الفتنة وامتدّ.
راجع: شرح نهج البلاغة للشيخ عبد الحميد المعتزلي:11/46، وكتاب المعلّى بن خنيس للأستاذ حسين الساعدي:23.
وقريب من هذا المعنى تجده في الحياة الفكريّة والسياسيّة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام للأستاذ رسول جعفريان:1/190.
ومن يراجع كتب التاريخ والسيرة يرى أنّ غالبيّة المجتمع الإسلامي - بما فيها فريق الشيعة وتمزّقها إلى ملل ومذاهب ونحل - لم تتحسّن وضعيته من ناحية الإيمان والعقائد والأخلاق، وإنّما بقيت على رداءتها وانحدارها، وحين ذهبت الدولة الأمويّة الظالمة جاءت أختها ومثيلتها الدولة العباسيّة الغاشمة.
وعليه فإنّ الدّين بعد الاستشهاد المتفرّد الملهم لم يُفتح بالصورة التي يعتقدها سماحة السيّد الحكيم وبعض الأكارم.
راجع: مقتل الحسين عليه السلام للسيّد عبد الرزاق المقرّم:66/طبعة انتشارات الشريف الرضيّ.
ولهذا قال الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين عن ثورة الإمام الحسين أنّها: « أنّ هذه الثورة كانت من أجل حفظ العقيدة والشريعة من سيطرة السلطة السياسيّة عليها وكونها مرجعيّة شرعيّة دينيّة للأمّة، ولم تكن من أجل تصحيح الحكم السياسي بالدرجة الأولى...لم تهدف إلى نصر سياسي آني، ولم تحقّق نصراً سياسيّاً لخطّ أهل البيت ( الإمامة المعصومة ) في المستقبل. وكلّ ما تحقّق منها وبها هو الحيلولة دون كون الخلافة مرجعاً دينيّاً شرعيّاً للأمّة، وحفظ الإسلام من سيطرة السلطة السياسيّة عليه ».
فقه العنف المسلّح في الإسلام:138-139.
نقول هذا ونحن لا ننكر ما ذكره الدكتور طه حسين المصري من أن تكون شهادة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء مقويّة للشيعة، لأنّها جعلتهم مضطهدين أشدّ اضطهاد وأقساه، وليس شيء من سياسة النّاس يروّج للآراء ويغري النّاس باتّباعها كالاضطهاد الذي يعطف القلوب على الذين تُلم بهم المحن، وتُصبّ عليهم الكوارث، وتُبسط عليهم يد السلطان الغاشم.
راجع: عليّ وبنوه:196-197.
وننوّه على أنّ هذا الذي ذكره الأستاذ طه حسين صحيح في الجملة، لكنّه ليس بقاعدة، ولا علاقة له بمفهوم ( الفتح ) الذي نتكلّم عنه.
كما أن مفهوم ( الفتح ) لا صلة له بقضيّة بقاء بعض الفرائض والشعائر والمبادئ، وإنّما له ارتباط ببقاء أصل الدّين وعدم استطاعة يزيد وأتباعه لعنهم الله أجمعين من قلع أساسه المتين وعموده الرصين.
ومن هنا فلا يصحّ، كما نعتقد، الاستشهاد بقضيّة بقاء اسم الرسول المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم يتردّد في الأذان والإقامة كما روي في الأمالي للشيخ الطوسي:677/مجلس يوم الجمعة:37/11، والبحار:45/177/ب39/27.
لأنّ المستفاد من هذا الخبر المروي ما ذكرناه وهو عدم تمكنّ الطاغي الملعون من القضاء على الدّين نهائياً ومسح اسم النبي الأمين، لأنّ فاجعة كربلاء هي السبب في الحفاظ على الصلاة التي هي عمود الدين، فلاحظ.
زاي: قال الشيخ محمّد السند: « بيّنت هذه الكلمات القصيرة أنّ النتيجة الواقعيّة التي تنتظر الأجيال القادمة هو الفتح ».
الحداثة، العولمة، الإرهاب، في ميزان النهضة الحسينيّة:99.
إيضاح: قلنا أنّ المستفاد من كلام الإمام لا علاقة له بالأجيال القادمة، وسنعرف فيما يأتي المقصود المرجّح والجيل المعني بالفتح في يوم الفتح.
وصلنا معكم إلى النقطة المركزيّة التي خضنا المبحث لتنقيحها وغربلة التفسيرات الرجاليّة حول مفهومها.
لقد تساءل بعضهم: ما هو الفتح الذي كان ينتظره الإمام الحسين عليه السلام من نهضته المباركة، والذي استدعى التضحية بنفسه وعياله وأنصاره ؟
وأُجيب عن ذلك: « في الحقيقة أنّ الحسين عليه السلام كان ينظر إلى أنّ هناك منهجاً انحرافيّاً أُريد [ له ] أن يتأصّل في المجتمع من قِبل بني أُميّة، ليكون بديلاً عن منهج الأنبياء والأوصياء، لأنّ السلطة الحاكمة أرادت أن يكون دين النّاس هو ما يراه الحاكم ويقرّره، ولذا يقال: « إنّ النّاس على دين ملوكهم » ليصبح هو العرف السائد في المجتمع...فكلّ ذلك انتهى مع أوّل قطرة دم سقت أرض كربلاء، لتعلن الثورة الحقيقيّة بوجه هذا المنهج ومن أسّسه، لتبقى مقوّمات المنهج الحضاري هو العرف المتأصّل في المجتمع، والذي تتفاعل معه الأجيال، لتدوّي كلمات الإمام عليه السلام آفاق الدّنيا، وتحرّر الإنسان من عبوديّة الطاغوت بسبل الإصلاح الحسيني ».
الحداثة، العولمة، الإرهاب، في ميزان النهضة الحسينيّة:99.
إيضاح: لم ينته كلّ ما أرادته السلطة، بل يمكن ملاحظة أنّ المنهج الانحرافي استمرّ بصورة من الصور إلى العصور المتأخرة.
نعم، يمكن اعتبار قيامة الطفّ أحبطت هذه الرؤية وأفشلت قراراتها بنسبة معيّنة، فقلّلت من هيمنة النهج السلطوي الداعي إلى أنّ الحاكم هو ظلّ الله ورأيه رأي الشرع المحمّدي.
أمّا الكلام عن مقوّمات المنهج الحضاري ففيه نوع مبالغة، حيث إنّ أغلب أطياف المجتمع لم تلتفت إلى هذه النكتة وبقيت تحت نير الظلم وسلطة المستبدّ الأموي والعبّاسي والعثماني، وبالتالي فلم تتأصل هذه المقوّمات في العرف الاجتماعي بما يكفي، بل إنّها بقيت غير مُفعلّة حتّى عند الأئمّة من ذريّة الإمام الحسين عليهم السلام أجمعين، ولا تعثر على صورة ساطعة عنها في سيرة المعصومين، فتأمّل.
هاء: قال الشيخ المجلسي: « بيان: قوله عليه السلام: ( لم يبلغ الفتح ) أي: لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدّنيا والتمتّع بها.
وظاهر هذا الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنّه عليه السلام خيّرهم في ذلك، فلا إثم على من تخلّف ».
البحار:42/81.
ثمّ فسّرها في موضع آخر بتفسير آخر فقال: « قوله عليه السلام: ( ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح ) أي: لا يتيسّر له فتح وفلاح في الدّنيا، أو في الآخرة، أو الأعمّ ».
البحار:44/360.
ومثله في عوالم العلوم/الإمام الحسين عليه السلام للشيخ عبد الله البحراني:17/209.
إيضاح: قضيّة الفتح لا تتعلّق بما يتمنّى بنو هاشم من فتوح الدّنيا والتمتع بها كما سنلاحظ، ثمّ إنّ الكثير من الفتوحات قد تحقّقت في زمن سبق وقعة الغاضريّات، وبحسب بعض كتب التاريخ نرى أنّ بعض المتخلّفين عن الالتحاق بالركب الحسيني من بني هاشم قد تمتّع بعطاء ملوك زمانه ونال بعضهم قسطاً من نعمه ونفله.
ويعزّز بعض ما ذكرناه ما أوضحه السيّد جعفر العاملي قال: « يبدو أنّ المراد بالفتح الذي سوف يحرم المتخلّف من ثمراته- وهي ثمرات عظيمة، سيكون فواتها خسارة كبرى لكلّ من تيسّرت له، ثمّ تقاعس عنها، وإن لم يكن هناك عقوبة على خسارتها فيما لو كان معذوراً في تخلّفه لسبب أو لآخر- ليس هو الفتح الدنيوي، فإنّ الإمام عليه السلام لا يهتمّ للمكاسب والفتوح الدنيويّة، ولا يشجّع النّاس على التعلّق بها والسعي إليها إلى حدّ التضحية بأرواحهم في سبيلها.
وليس المراد أيضاً تخيير بني هاشم بين الالتحاق به وبين التخلّف عنه، وإخبارهم بأنّ المتخلّف لا يأثم... فإنّ نصرة الإمام والدفع عنه واجب عقلي على كلّ مكلّف، لا سيّما وهو يُكافح طلباً للإصلاح في الأمّة، من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل المراد هو فتح حصون الباطل، وكسر شوكة الضلال، وسقوط هيمنة قوى الشرّ والظلام في أهدافها، وخططها، وطموحاتها باستشهاده عليه السلام، فيصير الباطل مفضوحاً، ظاهر السوء، ويصبح الحقّ عصيّاً على التزوير، ويفرض نفسه على العقول والنفوس، وبذلك يحيى من حيّ عن بيّنة، ويهلك من هلك عن بيّنة، وهذا هو الفتح العظيم الذي يتحقّق باستشهاده صلوات الله عليه ».
سيرة الحسين عليه السلام في الحديث والتاريخ:14/60-61.
إيضاح: المرحّج أنّ فتح حصون الباطل ليس هو المراد من مفهوم ( الفتح ) الذي نناقشه، وسيأتي مزيد بيان لمعطيات الترجيح، فانتظر.
وهناك أمر آخر فإنّ مسألة الوجوب العقلي لنصرة الإمام غير ناهضة في تصوّري.
ويرى بعضهم أنّ الفتح العظيم هو: « الشهادة، أنّ من آثار الفتح الفرح والاستبشار عند الفاتح، ولعلّ إلى هذا أشار سلمان الفارسي رضوان الله عليه في حديثه مع زهير بن القين، وقد حدّث به أصحابه لما التحق الأخير بركب الحسين عليه السلام قائلاً لهم: من أحبّ منكم أن يتّبعني وإلّا فهو آخر العهد. إنّي سأحدّثكم حديثاً، إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟!
قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم ».
ليلة عاشوراء في الحديث والأدب للشيخ عبد الله الحسن:123.
إيضاح: لا شكّ أنّ القتال مع إمام السماء وخامس أهل العباء أشدّ فرحاً من القتال مع غير المعصوم، ومنزلة المقاتل معه جليلة وثواب الشهادة معه عظيم، ومقام الشهادة في الآخرة كريم.
لكن هذه القضيّة بعيدة كلّ البعد عن كلمة الفتح المذكورة في رسالة الإمام الذبيح.
قال الشيخ محمد كاظم الخاقاني: « إنّ الإمام عليه السلام عن أيّ ( فتح ) يتكلّم والشهادة ليست إلّا موتاً وانتقالاً إلى دار الآخرة، وما حدّثنا التاريخ إنّ الشهادة يطلق عليها اسم الفتح بحسب المصطلح ؟ ».
إجابة في موقعه.
قال الخاقاني في أحد محتملاته: « أنّ هذه الشهادة كانت أكبر من أعظم فتح وقع على وجه الأرض حيث إنّها أسقطت امبراطوريّة عظمى وهي الحكومة الأمويّة، حيث راح بشعار يا لثارات الحسين ليسقط بنو العبّاس الحكم الأموي...فالإمام عليه السلام يُشير إلى أنّ المتخلّف عن هذا النصر والفتح لا ينال دواعي هذا النصر المؤثّر على طول التاريخ بما له من الأثر، كما وأنّه لا ينال الثواب المستمّر المترتّب على هذا النصر والفتح العظيم ».
إجابة في موقعه.
إيضاح: إسقاط بنو العبّاس للدولة الأمويّة لا يُعد من الفتح، وإنّما هو إبدال حكم ظالم بمثله أو أظلم منه، وبقي الإسلام المحمّدي الأصيل بعيد عن التطبيق العملي، ولذا لم يشارك الإمام الصادق عليه السلام العباسيّين في إسقاطه، كما لم يثبت تأييد المعصوم لثورات الحسنيّين وأمثالها الممتدّة على طول التاريخ والزمن.
نعم، المنهج الثوري كثر وتوسّع، وازدادت جبهة المعارضين والإنكار على الحاكمين، ولكن هذا الأمر لا علاقة له بالفتح، فذلك شيء وهذا شيء آخر، حيث إنّ الحركات الثورية والمعارضين للسلطة من علويين وزيديّة لم تكن على وئام مع خطّ المعصوم ولا هي نتاج رأيهم، وهو ما أشار إليه الكثير من الأعلام، ومن هؤلاء الأعلام الشيخ محمّد رضا المظفّر فقد دوّن التالي قائلاً: « وكلّ الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويين وغيرهم لم تكن عن إشارتهم ورغبتهم، بل كانت كلّها مخالفة صريحة لأوامرهم وتشديداتهم ».
عقائد الإمامية:152-153.
وأشار إلى ما يقرب من هذا الشيخ عبد الله المامقاني في تنقيح المقال في علم الرجال:3/142-143، والسيد حسن الأمين في مستدرك أعيان الشيعة:1/70، والشيخ آصف محسني في مشرعة البحار:2/162 و173-175، والشيخ محمّد مهدي شمس الدّين في فقه العنف المسلّح:139، والسيد الحكيم في فاجعة الطفّ:391 و433 و476 و477.
ومن هنا نعلم ضعف ما أشار إليه سماحة الشيخ الخاقاني في ذيل كلامه من دواعي ومثوبة.
وكتب الشيخ حسن الصفّار التالي: « الإمام الحسين عليه السلام يخبرنا رحلته سوف تحقّق المعنيين، أي: الشهادة والفتح، وهذا هو بالفعل عين الواقع، صحيح أنّ الحسين عليه السلام قد استشهد هو ومن معه جميعاً، لكن هل تحقّق الفتح والنصر للحسين ؟ أم أنّ الحسين كان مهزوماً ؟
لقد تحقّق الفتح والنصر للإمام الحسين لكنّنا يجب أن نعرف أيّ نصر هذا الذي تحقّق، وكيف تحقّق ؟
نحن نحتفي الآن بأربعين الإمام الحسين رغم مرور ألف وثلاثمائة وخمس وستين سنة، وهذا الخلود في ذكرى شهادة الإمام الحسين هو أحد معاني الفتح والنصر الذي حقّقه الحسين عليه السلام ».
محاضرة له على موقعه بعنوان: ثورة الحسين الخالدة.
إيضاح: لا كلام لنا مع الشيخ في النصر المعنوي، لكن كلامنا ينصبّ حول كلمة ( الفتح ) فلو كان ما ذكره سماحته صحيحاً فلِمَ لمْ نجد المعصومين من ذريّة الإمام الشهيد سلام الله عليهم جميعاً يذكرون هذا المعنى أو يلمحوا إليه إشارة أو فعلاً ؟!
ومن الجدير بالذكر فإنّ في كلامه مسامحة، حيث لم يستشهد مع الإمام جميع من كان معه.
وعبّر بعض الفضلاء بالتالي: « أنّ كلّ شخص من بني هاشم وغيرهم لو أراد الخروج- يقصد الخروج من المدينة - إليّ والوصول بي لم يدرك الفوز والشهادة، لأنّي مقتول قبل وصوله إليّ ».
الإمام الحسين وأنصاره للشيخ فضل عليّ القزويني:1/63/تحقيق السيّد أحمد الحسيني.
إيضاح: ونحن لا نسلّم لهذا الفهم، حيث إنّ منهج فقه اللغة لا يسعف هذا الفهم، فتعبير الشهادة يختلف عن تعبير الفتح، وقد سُمّي فتح مكّة بعام الفتح.
ثمّ إنّه منذ وصول مسلم رضي الله عنه إلى الكوفة ونشاطه فيها كانت الدولة اليزيديّة والكثير من النّاس على علم كافٍ بانطلاقة الإمام السبط الشهيد عليه السلام من مكّة نحو العراق وطبيعة توجّهاته، وانتهت الخطّة باستشهادهم سلام الله عليهم جميعاً، ولم يتحقّق الفتح المرتجى.
نعم، لقد كان الإمام على علم قبل وصوله إلى كربلاء بمصيره ومصير أصحابه البررة، وصورة ما آلت إليه الأمور أخيراً كانت حاضرة عنده.
على أنّه لو كان يوم عاشوراء فتحاً حقيقة لما أصبح عند ذوي المعصوم ومواليه ومحبّيه يوم مصيبة وندبة وعزاء وبكاء !
نكتفي بهذه الآراء المحترمة والاقتباسات الوجيهة ونعرّج بكم إلى الخطوة الختاميّة والنتيجة النهائيّة.

الخطوة الرابعة: مقاربة ونتيجة
بعد أن سمعنا التفسيرات للعبارة وكلمة ( الفتح ) نجري الآن مقاربة بين الكلمة ونصوص أخرى توحي عبائرها بالفتح الذي يحدث في عصر الظهور وتشير دلالة نصوصها إلى زمن حكومة الإمام المنتظر.
والآن نرفدكم من روضة خير الأنام بباقة عطرة أيّها الكرام.
الباقة الأولى: روى المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: ( جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فشكا إليه طول دولة الجور، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: والله لا يكون ما تأملون حتّى يهلك المبطلون ويضمحّل الجاهلون ويأمن المتّقون، وقليل ما يكون حتّى لا يكون لأحدكم موضع قدمه، وحتّى تكونوا على النّاس أهون من الميتة عند صاحبها، فبينا أنتم كذلك إذ جاء نصر الله والفتح، وهو قول ربّي عزّ وجلّ في كتابه: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ سورة يوسف:110 ).
دلائل الإمامة للشيخ محمّد الطبري:471/462/66، تفسير البرهان للبحراني:4/240/8، معجم أحاديث المهديّ عليه السلام للشيخ علي الكوراني:5/183/1606.
وبعضه في مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم للسيّد محمّد تقي الأصفهاني:1/131/فصل فرج المؤمنين على يده عليه السلام، وينابيع المودّة:3/242/ب71/23 وجاء فيه بعد الآية اليوسفيّة قوله عليه السلام: وذلك عند قيام قائمنا المهديّ عليه السلام.
إيضاح: تشير الرواية على أنّ النصر الحقيقي الإلهي و ( الفتح ) المرتقب سيتحقّقان في عصر متأخّر، وفي ينابيع المودّة نصّت الرواية على كونه في عصر ظهور الإمام المهدي المنتظر عليه السلام. وهو الموافق للنصوص الكثيرة الواردة في مصادر الفريقين الواصفة لمعالم عصر الظهور الميمون، ويشهد بذلك أنّنا نجد الفضلاء المعنيّين بالشأن المهدوي يضعون رواية المفضّل بن عمر ضمن الروايات المتحدّثة عن عصر ظهور المهدي الفاطمي، فلاحظ.
ومن اللافت للنظر هو أنّ النصر الحقيقي للإسلام ذُكر في الآية الثامنة والعشرون من سورة الفتح في قوله تبارك وتعالى: ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾.
وهذه الآية المباركة مُفسّرة بيوم ظهور مهدي خاتم العترة عليه السلام.
راجع: الكافي:1/432/باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/91، الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي:271/ب9/111.
ومن ثمّ فهي- أعني: الآية الثامنة والعشرون - مؤوّلة عند أهل الجمهور بأنّها لم تكن وستكون، كما ورد في حديث يروونه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
راجع: صحيح مسلم:8/182، ومستدرك الحاكم:4/447 وصحّحه ووافقه الذهبي.
وهذا يعني أنّ تحقّقها وتطبيقها الملائم التامّ سيتمّ في آخر الزمان ويكون المستقبل للإسلام.
راجع السلسلة الصحيحة للشيخ محمّد ناصر الألباني:1/6، وتذكرة الموضوعات للشيخ محمّد طاهر الفتني:222/باب آخر الزمان والفتنة والعزلة وعلامات السّاعة والمهديّ.
الباقة الثانية: ورد في تفسير قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ سورة الصفّ:13، يعني في الدّنيا بفتح القائم وكذلك فتح مكّة.
راجع: تفسير القمّي المنسوب للشيخ علي بن إبراهيم القمّي:2/347، وتفسير البرهان للبحراني:7/530/1.
إيضاح: روى زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: ( تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد ذلك، تعرفه الأئمّة ).
تفسير البرهان:1/39/المقدّمة.
وعن الفضيل بن يسار قال: ( سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية: ما من آية إلّا ولها ظهر وبطن. فقال: ظهره [ تنزيله ] وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّ ما جاء تأويل شيء يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ سورة آل عمران:7، نحن نعلمه ).
وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي:27/196-197/كتاب القضاء/ب13/49.
وعن إسحاق بن عمّار أنّه سمع الإمام الصادق عليه السلام يقول: ( إنّ للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء ومنه ما لم يجئ، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمّة عرفه إمام ذلك الزمان ).
تفسير البرهان:1/39/المقدّمة.
وفي معتبر عمر بن يزيد قال: ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ﴿ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ سورة الرعد:21 ؟ قال: نزلت في رحم آل محمّد عليه وآله السلام، وقد تكون في قرابتك، ثمَّ قال: فلا تكونّن ممّن يقول للشيء: إنّه في شيء واحد ).
الكافي:2/156/كتاب الإيمان والكفر/باب صلة الرحم/28.
سند الرواية معتبر في روضة المتّقين:9/411، ومرآة العقول:8/385، ومكيال المكارم:1/382.
قال المجلسي الأوّل معقّباً على الرواية: « أي: خصوص سبب النزول لا يخصّص عموم اللفظ ».
روضة المتّقين:9/411.
وعلّق المجلسي الثاني عليها مبيّناً: « ( فلا تكونّن ) أي: إذا نزلت آية في شيء خاصّ فلا تخصّص حكمها بذلك الأمر، بل عمّمه في نظائره، أو المعنى إذا ذكرنا لآية معنى ثمّ ذكرنا لها معنى، فلا تنكر شيئاً منهما، فانّ للآيات ظهراً وبطناً، ونذكر في كلّ مقام ما يناسبه، فالكلّ حقّ.
وبهذا يجمع بين كثير من الأخبار المتخالفة ظاهراً، الواردة في تفسير الآيات وتأويلها ».
البحار:71/130.
ومن هذه القاعدة انطلق تفسير آية الصفّ ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ بيوم فتح مكة وبفتح الدّنيا في زمن القائم، وبالتالي فإنّ الأخير أحد مصاديق الآية المستفادة من تلك القاعدة، فافهم.
بقي أن نذكّر أن تلك القواعد لا تعني تخويلنا كي نقوم بتفسير القرآن بآرائنا، بل إنّ ذلك منهي عنه أشدّ النهي كما ورد في مصادر المسلمين.
الباقة الثالثة: روى محمد بن سنان عن ابن درّاج - يظهر أنّه جميل بن درّاج - قال: ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قول الله عزّ وجلّ: ﴿ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ سورة السجدة:29، قال: ﴿ يَوْمَ الْفَتْحِ ﴾ يوم تفتح الدّنيا على القائم، لا ينفع أحداً تقرّب بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله قدره وشأنه، وتزخرف له يوم البعث جنانه، وتحجب عنه نيرانه، وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين وذريّته الطيّبين صلوات الله عليهم أجمعين ).
تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة للسيد علي الحسيني الإسترآبادي:2/445/9، البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني:6/211/2، معجم أحاديث الإمام المهديّ عليه السلام:5/345/1782.
ونحوه في تأويل ما نزل من القرآن الكريم في النبيّ وآله صلّى الله عليهم للشيخ ابن الجُحام محمّد بن العبّاس:256/228، وينابيع المودّة لذوي القربى للشيخ سليمان القندوزي الحنفي:3/3/246-247/ب71/9. وراجع: مختصر بصائر الدرجات للشيخ حسن الحلي:201-202.
وسند رواية ابن درّاج معتبر عند الشيخ السند كما جاء في كتابه الرجعة بين الظهور والمعاد:1/85.
إيضاح: لقد ورد في دعاء النّدبة المنسوب إلى المعصوم: ( أين صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى ).
زاد المعاد للشيخ محمّد باقر المجلسيّ:306/ب11، ومفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي:611.
دلالة الرواية واضحة فيما نذهب إليه، ساطعة فيما نميل لتبنّيه.
لقد مال بعض الأفاضل إلى ما رجّحناه لكن أورده بصيغة احتماليّة، قال الخاقاني: « الاحتمال الخامس في المقام: هو أنّ الإمام عليه السلام لعلّه يشير إلى بشرى حصل عليها هؤلاء القوم وهي: أنّ الله تعالى قد اختارهم ليوم الفتح العظيم، وذلك لأنّهم سيصبحون من أقطاب دولة العدل العالميّة، لأنّ ذلك الفتح لا يقوم فقط بالمتّقين من الأحياء على وجه الأرض، بل بالملائكة المقرّبين، ونبيّ من أولي العزم كعيسى عليه السلام، وبعض الأولياء والمصلحين الباطنيّين كالخضر عليه السلام...فهذا الفتح الذي يبلغه هؤلاء فتح ليس له من نظير لا في السابقين ولا اللاحقين، لأنّه فتح هو غاية بعثة الأنبياء، فقول الإمام (ع): ( من لحق بي أستشهد ومن لم يلحق بي لم يبلغ الفتح ) أي: إنّ هؤلاء الشهداء يبلغون فتحاً عالميّاً ما حصل مثله لأحد، لخلوص نيّاتهم، وقد تمنّى بلوغ هذا الفتح الأوّلون والآخرون، فكونوا من أهله يا بني هاشم، فإنّي أُريد لكم الخير، وما تقدّمت إليكم إلّا بالنصح لو كنتم تعقلون ».
إجابة على موقعه.
ونودّ هنا تزويدكم بومضة رشيدة وملاحظة مفيدة سجلّها الأستاذ عالم سبيط النيلي على بعض المفسّرين في شرحهم لآية سورة السجدة المتقدّمة، وقد ذكر أنّ هناك نوعاً آخر من الفتح.
والحقيقة أنّ استنتاجاته وملاحظاته خير ما نذيّل به المبحث وننقش صفحاته.
لقد استنتج النيلي أنّ سورة النصر نزلت بعد سورة التوبة التي هي الإعلان الأخير والبيان الختامي للرسالة، وسورة النصر هي فعلاً بشارة بفتح، ولكنّه ليس فتح مكّة الماضي، بل فتح جديد لم يحدث بعد.
ثمّ ذكر بعض النصوص الدالّة على أنّ سورة النصر نزلت قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بثمانية عشر يوماً، ومن ثمّ فإنّ في ذلك دلالة قاطعة على أنّ السورة تتضمّن الفتح العظيم والنصر الكبير على يد الإمام المهدي عليه السلام، وهو ما لم يتحقّق إلى الآن.
راجع: الطور المهدوي:98-100.
إيضاح: ذكرنا في الباقة الثانية ما يشهد بانطباق سورة الفتح على الأمرين: فتح مكة وفتح الدّنيا على الإمام القائم عليه السلام.
نعم، بقية ما ذكره جدير بالتأمّل والتفكّر.
وأمّا أهمّ ما جاء في ملاحظات الأستاذ النيلي على آية السجدة آية:28-30 فهي أربعة نقاط:
الأولى: أنّ الآية لا تنطبق على يوم القيامة، لأنّه ليس في يوم القيامة إيمان وكفر ليقول سبحانه: ﴿ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ﴾.
الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ خاصّ بالدّنيا لانتهاء المهلة، إذ ليس هناك إنظار يوم القيامة !
الثالثة: لا تنطبق الآية على يوم فتح مكّة، ويكفي لإبطال وتهافت هذا الرأي أنّ الذين كفروا قد نفعهم إيمانهم في فتح مكّة من السوء كثيراً فأطلق النبيّ صلّى الله عليه وآله سراحهم وقال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ).
الرابعة: أمر الله عزّ وجلّ نبيّه الأكمل بالإعراض عنهم وانتظار ما يحدث فهم منتظرون، وليس المراد بالإعراض عنهم محاربتهم، بل أعرض عن البرهنة على وقوع الفتح، لأنّ عليك أن تنتظر وقوعه، لأنّه وعد ربّك، فإنّهم منتظرون عدم تحقّقه، أو منتظرون بالضمّ، أي: إنّ لهم مهلة وأنظار حتى يوم الفتح، حيث لا ينفعهم يومئذ إيمانهم ولا هم ينظرون مزيداً من الوقت أكثر من الذي أمهلناهم.
أنظر: الطور المهدوي:102-106.
بقي شيء أخير فقد نصّت رواية ابن درّاج على عدم انتفاع أحد بالإيمان يوم تفتح الدّنيا على الإمام القائم عليه السلام ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبالفتح موقناً. وحاول بعض المشايخ شرح هذه الجملة بما يلي قال: « أنّ هذا الإيمان غير مقبول في يوم الفتح، لأنّ الدّاعي إليه هو الخوف والاضطرار، ولعلّ بعضهم يطمع في الرئاسة والمال، وليس الدّاعي لتوبته التقرّب لله تبارك وتعالى وطاعة الإمام عليه السلام ».
راجع: بيان الأئمّة للوقائع الغريبة والأسرار العجيبة للشيخ محمّد مهدي زين العابدين النجفي:6/289.
وفي كلامه نظر، والبسط فيه نؤجّله لمبحث آخر.
والمتحصل من جميع ما تقدّم: أنّ المرجّح، بحسب تصوّرنا، لمفهوم ( الفتح ) هو الفتح الذي يحدث في زمن عصر الظهور المبارك، وأنّ الإمام صلوات الله وأصحابه المرضيّين الذين استشهدوا معه سيرجعون في عصر حكومة القائم من آل محمّد المنتجب ويبلغون معه الفتح المرتقب.
على أنّ مخالفتنا للشروح المتقدّمة والآراء الآنفة لم تكن اعتباطيّة وإنّما أتت لأجل ما ورد في بعض الأخبار- وفيها المعتبر السند على بعض المباني - أنّ أصحاب الإمام الحسين رضوان الله عليهم سيرجعون مع الإمام الحسين عليه السلام في زمن الظهور، وقد كانوا مؤمنين وبيوم الفتح موقنين، وبالتالي فلا نستبعد إدراكهم الفتح في الرجعة إن شاء الله في زمن الظهور الميمون.
راجع: مختصر إثبات الرجعة المنسوب للشيخ الفضل بن شاذان:ح7، تفسير العياشي للشيخ محمّد بن مسعود السلمي السمرقندي:2/304-305/20 و23، روضة الكافي للكليني:8/206/ح250، البحار:53/76 و89/ب29/78 و90، أربعون حديثاً معتبراً في النصّ على الأئمّة الإثني عشر بأسمائهم للشيخ أحمد الماحوزي:36/ح7.
وآخر دعوانا أن الحمد لله المنّان وهو المستعان وعليه التكلان والصلاة والسلام على رسل الرحمن علماء الزمان وأهل القرآن سادة الخلق من الإنس والجان نبينا محمّد والصفوة من آله الطاهرين في كلّ آن.
وشكر خاصّ للأخوة الأعزاء أحمد الحميداوي وعبد الإله الحصون وأمجد الأوسي وخليل الحجيمي وصابر الحكيم وأمين العلي المياحي.

جعفر صادق البصري